hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

بوسعك هكذا أن تتفهم موجة الخوف الهادرة التي اجتاحت أكبر مدن العالم مع طلوع
فجر يوم الاثنين؛ إذ تحوَّل تيار النازحين سريعًا إلى سيل جارف — وسط حالة من
الاضطراب الشديد في كل الجهات المحيطة بمحطات السكة الحديدية — يتكدسون
ويهرولون عبر كل وسيلة « التيمز » في صراع مرعب من أجل الانتقال عن طريق نهر
انتقال متاحة نحو الشمال والشرق. وفي الساعة العاشرة، كان جهاز الشرطة — بل
وهيئة السكة الحديدية مع انتصاف النهار — يفقدون تلاحمهم وتنظيمهم وكفاءتهم،
والضعف والفتور يدبّ بين صفوفهم، حتى إنهم هرعوا أخيرًا مع الحشود النازحة.
وسكان الجنوب الشرقي ،« التيمز » كانت جميع خطوط السكة الحديدية شمال نهر
قد تلقوا تحذيرًا في منتصف ليل الأحد، واكتظت القطارات بالركاب. « كانون » في شارع
كان الناس يتقاتلون بوحشية من أجل تأمين مكان للوقوف داخل العربات حتى في
على « بيشوبسجيت » الساعة الثانية. وفي الثالثة كانوا يُداسون ويُسحقون في شارع
كانت الأعيرة النارية تُطلَق ؛« ليفربول » بعد بضع مئات من الأمتار من محطة شارع
والطعنات تُسدَّد، ورجال الشرطة الذين أرُسلوا لتوجيه حركة المرور — والذين تملَّكهم
الإنهاك والحنق — يضربون أعناق الناس الذين استُدعوا هم للخدمة من أجل حمايتهم.
ومع تقدم النهار ورفض سائقي القطارات والمسئولين عن تغذيتها بالفحم العودة
إلى لندن، دفعت وطأة الفرار الناس في حشود متزايدة العدد بعيدًا عن المحطات وعلى
وتحركت ،« بارنز » طول الطرق المؤدية شمالًا. في منتصف النهار شوهد أحد المريخيين في
وعبر « التيمز » سحابة من البخار الأسود كانت تنخفض رويدًا رويدًا على طول وادي
لتحول حركته البطيئة دون الفرار من فوق الجسور. مرت غيمة أخرى « لامبيث » ضاحية
كانوا ؛« كاسيل هيل » وأحاطت بمجموعة صغيرة من الناجين فوق ،« إيلينج » فوق منطقة
أحياء لكنهم عاجزون عن الفرار.
بعد صراع عقيم من أجل ركوب قطار متجه نحو الشمال الغربي من محطة
حيث شقت القاطرات التي أفرغت حمولتها في محطة البضائع طريقها — « تشوك فارم »
بصعوبة وسط الحشود المتصايحة، وكافحت مجموعة من الرجال الشجعان من أجل
تشوك » منع الحشود من سحق السائق قبالة محرك القطار — خرج شقيقي إلى طريق
وتفادى في حركة سريعة سربًا مسرعًا من العربات، وحالفه الحظ في أن يكون « فارم
في طليعة المشاركين في نهب أحد متاجر الدراجات. انثقب الإطار الأمامي للدراجة أثناء
جرها عبر النافذة، لكنه مع هذا غادر المكان على عجل دون مزيد من الإصابات خلا
بسبب « هافرستوك هيل » جرح في معصمه. لم يكن بالإمكان اجتياز السفح المنحدر لتل
ذلك العدد الكبير من الخيول المطروحة أرضًا، وهو ما حدا بشقيقي أن يسلك طريق
.« بيلسايز »
حتى وصل « إدجوير رود » وهكذا فر شقيقي من هياج الهلع، ودار حول طريق
نحو السابعة متعبًا ودون أن يتناول طعامًا، لكنه كان متقدمًا عن الحشد « إدجوير » إلى
بكثير. مر عليه عدد من راكبي الدراجات وبعضراكبي الخيول وسيارتان. على بعد ميل
انكسر إطار العجلة، ولم تعد الدراجة صالحة للركوب. تركها على جانب « إدجوير » من
الطريق، وأخذ يسير بخطوات متثاقلة داخل البلدة. كانت هناك متاجر نصف مفتوحة في
الشارع الرئيسي، واحتشد الناس فوق الرصيف وفي مداخل البنايات ونوافذها مذهولين
يحدقون النظر في موكب اللاجئين الغريب الذي كان في بدايته. نجح شقيقي في الحصول
على بعض الطعام من إحدى الحانات.
