lmsaebda3

شارك على مواقع التواصل

مقدمة
الحمد لله رب العالمين، نشهد أن لا إله غيره، وأن محمدا –صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبيائه ورسله.
وبعد،،
إن الأمة الإسلامية تمر الآن بضعف شديد في الجانب العلمي والثقافي وقد أصيب كثير من أبنائها بالفتور وقلة الحماس، وساعد على ذلك كثير من أصحاب المسئولية العلمية سواء من الأئمة والخطباء، أو المعلمين وأساتذة الجامعات.
إننا نرى الكثير من هؤلاء الرعاة لا يقومون بدورهم على الوجه الأكمل سواء في الدراسة أو الجامعة أو المسجد.

إن من الأمور المهمة التي اعتنى بها القرآن الكريم وجعلها أسلوبا مهما من أساليب الدعوة: القصة.
فالقصة تستميل القلوب وتستحوذ على الأسماع، ولكن إن لم نصل إلى المقصود من القصة، أو إن لم نحقق الهدف من القصة نكون قد ضيعنا الوقت بنوع من أنواع التسالي.
وأنا أرى أن هناك من الخطباء من يكثر من القصص دون أن يتطرق إلى الدروس المستفادة أو يدعو الناس إلى الاستفادة من القصة.
كما أن هناك من الخطباء من يصرّحون أنهم يبحثون عن القصص العجيبة من أجل أن يقال لهم: الله!

كذلك رأيت البعض يحاول التجديد في مجال القصة ويستخرج منها الدروس والعبر ويبين للناس ما يجب عليهم فعله -اقتداء بصاحب القصة-، ولكن يجدون معارضة من بعض ذوي القلوب المريضة.
وليت المعارضة تقتصر على هؤلاء، إنها امتدت إلى بعض من دخلوا مجال الدعوة لأنها الوظيفة التي أتيحت لهم –وهؤلاء أخطر على الدعوة من أعدائها- فيواجهون الإمام الذى يريد الخير لقومه وأهله بأبشع الألفاظ، هذا فضلا عن الحديث عنه والغمز واللمز، وما ذاك إلا لأنه اجتهد في إظهار الحق وهم رضوا بالراحة والشعارات.

كذلك أيضا هناك بعض النقاط التي تخص الفقه لم أعلق عليها علميا بذكر الدليل والآراء لأنني كما ذكرت أركز على الجانب الدعوي فقط، ولنفس السبب لم أتعرض للخلافات الموجودة حول الإسراء والمعراج سواء كانت خلافات معتبرة مثل رؤية الله –تعالى- وغير ذلك أو خلافات غير معتبرة كمن قال: إن الرحلة كانت مناما...
كما أن هناك بعض المواقف التي نوقشت دعويا مثل بعد كل محنة منحة والفرج بعد الضيق وغير ذلك، فلم أذكرها في هذا العمل حتى لا يكون الكلام مكررا ويطول الحديث.
كما أن هناك بعض المواقف التي تخص بعض الدعاة والشيوخ لم أذكرها خوف الإطالة ولأنني لا أريد أن أحدث خلافا مع أحد، بل أريد أن يجتمع الدعاة على كلمة سواء لصالح دينهم ودنياهم.
كذلك أيضا لم آت بفضل الله بحديث ضعيف في الروايات التي شرحتها شرحا دعويا.

إن الإسراء والمعراج فيها من الدروس والعبر والدلائل الدعوية الكثير والكثير، يقول الإمام ابن إسحاق(): "وكان مسراه وما ذكر منه، بلاء وتمحيص، وأمر من الله -عز وجل- في قدرته وسلطانه، عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وبيان، لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمر الله -عز وجل- وسلطانه العظيم، وقدرته التي صنع بها ما يريد، حتى ذكر من يصدقه"().
والتناول الدعوي للنصوص والسِيَر يجعل من النص واعظا ومعلما ومرشدا للمؤمنين به، فإن النص وحياة الأنبياء ليست للتسلية ولا لأبناء عصر التنزيل فحسب، يقول الدكتور/ إسماعيل الدفتار:" وذكريات الأنبياء لا يجمدها الزمن، ولا تحصر أنوارها الحواجز والحدود، فمع كل عصر يدرك الناس فيها جديدا يرشدهم، وتليدا يطمئنهم، ونبعا يروي ظمأهم إلى المعرفة.
وقصة الإسراء والمعراج واحدة من هذه الذكريات التي لا تبلى جدتها ولا تنتهي عبرتها، ولقد تناولتها أقلام علماء وأدباء في مراحل الحياة اختلفت فيها وسائل السير، وتنوعت آلات السرعة من عصر الدواب إلى عصر العربات إلى عصر السيارات والطائرات.
وفي عصرنا عصر الفضاء يصبح لحديث الإسراء والمعراج حلاوة في ترداد القول، ومجال لصولة الأفكار"().

لقد سميت البحث: (الإسراء والمعراج دراسة دعوية)، وجعلت البحث مكونا من ثلاثة مباحث، وكل مبحث يشتمل على مطالب، كما يأتي:
المبحث الأول: الدلالات الدعوية في آية الإسراء.
ويتضمن المطالب التالية:
المطلب الأول: التشريف والتكليف.
المطلب الثاني: التربية والدعوة:
المطلب الثالث: استحضار قدرة الله –تعالى- ومراقبته.

المبحث الثاني: الدلالات الدعوية في المعراج.
ويشتمل على هذه المطالب:
المطلب الأول: دلالة ترحيب الأنبياء بالنبي محمد –عليهم الصلاة والسلام.
المطلب الثاني: دلالة التقاء النبي –صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء –عليهم السلام-.
المطلب الثالث: الدلالات الدعوية المنتقاة من لقاء النبيين موسى ومحمد –عليهما الصلاة والسلام-.

المبحث الثالث: أهم الدلالات الدعوية في رؤى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج.
وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ماشطة فرعون.
المطلب الثاني: علماء السوء.
المطلب الثالث: الخوض في أعراض الناس.
والخاتمة تتضمن أهم النتائج.

هذا، وقد اقتصرت في الرؤى على ثلاثة فقط:
أخرج الإمام أحمد() عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا). قَالَ: (قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الحَقِّ). قَالَ: (فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهي ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ) قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ"().
أخرج الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
" قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟"().
أخرج أبو داود() عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ "().

التمهيد
ويشتمل على:
1- التعريف بمفردات العنوان.
2- ذكر رواية الإسراء والمعراج.

أولا: التعريف بمفردات العنوان:
التعريف اللغوي لكلمة (الدلالات).
الدلالات: جمع دلالة، ودلالة الأمر ما يرشد إليه، جاء في المعجم الوسيط:"(الدّلَالَة) الْإِرْشَاد وَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ عِنْد إِطْلَاقه (ج) دَلَائِل ودلالات"().

التعريف الاصطلاحي لكلمة (الدلالات):
يذكر الجرجاني():" الدلالة: هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول"().

التعريف اللغوي لكلمة (الدعوية):
هي نسبة إلى الدعوة، وفي اللغة تدور معانيها على الحث والطلب، كما جاء في المعجم الوسيط:" (دَعَا) بالشَّيْء دعوا ودعوة وَدُعَاء وَدَعوى طلب إِحْضَاره يُقَال دَعَا بِالْكتاب وَالشَّيْء إِلَى كَذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَيُقَال دعت ثِيَابه أخلقت وَاحْتَاجَ إِلَى أَن يلبس غَيرهَا وَالطّيب أَنفه وجد رِيحه فَطَلَبه وَفُلَانًا صَاح بِهِ وناداه وَيُقَال دَعَا الْمَيِّت نَدبه وَفُلَانًا اسْتَعَانَ بِهِ وَرغب إِلَيْهِ وابتهل وَيُقَال دَعَا الله رجا مِنْهُ الْخَيْر وَلفُلَان طلب الْخَيْر لَهُ ودعا على فلَان طلب لَهُ الشَّرّ وبزيد وزيدا سَمَّاهُ بِهِ وَلفُلَان نسبه إِلَيْهِ وَإِلَى الشَّيْء حثه على قَصده يُقَال دَعَاهُ إِلَى الْقِتَال وَدعَاهُ إِلَى الصَّلَاة وَدعَاهُ إِلَى الدّين وَإِلَى الْمَذْهَب حثه على اعْتِقَاده وَسَاقه إِلَيْهِ يُقَال دَعَاهُ إِلَى الْأَمِير وَيُقَال مَا دَعَاهُ إِلَى أَن يفعل كَذَا مَا اضطره وَدفعه وَالْقَوْم دُعَاء ودعوة ومدعاة طَلَبهمْ ليأكلوا عِنْده"().

التعريف الاصطلاحي لكلمة (الدعوة):
يقول الأستاذ الدكتور/ أحمد أحمد غلوش:" العلم الذي به تعرف أسس وتطبيقات كافة جوانب العمليات الفنية المتنوعة التي يقوم بها القادر على تبليغ الإسلام على الوجه المشروع، وتحقيق انتشاره بين الناس وفق خطة عملية مدروسة"().

التعريف اللغوي لكلمة (معجزة):
هِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَجْزِ الْمُقَابِلِ لِلْقُدْرَة().
والمعجزة أصلها: الأمر الخارق للعادة، وكانت تسمى (آية).
جاء في شرح العقيدة الطحاوية:" الْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ تَعُمُّ كُلَّ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، وَفِي عُرْفِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ [كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَيُسَمُّونَهَا الْآيَاتِ]. وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفَرِّقُونَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُونَ الْمُعْجِزَةَ لِلنَّبِيِّ، وَالْكَرَامَةَ لِلْوَلِيِّ. وَجِمَاعُهُمَا: الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ".

التعريف الاصطلاحي لكلمة (معجزة):
هي:" أمر خارق للعادة، داع إلى الخير والسعادة، مقرون بدعوى النبوة، قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله سبحانه"().
والفرق بينها وبين الخوارق الأخرى يبينه الجرجاني في قوله: "الكرامة: هي ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة، فما لا يكون مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجًا. وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يكون معجزة"().

التعريف اللغوي لكلمة: (الإسراء).
الإسراء في اللغة تعني: السير ليلا.
يقول الزجاج:" يقال أسْرَيْتُ وسَرَيْتُ إذَا سِرْتُ ليْلاً، وقد جاءت اللغتان في القرآن، قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ) هذا من سَرَيْتُ، ومعنى يَسْرِي يمضي"().
التعريف الاصطلاحي لكلمة (الإسراء):
تعني: الإسراء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام (بمكة) إلى المسجد الأقصى (بفلسطين) بصحبة جبريل –عليه السلام- راكبًا البراق().

