hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

أخذت أسير مترنحًا بعض الوقت فوق تلك الرابية دون أن أحسب حسابًا لسلامتي. في
نطاق هذا الوكر كريه الرائحة الذي خرجت منه فكرت بقليل من الجدية في سلامتنا
الحالية. لم أكن أدرك ما حدث للعالم، ولم أتوقع ذلك المشهد المروع لتلك الأشياء الغريبة.
أطلالًا؛ وجدت حولي مشهدًا — غريبًا مفزعًا — لكوكب آخر. « شين » توقعت رؤية
في تلك اللحظة اعتراني شعور يتجاوز نطاق مشاعر البشر، لكنه شعور تعرفه
جيدًا الحيوانات البائسة التي نفرضهيمنتنا عليها. شعرت بما قد يشعر به أرنب عائد
إلى جحره، وفجأة يرى نتيجة ما قام به عدد كبير من عمال البناء المنشغلين الذين
يحفرون أساس أحد المنازل. شعرت ببوادر شيء ازداد وضوحًا في ذهني بعدها بقليل؛
شيء أغمَّني أيامًا عديدة، شعور بالنزول عن العرش، اقتناع أني لم أعد السيَّد، بل مجرد
حيوان من الحيوانات تحت أقدام المريخيين. حالنا مشابه لحال تلك الحيوانات؛ ما بين
التسلل والمراقبة والجري والاختباء. انتهى الخوف من البشر وإمبراطوريتهم.
لكن ما لبث هذا الشعور الغريب أن اختفى سريعًا كما انتابني، وأصبح الجوع
دافعي بعد أيام طويلة كئيبة من الامتناع عن الطعام. في الاتجاه البعيد عن الحفرة
رأيت — خلف سور مكسو باللون الأحمر — رقعة من حديقة غير مدفونة. أمدني
هذا بفكرة، فسرت وسط العشب الأحمر الذي كان يصل إلى ركبتي في بعض الأحيان
وإلى عنقي في أحيان أخرى. كثافة العشب أمدتني بشعور مطمْئن بأني محجوب عن
الأنظار. كان ارتفاع السور نحو مترين، وعندما حاولت تسلقه اكتشفت أني لا أستطيع
رفع قدمي على قمة السور، لذلك تابعت سيري بمحاذاته ووصلت إلى ركن وكومة من
الصخور مكنتني من اعتلاء قمته، وألقيت بنفسيداخل الحديقة التي كنت أنشد الوصول
إليها. هناك وجدت بعض البصل الصغير، وبصلتين من نبات سيف الغراب، وكمية من الجزر غير الناضج أخذتها جميعًا ثم تسلقت بصعوبة سورًا منهارًا مواصلًا سيري بين كان الأمر أشبه بالسير وسط ممر من قطرات الدماء ،« كيو » الأشجار القرمزية متجهًا إلى العملاقة، وأنا تسيطر علي فكرتان: الحصول على مزيد من الطعام، والابتعاد — بسرعة وبعيدًا قدر ما تسمح لي قوتي — عن تلك المنطقة الملعونة الخارقة للطبيعة التي توجد بها الحفرة.
على مسافة أبعد وفي بقعة معشوشبة وجدت مجموعة من فطر عيش الغراب
التهمتها هي الأخرى، ثم وجدت جدولًا بنيٍّا من مياه ضحلة جارية في مكان كان مرعًى
فيما سبق. لم تفعل تلك القطع الصغيرة من الطعام شيئًا سوى أنها فتحت شهيتي
للطعام. دُهشت أول الأمر لرؤية ذلك السيل في صيف جاف حار كهذا، لكني اكتشفت
بعدها أن سببه هو النمو الوفير للعشب الأحمر. ما إن تلتقي تلك النبتة الغريبة بالمياه،
حتى تستحيل على الفور عملاقة وخصيبة على نحو استثنائي. كانت بذوره تلقى في
وسرعان ما سدَّت الأوراق العملاقة سريعة النمو مجرى المياه ،« التيمز » و « واي » نهري
في النهرين.
مثلما رأيت فيما بعد — كاد الجسر يُفقد وسط كتلة متشابكة من — « بيوتني » في
في جداول واسعة ضحلة « التيمز » أيضًا تدفقت مياه نهر « ريتشموند » هذا العشب، وفي
وأينما انتشرت المياه، تبعها العشب حتى اختفت .« تويكينام » و « هامتون » عبر مروج
المنهارة لفترة في ذلك المستنقع الأحمر الذي استكشفت حدوده، « التيمز » منازل وادي
واختفى معظم الخراب الذي أحدثه المريخيون.