لا يعرف خطوته التالية. زاد عدد النازحين، « إدجوير » ظل شقيقي بعضالوقت في
وبدت لدى الكثيرين منهم — مثل شقيقي — رغبة في التسكع في المكان. لم ترد أي
أخبار جديدة عن الغزاة المريخيين.
في ذلك الوقت كان الطريق مزدحمًا، لكنه لم يكن بعد مكتظٍّا. كان معظم اللاجئين
في تلك الساعة يركبون دراجات، ولكنسرعان ما ظهرت سيارات وعربات تجرها الخيول
سانت » تشق الطريق مسرعة وقد تجمع الغبار في سحب كثيفة على طول الطريق إلى
.« ألبانز
حيث يعيش بعض — « تشلمسفورد » ربما تكون فكرة ضبابية تتعلق بالذهاب إلى
أصدقاء شقيقي — هي التي دفعته لأن يسلك زقاقًا هادئًا يتجه ناحية الشرق. عندها
قابل درَجًا مخصصًا لعبور أحد السياجات، فعبره، وتتبع ممرٍّا للمشاة يتجه نحو
الشمال الشرقي. مر بجانب العديد من بيوت المزارع وبعضالأماكن التي لم يكن يعرف
هاي » أسماءها. رأى بضعة لاجئين إلى أن التقى مصادفة — في ممر عشبي يتجه نحو
بسيدتين أصبحتا فيما بعد رفيقتيه في الطريق. التقى بهما في الوقت المناسب — « بارنيت
تمامًا لإنقاذهما.
سمع صراخهما، وعندما ركض نحو مفترق الطريق رأى رجلين يبذلان قصارى
جهديهما من أجل سحبهما خارج العربة التي كانتا تقودانها، بينما ثالث يمسك في
صعوبة رأس الحصان المذعور الذي كان يجر العربة. كانت إحدى السيدتين — قصيرة
القامة ترتدي ملابس بيضاء اللون — تصرخ، بينما جرحت الأخرى — هيفاء القامة
سمراء البشرة — الرجل الذي كان يمسك بذراعها باستخدام سوط كانت تحمله في يدها
الثانية.
على الفور استوعب شقيقي الموقف، فصاح، وهرع نحو مكان القتال. توقف أحد
الرجال، واستدار نحوه، ولما أدرك شقيقي من تعبيرات وجهه العدائية أنه لا مفر من
القتال، ولما كان ملاكمًا متمرسًا، فقد توجه نحوه في الحال وطرحه أرضًا بجانب عجلة
العربة.
لم تكن هناك فرصة للتحلي بشهامة الملاكمين، فركله شقيقي ركلة أعجزته عن
الحركة، ثم أمسك بتلابيب الرجل الذي كان يجذب ذراع السيدة الهيفاء. سمع قعقعة
الحوافر، وتلقىضربة بالسوط على وجهه، وسدد له غريم ثالثضربة بين عينيه، بينما
أفلت الرجلُ الذي كان يمسك به شقيقي نفسه وفر عبر الزقاق في الاتجاه الذي جاء منه.
وفيشيء من الذهول، وجد نفسه في مواجهة الرجل الذي كان يمسك برأسالحصان،
وأدرك أن العربة ترتد منه إلى الوراء عبر الزقاق، تترنح من جانب إلى آخر والسيدتان
بداخلها تنظران إلى الخلف. حاول الرجل الذي يتقدمه — وكان فظٍّا ضخم الجثة —
أن يشتبك معه، لكنه أوقفه بضربة في وجهه. ولما أدرك الرجل أنه أصبح وحيدًا، تفادى
المواجهة، وأطلق ساقيه للريح عبر الزقاق خلف العربة، يتبعه ضخم الجثة بمسافة
قصيرة، والفارّ — الذي استدار حينها — خلفهما على مسافة بعيدة.
فجأة تعثر شقيقي وسقط أرضًا، بينما تقدم مطارده القريب منه دون تردد.
هب واقفًا ليجد نفسه مرة أخرى في مواجهة خصمين. ربما كانت فرصته في النجاة
ضئيلة لولا أن المرأة الهيفاء أوقفت العربة ببسالة، وعادت لتمد يد العون له. يبدو أنها
كانت تحمل مسدسًا طوال كل هذا الوقت، لكنه كان أسفل المقعد عندما تعرضت هي
ومرافقتها للهجوم. أطلقت النار على بعد ستة أمتار، وتمكنت بشق النفس ألا تصيب
شقيقي. فرَّ اللص الأقل شجاعة، وتبعه رفيقه وهو يلعن جبنه. توقفا في الزقاق على
مرأى من شقيقي حيث كان الرجل الثالث يرقد بلا حراك.