التعريف اللغوي لكلمة: (المعراج):
المعراج في اللغة هو السلم، والعروج هو الارتقاء عليه.
يقول أبو نصر الفارابي():" عَرَجَ في الدَرجة والسلَّم يَعْرُج عُروجاً، إذا ارْتَقى.
والمِعْراج: السُلَّم، ومنه ليلة المِعْراج، والجمع مَعارج ومَعاريج، مثله مَفاتِح ومَفاتيح. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد مِعْرَج ومَعْرَج مثل مِرْقاةٍ ومَرْقاةٍ. والمَعارج: المصاعِدُ"().

التعريف الاصطلاحي لكلمة: (المعراج):
تعنى: صعود النبي –صلى الله عليه وسلم- من المسجد الأقصى إلى السماوات بصحبة جبريل –عليه السلام- وارتقاء النبي –صلى الله عليه وسلم- منفردا إلى سدرة المنتهى.

ثانيا: ذكر وقائع الإسراء والمعراج:
أخرج الإمام: محمد بن حبان البستي() عن سيدنا: أنس بن مالك بن صعصعة –رضي الله عنه- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسري به فقال:" «بينا أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجع إذ أتاني [جبريل] فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم أعيد، ثم أتيت بدابّة دون البغل وفوق الحمار، يضع خطوة عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟.
قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد على السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: ما هذا؟.
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له فلما خلصت إذا نحن بعيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، قال: فسلمت وردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل؟ قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا بهارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، قال:
فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل:
ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل مرحبا به، فنعم المجيء جاء! ففتحت، فلما خلصت إذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهي فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال:
هذه سدرة المنتهى، قال، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: ما هذان يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات؛ ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم أتى بإناء من خمر [وإناء من لبن] وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة وأنت عليها وأمتك، ثم فرضت على الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت بموسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بأربعين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، إني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟.
قلت: أمرت بثلاثين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم، فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عشرا، فرجعت إلى موسى، قال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بعشرين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، ثم رجعت إلى موسى، فقال:
بما أمرت؟ قلت: أمرت بعشر صلوات كل يوم؛ قال: إن أمتك لا تستطيع عشر صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة. فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قلت: قد سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم، فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي"().

زمن وقوع الإسراء والمعراج:
وأما عن زمن وقوع الإسراء والمعراج فمختلف فيه إلى أقوال عديدة، ولم أجد قولا يستند إلى دليل صحيح يحسم الأمر، وقد حكى الإمام ابن كثير() الاختلاف فيه فقال:" وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين.
وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
ثم روى الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدي أنه قال: فرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخمس ببيت المقدس ليلة أسري به، قبل مهاجره بستة عشر شهرا.
فعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عثمان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر وابن عباس، قالا: ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. فيه انقطاع.
وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته، وقد أورد حديثا لا يصح سنده، ذكرناه في فضائل شهر رجب، أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم"().




المطلب الأول: التشريف والتكليف.
أولا: التشريف ويتمثل في الآتي:
يقول تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾().
هذه الآية اشتملت على العديد من الأمور الدعوية منها: تشريف النبي –صلى الله عليه وسلم- وتكريمه.
وهذا بالنسبة للداعية الأول -صلى الله عليه وسلم –حيث شرفه الله وكرمه بهذه الرحلة المباركة وأراه ما أراه من الأسرار ، وكذلك إطلاق لفظ (عبد) في قوله : "سبحان الذى أسرى بعبده".
جاء في تفسير القرطبى: "قال العلماء : لو كان للنبي –صلى الله عليه وسلم- اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية، وفي معناه أنشدوا:
يا قــوم قلبى عند زهـــــراء يعــرفه السامــــع والرائي
لا تــدعـني إلا بــيا عبـــدها فإنــه أشـــــرف أسمـــائي"().
وقد شرّف الله حبيبه محمدا –صلى الله عليه وسلم- بإطلاق لفظ (عبد) عليه في آيات غير هذه الآية، كقوله تعالى : ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾()، وكقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾()، وكقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾()، وكقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾().
وكذلك الأنبياء قبل النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- كان الله تعالى حين يمدحهم يمنحهم لقب: (عبد) وذلك في القرآن كثير.
فنبي الله نوح –عليه السلام- : ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾().
ونبي الله نوح ولوط –عليهما السلام- : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾().
وحين أراد الله تعالى أن يرفع قدر الخضر قال: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾().
وداود –عليه السلام- : ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾().
وسليمان –عليه السلام-: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾().
وأيوب -عليه السلام-: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾() و ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾().
وزكريا – عليه السلام- : ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾().
والمسيح – عليه السلام- : ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾() و ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾().
ومن تمام تشريف الله –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم أن لقب (عبد) صار علما عليه صلى الله عليه وسلم، فهو يضاف إلى الله تعالى إضافة تكريم وتشريف، بينما غيره من الأنبياء تذكر أسماؤهم مع لقب العبودية، يقول الإمام ابن عاشور(): "و(عبد) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد -صلى الله عليه وسلم- كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافا إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مرادا به النبي -صلى الله عليه وسلم"().
ولكن أليس لقب ( رسول ) أفضل؟.
أو بصيغة أخرى: لماذا ذكر الله لقب (عبد)؟.
أو لماذا وصف الله أنبيائه بوصف (عبد) وبيّن أن هذا الوصف من أخص أوصافهم ؟.
الناظر للفظين نظرة سطحية يرى أن لقب (رسول) أفضل، ولكن الناظر بتمعن للقرآن وأسلوبه وتاريخ الأمم وانحرافها فكريًا وعقديًا، سيزداد إيمانا أن القرآن من عند الملك –جل وعلا-، وأن لقب العبودية أفضل من لقب (رسول ونبي).
إذا كان الإنسان يعمل خادما عند ذي منصب دنيوي يتفاخر بذلك، فما بالك بمَن وظيفته عبد لله تعالى؟، هذا شيء، الشيء الآخر هو أن الله -تعالى- أتى بلفظ أو لقب العبودية لأن معناه غاية الخضوع والتذلل للمعبود، وطالما الإنسان في هذه الدائرة (دائرة القمة في التذلل والخضوع لله وحده) فإنه في مأمن من الانحرافات الفكرية والثقافية والعقدية.
إن بداية انحراف الديانات السابقة هي خروجهم من دائرة العبودية لله إلى دائرة العبودية لغير الله من الأحبار والرهبان، فمنحوا حق التشريع الديني والدنيوي بل والأخروي لأحبارهم ورهبانهم، وقد قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾()، والمعنى معروف أنهم كانوا يحلّون لهم ويحرمون عليهم، وكان انقيادهم وخضوعهم لغير الله هو البوابة الرئيسية للخضوع التام للبشر، فألّه لهم من أضيفوا إلى الدائرة الربانية بشرا مثلهم فعبدوه وخضعوا له: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾().
كذلك أيضا الخضوع للحكام الظالمين والائتمار بأمرهم والانتهاء بنهيهم وإن خالف أمر ونهي الله –تعالى- يجعل القلوب تخرج عن العبودية لله إلى العبودية للمخلوق ويضيع الدين بعد حفظه، فما ضاعت النصرانية الحقة إلا بعد الخضوع للطغاة الوثنيين سواء كانوا حكاما أو فلاسفة، كذلك اليهودية قبلها فرضت تعاليم البابليين الوثنيين بقوة السلطان الوثني وهذا معروف للباحثين في علم مقارنة الأديان، وهذا باب شر عظيم إذا فُتح على الأمة أذلها الله –ونسأل الله لها العزة والرفعة-.
لقد استعبد فرعون بنى اسرائيل وجعلهم عبيدا له وخدما حتى تربعت العبودية لغير الله على سويداء قلوبهم، فحينما جاء موسى ليحررهم من عبوديتهم للحاكم الظالم المتجبر لم يقبلوا ذلك، وأغلقوا قلوبهم في وجه العبودية لله في الوقت الذى فتحوها لعبادة غير الله من بشر وحيوان وجماد.
فبعد أن خلّصهم الله ونصرهم وأعزهم وفضلهم على العالمين تركوه من أجل عجل صنعوه بأيديهم!.
لقد جاءهم موسى ليخلصهم من الذل والهوان الذى يذوقونه في كل لحظة أشكالا وألوانا، وفضلهم الله على العالمين ليشعروا بالعزة والكرامة، وجعل لهم قيمة وكيانا، وجعل رؤوسهم تقابل رأس الفرعون، ويطالب لهم موسى – عليه السلام- بحقوقهم المسلوبة، ومع ذلك كانوا كلما وقعوا في اختبار فضّلوا أن يرجعوا عبيدا لغير لله، عبيدا لفرعون وجنده يأتمرون بأمره وينتهون بنهية ويركعون تحت قدميه، وأنقل لكم بعض النصوص على ذلك ومن كتبهم:
يخبرنا سفر الخروج بالنص التالي: "وقالوا لموسى هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية ماذا صنعت بنا من مصر أليس هذا هو الكلام الذى كلمناك به في مصر قائلين كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية"().
قالوا له ذلك حين رأوا البحر أمامهم والفرعون خلفهم، هم يريدون الموت تحت أقدام فرعون عبيدا أذلة مهانين، ولا يريدون الموت مع موسى أحرارا!.
ومع ذلك نجاهم الله وعبر بهم موسى –عليه السلام- البحر، وأغرق الله فرعون وجنده أمام أعينهم، فهل تخلص بنو اسرائيل من عبوديتهم للظالمين والمتكبرين في الأرض وأقبلوا على عبودية الله تعالى؟.
لا لم يحدث ذلك أبدا!.
بل يحكى لنا كتابهم أنهم أصابهم الجوع فاشتاقوا إلى العبودية، لأنه خير لهم أن يموتوا عبيدا من أن يموتوا أحرارا، يقول سفر الخروج:" وقال لهما بنو اسرائيل ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكى تميتا كل هذا الجمهور بالجوع "().
تفكير حيواني، يريد أن يأكل ويشرب كالحيوان ويُضرب ويُشتم من سيده وصاحبه...
ومع ذلك لأن الله يريد لهم الخير، ويريد أن ينقلهم من دائرة الخضوع للمخلوق إلى دائرة الخضوع للخالق، أنزل عليهم المنّ والسلوى من السماء حتى لا يجعل لهم حاجة إلا إليه، ومع أن الله يريد أن يدخلهم في دائرة الخضوع له إلا أنهم خرجوا منها حتى لا يشعروا بحاجتهم إلى رب موسى –عليه السلام- وطلبوا أن يأكلوا الفول والعدس والبصل كما كانوا يأكلون عند سيدهم فرعون!.
أصابهم العطش فماذا قالوا؟.
يجيبنا سفر الخروج الذى سطروه بأيديهم: " وعطش هناك الشعب إلى الماء وتذمر الشعب على موسى وقالوا لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش فصرخ موسى إلى الرب قائلا ماذا أفعل بهذا الشعب بعد قليل يرجمونني"().
موسى –عليه السلام- يتعجب من هذا الشعب الذى ألف العبودية للطغاة والظلمة لأنهم يعيشون حياة الحيوانات، ومع ذلك فإنّ الله -عز وجل- أخرج لهم الماء من الحجارة أمام أعينهم، فهل تخلص بنو اسرائيل من عبودية البشر والظالمين والمفسدين في الأرض ورجعوا إلى دائرة الخضوع والذل لله؟ هذا لم يحدث، بل وصلوا إلى قمة العبودية لغير الله، فبينما يذهب موسى –عليه السلام- ليجلب لهم الشرف الأكبر (الألواح التي كتبت عليها التوراة)، إذا بهم يصنعون العجل بأيديهم ليركعوا ويسجدوا له!.
الله خلصهم من عبادتهم لفرعون ومن ذلهم لفرعون، فإذا بهم يعبدون العجل ويخضعون للعجل ويذلون أنفسهم للعجل!.
ولو أن عبــدا أردته حــــرا لقـاتل شوقـا لذل العبـادة
وإن ردّ من ســـــيد عــــبدا لسجد شكرا وقبل حذاءه
وإن أردت خــلاصـه حــــقا لشُغِل بقتـــلك كل ساعة
هؤلاء القوم الذين لم يخضعوا لله ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يُدخِلوا أنفسهم في دائرة العبودية لله، أذلهم الله وكتب عليهم الذلة والهوان.
يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾().
ويقول تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾().
وهكذا كل أمة وكل شعب وكل جماعة وحزب لا تخضع خضوعا كليا لله وأوامره عاقبهم الله بالذل ، لأن الله يريد أن يجعل قلوبنا ملك له سبحانه لا يشاركه فيها غيره.
قد يخضع الإنسان لظالم جسديا، ولكن المصيبة في خضوع القلب.
كذلك أيضا: لقب (العبودية) يشير إلى الحماية والكفاية الإلهية للعبد كما يقول الله –تعالى-:﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ "().
هل أدركتم الآن إخواني الدعاة لماذا أتى الله بلقب (عبد) ولم يأت بلقب (رسول)؟.
إنها رسالة للدعاة قبل أن تكون رسالة لأى إنسان آخر.
لقد أطلت في هذه النقطة لأهميتها –ولم أعطها حقها- لأن كل مصيبة أساسها الخضوع لغير الله من شياطين الإنس والجن، وكل نجاة في الخضوع التام الكامل لله وحده.
فيا أخي الداعية الكريم نستفيد من قول الله –تعالى- في آية الإسراء: (بِعَبْدِهِ) أن تغرس الحرية والعزة والكرامة في نفوس أتباعك ومدعويك، وأن تدخلهم في دائرة العبودية والذل والخضوع لله وحده، وأن تخلصهم من كل عبودية لغير الله، فإن المريض بعبودية غير الله لن يتذوق حلاوة الدين ولن يخضع لشريعة رب العالمين ولن يقيم دولة الإسلام ولا شريعته، وهذه مسؤولية العلماء والدعاة التي سيسألون عنها أمام الله –تعالى-.
كذلك هي رسالة للدعاة أنهم إذا أرادوا بناء الشخصية الإسلامية فعليهم أن يقاوموا الاستبداد واستعباد العباد وإفساد البلاد لتظل العبودية الكاملة لله وحده.
وهي رسالة أيضا أن يستخدم الدعاة أسلوب رفع معنويات المدعوين وإشعارهم بالتكريم والتشريف حتى يفتحوا قلوبهم ويهيئوها لاستقبال أوامر الله –تعالى-.

