hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

واجهت هؤلاء البشر — مواجهًا فيهم مصيري — بيد واحدة بالمعنى الحرفي للكلمة؛
إذ كانت إحدى ذراعيّ مكسورة. وكان بجيبي مسدس به خزانتا أعيرة فارغتان. وعلى
الشاطئ بين الرقائق الخشبية المتناثرة كانت الفأسان اللتان اسْتُخْدِمتا في تقطيع خشب
القاربين، في حين تتلاطم الأمواج على الشاطئ من خلفي.
لم يكن أمامي سوى التحلي بالشجاعة. نظرت في وجوه الوحوش المتقدمة نحوي
بحزم، فتجنبوا النظر في عينيّ، وأخذوا يتفحصون الجثث الممددة خلفي على الشاطئ
بأنوفهم المرتعشة. تقدمت نحو ست خطوات، والتقطت السوط الملطخ بالدماء من تحت
جثمان الرجل الذئب، وضربت به في الهواء.
«! ألقوا التحية! انحنوا أمامي » : توقفوا وحدقوا فيّ، فقلت لهم
ترددوا، ثم حنى أحدهم ركبتيه، فكررت الأمر والرعب يملأ قلبي، ثم تقدمت
نحوهم. ركع أحدهم، ثم تبعه الاثنان الآخران.
استدرت، وسرت تجاه الجثث، دون أن أدير وجهي عن البشر الحيوانات الثلاثة
الراكعين أمامي كما لو كنت ممثلًا يغادر المسرح دون أن يدير وجهه عن الجمهور.
لقد خرقوا القانون، فقُتلوا. حتى » : قلت واضعًا قدمي على جثمان الناطق بالقانون
«! الناطق بالقانون، والآخر حامل السوط. القانون عظيم! تعالوا وانظروا
«. لا أحد يهرب » : قال أحدهم، وهو يتقدم محدقًا
فوقفوا يتبادلون النظر «. لا أحد يهرب. لذا، أنصتوا إليّ وافعلوا ما آمركم به » : قلت
بوجوه متسائلة.
«. قفوا هناك » : تابعت حديثي
جزيرة الدكتور مورو
التقطت الفأسين، وعلقتهما في حمالة كتفي، وأدرت جثة مونتجومري، ملتقطًا
مسدسه الذي كانت لا تزال به خزانتا أعيرة ممتلئتان. وعندما انحنيت لأفتش ملابسه
عثرت على ستة أعيرة نارية في جيبه.
خذوا هذا الجثمان، وألقوا به بعيدًا في » : قلت، وأنا أنهض ثانية وأشير بالسوط
«. البحر
تقدموا للأمام، وكان من الجلي أنهم لا يزالون خائفين من مونتجومري، لكنهم أكثر
خوفًا من الشرر الأحمر لضربات سوطي. وبعد بعض الارتباك والتردد، وبعضضربات
السوط والصياح، حملوا الجثمان بحذر شديد إلى الشاطئ، وخاضوا مياه البحر المتلاطمة
«! تقدموا أكثر! احملوه بعيدًا » : التي ينعكس عليها ضوء الشمس المبهر. قلت لهم
.« اتركوه » : خاضوا المياه إلى أن وصلت إلى آباطهم، ثم توقفوا ينظرون إليّ، فأمرتهم
اختفى جسد مونتجومري وسط الماء الذي تناثرت قطراته من حوله. وشعرت بانقباض
عادوا مسرعين وخائفين إلى حافة المياه «! حسنًا » : في صدري. قلت لهم بصوت متهدج
مخلفين وراءهم آثارًا سوداء في المياه الفضية. توقفوا عند تلك الحافة، ثم استداروا
وحدقوا في البحر كما لو كانوا يتوقعون قيام مونتجومري من بين أمواجه وثأره منهم.
«. والآن هؤلاء » : قلت لهم مشيرًا إلى الأجساد الأخرى
حرصوا على ألا يقتربوا من المكان الذي ألقوا فيه بجثة مونتجومري في الماء، فحملوا
أجساد البشرالحيوانات الأربعة على طول الشاطئ مسافة نحو مائة متر قبل أن يخوضوا
المياه ويتخلصوا منها بعيدًا.
وبينما كنت أشاهدهم وهم يتخلصون من جثة ميلينج المشوهة، سمعت وقع خطوات
خفيفة خلفي، وعندما استدرت سريعًا رأيت الرجل الضبع الخنزير على بعد نحو اثني
عشرمترًا. كان مطأطئ الرأس، وعيناه اللامعتان مثبتتين عليّ، ويداه القصيرتان مطبقتين
بإحكام إلى جانبه. توقف في هذا الوضع المنحني عندما استدرت، محولًا نظره عني قليلًا.