في النهاية مات العشب الأحمر بنفس السرعة التي انتشر بها تقريبًا. يُعتقد أن داءً
يُعزى إلى نوع من البكتيريا قد أصابه بعد فترة قصيرة. بفضل الانتخاب الطبيعي، تتمتع
كل النباتات الأرضية بمناعة ضد الأمراض البكتيرية، فهي لا تموت أبدًا دون صراع
مرير، لكن العشب الأحمر تعفن وكأنه شيء ميت بالفعل. ابيضَّت الأوراق، ثم تغضنت
وجفت. كانت الأوراق تتكسر من أضعف لمسة، والمياه التي كانت تحفز نموها من قبل
أصبحت الآن تحمل بقاياها إلى البحر.
بالطبع أول ما فعلته عندما وصلت إلى هذه المياه أني رويت ظمئي. شربت قدرًا
كبيرًا من المياه، ودفعني دافع أن آكل بعض أوراق العشب الأحمر، لكنها كانت مخضلَّة
ذات مذاق لاذع يبعث على الشعور بالغثيان. وجدت المياه ضحلة بما يكفي لأن أخوض
فيها بأمان، مع أن العشب الأحمر أعاق حركتي قليلًا، لكن الجدول أخذ يزداد عمقًا
تمكنت من تمييز الطريق عن طريق .« مورتليك » في اتجاه النهر، واستدرت عائدًا إلى
الأطلال المتفرقة لمنازله وأسواره ومصابيحه، وهكذا خرجت سريعًا من ذلك الفيضان،
.« بيوتني » ووصلت مرعى « روهامتون » وشققت طريقي إلى التل الواصل باتجاه
هنا تغير المشهد من الغريب وغير المألوف إلى حطام مألوف؛ كشفت بقع من الأرض
عن دمار إعصار، وعلى مسافة ليست ببعيدة رأيت أماكن لم يتغير فيهاشيء على الإطلاق،
فستائر المنازل مسحوبة على نحو حسن الترتيب، والأبواب مغلقة، كأن أصحابها تركوها
مدة يوم واحد، أو كأن قاطنيها ينامون في الداخل. كان العشب الأحمر أقل كثافة،
والأشجار الطويلة على طول الطريق خالية من العشب الأحمر. بحثت عن الطعام بين
الأشجار، لكن دون جدوى، واقتحمت منزلين يخيم عليهما السكون، لكنهما كانا قد
تعرضا للاقتحام والنهب من قبل. استرحت ما تبقى من النهار في مكان تحفه الأشجار
بعد أن استعصت عليّ مواصلة السير من شدة ما كنت ألاقيه من وهن.
كل هذا الوقت لم أر بشرًا، ولا أثرًا للمريخيين. التقيت كلبين يبدو عليهما الجوع،
لكن كليهما أسرعا في طريق ملتوٍ بعيدًا عن الاتجاه الذي كنت أسلكه. وبالقرب من
رأيت هيكلين عظميين بشريين؛ ليسا جثتين بل هيكلين عظميين منزوع « روهامتون »
عنهما اللحم تمامًا، وفي الغابة القريبة مني وجدت عظامًا مسحوقة مبعثرة لقطط وأرانب
وجمجمة لأحد الخراف. لُكْت أجزاء منها في فمي، لكني لم أحصل منها على شيء.
حيث « بيوتني » بعد غروب الشمس واصلت السير على وهن في الطريق المؤدي إلى
تراءى لي أن الشعاع الحراري حتمًا أعُمل هاهنا. وفي الحديقة التي كانت تبعد عن
حصلت على كمية من ثمار البطاطا غير الناضجة تكفي لسد رمقي. ومن « روهامتون »
والنهر. بلغ قفر المكان في ضوء الغسق كل مبلغ « بيوتني » هذ الحديقة ألقيت نظرة على
حيث الأشجار السوداء والأطلال المهجورة التي يغطيها السواد، ونحو سفح التل رأيت
زَخَّات من مياه النهر الفائضة المصطبغة بالصبغة الحمراء للعشب الأحمر. وفيما عدا
ذلك، كان السكون المطبق. التفكير في كيفية حصول ذلك التغير الموحش على هذا النحو
من السرعة بثَّ في نفسي رعبًا يعجز اللسان عن وصفه.
ظللت حينًا أظن أن البشر قد أبُيدوا من الوجود، وأني واقف هناك وحدي؛ أني
وجدت هيكلًا عظميٍّا آخر ذراعاه « بيوتني » آخر من تُرك حيٍّا. وعلى مقربة من قمة تل
مخلوعتان من مكانيهما وملقاتان على بعد عدة أمتار من الهيكل. كلما واصلت السير،
زادت قناعتي أن إبادة الجنس البشري — باستثناء الهائمين على وجوههم مثلي — وقع في ذلك الجزء من العالم. واصل المريخيون — حسبما تراءى لي — طريقهم تاركين البلدة مهجورة بحثًا عن الغذاء في مكان آخر. ولعلهم في تلك اللحظة يلحقون الدمار بمدينة برلين أو باريس، أو لعلهم اتجهوا ناحية الشمال.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.