ثانيا: التكليف:
حيث إن العبودية تقتضى أن يخضع العبد لتكاليف خالقه ويلتزم بها، وهذا ما فعله النبي القدوة –صلى الله عليه وسلم-.
إن هناك حركات ودعوات الآن تدعو إلى الانسلاخ من الدين وأحكامه وآدابه، ويساعدهم على ذلك بعض مبتغي الشهرة من كافة الأطياف، والداعية الحق هو الذى يردّ الخلق إلى الخالق ردا جميلا بكل الوسائل والسبل المتاحة.
لقد ظهرت الدعوات إلى الإباحية جهرا، والموبقات استشرت في المجتمع شرقا وغربا، فهل يتقوقع الداعية على نفسه ويترك الخلق يخرجون من التكليف ودائرة الإلزام تاركا الساحة لدعاة الفسق والمجون يفعلون ما يحلوا لهم ؟.
إذن باطن الأرض خير له من ظاهرها.
والتكليف يقتضي تواضع المكَلَّف للمكلف، وهذا ما يقتضيه لقب العبودية أيضا.
قال القشيري:" ولمّا أراد أن يعرف العباد ما خصّ به رسوله- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج من علوّ ما رقّاه إليه، وعظم ما لقّاه به أزال الأعجوبة بقوله: «أَسْرى»، ونفي عن نبيّه خطر الإعجاب بقوله: «بِعَبْدِهِ» لأنّ من عرف ألوهيته، واستحقاقه لكمال العزّ فلا يتعجّب منه أن يفعل ما يفعل. ومن عرف عبودية نفسه، وأنّه لا يملك شيئا من أمره فلا يعجب بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نفي التعجّب من إظهار فعل الله -عزّ وجل-، ونفي الإعجاب في وصف رسول الله -عليه السلام-"().
يقول الإمام القرطبي():" لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعا لأمته "().
لأن الإنسان قد يتعالى ويتكبر على الناس إذا رأى أن له منزلة كبيرة في المجتمع.
والداعية الناجح مكانته لا تساويها مكانة، فقد تحمله هذه المكانة –خاصة حين يسمع ثناء الناس- على التعالي والتكبر على المدعوين، ونرى كثيرا ممن ينسب نفسه للعلم والدعوة –لمجرد أن قرأ مقالا أو كتيبا- يسيرون في الشوارع وكأنه لا يسير في الطريق غيرهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحمل بعض من ينتسبون إلى الدعوة إلى الطعن في باقي العلماء وعدم الاستماع إليهم.
فهذه الآية رسالة عظيمة واضحة لدعاة الأمة، وكأن الله يقول للعلماء والدعاة –ورثة الأنبياء-: لا تحملنكم المكانة العلمية التي وصلتم لها على التكبر والتعالي بل كلما زادت مكانتكم زاد تواضعكم لمن رفعكم.

المطلب الثاني: التربية والدعوة:
أولا: التربية:
وهذا يظهر من أول كلمة في الآية وهي التي افتتحت بها السورة (سبحان)، حتى إنّ سبحان اسم من أسماء السورة، وهذه الكلمة تقال عند حدوث الأمر العجيب، فالآية تريد أن تربطنا دائما بالله تعالى في كل شيء (الحمد لله، سبحان الله، ما شاء الله، بسم الله، إنا لله ....) فكل الأمور التي تحدث من أفراح وأتراح وعجائب لا بد أن نتذكر الله –تعالى- ونرتبط به على الفور، وهذا يدعونا إلى البعد عن الألفاظ المخترعة والمستوردة من هنا وهناك، وهذه رسالة للدعاة لا بد أن يصلوا بها إلى كل الناس.

كذلك أيضا : التربية على الدين
فالرحلة كلها من بدايتها لنهايتها دينية، وكلها متعلقة بالله والأنبياء والملائكة والمسجد، فبداية الإسراء: مسجد (الحرام) ونهايتها: مسجد (الأقصى)، وبداية المعراج: مسجد (الأقصى) ونهايته: من أضيف له المسجد.
وهكذا لا بد أن تكون سياحتنا دينية تقوى العزيمة وتجلو البصيرة وتثبت العقيدة وتعلى أحكام الشريعة، ولتكن الغاية ما وصل إليه الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- وهي القرب من الله –تعالى-.
وهذا من أكبر الدروس لمن ينتمي إلى العمل الدعوى ويقوم برحلات ترفيهية –وهذا ليس حراما- ولكن أليس من الأصوب أن يكون بجوار ذلك الأخذ بيد الأطفال وتنشئتهم على حضارتنا الإسلامية من مساجد ومعالم وغير ذلك؟.

كذلك أيضا في مجال التربية أرى أن هذه الآية اشتملت على مراتب التربية أو مراحل الطهارة الباطنية الثلاث، وهي التخلية والتحلية والتجلية.
والتخلية هي: التخلص من كل خلق ذميم أو هي: طهارة القلب وتنقيته من الشوائب وهذا ما حدث مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في شق صدره قبل الإسراء، وكذلك يفيده قوله: (أسرى بعبده) حيث العبودية من لوازمها التزام أمر الله بالبعد عن ما نهي عنه.
والتحلية هي التحلي بالأخلاق الفاضلة والترقي في سلم الفضائل أو المقامات حتى الوصول لكماله وهو أيضا ما يفيده قوله: (أسرى بعبده) فمقام العبودية لا يكتمل لإنسان إلا إذا تحلى بطاعة الله بعد التخلي عن معصيته.
والتجلية أو التجلي عبارة عن الفيوضات الإلهية والكرامات الربانية التي يمن الله بها على عباده وهو ما يفيده قوله: (لنريه من آياتنا).
فهذه الآية رسالة من الله تعالى للدعاة أن يهتموا في تربيتهم للمريدين أو المدعوين بالتخلي أولا ثم التحلي ثانيا، ثم يرتقون بهم في التحلي إلى أن يصلوا إلى التجلي ثالثا.