وقفنا لحظة وكلٌّ منا ينظر في عين الآخر. أسقطت السوط، وحاولتسريعًا الإمساك
بالمسدس الموجود في جيبي، فكنت أنوي قتل ذلك المتوحش — أكثر الكائنات المتبقية
على الجزيرة آنذاك رعبًا — عندما تسنح لي أول فرصة لذلك. قد يبدو الأمر نوعًا من
الغدر، لكن هذا ما عزمت على فعله. كنت أخافه أكثر من أي اثنين مجتمعين من البشر
الحيوانات. وكنت أعلم أن في استمراره على قيد الحياة تهديدًا لحياتي.
ألق التحية! » : استغرقت نحو عشر ثوانٍ محاولًا استجماع شجاعتي، ثم صحت
«! انحنِ
«… من تكون أنت ل » : لمعت أسنانه وهو يزمجر في وجهي
أخرجت مسدسيمعشيء من التردد، وصوبته تجاهه وأطلقت النارسريعًا. سمعته
يعوي، ورأيته يجري من جانب لآخر، ويستدير. فعلمت أنني لم أصبه، ضغطت على
الزناد مرة أخرى بإبهامي لأطلق طلقة أخرى. لكنه كان قد جرى للأمام بالفعل، واثبًا
من جانب لآخر، ولم أجرؤ أن أخطئه مرة أخرى. كان ينظر خلفه نحوي بين الحين
والآخر. كان يتمايل على الشاطئ، واختفى تحت أكوام الدخان الكثيف الذي كان لا يزال
يتصاعد من المنطقة المسيجة التي أمسكت بها النيران. وقفت محدقًا فيه من الخلف
بعضالوقت، ثم استدرت إلى البشر الحيوانات الثلاثة المطيعين ثانية، وأشرت لهم بإلقاء
الجثة التي كانوا لا يزالون يحملونها. عدت بعد ذلك إلى المكان بجوار النار حيث كانت
الجثث ملقاة، وأخذت أركل الرمال إلى أن امتصت كل بقع الدم بنية اللون، واختفت.
صرَفتُ تابعِيَّ الثلاثة بإشارة من يدي، وقطعت الشاطئ وصولًا إلى الأجمة. حملت
مسدسي في يدي، ورفعت السوط والفئوس معلقة في حمالة ذراعي. كنت قلقًا من البقاء
بمفردي ومن التفكير بمعزل عن الموقف الذي كنت فيه.
الأمر المروع الذي لم أدركه إلا آنذاك هو أن هذه الجزيرة لم يعد بها مكان آمن
يمكن أن أكون فيه وحدي، أو أستريح أو أنام فيه. كنت قد استعدت قوتي بشكل
مذهل منذ هبوطي على الجزيرة، لكن كنت لا أزال أنزع إلى العصبية، وأنهار تحت أي
ضغط شديد. شعرت أنه يجب علي الانتقال إلى الجانب الآخر من الجزيرة، والإقامة مع
البشر الحيوانات هناك، فأؤمن نفسي باكتساب ثقتهم، لكن لم تواتِني الشجاعة. عدت
إلى الشاطئ، وعندما استدرت ناحية الشرق متجاوزًا المنطقة المسيجة المشتعلة، وصلت
إلى بقعة ضحلة كانت الرمال المرجانية تجري فيها ناحية الصخور القريبة من الماء. هنا
يمكنني الجلوس والتفكير، مديرًا ظهري للبحر، ومواجهًا أي مفاجأة يمكن أن تباغتني.
جلست في ذلك المكان، مُسندًا ذقني على ركبتيّ، والشمس تحرق بأشعتها رأسي التي
أخذت المخاوف تتزايد فيه. كنت أخطط لنفسي كيف سأحيا إلى أن ينقذني أحد (هذا إن
حدث ذلك على الإطلاق). حاولت استعراضالموقف بأكمله بأكبر قدر ممكن من الهدوء،
لكن كان من المحال إقصاء مشاعري عند الحكم على الأمر.
أخذت أفكر في السبب وراء اليأس الذي اتسم به مونتجومري. فكان يقول:
ومورو أيضًا؛ ما الذي كان يقوله مورو؟ نعم … «. سيتغيرون … سيتغيرون بالتأكيد »
كان يقول إن الحيوان العنيد بداخلهم ينمو من جديد يومًا بعد يوم. انتقلت بعد ذلك
للتفكير في الرجل الضبع الخنزير. كنت موقنًا أنني إذا لم أقتله فسوف ألقى ذلك المصير
على يده. لسوء الحظ أن الناطق بالقانون قد مات؛ فهم يعلمون الآن أننا — حاملي
الأسواط — يمكن قتلنا، كما يُقتلون هم أنفسهم.