وأعطت المسدس لشقيقي. «! خذ هذا » : قالت هيفاء القوام
«. عودي إلى العربة » : قال شقيقي وهو يمسح الدم عن شفته المشقوقة
استدارت دون أن تنبس بكلمة — إذ كان كلاهما يلهثان — وعادا إلى حيث كانت
السيدة ذات الملابس البيضاء تبذل جهدًا كبيرًا كي تسيطر على الحصان المذعور.
من الواضح أن اللصوصنالوا كفايتهم؛ فعندما نظر شقيقي ثانية رآهم يتقهقرون.
وصعد إلى المقعد الأمامي الخالي. نظرت «. سأجلس هنا إذا سمحتِ لي » : قال شقيقي
المرأة خلفها في قلق.
وضربت جانب الحصان بالسوط. وبعد دقيقة اجتازوا «. أعطني الزمام » : قالت
منعطفًا في الطريق جعل الرجال الثلاثة يختفون عن نظر شقيقي.
وهكذا وعلى نحو مفاجئ تمامًا وجد شقيقي نفسه — بأنفاسه المتقطعة وفمه
المجروح وفكه المرضوض ومفاصل أصابعه الملطخة دمًا — يقود العربة في طريق غير
معروف مع هاتين السيدتين.
وشقيقته الصغرى، وأنه قد « ستانمور » علم بعدها أنهما زوجة جرّاح يعيش في
وأنه سمع ،« بينَر » قدِم في الساعات الأخيرة من الليل من علاج حالة خطيرة في ضاحية
في إحدى محطات القطار في طريقه عن تقدم المريخيين. أسرع الرجل إلى البيت، وأيقظ
السيدتين — إذ كانت الخادمة قد تركتهم قبل يومين — وحزم بعض الأغراض، ووضع
مسدسه أسفل المقعد — من حسن حظ شقيقي — وأمرهما بأن تقودا العربة إلى
وكان ينوي استقلال القطار من هناك. تخلَّف عنهما بغية إخبار الجيران. « إدجوير »
قال إنه سيلحق بهما نحو الرابعة والنصف صباحًا، والآن أصبحت الساعة التاسعة ولم
بسبب التكدس المروري المتزايد في المكان، « إدجوير » ترياه بعد. لم تستطيعا التوقف في
ولذا سلكتا هذا الزقاق الجانبي.
تلك هي القصة التي روتها السيدتان على مسامع شقيقي عندما توقفوا مجددًا
وعدهما بالبقاء معهما على الأقل حتى تحددا خطوتهما .« نيو بارنيت » بالقرب من منطقة
التالية، أو حتى يظهر الرجل المفقود، وادَّعى أنه بارع في استخدام المسدس — الذي لم
يكن مألوفًا له — بغرض طمأنتهما.
أعدّوا ما يشبه المخيم بجانب الطريق، وبدا الرضا على الحصان داخل سياج
الشجيرات. أخبرهما شقيقي عن فراره من لندن، وكل ما يعرفه عن هؤلاء المريخيين وعن
أسلحتهم. ارتفعت الشمس في السماء، وبعد فترة توقفوا عن الكلام، وحل محله حالة
من الترقب المشوب بالقلق. مر العديد من عابري السبيل، وجمع شقيقي ما استطاع من
أخبار. كان كل ردٍّ منقوصيحصل عليه يعمق لديه الشعور بفداحة الكارثة التي نزلت
ببني البشر، ويعمق قناعته بضرورة مواصلة رحلة الفرار هذه في الحال، وهو ما أشار
به عليهما.
ثم انتابها شعور بالتردد. «. لدينا مال » : قالت هيفاء القوام
التقت عيناها بعيني شقيقي، وحينها تخلَّت عن ترددها.