ثانيا: الدعوة:
الدين الإسلامي دين الوحدة، الله واحد، القبلة واحدة، الأمة واحدة، النبي واحد، التعاليم واحدة، الأركان واحدة، العبادات واحدة.....
يقول الله –سبحانه-: إِنَّ هَٰذِهِۦٓ ‌أُمَّتُكُمۡ ‌أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ().
ويقول تعالى: ‌وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ()
ورحلة الإسراء أظهرت الترابط بين الرسالات السماوية والأنبياء (قادة الدعاة) والترابط بين مقدسات هذه الأمة الواحدة، فكل الأنبياء تلاقوا وكذلك الرسالات وتوحدوا جميعا تحت راية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كذلك أيضا تم الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ليبين أن المساجد لا بد أن تكون يدا واحدة في وجه الظلم والفساد وأن تتحد كلمة المساجد ولا تختلف، لأن المساجد لو اختلفت لاختلف الساجد وعمت البلوى.
والمسجد الحرام والأقصى لم يكن هناك غيرهما وقتها، ومعنى هذا أن المؤسستين الدعويتين الدينيتين قد ربط الله بينهما وجعلهما مكانة واحدة، بل إن المسجد النبوي قد أشار الله إليه في آية الإسراء، وفي ذلك يقول الإمام الشعراوي في تفسيره: "في بعد المسافة نقول: هذا قصي أي بعيد، وهذا أقصى أي أبعد، فالحق –تبارك وتعالى – كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجد آخر قصي وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-"().
يعنى حتى المؤسسة الثالثة أو المسجد الثالث من حيث الزمن قد ذكره الله –تعالى – لتبقى كل المؤسسات الدينية مؤسسة واحدة بقيادة واحدة وأهداف واحدة.
فهذه رسالة من الله لدعاة الأمة أن يكون هناك ترابط وتلاقى وتعاون بين قادة –أئمة- المساجد وأن لا يجعلوا من المسجد أداة للتفريق بين الأمة كالدعوة لجماعة معينة أو حزب معين أو دعوة معينة.


المطلب الثالث: استحضار قدرة الله -تعالى- ومراقبته.

أولا: استحضار قدرة الله:
وهذا يظهر واضحا جليا في قوله: (ليلا) وقوله: (لنريه من آياتنا).
ولنقف وقفة مع هذه النقطة لأهميتها في مجال الدعوة وكثرة مجالات تطبيقها في العصر الحديث:
ما معنى الإسراء؟.
معنى الإسراء في اللغة العربية السير ليلا.
يعنى قولك أسرى فلان بفلان معناه أنه سار به ليلا.
فإذا كان الإسراء لا يكون إلا بالليل فلماذا قال الحق ( ليلا )؟.
وهل كلمة ( ليلا هنا زائدة )؟.
بالطبع (ليلا) ليست زائدة، كما أنها ليست للتأكيد، وإنما هي كما قال علماؤنا تفيد أن الإسراء لم يستغرق الليل كله وإنما في جزء يسير من الليل، فهي تظهر طلاقة قدرة المولى – جل وعلا– فكانت هذه الكلمة الربانية المطلقة (ليلا) أعجب من الإسراء نفسه.
يقول الزمخشري():" فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟.
قلت: أراد بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية"().
إذا كانت الرحلة يستحيل أن تقع في أسبوع كامل أو ثلاثة أو سبعة، فكيف تقع في ليلة واحدة؟.
الأعجب أنها لم تستغرق الليل كله كما يتوهم البعض، بل استغرقت جزءا يسيرا من الليل.
وقدرة الله تعالى لا حدود لها، والمؤمن لا يعجب إذا أخبر بذلك، لأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، لذلك المؤمن حين يسمع ذلك يزداد إيمانا مع إيمانه، وأما المنافق ومن في قلبه مرض فيزداد رجسا مع رجسه ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾().

وأنا أرى أن الكلمة القرآنية (ليلا) مع أنها تُظهر القدرة الإلهية إلا أنها في نفس الوقت أُتى الله بها إمعانا في التحدي للمشركين وأعداء الحق، لأنه معلوم مسبقا أنهم لن يصدقوا بأي حال من الأحوال أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أُسري به في هذه الرحلة المباركة في ليلة واحدة، فالله –تعالى- يعلم إنكارهم وتكذيبهم وتعجبهم فأورد هذه الكلمة المباركة (ليلا) كأنها تخاطبهم وتقول لهم: أتنكرون قدرة الله وتتعجبون وتكذّبون لأن ما يقطع في شهرين قطع في ليلة واحدة، فما بالكم إذا علمتم أن هذه الرحلة الطويلة التي أنكرتم وقوعها في ليلة واحدة لم تستغرق الليل كله وإنما استغرقت جزءا يسيرا من الليل؟!.
وهذا يُعلّم الدعاة أنهم لا يكترثون بإنكار المنكرين ولا باستهزاء المستهزئين، بل يبلغون دين الله كما أراد الله، وأن تكون عندهم الشجاعة التي يبلغون بها رسالة الله إلى عباده كاملة غير منقوصة ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾().
قد يقول قائل: إذا كان إنكارهم معروفا مسبقا فلماذا لم يمهّد الله لهم حتى لا يحدث الإنكار حرصا على هدايتهم؟.
وقد يقول قائل من غير المسلمين: هل كان الله يريد أن يكذبوا ويستمروا على كفرهم حتى الموت لذلك أمعن في تحديهم؟.
نقول لهذا وذاك وغيرهم:
إن الله –عز وجل- قبل أن يخبرهم بالقصة ذكر لهم ما يجعلهم يصدقون دون شك أو ريب.
الله لم يقل بأن محمدا –صلى الله عليه وسلم- أسرى بنفسه بقدرته البشرية، وإنما (سبحان الذى أسرى) فالله نسب الأمر كله إليه وليس إلى نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-، وقد ضرب علماؤنا أمثلة كثيرة لتوضيح هذا المعنى ومن هذه الأمثلة: لو أن رجلا كبيرا قال صعدت بطفلي الذى لم يتجاوز اليوم الواحد بعد ولادته مباشرة إلى الدور العاشر، هل هذا الكلام وهذا الأسلوب يجعلك تصدق أم تكذب؟.
بالطبع يجعلك تصدق، لأن الرجل لم ينسب الأمر إلى طفله الرضيع، وإلا لن يصدقه أحد، وإنما نسب الأمر إلى قدرته هو وطاقته هو لذلك الكل سيصدق.
فالله –تعالى- لم ينسب الأمر إلى نبيه –صلى الله عليه وسلم- وإنما نسب الأمر كله إليه وإلى قدرته –سبحانه-.

كذلك أيضا الذى يظهر –لي- من قوله تعالى (ليلا) أنها زيادة في غربلة الصف الإسلامي، لأن هناك من لم يتمكن الإيمان من قلبه سوف يتردد أو ينقلب على عقبيه، فالله تعالى أتى له بهذه الكلمة المباركة (ليلا) حتى يحسم أمره إمّا أن يكون عنده الإيمان الكامل بالله، فيؤمن بقدرته على كل شيء ويصبح عضوا فعّالا في الجماعة الإسلامية، وإمّا أن يخرج من الصف الإسلامي ويريح منه الأمة التي ستقدم على أمور لا تثبت لها الرواسي.
وفي هذا يقول الإمام الشعراوي في تفسيره: "حدث الإسراء ليلا لتظل المعجزة غيبا يؤمن به من يصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهابا وعودة فتكون المسألة إذن حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب"().
فالله يريد بذلك تنقية الصف الإسلامي وتهيئته لما سيلاقيه من متاعب ومشاق.

وفي هذا تعليم للدعاة إذا ما اشتد الضيق وتوالت الأزمات وأراد الدعاة نفع الأمة ورأوا الاعتماد على البعض، فليختبروهم اختبارا قاسيا لا يثبت له إلا من ينفعهم في نفع أمتهم.
إن الله سبحانه وتعالى يظهر قدرته أكثر وأكثر في قوله: (لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا) فالآيات هنا عجائب قدرة الله –سبحانه-، وفي تفسير الجلالين لهذه الآيات أنها عجائب القدرة، وكذلك في تفسير البغوي، وتكاد كتب التفسير تجمع أن المقصود من الآيات هو العجائب، والإمام الطبري يجعل الآيات معناها: العبر والأدلة والحجج()، والمعنى ليس بعيدا فهي أدلة وحجج على قدرة الله –تعالى-.
إن مقام الدعوة يتطلب إبراز بعض الصفات، وأعظم هذه الصفات التي من الممكن أن تفتح القلوب المغلقة في العصر الحديث هي صفة القدرة .
قدرة الله تعالى قد يتخيلها البعض محصورة في إهلاك الظالم، أو في خلق السماوات والأرض فقط، وهذه الأشياء مظهر من مظاهر قدرة الله –تعالى- ولكن الأمر أوسع من ذلك، وما أدق تفسير المفسرين حين فسروا الآيات بعجائب القدرة، وما أدق اللفظ القرآني حين قال (لنريه) وكأنها رسالة موجهة للدعاة والعلماء الذين هم ورثة من أراه الله عجائب قدرته –صلى الله عليه وسلم-، رسالة موجهة إليهم من الله عبر (لنريه) أن يعمل الدعاة جهدهم ليفتحوا أعين الناس وقلوبهم ليروا عجائب قدرة الله في خلقه.
ومن فضل الله علينا وتيسيره أن جعل ذلك في عصرنا الحاضر أسهل وأيسر وأجدى وأنفع بكثير من عصر الجاهلية.
الآن هناك مجالات كثيرة ومتعددة يستطيع الدعاة من خلالها أن يجعلوا الناس يسمعوا ويروا عجائب قدرة الله تعالى.
الآن من الممكن أن أشرح للطبقة المثقفة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة وأطلعهم على عجائب قدرة الله وأجعلهم يسمعون ذلك ويشاهدونه صوتا وصورة.
هناك آيات كثيرة في القرآن تحدثت عن أمور لم تُكتشف إلا في العصر الحديث، وهناك أسرار كثيرة في القرآن تدل على قدرة الله –تعالى- تحتاج من يغوص في أعماقها ليخرج بجوهرها للناس حتى يلفت الأنظار إلى عظيم صنع الله وعجيب قدرته –سبحانه-.
إن الإعجاز البلاغي والغيبي كان في وقت من الأوقات هو سلاح الدعوة ولسان العصر، الآن الإعجاز العلمي هو لسان العصر.
إن الملحدين الذين لا يؤمنون بإله، والمسيحيين الذين لهم أفكار خاطئة عن الإله، والعلمانيين الذين ينادون بفصل الدين عن الحياة، كل هؤلاء وغيرهم اتفقوا على نبذ كل شيء إلا الحقائق العلمية، فلماذا لا نصل إلى قلوبهم ونقطع المسافات التي بيننا وبينهم جاعلين الإعجاز العلمي في القرآن والسنة هو القنطرة التي تصل بنا إليهم.
إن الله جعل الهدف من الإسراء والمعراج (لنريه من آياتنا) واللام هنا كما نعلم للتعليل، وكأن الله يقول للدعاة أروا الناس عجائب قدرتي بالحجة والبرهان، فإن قصّر الدعاة إلى الله في ذلك فإنهم موقوفون ومسئولون عن جرمهم.