أليس من الممكن أن يكونوا يحدقون فيّ بالفعل الآن من بين أشجار السرخس
وسعف النخيل الكثيف الأخضر؛ يراقبونني إلى أن أصبح على مقربة منهم؟ ألا يضعون
خططًا للإيقاع بي؟ ما الذي كان الرجل الضبع الخنزير يقوله لهم؟ قادني خيالي إلى
مستنقع من المخاوف التي لا أساس لها.
انقطع حبل أفكاري عند سماعي أصوات بعضالطيور البحرية التي كانت تتسارع
نحو جسم أسود قذفته الأمواج على الشاطئ بالقرب من المنطقة المسيجة. علمت ماهية
ذلك الجسم، لكن لم يكن لدي ما يكفي من الشجاعة لأعود وأبُعد تلك الطيور عنه.
بدأت في السير على الشاطئ في الاتجاه المعاكس، عاقدًا العزم على تجاوز الجانب الشرقي
للجزيرة، ومن ثم الاقتراب من الوادي الذي توجد به الأكواخ دون عبور الكمائن المحتمل
وجودها بين الأجمة.
بعد السير مسافة نحو نصف ميل على الشاطئ، أبصرت واحدًا من البشرالحيوانات
الثلاثة التابعين لي وهو يخرج من بين الأجمة الأرضية متوجهًا نحوي. كنت آنذاك منفعلًا
للغاية من أثر التصورات التي تراءت لي؛ الأمر الذي دفعني لإخراج مسدسي على الفور.
حتى الإيماءات الاسترضائية التي أبداها ذلك الكائن فشلت في التهدئة من روعي.
كان هناك شيء شديد الشبه «! ابتعد » : تردد أثناء تقدمه نحوي، وصحت في وجهه
بالكلب في وضع التذلل الذي اتخذه ذلك الكائن. تراجع قليلًا للوراء على نحو مشابه
كثيرًا للكلب عند إبعاده عن المرء، ثم توقف ناظرًا إلي ومتوسلًا بعينيه البنيتين الشبيهتين
«. ابتعد … لا تقترب مني » : بعيني الكلب، فقلت له
«؟ ألا يمكنني الاقتراب منك » : قال
وضربت بسوطي، ثم وضعته في فمي، «. كلا، فلتبتعد عن هنا » : أجبته بإصرار
وانحنيت لألتقط صخرة. وبذلك التهديد تمكنت من إبعاد ذلك المخلوق عني.
وهكذا، وصلت وحيدًا إلى الوادي الذي يسكنه البشرالحيوانات. اختبأت بين الأعشاب
وقصب الخيزران الذي كان يفصل ذلك الأخدود عن البحر، وراقبت مَن ظهر مِن أولئك
البشر الحيوانات، محاولًا أن أحكم من إيماءاتهم ومظهرهم كيف أثرت عليهم وفاة
مورو ومونتجومري، وانهيار دار الألم. أدركت حينذاك سخف ما كنت عليه من جُبن.
لو أنني حافظت على شجاعتي ولم أسمح لها بالتراجع في فكري المنعزل، لتمكنت من
اعتلاء مركز مورو السلطوي الشاغر آنذاك، وحكمت البشر الحيوانات. يمكنني القول
إني أضعت فرصتي، واقتصرت على أن أكون مجرد قائد بين أتباعي.
وبحلول الظهيرة جاء بعضهم، وجثموا يستدفئون بالرمال الساخنة. غلب شعوري
المُلِح بالجوع والعطش خوفي، فخرجت من بين الأجمة والمسدس في يدي، وسرت نحو
تلك المخلوقات الجاثمة على الأرض. أدارت إحداهم — وكانت امرأة ذئبًا — رأسها نحوي
وحدقت فيّ، وتبعها الآخرون في ذلك. لم يحاول أيٌّ منهم النهوض وإلقاء التحية عليّ.
كنت قد بلغت من الإعياء والإنهاك ما حال دون أن أصمم على أن ألقى احترامًا من هذا
العدد الكبير منهم، فلم ألق بالًا للأمر.
«. أريد طعامًا » : قلت — على نحو أقرب إلى الاعتذار — وأنا أقترب منهم
«. يوجد طعام في الأكواخ » : قال الرجل الثور الخنزير نعِسًا، وهو يدير نظره عني
تجاوزتهم، وتوجهت وسط ظلمة ذلك الوادي شبه المهجور وروائحه. وفي أحد
الأكواخ الشاغرة تناولت بعض الفاكهة باستمتاع، ثم بعد أن وضعت بعض الأغصان
والعصيالمرقطة شبه المتحللة عند المدخل، وجعلت وجهي مواجهًا له، ويدي على مسدسي،
حلَّ على جسدي إرهاق الساعات الثلاثين الماضية، فسمحت لنفسي بأن أغفو، وأنا موقن
بأن المتراس الواهي الذي أقمته سيتسبب في ضجة كفيلة بالحيلولة دون مباغتتي عند
إزالته.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.