«. وأنا أيضًا » : قال شقيقي
أوضحت أن لديهما ثلاثين جنيهًا ذهبية وورقة نقدية فئة خمسة جنيهات، وقالت
ظن شقيقي أنه لا .« نيو بارنيت » أو « سانت ألبانز » إن باستطاعتهم استقلال قطار من
جدوى من ذلك بعدما رأى من استماتة أهل لندن على الاحتشاد في القطارات، واقترح
ثم الفرار من البلدة بأسرها. ،« هاريتش » باتجاه مدينة « إسكس » عليهما عبور مقاطعة
لم تكن السيدة إلفنستون — ذات الملابس البيضاء — لتستمع إلى أي تعليل، وظلت
لكن شقيقة زوجها كانت هادئة ورابطة الجأش إلى حد يدعو ،« جورج » تصرعلى انتظار
للدهشة، وأخيرًا وافقتا على اقتراح شقيقي. ولأنهم عقدوا العزم على أن يسلكوا طريق
وشقيقي يقود الجواد ليحافظ عليه قدر « بارنيت » فقد تقدموا نحو ،« جريت نورث رود »
المستطاع. مع ارتفاع الشمس في كبد السماء اشتد قيظ النهار كثيرًا، وازداد لهب الرمال
الكثيفة الضاربة إلى البياض وبريقها، حتى إنهم اضطروا إلى التمهل كثيرًا في سيرهم.
كان « بارنيت » كانت سياجات الشجيرات رمادية اللون من أثر الغبار. ومع تقدمهم نحو
صوت دمدمة صاخبة يزداد وضوحًا.
بدءوا يلتقون أناسًا أكثر؛ في الأغلب كانوا يحدقون فيهم يغمغمون بأسئلة مبهمة
يتملكهم الإنهاك والكلل وفي هيئاتهم رثاثة. مر بجوارهم رجل يسير على قدميه مرتديًا
ثياب النوم وعيناه تنظران إلى الأرض. سمعوا صوته، وعندما التفتوا إليه، رأوا إحدى
يديه متشبثة بشعره والأخرى تضرب أشياء غير مرئية. عندما انتهت نوبة غضبه، واصل
طريقه دون أن ينظر وراءه ثانية.
بينما كان شقيقي والسيدتان يتقدمون نحو مفترق الطرق المؤدي إلى جنوب
شاهدوا امرأة تقترب من الطريق عبر بعض الحقول على يسارهم وهي تحمل « بارنيت »
طفلًا ويرافقها آخران، ثم مر رجل يرتدي ملابس سوداء متسخة يحمل عصا غليظة في
يد وحقيبة سفر صغيرة في اليد الأخرى. وبعدها وعند منعطف الزقاق — من بين المنازل
التي تحميه عند نقطة التقائه بالطريق الرئيسي — ظهرت عربة صغيرة يجرها حصان
أسود يتصبب عرقًا ويقودها شاب شاحب الوجه يرتدي قبعة مستديرة رمادية اللون
وطفلان — « إيست إند » من أثر الغبار. كانت هناك ثلاث فتيات — يعملن في مصانع
صغيران مكدَّسين داخل العربة.
هل يقودنا هذا الطريق » : سأل السائق بوجهه الشاحب وعينيه اللتين تشعان خوفًا
وعندما أخبره شقيقي أنه بوسعه الوصول إلى هناك إذا انعطف يسارًا، «؟« إدجوير » إلى
ضرب الرجل بسوطه في الحال دون أن يوجه كلمة شكر لشقيقي.
لاحظ شقيقي ضبابًا أو دخانًا رماديٍّا باهتًا يرتفع من بين المنازل أمامهم يحجب
الواجهة البيضاء لصف من المنازل على الجانب الآخر من الطريق. وفجأةصرخت السيدة
إلفنستون عندما رأت عددًا من ألسنة اللهب الأحمر الدخاني يتحرك بسرعة فوق المنازل
أمامهم قبالة السماء الزرقاء الساخنة. تبددت الضوضاء الصاخبة إلى مزيج متداخل
لأصوات عديدة ما بين قعقعة العجلات وصرير العربات وضربات حوافر الخيول. انعطف
الزقاق بحدة فجأة على بعد أقل من خمسين مترًا من المفترق.
«؟ يا إلهي! ما هذا الذي تقودنا نحوه » : صاحت السيدة إلفنستون
توقف شقيقي.
كان الطريق الرئيسي يشهد سيلًا فائرًا من الناس؛ إعصارًا من البشر يهرعون
نحو الشمال وكل واحد يحاول التقدم على الآخر. غيمة كبيرة من الغبار — بيضاء
براقة في وهج الشمس — جعلت كل شيء حتى ارتفاع نحو عشرة أمتار رماديٍّا غير
واضح المعالم، وكانت تتجدد على الدوام بفعل الأقدام المسرعة للحشد الهائل من الخيول
والرجال والنساء الذين يسيرون على الأقدام وبفعل عجلات المركبات التي تتحرك في كل
اتجاه.