ثانيا: المراقبة:
قد يفعل الإنسان ما مرّ ويُظهر الدعوة والرسالة أو يعمل بالتربية أو التزكية، ويدعو إلى الالتزام والتكاليف ولكن ليست دعوته خالصة لله تعالى، قد تكون لمال أو جاه أو شهرة أو ...
لذلك ختمت آية الإسراء بقوله: (إنه هو السميع البصير) السميع لأقوالك البصير بأحوالك وأفعالك.
وهذا يدعوك إلى دوام الإخلاص ودوام المراقبة لله تعالى.
وإن كان المقصود بـ (السميع البصير) أي السميع بأقوالك والبصير بأفعالك وما لحق بك من أذى، وكذلك السميع لأقوال المشركين والبصير بأفعالهم المؤذية لك، إلا أنها عامة لكل الدعاة الذين يدعون إلى الله على بصيرة.
فالله سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم وما يلاقونه من متاعب ومشاق في سبيل دعوتهم، كذلك سميع لاستهزاء أعدائهم وشتائمهم، بصير بفعالهم القبيحة السيئة، وسوف ينصركم عليهم، وكلما أصابكم الضيق روّحوا عن أنفسكم برحلة روحانية في العالم السماوي تستمدون العون من الله ورحلة أرضية إلى مقدساتكم تستمدون الثبات وتتعلمون معانى التضحية كلما تذكرتم تاريخ هذه الأماكن المقدسة.

خلاصة أهم الدلالات الدعوية لآية الإسراء:
إن الآية الكريمة قد اشتملت على ما يجب أن يستخدمه الداعية لنجاح دعوته مثل :
أولا: إشعار المدعوين بالتشريف والتكريم لأن ذلك يجعلهم يقبلون عليك بأسماعهم وقلوبهم .
ثانيا: إعلامهم بأن هذا التشريف والتكريم يستلزم التكليف والإلزام وكلما زاد التشريف والتكريم بالنسبة للعبد زاد في حقه التكليف والإلزام.
ولكن ما نراه الآن أن البعض يستخدم التشريف والتكريم دون أن يشير إلى التكليف والإلزام حتى لا يغضب منه المدعوين.
وهناك من يتحامل على المدعوين ولا يستخدم إلا التكليف والإلزام وبصورة منفرة ولا يريد أن يشعر المستمعين بأي قدر من التشريف والتكريم.
والصواب هو ما استخدمه الله في آية الإسراء (التشريف والتكريم، والتكليف والإلزام).
ثالثا: حتى لا تكون الدعوة مقصورة على الظاهر ويكون التدين ظاهريا فلا بدّ من التربية.
ونحن نرى أيضا البعض يستخدم في التربية خطاب التخلية فقط.
ونرى البعض لا يستخدم إلا خطاب التحلية فقط .
ونرى البعض يترك التحلية والتخلية ولا يستخدم إلا خطاب التجلي.
والثلاثة على خطأ والصواب هو استخدام الخطابات الثلاث –الأهم فالمهم- كما حدث في آية الإسراء.
رابعا: وحتى لا يحدث ذلك والمسلم في معزل عن إخوانه وتاريخه ومقدساته فلا بد للداعية أن يربط المسلم بكل إخوانه ومقدساته وأن يغرس فيه أنه صاحب دعوة ورسالة كما ربط الله بين الأماكن المقدسة الموجودة وقت الإسراء.
خامسا: وحتى لا تتعدد الأهداف والغايات لا بد أن يكون ذلك كله مصحوبا بالإخلاص الذى لن يتحقق إلا بدوام المراقبة كما ذيّل الله الآية بهذه الجملة التحذيرية والتوصية الختامية (إنه هو السميع البصير).
سادسا: ومن أجل أن يحدث التواصل والترابط بين الداعي والمدعوين وتغرس محبته في قلوبهم لابد من أن يروه متواضعا لهم، حريصا على مصلحتهم ونفعهم.
سابعا: ومن أجل أن يوجد المجتمع الصالح القوي المؤمن الذى ننشده فلا بد أن نغرس العزة في قلوب المدعوين غرسا، وأن نزيل من قلوبهم كل خضوع وذل لغير الله –تعالى-، وهذا الأمر من أكبر عوامل النهوض بالأمة.

هذه الأمور وجب على الداعية أن ينتبه إليها وأن يستخدم هذا الأسلوب مع كل الآيات القرآنية خاصة القصص القرآني حتى يستفيد ويفيد ويقدّم دعوته في صورة جديدة تغرس المعاني الجليلة في القلوب.
المطلب الأول: دلالة ترحيب الأنبياء بالنبي محمد –عليهم الصلاة والسلام.
بدأت رحلة المعراج وصعد جبريل بالنبي –صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وأول ما يقابلنا استفتاح جبريل واستفسار الملائكة عن المستفتح، فيرد جبريل -عليه السلام- قائلا: جبريل.
فيقال له: ومن معك؟، فيقول: محمد.
فيقال: وقد أرسل إليه؟، فيقول: نعم .
فيقال: مرحبا به، نعم المجيئ جاء.
حدث ذلك في كل سماء.
كذلك أيضا موقف الأنبياء -عليهم السلام- كلما ذهب للسلام على نبي يتم الترحيب به على أنه نبي.
فآدم وإبراهيم –عليهما السلام- يقولان له: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، وباقي الأنبياء يقولون: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ونرى هنا أن الملائكة والأنبياء لم يستفسروا عن شخص النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- ومَن يكون؟، بل يستفسرون عن الرسالة والنبوة، فما دلالة ذلك؟.
دلالة ذلك أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن النبي محمدا –صلى الله عليه وسلم- هو نبي آخر الزمان.
ومن أين جاءهم العلم بذلك؟.
الله عز وجل هو الذى أخبرهم وأعلمهم وأخذ عليهم الميثاق أن ينصروه ويؤمنوا به يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾().
أخرج الإمام الطبري عن السدي:" (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة)، الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء"().
وكذلك يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّور الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾().
ويقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾().
وليس القرآن الكريم فقط من أخبر بذلك، بل الكتاب المقدس أيضا –المُحرَّفُ- موجود فيه ذكر النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- وإليك بعض النصوص التي ذكرها العلماء:
أولا: انتقال النبوة من نسل إسحاق إلى إسماعيل –عليهما السلام-:" أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به"().
فهذه النبوءة تنطبق تماما على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- .
ثانيا: نزول الكتاب على النبي الأمي: "أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة"().
هذه الجملة هي نفس "اقرأ ما أنا بقارئ" فعلى من تنطبق هذه النبوءة؟.
لقد كنت أسأل نفسي دوما: النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يتصف بكل الصفات الحميدة فلماذا اشتهر بالصدق والأمانة؟.
وجدت الرد على ذلك في الكتاب المقدس –عند أتباعه-، والرد له علاقة برحلة المعراج، جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا وبالعدل يحكم ويحارب"().
مَن مِن الأنبياء جميعا كان يلقب في صغره بالصادق الأمين؟.
إنه النبي محمد –وكل الأنبياء صادقين أمناء ولكن من الذى غلب عليه الوصف في صغره؟- .
ألا ترى الفرس الأبيض إشارة إلى البراق؟، ألا ترى السماء المفتوحة إشارة إلى المعراج؟.
هذه بعض النبوءات بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب المقدس والتي تتفق اتفاقا تاما مع ما حدث في المعراج.
بل إن اجتماع الأنبياء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وإن كان يدل على الوحدة والترابط، إلا أنه دليل نبوته واكتمال بناء النبوة، يقول الشيخ محمد الغزالي:" وفي قصّة الإسراء والمعراج تلمح أواصر القربى بين الأنبياء كافة، وهذا المعنى من أصول الإسلام: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾().
والتحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وإخوته السابقين توثّق هذه الاصرة.
ففي كلّ سماء أحلّ الله فيها أحد رسله، كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل فيها بهذه الكلمة: مرحبا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح!.
والخلاف بين الأنبياء وهْم صنعته الأمم الجائرة عن السبيل السويّ، أو بالأحرى صنعه الكهان والمتاجرون بالأديان.
أمّا النبي محمّد -صلى الله عليه وسلم- فقد أظهر أنّه مرسل لتكملة البناء الذي تعهّده من سبقوه، ومنع الزلازل من تصديعه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه، وأجمله، إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له! ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؟! فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين»()"().
على الداعية أن يستخدم هذه الحقائق في دعوته حتى يزداد المؤمن إيمانا.

وإذا كان ترحيب الأنبياء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- تفوح منه دلائل النبوة والفضل العظيم، فإنه تفوح منه الآداب الجمّة والأخلاق العظيمة التي يجب أن يتحلى بها الدعاة الذين هم قدوة المدعوين.
نحن نعلم أن جبريل –عليه السلام- أفضل الملائكة، وأن النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- أفضل من جبريل، ومع ذلك نرى أن جبريل –عليه السلام- يستأذن من الملائكة ويستفتح، وهو خير منهم، ومعه خير العالمين وأفضلهم –صلى الله عليه وسلم-.
وكان الله –تعالى- قادرا على أن يفتح لهم الأبواب ويجعلهم يدخلون دون استئذان ويمرّون عليهم دون سلام، ولكن كيف يحدث ذلك مع أئمة المؤدَبين والمؤدِبين؟.
إن الدعاة هم الموجهون الحقيقيون للشعوب، ولكن إذا انهارت القيم والأخلاق في حياتهم فلن يكون لهم أي قيمة أو احترام بين الناس فضلا عن أن يكون لهم تأثيرا.

إنني أحزن كثيرا حين أجد بعض الدعاة يريد أن يأخذ الإمامة عنوة وقهرا بدعوى أنه هو الأعلم والأفضل ...
يأتي أحد من يُشيَخون من قبل العامة وله أتباع قلّ عددهم أو كثر فيرى نفسه أحق بالإمامة من الإمام الراتب، فيتقدم عليه في وجوده بلا استئذان ولا حتى معاملة حسنة، بل قد يصل الأمر إلى ضرب الإمام وطرده من المسجد، ويستدلون ببعض الأحاديث التي تُظهر جهلهم وقلة فقههم.
هل أعطى الله –تعالى- حبيبه محمدا والروح الأمين سلطة اقتحام السموات والدخول بلا استئذان لأنهما الأعلم والأفضل والأقرب من الله؟.
لقد وصل جبريل –عليه السلام- في المعراج إلى مكانة لم يصل إليها ملك، ووصل النبي –صلى الله عليه وسلم- لمكانة لم يصل إليها نبي ولا ملك، ومع ذلك لم يفتح لهما الله السموات، بل لا بد من أن يستأذنا من أهلها الذين أعطاهم الله سلطان الحفظ والحراسة وإن كانوا أقل منهما.
الدعاة هم من يعلمون الناس الأدب والأخلاق، فهل يصح أن يراهم الناس بلا أدب ولا أخلاق؟.

