Marwakabbani

شارك على مواقع التواصل

ربما ستشعر بالتضامن معي والموافقة بعد معرفتك الأحداث التي توالت أثرَ دخول هذا الرجل الغريب الأطوار إلى حياتي.
أو أنَّك ستنعتني بالجنون والتهُّور جرَّاء كذبي أمام الطبيب الذي قام بالإشراف على علاجي، إلى أن خرجت من المستشفى.
في الأيام الأولى وربما الشهر الأول تحديداً كانت رباطة جأشي وصلابة إرادتي تزداد لكن بشكل غير ملحوظ، إلى أن جاء اليوم الذي جلس به إلى جانبي دون أن يرفَّ لي جفن أو أشعر بالغرابة، بل إنني نظرتُ إليه بتحدِّ ومكر كلما حاول إخافتي.

لكن الأمر الذي جعلني أشعر بالخيبة والمرارة هو عدم وجود عائلة تنتظر عودتي إليها، قال لي أبي بلطفٍ مبالغٍ به:
-لقد اشتريتُ لكِ منزلاً في الحيِّ الذي نقطنه والذي اعتدتِ عليه منذ طفولتك، من الأفضل أن تعتادي السكن لوحدك يا عزيزتي، زوجة أخيك على وشك الإنجاب، ولن تعتادي الضجة…
لم أنبث بكلمة أو أقول شيئاً اكتفيتُ بإيماءة في رأسي بالموافقة على الأمر، أعتقد بأن الجميع صوَّتَ على خروج المجنونة حديثاً من العائلة حفاظاً على صحتهم!!
توالت الأيام بسرعة وأصبحت قادرة على التنظيم بين العمل والمنزل، بالرغم من صعوبة الأمر في الأيام الأولى، حتى أنَّ الطيف الأسود بدأ يختفي تدريجياً من حياتي، فلم أعد أراه في منزلي أو حتى العمارة التي كنت أقطنها، كان يكتفي بالظهور في الاجتماعات العائلية أو الرحلات التي نقوم بها وهذا ما جعلني أشعر بالريبة والقلق، بل أشعر بالصدمة بشكل أدق!!
إلى أن جاء اليوم الذي أنجبت فيه زوجة أخي مولودتها الأولى، كان الوقت حينها الخامسة فجراً، اتصلت والدتي بي وأخبرتني بضرورة الذهاب إليها لتقديم المساعدة وعلى الفور..
لم أتردد بتنفيذ تلك المهمة وأنا أشعر بالسعادة الفائقة لكوني أصبحت الآن عمَّة، وما أجمله من شعور!!
ولكن الصدمة كانت بوجود الشاب الغريب الأطوار الذي كان يلاحقني طوال تلك الفترة يجلسُ أمام زوجة أخي منار ويتحدَّثُ إليها، مما جعلني أقترب أكثر لأصبح قادرة على سماع الحديث الذي كان يدور بينهما:
– لقد أتممت مهمتك بشكل دقيق يا شقيقي، ولم يعد هناك أيَّ داعي للاستمرار في هذه الحيلة، لم أصدق أن عائلة زوجي قاموا بشراء المنزل للفتاة عوضاً عن زوجي، ربما سأضطر للعيش مع هؤلاء المُسنين إلى الأبد!!
كانت تنفخ كلماتها الأخيرة في الهواء لتقبع في صدري وتضرمُ نيران الحقد والكراهية.
قررتُ الانتقام منها على طريقتي الخاصَّة بقلبِ خُدعتها إلى حقيقة، لكن الأمر يحتاج إلى تخطيط كما فعلت تماماً.
واليوم بعد سنة من إنجابها أكتب السطور الأخيرة من هذه القصة التي حدثت معي وأنا أحمل ابنة أخي بين يدي وأضع فوق وجنتيها القُبلات الكثيرة.
حينما سمعنا صراخ منار قادم من الحديقة الخارجية للمنزل،
سارع الجميع إليها بينما حملتُ ياسمين ووضعتها بين ألعابها الكثيرة في غرفتها قبل أن أقوم بالذهاب إلى الخارج.
بنصف ابتسامة خبيثة قابلت وجهها المُتَّسخ بالطين ويديها التي ترتجفُ وهي تمسكُ بالتراب، تجلسُ راكعة أمام حُفرة مستطيلة وهي تتحدَّثُ بكلماتٍ غير مفهومة للجميع، إلا أنني الوحيدة التي أعلمُ جيداً ما الذي تتحدث عنه.
كانت تحملُ أُمِّي زجاجة المياه تحاول مساعدتها على شربِ القليل منها، وأخي يحاول إبعادها عن الحفرة، والدي الذي يقرأ القرآن ويستعيذ من الشيطان، أما هي فكانت عينيها مُعلَّقتين بأطراف ابتسامتي وهي تميزُ غيظاً.
اقتربتُ منها و أنا أميلُ إليها لاحتضانها وأنا أهمسُ في أذنها بصوتٍ مبحوح:
– هذه البداية فقط يا عزيزتي منار، أعتقد أنَّكِ نسيتِ بكوني الكاتبة بيننا، والقادرة على رسمِ الواقع وتسييرِ الشخصيات كما يحلو لي.
ابتعدتُ عنها قليلاً وأنا أغمزُ لها بطرف عيني، ثُمَّ قلت لها كلماتها الأخيرة قبل دخولي إلى مستشفى المجانين:
– عزيزتي ما الذي فعلته بنفسكِ، يتوجَّب عليكِ أن تكوني قويَّة من أجلِ عائلتك و ابنة أخي، إذا أردتِ بإمكاني مُساعدتك.
انعكاسُ ظلٍّ أسود سقط خلفي على الأرض، اتسعتُ له حدقات عينيها، لم يرَه أحدٌ سواها..
-سيرافقك انعكاس الظل الذي قُمتِ باختراعه من أجلي كما فعل معي: قلت لها وأنا أعانقها للمرة الأخيرة.
دخل الجميع إلى المنزلِ بعد يومٍ شاق، أما هي وحدها من سقط في ذلك الفراغ وبقيتْ مُعلَّقة بين شاهدة القبر التي نُقِشَ فوقها اسمها، وجدران الظلِّ الذي قامتْ بخلقِهِ بنفسها.

مروة القباني
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.