«! الطريق! أفسحوا الطريق » : سمع شقيقي أصواتًا تصيح
كان الأمر أشبه بمن يتحرك وسط دخان إحدى الحرائق وذلك بغية الاقتراب من
نقطة التقاء الزقاق بالطريق؛ صاح الحشد بصوت يشبه معمعة النار، وكان الغبار
ملتهبًا حارٍّا. كان منزل ريفي على الطريق يحترق ويبعث كتلًا متكورة من الدخان
الأسود يُضاف إلى اضطراب المشهد.
مر رجلان بجوارهم، تلتهما امرأة رثة الهيئة تحملصرَّة صغيرة وتذرف الدموع.
دار حولهم كلب صيد تائه لسانه يتدلى من فمه والفزع والبؤس يملآنه، ثم فرَّ عندما
هدده شقيقي.
على مرمى البصرفي الطريق المؤدي إلى لندن وبين المنازل إلى اليمين كان سيل هائج
من أناس يركضون وفي هيئتهم رثاثة، تحيط بهم المنازل الريفية على كلا الجانبين.
أصبحت الرءوس السوداء والهياكل المحتشدة أكثر وضوحًا مع اندفاعها نحو مفترق
الطريق حيث ركضوا مارين بهم واختلطوا مرة ثانية مع الحشد المتقهقر الذي اختفى
أخيرًا وسط سحابة من الغبار.
«! تقدَّموا! تقدَّموا! أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق » : تعالت الأصوات
كانت يد كل واحد في الحشد تضغط على ظهر آخر. وقف شقيقي عند رأس
الحصان. ومع ضغط الحشد بما لا يمكن معه المقاومة، تقدم رويدًا رويدًا على طول
الزقاق.
مشهدًا من الاضطراب الصاخب، « تشوك فارم » مسرحًا للفوضى، و « إدجوير » كانت
لكن حشدًا بأكمله من السكان كان يتحرك. من الصعب تخيل صورة ذلك الحشد. لم
يكن ثمة صفة تميزه. تدفق الجمع مرورًا بالمفترق، وتراجعوا بظهورهم إلى المجموعة
التي كانت في الزقاق. وعلى الأطراف ظهر أولئك الذين كانوا يسيرون على الأقدام تهددهم
عجلات العربات، ويتعثرون في القنوات، ويتخبط بعضهم في بعض.
تكدست العربات بعضها بالقرب من بعض، لا تترك مسافة كافية من أجل تلك
السيارات الأكثرسرعة والأقل صبرًا، التي كانت تنطلق للأمام بين الحين والحين متى رأت
الفرصة سانحة لذلك؛ لتتسبب في تفريق الحشد نحو سياجات المنازل الريفية وبواباتها.
«! تقدَّموا! تقدَّموا! إنهم قادمون » : تكررت الصيحة
داخل إحدى العربات وقف رجل ضرير يرتدي الزي الرسمي الذي يرتديه أفراد
كان صوته أجش «! الخلود! الخلود » : يلوح بأصابعه المعقوفة ويصيح « جيش الخلاص »
وجهوريٍّا حتى إن شقيقي استطاع سماعه بعد أن ابتلع الغبار العربة وأخفاها عن
ناظريه. بعض الذين تكدسوا داخل العربات كانوا يضربون خيولهم بالسياط بحماقة،
ويتشاجرون بعضهم مع بعض، والبعض ظل بلا حراك يحدق في الفراغ بعيون ملؤها
التعاسة، وبعضهم أخذوا يقضمون أياديهم من شدة الظمأ، أو تمددوا أرضًا داخل
العربة التي تقلهم. كانت شكائم الخيول مغطاة بالرغاوي، وعيونها محتقنة بالدماء.
كان هناك عدد لا حصر له من سيارات الأجرة وعربات تجرها الخيول وعربات
مجلس » التسوق، بالإضافة إلى عربة بريد وإحدى عربات تنظيف الشوارع عليها شعار
وعربة أخشاب كبيرة مكتظة بأناس تبدو عليهم الجلافة. قعقعت « كنيسة سان بانكراس
على الطريق عربة لنقل الجعة، وكانت عجلتاها القريبتان ملطختين بدماء لم تجف بعد.
«! أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق » : تعالت الصيحات
«! الخلود! الخلود » : سُمع صدى صوت من الطريق
كانت هناك نساء حسناوات الهندام يكسو الإنهاك والأسى وجوههن وهن يسرن
على الأقدام برفقة أطفال يذرفون الدمع ويتعثرون في خطاهم، وملابسهم الأنيقة مغبرَّة
ووجوههم المتعبة ملطخة بالدموع. ومع الكثير من هؤلاء ظهر رجال كانوا يمدون يد
العون في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كانوا متجهمين شرسين. وسط الحشد أيضًا
تدافع بعض المشرَّدين يرتدون أسمالًا سوداء باهتة عيونهم فاغرة وأصواتهم مرتفعة
وألسنتهم تنضح ببذيء الكلام. كان هناك عدد من العمال شداد البنيان يتدافعون إلى
جانب رجال يبدو عليهم البؤس والرثاثة يتسربلون بملابس الموظفين أو عمال المتاجر
ويتصارعون بين الحين والحين؛ فضلًا عن جندي مصاب انتبه إليه شقيقي، ورجال
يرتدون ملابس حمَّالي السكة الحديدية، وكائن بائس في ثوب نوم فوقه معطف.
لكن على الرغم من تنوع أطياف الحشد، فإنهم كانوا يشتركون في أشياء بعينها.
كانت ملامح الخوف والألم تكسو وجوههم. كان هناك جلبة على الطريق وشجار من
أجل الحصول على مكان داخل إحدى العربات جعلا الحشد بأسره يسرع الخطى؛ حتى
إن رجلًا ركبتاه كانتا متقوستين أسفله من شدة الرعب والوهن تنبَّه فجأة ودب فيه
النشاط هنيهة. كانت حرارة الجو وغباره يفعلان فعلهما في هذا الحشد. كانت جلودهم
جافة، وشفاههم متشققة داكنة اللون. كانوا جميعًا ظمأى منهكين متقرحي الأقدام.
ووسط الصرخات المتنوعة كانت تُسمع النزاعات وعبارات التوبيخ وأنَّات الإنهاك والتعب،
أفسحوا » : وكانت معظم تلك الأصوات جشَّاء واهنة. من العبارات التي كثر تكرارها
«! الطريق! أفسحوا الطريق! المريخيون قادمون
توقف عدد قليل، وابتعدوا عن ذلك السيل الجارف. انفتح الزقاق في ميل على
الطريق الرئيسي بفتحة ضيقة. كان طوفان من البشر يتوجه نحو فتحته، وضعاف
الأجسام يشقون طريقهم بمرافقهم خارج الحشد لينالوا قسطًا ضئيلًا من الراحة قبل
أن ينضموا إلى الحشد مجددًا. على مسافة قليلة من بداية الزقاق تمدد رجل — ومعه
صديقان محنيان فوقه — بقدم مكشوفة مضمدة بأسمال ملطخة بالدماء. كان الرجل
محظوظًا لكون صديقيه معه.
عرج رجل مسنضئيل الجسم ذو شارب أشيب يرتدي معطفًا طويلًا أسود متسخًا،
وجلس بجوار العربة وخلع حذاءه — فظهر جوربه الملطخ بالدماء — وأزال منه حصاة،
ثم واصل مشيته العرجاء ثانية، بعد ذلك ألقت فتاة صغيرة وحيدة في الثامنة أو التاسعة
لا أستطيع » : من عمرها نفسها أسفل سياج الشجيرات بجوار شقيقي وأخذت تبكي
«! الاستمرار! لا أستطيع الاستمرار
أفاق شقيقي من خَدَر الذهول، ورفعها، وتحدث إليها برفق، ثم حملها إلى الآنسة
إلفنستون. وما إن لمسها حتى هدأت تمامًا، لكأنها كانت مذعورة.
هبت «! إلين! إلين » : صاحت سيدة من بين الحشد وأثر الدموع يظهر في صوتها
«! أمي » : الفتاة فجأة مبتعدة عن شقيقي وهي تصيح
«. إنهم قادمون » : قال رجل على صهوة جواد يمر بمحاذاة الزقاق
ورأى شقيقي عربة «! ها هم هنالك » : وصاح سائق عربة يعلو برأسه عن الآخرين
مغلقة تنعطف داخل الزقاق.
تدافع الناس للخلف واحدًا بعد آخر بغية تفادي الحصان. دفع شقيقي الحصان
والعربة إلى الخلف داخل سياج الشجيرات، وتقدم الرجل ثم توقف عند منعطف الطريق.