المطلب الثاني: دلالة التقاء النبي –صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء –عليهم السلام-.

لقد تحدثنا منذ قليل عن ترحيب الأنبياء والملائكة بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وقلنا أن ذلك يدل على أن الجميع كان يعلم أن النبي محمدا –صلى الله عليه وسلم- هو نبي آخر الزمان، والآن نتحدث عن استفادة الدعاة من لقاء النبي بالأنبياء.
إن في التقاء النبي بالأنبياء كثير من العبر والرسائل الموجهة إلى الأمة بصفة عامة والدعاة بصفة خاصة وسأذكر الآن بعض هذه الدروس بإيجاز ثم نذكرها بشيء من التوضيح:
تلاقى الأجيال الدعوية.
اجتماع أهل العلم والدعوة على كلمة سواء.
التقاء أهل العلم والدعوة بطلبة العلم والدعاة الجدد.
الاحترام المتبادل بين أهل العلم والدعوة.

أولا : تلاقى الأجيال.
إنّ فقد بعض الشباب للمروءة والرجولة والعادات الجميلة والتقاليد العظيمة كان النتيجة الحتمية للتباعد بين الجيل القديم والحديث –وهناك أسباب أخرى غير ذلك-.
وقد يكونُ تباعد الأجيال سببه الجيل القديم الذى لم يستطع احتواء الجيل الحديث، وأصبحت العلاقة الآن علاقة استهزاء وسخرية وتجهيل بعد أن كانت علاقة احترام ومحبة وتعليم.
تجلس مع الرجل الكبير الآن فيحدثك بكل أسى عن أخلاق الماضي الجميل وأخلاق الشباب وتعاملات الجيران مع بعضهم البعض ثم يقارن بين هذا الماضي بعاداته وتقاليده وبين العصر الحاضر ليقول لك: ضاعت الأخلاق وضاع كل شيء.
قد يكون الجيل القديم لم يترك الفرصة للجيل الحديث كي يعبر عن نفسه فإذا ما تحدث الحديث قابله القديم بالصراخ والانفعال والتخطئة ونشأ عن ذلك أن الجيل الحديث لم يترك للقديم فرصة كي يتحدث أو يرشد، وتكاد الآن أن تنقطع الشعرة التي تربطنا بجذورنا.
الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان يمثل الجيل الحديث بل آخر الأجيال()، والأنبياء السابقون كانوا يمثلون الأجيال القديمة ابتداء بأول الأجيال –آدم- حتى آخر الأجيال قبل النبي محمد –عيسى-.
وبذلك تلاقت كل الأجيال من أولهم –آدم- إلى آخرهم – محمد- وكان اللقاء لأول مرة.
فهل حدثت القطيعة؟. وهل رأينا المعاملة الفظة الغليظة؟.
رأينا الجيل الحديث –النبيَّ محمدًا- يدخل متأدبا مستأذنا بادئا بالسلام –بتعليمات من جبريل-.
ورأينا الجيل القديم يرد بكل ترحيب ويدعو للجيل الحديث.
فهل يتعلم آباؤنا وإخواننا من الأنبياء والمرسلين ؟؟.
الأجيال الدعوية: وإذا كنا تحدثنا عن أهمية تلاقي الأجيال بصفة عامة فإن الأهم من ذلك هو تلاقي أجيال الدعوة بصفة خاصة.
مصيبة الكثيرين من الدعاة الآن هو عدم التلاقي بين الأجيال الدعوية، فبكل سهولة تجد شابا ينسب نفسه للدعوة –أو ينسبه البعض للدعوة- فيخطئ مالكا والشافعي بل ابن عباس وابن مسعود!.

تراه لم يكمل كتابا قراءة –فضلا عن فهمه واستيعابه- ثم يقول عن أبى حنيفة وابن حنبل بل ابن عمر وابن عمرو: هم رجال ونحن رجال!. وبذلك يضيع العلم.
وتلاقي الأجيال الذي أتحدث عنه أقصد به الفكري والبدني، فهناك من انتقل إلى رحمة الله من مئات السنين ومازال علمه بيننا، هؤلاء يجب أن نتلاقى معهم فكريا ونتتلمذ على أيديهم، نعيش منهجهم ولا نعيش عصرهم، فالعصور تختلف وبالتالي ستختلف بعض الأحكام.
أما العلماء الذين هم أحياء بيننا علميا وبدنيا فهؤلاء نلتقى بهم فكريا وبدنيا.
إنني أرى الآن أن الأجيال تتلاقى، ولكن للأسف الشديد أرى الكثير يتلاقى للشهرة!.

فترى الشاب لا يذهب إلا إلى المشهور والمعروف وإلى من يجالس فلانا ويسهر مع فلان حتى وإن كان المشهور معروفا بقلة العلم!.
وأما الآخر الذى لا يسهر مع فلان ولا يجالس فلانا فلا يذهب إليه أحد مع أن الكلّ يعلم أنه أكثر من المشهور علما وفقها.
فتلاقي الأجيال الدعوية الذى أريده هو أن يلتقى الشاب المنسوب للدعوة بأهل العلم الحقيقين وأن يكون الغرض هو العلم، وليضع في ذهنه ما ختم الله به آية الإسراء (إنه هو السميع البصير).


ثانيا : اجتماع أهل العلم والدعوة على كلمة سواء.
إن اجتماع النبي –صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء –وهم قادة الدعوة وقدوة الدعاة- يحمل الكثير من الدروس للدعاة إلى الله ، فهذا الاجتماع يذكرنا بوحدة الرسالة بين كل الأنبياء.
والاجتماع بين الدعاة يقوي العزيمة ويزيد من ثقة الداعية في نفسه وهو يجد حوله الدعاة.
والاجتماع بين الدعاة غاية الأهمية خاصة في هذا الوقت شريطة أن يكون الاجتماع بناء وليس اجتماعا لقضاء الأوقات فقط – وإن كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يبحث الأمور مع الأنبياء فهذا لأنهم سبقوه والله جمع له الأموات تثبيتا له، أما بحث القضايا كان يتم بين الأحياء حيث كان يجتمع رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- مع ساداتنا أبى بكر وعمر وعلى وعثمان وابن عوف وغيرهم –رضي الله عنهم- وهذا كثير في كتب السير.
إن أهل الباطل في اجتماعات مستمرة، حتى إن المنصّر في جنوب أفريقيا يعرف المنصر في أندونيسيا فأولى بأهل الحق أن يجتمعوا لنصرة دينهم وبحث قضايا عقيدتهم.
إن اجتماع أهل الحق فيه تثبيت للقلب وزيادة للثقة وقوة للعزيمة، فقد يتعرض الداعية لمضايقات من البعض أو لبعض الملل أو لإعراض من البعض وعدم الاستجابة، فحينما يلتقى بإخوانه الدعاة يزول ذلك ويكون اللقاء بمثابة طاقة له تدفعه نحو الأمام، وهذا ما أراده الله لحبيبه –صلى الله عليه وسلم- حين كذبه قومه وآذوه رفعه إليه وقربه منه وجمعه مع إخوانه قادة الدعوة.
ليتنا نتعلم من هذه الترتيبات الإلهية ونفهم الإشارات والرسائل التي ترسل إلينا عبر السيرة النبوية.
وضع في ذهنك أن اجتماع أهل العلم والدعوة لو لم يكن ضروريا ولا غنى عنه بأى حال من الأحوال ما جمع الله -تعالى- قادة الدعوة في ليلة المعراج.

ثالثا : التقاء أهل العلم والدعوة بطلبة العلم والدعاة الجدد.
من أعظم ما نستفيده من التقاء النبي بالأنبياء هو التقاء كبار العلماء بطلاب العلم وأهل الدعوة الجدد.
إن ساعة واحدة نقضيها في الاستماع لعملاق من عمالقة الدعوة خير من قراءة عام كامل.
قد ينقل لك الكتاب علما كثيرا، ولكن لن ينقل لك الاتصال الروحي والتأثير المباشر.
نريد أن تنتقل خبرات السابقين إلى اللاحقين.
نريد الداعية العالم الفقيه يجلس مع طلاب العلم ويقص عليهم خبراته وتجاربه ليبدأوا من حيث انتهي الآخرون ويكملوا البناء ويستفيدوا من تجاربهم وحياتهم كما حدث مع نبي الله موسى ونبينا –عليهما الصلاة والسلام-.
الحقيقة أن هذه اللقاءات نفتقدها الآن، فهناك اللقاءات الرسمية واللقاءات التلفزيونية، ولا أدري لماذا يتعلل الكثير بالمشاغل والمتاعب عند طلب اللقاءات العلمية الفكرية بين كبار العلماء وطلاب العلم.
إننا نرى كثرة اللقاءات بين أهل الأديان الأخرى، يجتمعون جميعا وينقلون الخبرات والتجارب ويتبادلون النصائح والتواصي.
وضع في ذهنك أنه: لو كان اجتماع السابقين باللاحقين في المؤسسة الدعوية لا فائدة منه ما جمع الله بين الأنبياء السابقين والنبي الجديد –محمد- عليهم جميعا صلوات الله وتسليماته.


رابعا : الاحترام المتبادل بين أهل العلم والدعوة
إن الاحترام المتبادل بين النبي والأنبياء في رحلة المعراج هو دعوة لكل الدعاة أن يتعاملوا فيما بينهم بكل احترام ووقار وتقدير، وإلا إذا كنا نحن أهل الدعوة لا يحترم بعضنا بعضا فكيف يحترمنا المستمع؟!.
ألا ترى إبراهيم الخليل الملقب بأبي الأنبياء يقول لواحد من أحفاده –من ناحية النسب- شريك له –من ناحية الدعوة والرسالة- أفضل منه –من ناحية المكانة عند الله- يقول له: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
وآدم المخلوق الأول في عالم البشر –أبو البشر- يقول لحبيبنا –وهو آخر نسله من ناحية النبوة- يقول له: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
وباقي الأنبياء ويقولون له: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
نلاحظ من عبارة كل الأنبياء أن الترحيب والاحترام والتقدير سبق كل كلام، وكذلك ذكرت علاقات القرب قبل علاقة النبوة –الابن، الأخ- مع أنهم جميعا قادة الدعوة وقدوة الدعاة فكان المتوقع أن نقدّم العامل المشترك وهو اللقب الدعوي –النبوة-.
ولكن تجد هنا الحكمة والقدوة، وكأن الرسالة التي يريد الله أن تصل إلينا على لسان أنبيائه في المعراج أن الدعاة الكبار يعاملون الدعاة الجدد على أنهم أبناء، وكذلك الدعاة الجدد يعاملون الدعاة الكبار على أنهم آباء.
وأن الدعاة الذين تساووا يتعاملون على أنهم إخوة حتى وإن كان بعضهم أفضل من بعض، لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والرسل أنفسهم لم يتساووا في المكانة: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾().
الجميل في المعراج أن كل الأنبياء كانوا يعلمون بأفضلية النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- عليهم، ومع ذلك ما حسدوه ولا حقدوا عليه ولا نظروا إليه بغيظ ولا كشروا له عن أنيابهم بل هذا الأمر يسعدهم ويفرحهم أن وصل واحد منهم –من أهل الدعوة والنبوة- إلى هذه المكانة العظيمة.
نرى الآن البعض ينهشون في عرض إخوانهم وآبائهم من أهل الدعوة، وكم قرأنا من عبارات شتم وقذف الأئمة!.
هل يجوز أن يحدث ذلك بين العلماء والدعاة لمجرد الاختلاف في الرأي؟.
لقد اختلف الصحابة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في حديث بنى قريظة()، واختلف الصحابة بعد موته -صلى الله عليه وسلم-، بل كان لعائشة بعض الآراء التي خالفت فيها الصحابة، واختلف التابعون، واختلف مالك وأبوحنيفة والشافعي وابن حنبل وابن تيمية فما سمعنا واحدا انتقص من قدر الآخر.
إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أنه أفضل الخلق وأشرفهم وأقربهم وأحبهم إلى الله –تعالى-، والله هو الذى أخبره بذلك، ومع ذلك لم يرض أن يفضله أصحابه على غيره من الأنبياء.
يا أهل الدعوة من آبائنا وأجدادنا ...
عاملوا الدعاة الجدد كما عامل آدم وإبراهيم محمدا –صلى الله عيهم وسلم جميعا-.
وأنتم يا أهل الدعوة من المرحلة الوسطى ....
عاملوا الدعاة الذين أتوا بعدكم كما عامل موسى وهارون وعيسى محمدا –صلى الله عليهم وسلم جميعا- .
وأنتم يا أهل الدعوة الجدد ....
عاملوا من سبقكم كما عامل النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- من سبقه من أهل الدعوة إلى الله وإن كنتم ترون أنكم الأفضل والأعلم.




المطلب الثالث: الدلالات الدعوية المنتقاة من لقاء النبيين موسى ومحمد –عليهما الصلاة والسلام-.

سنذكر الفوائد مجتمعة بإيجاز ثم نتناولها بشيء من الإيضاح :
لا كلام إلا لأهل الاختصاص والخبرة.
النصح بين الدعاة.
اجتماع العلماء والدعاة للتيسير على الناس.
الاستجابة لنصح الناصحين.
الأمانة العلمية.

لا كلام إلا لأهل الاختصاص والخبرة .
إن أول ما نفكر فيه عند قراءتنا للمراجعة التي حدثت بين نبينا ونبي الله موسى –عليهما السلام-: لماذا أوقف سيدنا موسى –عليه السلام- نبينا محمدا –صلى الله عليه وسلم- ولم يوقفه سيدنا إبراهيم -عليه السلام-؟.
الإجابة عن ذلك تكمن في خبرة سيدنا موسى –عليه السلام- بالشريعة وتعامل الناس معهاـ لأنه صاحب شريعة وكتاب.
جاء في البخاري: " ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم . فرجعت فمررت على موسى ، فقال : بما أمرت؟ قال : أمرت بخمسين صلاة كل يوم ، قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم ، وإني والله قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك "().
السبب الذى تكلم من أجله سيدنا موسى –عليه السلام- هو: العلم والخبرة.
قد يقول قائل: وهل سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لم يكن خبيرا بطبائع الناس وعالما بالدين؟.
أقول لك أخي الفاضل: المقصود هنا الخبرة في تعامل الناس مع التكاليف والشريعة، لأن إبراهيم لم يكن صاحب كتاب كامل كالتوراة والقرآن.
أما موسى فكان مثل النبي محمد –عليهما السلام- حيث كان صاحب كتاب وشريعة، وكتابه يشتمل على الصلاة والزكاة والحدود إلى غير ذلك.
إننا نرى الآن الكثير يتحدث فيما لا علم له به، خاصة في مجال الدين وهذا مذموم بكل حال، ولكن يوجد من هو أشد ذما منه وهو الداعية الذى يتكلم في مسألة بغير دليل.
ليس معنى إنني شيخ أؤم الناس وأعطى الدروس إنني أتكلم في كل مجال وفي كل قضية، لأن ذلك يعرضني لسخط ربى ثم ضياع هيبتي بين الناس.
أنظر إلى إبراهيم -عليه السلام- وهو أب للأنبياء وجَدٌّ لهم أيضا، فكل الأنبياء الذين أتوا بعده من ذريته، وهو الخليل وهو أمّة وهو .......
ومع ذلك لأنه لم يتعامل مع قومه بالشريعة سكت ولم يتكلم ولم يعترض على شئ.
وموسى –حفيد من أحفاد إبراهيم- عامل قومه بالشريعة وهو مثل النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- تماما كما بينا، لذلك تكلم وبيّن.
هذه رسالة من الله إلى خلقه منقولة عبر رحلة المعراج المباركة ألا يتكلم أحد إلا بعلم، وألا يتكلم إلا أهل الإختصاص والخبرة.
وإذا كانت هذه رسالة منقولة إلى كل الخلق بصفة عامة فهي منقولة إلى الدعاة بصفة خاصة ألا يتكلموا في موضوع إلا إذا درسوه ودرسوا أدلته وفقهوها وفقهوا الواقع الذى يطبق فيه الدليل والنص.
وقد أصل الله لهذه القاعدة العظيمة في القرآن الكريم ﴿الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾() و﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾() و ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾().
لقد كان أئمتنا الكبار يسكتون عن الإجابة إذا كان لا علم لهم بالمسألة، ولا يرون في ذلك نقصا، بل إنه قمة الكمال العلمي، أخرج الإمام مسلم:" ..حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ، صَاحِبُ بُهَيَّةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ، عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ، وَلَا فَرَجٌ - أَوْ عِلْمٌ، وَلَا مَخْرَجٌ - فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ؟، قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى. ابْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرُ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ"().
أخي الداعية: لا يوجد نقص في قولك: (الله أعلم) فقد قالها نبيك وقالتها ملائكة ربك.
هذا أول درس من الدروس التي نتعلمها من مراجعة موسى لمحمد –عليهما أفضل الصلاة والسلام- بشأن الصلاة.

النصح بين الدعاة
إن موسى –عليه السلام- عانى معاناة شديدة مع قومه، وتعاملوا معه بكل قبح وعناد وكان يريد أن يرى أمته أفضل الأمم وأعظمها، ولم يستطع موسى –عليه السلام- الوصول لذلك ولمّا لم يستطع الوصول إلى ذلك وتعب معهم تعبا شديدا أراد أن لا يشق على النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- وأن يريحه ويبدأ بما انتهي إليه.
أرأيت هذه المعاني السامية التي نفتقدها الآن؟.
إننا نرى الآن مآسي في المجال الدعوى –خاصة ممن ينسبون أنفسهم إلى هذا الاختصاص-.
إننا نرى حسد منتسبي الدعوة للدعاة الحقيقين، نراه واضحا كل الوضوح، وليتهم امتنعوا عن تقديم النصيحة فقط، بل إنهم يفكرون كيف يقضون على مكانة الشيخ فلان والشيخ فلان، ونرى الطعن الواضح في الشيوخ والعلماء، بل نرى بعض الشيوخ مُقدِم على بلاء دون أن يشعر ويقول البعض نبهوه، فيقول البعض اتركوه حتى ......
بل إن بعض الشيوخ حين يتعرض لضيق وأذى نرى بعض المنتسبين للدعوة يظهرون الشماتة والفرحة!.
أما بالنسبة للجماعات فحدث ولا حرج، حيث إنّ كل جماعة تتمنى لو زال سلطان الجماعة الأخرى على البعض حتى تخلو لهم الساحة.
إن القرآن يقول : ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾().
وأخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أن الدين النصيحة().
وعندما كان يبايعه المسلمون على السمع والطاعة وأداء العبادة كان يشترط عليهم: والنصح لكل مسلم().
فإذا كان النصح بين المسلمين واجب فإنه بين الدعاة أوجب.
نريد من الدعاة أن يقوموا بواجب النصح فيما بينهم وأن يتمنوا الخير والرفعة لبعضهم، وإذا رأوا واحدا منهم محبوبا أو زاده الله بسطة في العلم والدعوة، أو آتاه الله الحكمة فعليهم أن يؤازروه ويعملوا على زيادة مكانته أكثر وأكثر، لا أن يحقدوا عليه ويحسدوه ويتمنوا زوال ما أنعم الله عليه.
هذا ما فعله نبي الله موسى مع نبينا محمد- عليهما الصلاة والسلام – لقد قدّم له النصح حتى لا يُتعبه ولا تتعب أمته، مع أنه يعلم أن نبينا –صلى الله عليه وسلم- سيكون أفضل منه يوم القيامة وأكثر منه تابعا، وأن أمته ستكون أفضل من أمته يوم القيامة.
فليت الدعاة يتعلمون من قادة الدعوة.