كانت عربة بها عمود يتسع لاثنين من الخيول، لكن واحدًا فحسب كان مشدودًا إلى
العربة. شاهد شقيقي وسط الغبار صورة غير واضحة لرجلين يرفعان شيئًا فوق مِحفَّة
بيضاء ويضعانه برفق على العشب تحت سياج الشجيرات.
هرع أحد الرجلين نحو شقيقي.
من أين لي بالماء؟ إنه يحتضر، وقد بلغ به الظمأ مبلغه. إنه اللورد » : قال الرجل
«. جاريك
«؟ لورد جاريك؟ قاضيالقضاة » : قال شقيقي
«؟ الماء » : قال الرجل
ربما يكون هناك صنبور في أحد المنازل. ليس لدينا ماء، ولا أستطيع » : قال شقيقي
اندفع الرجل عكس اتجاه الحشد نحو بوابة المنزل الكائن عند «. ترك رفيقتيّ وحدهما
مفترق الطريق.
«! هيا! إنهم قادمون! هيا » : قال الناس وهم يدفعونه
ثم تحول اهتمام شقيقي إلى رجل ذي لحية ووجه أشبه بوجه النسر يجر حقيبة
يد صغيرة انشقت في اللحظة نفسها التي وقعت فيها عينا شقيقي عليها، وخرجت
منها كتلة من النقود الذهبية تبعثرت على هيئة عملات متفرقة مع ارتطامها بالأرض.
تدحرجت النقود هنا وهناك وسط أقدام الرجال والخيول التي تشق طريقها بصعوبة.
توقف الرجل، ونظر في حماقة إلى النقود، فاصطدمت عارضة إحدى العربات بكتفه ما
أدى إلى اختلال توازنه. أطلق الرجل صيحة، وتراجع إلى الخلف، وكادت إحدى عجلات
العربة تصيبه.
«! الطريق! أفسحوا الطريق » : صاح الرجال حوله
حالما مرت العربة، ألقى الرجل نفسه بيدين مفتوحتين على كومة النقود، وبدأ يأخذ
منها ويضع في جيبه. ارتفع حصان بالقرب منه، وفي لحظة وجد نفسه أسفل حوافر
الحصان.
وحاول — وهو يدفع سيدة من طريقه — الإمساك «! توقفوا » : صرخ شقيقي
بشكيمة الحصان.
قبل أن يتمكن من الوصول إليها، سمعصرخة أسفل العجلات، ورأى وسط الغبار
إطار العجلة يمر فوق ظهر الرجل التعس. ضرب السائق بالسوط نحو شقيقي الذي
ركض خلف العربة. أربكت الصيحات المتعددة أذنيه. كان الرجل يتلوى وسط الغبار
بين نقوده المبعثرة غير قادر على النهوضبعد أن كسرت العجلة ظهره وتمددت أطرافه
السفلية عاجزة بلا حراك. وقف شقيقي وصرخ في السائق التالي، وتقدم رجل يمتطي
حصانًا أسود لمساعدته.
فأمسك شقيقي ياقة الرجل بيده وسحبه جانبًا، لكنه «. أبعده عن الطريق » : قال
ما زال متشبثًا بنقوده، وحدج شقيقي بنظرة حادة وهو يضرب على يده بقبضته المليئة
«! تقدموا! تقدموا » : بالذهب. تعالت الأصوات الغاضبة من الخلف
«! أفسحوا الطريق! أفسحوا الطريق »
سُمع صوت تحطم، إذ اصطدمت عارضة إحدى العربات بالعربة التي أوقفها
الرجل على صهوة الحصان. رفع شقيقي بصره، وأدار صاحب الذهب رأسه، وقضم
المعصم الذي كان يمسك بياقته. وقع صدام عنيف، وتقدم الحصان الأسود يترنح جانبًا،
واندفع حصان العربة بجواره. نجت قدم شقيقي من أحد الحوافر بشق الأنفس، فحرر
قبضته من الرجل الممدد أرضًا، واندفع للخلف. رأى الغضب يستحيل فزعًا على وجه
البائس الممدد أرضًا، واختفى الرجل في دقيقة، بينما تحرك شقيقي للخلف، ودُفع نحو
فتحة الزقاق، واضطر للدخول فيصراع قاس مع أفراد ذلك الحشد كي ينجو منه.
رأى الآنسة إلفنستون تغطي عينيها، وطفلًا صغيرًا — بكل ما لدى الأطفال
من افتقاد للتعاطف مع الآخرين — يحدق بعينين فاغرتين في شيء مغبَّر يتمدد بلا
وبدأ «! لنعد إلى الخلف مرة أخرى » : حراك مسحوقًا أسفل العربات المتحركة. صاح
وتحركوا للخلف مائة متر في «. لن نستطيع اجتياز هذا الجحيم » : يدير الحصان. قال
الطريق الذي جاءوا منه حتى اختفى الحشد المتنازع. أثناء مرورهم بمنعطف الزقاق
شاهد شقيقي وجه الرجل المحتضر في القناة أسفل سياج الشجيرات، وكان وجهه
بالغ الشحوب يلمع من كثرة العرق. التزمت السيدتان الصمت، وجثمتا في مقعديهما
ترتجفان.
توقف شقيقي مجددًا بعد اجتياز المنعطف. كانت الآنسة إلفنستون شاحبة الوجه،
وجلست زوجة أخيها تنتحب وقد تملكها البؤس حتى إنها لم تستطع الحديث عن
استبد الفزع والارتباك بشقيقي. فما إن تراجعوا حتى أدرك أنه لا مفر من .« جورج »
أن يسلكوا الاتجاه الذي كانوا يسلكونه أولًا. استدار إلى الآنسة إلفنستون وقد بدا ثابت
العزم فجأة.
واستدار بالحصان مجددًا. «. لا بد أن نسلك ذلك الطريق » : قال
للمرة الثانية ذلك اليوم أثبتت تلك الفتاة تميزها. فلكي يشقوا طريقهم وسط ذلك
الحشد من الناس، اندفع شقيقي وسط الزحام وحال دون تقدم حصان كان يجر إحدى
العربات، بينما قادت هي حصان العربة التي كانوا يستقلونها. تشابكت عجلات عربة
أخرى تتبعهم مع عربتهم للحظة، وانتزعت شظية طويلة من عربة شقيقي ومرافقتيه.
وفي لحظة أخرى وجدوا أنفسهم منجرفين وسط الحشد. اندفع شقيقي — بعد أن خلَّف
سوط سائق العربة علامات حمراء على وجهه ويديه — إلى داخل العربة وأمسك بالزمام
من الفتاة.
صوِّبي المسدس نحو الرجل الذي يتبعنا إذا ما بالغ في » : قال وهو يعطيها المسدس
«. الضغط علينا. كلّا! صوِّبيه نحو حصانه
ثم بدأ يبحث عن فرصة للتحرك نحو اليمين على الطريق. لكن ما إن انجرف وسط
الحشد حتى بدا وكأنه يفقد إرادته ويصبح جزءًا من ذلك الحشد الغفير المغمور غبارًا.
كانوا على بعد نحو ميل من مركز المدينة .« تشيبينج بارنيت » تقدَّموا مع الحشد عبر
قبل أن ينتقلوا بصعوبة إلى الجانب المقابل من الطريق. كان الصخب والارتباك يفوقان
الوصف؛ أما في داخل المدينة، فكان الطريق يتفرع على نحو متكرر، وهذا ما خفَّف وطأة
الوضع إلى حد ما.
وهناك على جانبي الطريق وفي مكان آخر على مسافة « هادلي » اتجهوا شرقًا عبر
أبعد التقوا بحشد هائل من الناس يروون ظمأهم عند النهر، والبعض يكافح من أجل
« إيست بارنيت » الوصول إلى المياه. وعلى مسافة أخرى وسطشيء من الهدوء بالقرب من
شاهدوا قطارين يسيران ببطء واحدًا وراء الآخر دون إشارة أو نظام — حيث الناس
يحتشدون داخل القطارات حتى إن بعضهم كان يتخذ مكانه بين الفحم خلف المحركات
افترض شقيقي أنهما حتمًا قد امتلآ .« جريت نورثرن ريلواي » — متجهين شمالًا عبر
بالركاب من خارج لندن، لأن فزع الناس في ذلك الوقت كان قد جعل من المحطة المركزية
مكانًا لا يطاق.
توقفوا بالقرب من ذلك المكان لما تبقى من الظهيرة، لأن العنف الذي شهده ذلك
اليوم قد استنزف قوى ثلاثتهم. بدءوا يعانون بوادر الجوع؛ كان المساء باردًا، وجافى
النوم أجفانهم. وفي المساء جاء عدد كبير من الناس يهرعون على الطريق بالقرب من
المكان الذي كانوا يتوقفون فيه، يفرون من خطر مجهول أمامهم، ويتقدمون في الاتجاه
الذي جاء منه شقيقي.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.