اجتماع العلماء والدعاة للتيسير على الناس.
إن موسى –عليه السلام- ضرب المثل الأعلى للتيسير على الناس في أحكام الدين، وكذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل الأعلى في الاستجابة لدعوات التيسير والتخفيف على الناس.
فموسى -عليه السلام- يسأل حبيبنا –صلى الله عليه وسلم- عن الفريضة التي فرضها الله عليه.
يرد حبيبنا –صلى الله عليه وسلم- بأن الله فرض خمسين صلاة في اليوم والليلة.
يشفق موسى –عليه السلام- على الأمة المحمدية ويطلب من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يسأل ربه التخفيف -وقد دفعه على ذلك أيضا حرصه على نجاح النبي في دعوته -.
يرجع النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى ربه ويسأله التخفيف ، ويضع الله خمس صلوات لتصبح الصلوات المفروضة خمسا وأربعين صلاة في اليوم والليلة.
يرجع النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- إلى موسى، ويسأل موسى –عليه السلام- عن نتيجة الطلب.
يخبره –صلى الله عليه وسلم- بما حدث.
يطلب موسى من نبينا أن يرجع إلى ربه ثانية ويسأله التخفيف والتيسير على الأمة.
وهكذا ظل نبينا –صلى الله عليه وسلم- بين موسى وربه، وفي كل مرة يحطّ الله خمسا حتى وصلت خمس صلوات في اليوم والليلة وبأجر الخمسين.
ويظل نبي الله موسى –عليه السلام- حريصا على التخفيف والتيسير حتى تنجح دعوة نبي آخر الزمان ، ولكن نبينا –صلى الله عليه وسلم- قد استحيا من ربه من كثرة السؤال.
إن التيسير على الناس هو المنهج الذى وضعه الله لنا، أما قرأت ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾() و﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾() و ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾().
وهو نفس المنهج الذى التزمه الرسل في دعوتهم، حتى أن حبيبنا –صلى الله عليه وسلم- يأمر دعاته بأن يبشروا ولا ينفروا، وييسروا ولا يعسروا، ويتطاوعوا ولا يختلفوا().
الآن نرى اتجاهات كثيرة للدعاة ، نرى من يلتزم التشديد في كل شيء وأكثر الكلمات التي ترد على ألسنتهم بدعة، حرام ، لا يجوز ....
وهناك من يتسيب ويلتزم بمنهج افعل ولا حرج في كل شيء.
وهناك أهل الوسطية والاعتدال –الملتزمون بمنهج نبيهم وكتابهم-.
كذلك نرى من الناس الآن من يتهمون الشيوخ والدعاة الذين ييسرون للناس دينهم ويظهرون دينهم على أنه دين كل بشر وعصر ومصر!.
إننا نرى بعضا من الشباب أو الشيوخ ينتسبون للدعوة ويصعّبون على الناس أمور العقيدة!.
إن أهم ما يميز الإسلام عن غيره بساطته ويسره وسماحته، فلا توجد به عقد في تشريعاته ولا عقيدته، وإذا بحثت في كل العقائد الموجودة على الساحة الآن –سواء كانت أصلها سماوية أو وضعية- لن تجد عقيدة أسهل ولا أيسر ولا أوضح ولا أعقل من العقيدة الإسلامية، ومع ذلك يصر البعض على إظهار العقيدة على أنها مجموعة معقدة لا يمكن الوصول إليها بسهولة، حتى التوحيد أجمل ما في الدين إذا بالبعض يريد أن يقسمه إلى أقسام، وكلما فعل الإنسان فعلا قيل له: هذا مخالف للعقيدة، أنت مزعزع العقيدة، هذا الأمر خطر على العقيدة .....
وقد تكون المسألة خلافية، وقد تكون فرعية، وقد تكون متعلقة بالشريعة والأحكام الفقهية وليست بالعقيدة، ولا أدري لماذا هذا الإصرار على تصعيب الأمور والتشديد على الناس؟.
قد يفهم البعض كلامي هذا خطئا ويدعى زورا وبهتانا أنني أدعو إلى تمييع الدين والانسلاخ منه، لأن هناك من يقدّم سوء الظن على حسنه، والشر على الخير، ولكنني لم أقصد ذلك أبدا، وإنما أردت أن نقتدي بقادة الدعوة في التيسير على الناس والتخفيف عنهم، قد تكون أنت تتلذذ بالعبادة حين تأخذ بالأحوط أو بالرأي الأشد والأشق على النفس، لكن لك أن تفعل ذلك لنفسك لا أن تفرضه على الناس وتجعله دينا، أما سمعت حبيبك –صلى الله عليه وسلم- وهو يخبر: "لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بكذا وكذا"()، هو يلتزم بذلك لنفسه لكن لا يفرضه على الناس.

أما بالنسبة للدعاة فيجب عليهم أن يختاروا الأيسر للناس –مادام أنه ليس شاذا ولا يخالف نصا أو إجماعا- وإن كان بعض الدعاة لا يحلو لهم أن يختاروا الأيسر فليعرضوا كل الآراء الصحيحة في المسألة وليختر السائل ما يناسبه.
نريد أن نحبب الناس في الدين دون أن نمس ثوابته أو أن نخالف القواعد العلمية والمنهج النبوي، ولا نريد أن ننفر الناس ونصدهم عن الدين بإلزامهم فكرنا واجتهادنا ما دامت هناك اجتهادات أخرى تناسبهم.
لا بد أن يجتمع الدعاة للتيسير على الناس وعرض الدين في ثوب اليسر والسماحة كما فعل قادة الدعوة وقدوة الدعاة في رحلة المعراج.
إخواني الدعاة: اعملوا على إلزام الناس بمنهج الإسلام وليس بآرائكم وأفكاركم واجتهاداتكم الشخصية.

الاستجابة لنصح الناصحين.
لقد مدح القرآن الذين يستمعون لنصح الناصحين ويعملون بمواعظهم ومن ذلك قوله في الزمر: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾().
بل إن أحد الأنبياء –صالح عليه السلام- حين أهلك الله قومه وعاقبهم بفعلهم قال سيدنا صالح –عليه السلام- كما جاء في الأعراف: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾()، أي أن عدم الاستماع لنصح الناصح يؤدى إلى الهلاك.
وإذا كان –صلى الله عليه وسلم- استجاب لنصيحة موسى –عليه السلام- ونفذها دون جدال ولا مناقشة –لأنه رأى فيها الخير- فإن موسى –عليه السلام- قد استجاب لرجل من قومه حين نصحه بالخروج من بلده حتى لا يصيبه قومه بأذى بعد أن مات الرجل ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾()، بمجرد أن أخبره ونصحه استجاب على الفور وخرج مستمعا للنصيحة.

إن مما يؤسف له أن هناك من ينسب نفسه للدعوة ويستهين بعقول الناس ويظن أنه وصل لمكانة لم يصلها أحد قبله ولن يصلها أحد بعده، فإذا ما سمع نصيحة قال في رأسه: ومن تكون حتى تنصحني؟! حتى أنت يا فلان!.

مع أنه يقرأ في الصلاة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾() وهذه ليست صفات المسلمين فضلا عن أن تكون صفات الدعاة إلى الله.

إن الداعية إذا أراد أن يقدم على أمر لا بد أن يستشير ويستمع للنصيحة ويعمل بها، يجمع الناس حوله ويعرض عليهم وبذلك يستفيد الجميع، يستمع الداعية إلى الآراء المتعددة ويأخذ بأحسنها، ويربى بذلك المسلمين على الإيجابية والمشاركة.

أخي الداعية الكريم: لست أفضل من موسى –عليه السلام- حين استمع لنصح الرجل الذى أشار عليه بالخروج.

ولست بأفضل من الحبيب –صلى الله عليه وسلم- حين استمع إلى نصيحة موسى –عليه السلام- هذا الكلام للأمة عامة ولكنه للدعاة خاصة ، وهناك أمر للدعاة والعلماء فقط وهو أن يستجيبوا لدعوات التيسير والتخفيف والبعد عن دعوات التشدد والتنطع.

• الأمانة العلمية

إن رحلة المعراج تعلمنا الأمانة العلمية في أسمى صورها، فإننا جميعا لم نكن مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حين خاطب موسى وطلب منه موسى –عليه السلام- أن يسأل الله التخفيف لأمته.

فما الذى يحمل رجلا على أن ينسب الفضل على أمته لآخر؟ ألم يكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قادرا على أن ينسب الأمر لنفسه؟.

ألم يكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إن لم يكن يريد أن ينسب الأمر لنفسه أن يخرج موسى –عليه السلام- من الموضوع نهائيا ويخبرنا أن الصلاة فرضت بداية خمسين ثم خفف الله إلى خمس فقط؟.

هل هذه الطريقة فيها كذب؟ بالطبع لا.

فما الذى يجعل الرسول –صلى الله عليه وسلم- ينسب الأمر إلى داع آخر غيره؟ إنها الأمانة العلمية –هذا فضلا عن أنه رسول-.

إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بأن ينسب الأمر إلى سيدنا موسى –عليه السلام- بداية فقط، بل ينسب الأمر إليه في كل مرة، لقد خففت الصلاة على تسعة مراحل 45-40-35-30-25-20-15-10-5 وفي كل مرة من هذه المرات التسع يخبرنا –صلى الله عليه وسلم- أن سبب التخفيف موسى –عليه السلام- هل رأيت أمانة علمية مثل هذه؟.

إنني أحزن أشد الحزن الآن حين أرى بعض من ينتسبون للدعوة يأخذوا كلمات الآخرين وينسبونها إلى أنفسهم، بل يكتبون الكتب ويألفون المؤلفات نقلا عن الغير دون أدنى إشارة لذلك.

بل إنني أحزن حزنا أشد حين أرى بعض من ينتسبون للدعوة ويعتلون المنابر يحفظون خطب بعض الشيوخ بالكلمة وينسبونها إلى أنفسهم، هذا الصنيع قد يرضي العامة من الناس، ولكن سيسقط هذا الرجل من أعين أهل العلم.

وهنك من يكتب كتبا كاملة قد سرق محتوياتها فكرة ومضمونا ثم ينسبها لنفسه ويدّعي البحث والسهر والنصب!.

يقول الله –تعالى-: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾().

يقول الإمام ابن عجيبة():" لا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي: بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالعهد، وإظهار الحق، والإخبار بالصدق، أنهم فائزون من العذاب، فلا تظنهم بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ، بل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع"().

ويقول صلى الله عليه وسلم:" المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُور"().

وأخرج الإمام مسلم:" وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً"().

يقول الإمام ابن حجر:" المتشبع أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل"().

وما أجمل قول الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره:" وشرطي في هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله"().

فهذه رسالة لدعاة الأمة أن ينسبوا الفضل لأهله، في كتاباتهم ومقالاتهم خطبهم ودروسهم، وهذا لن ينتقص من قدرهم، بل سيعلي مكانتهم وقدرهم.


المطلب الأول: ماشطة ابنة فرعون.

إن النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج شمّ رائحة زكية طيبة، فسأل النبيُ جبريلا عن هذه الرائحة الطبية، فأخبره جبريل أن هذه الرائحة رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها().

النبي –صلى الله عليه وسلم- يريه الله مكانة هذه المرأة الفقيرة التي لا قيمة لها في نظر الدنيويين، هذه المرأة التي كانت تعمل ماشطة لبنت فرعون، هذه المرأة الخادمة التي قُتلت هي وأولادها ولم تجد أحدا يدافع عنها.

تُرى ما قصتها؟.

وما الذى فعلته حتى تصل إلى هذه المكانة العالية؟.

النبي –صلى الله عليه وسلم- أول ما علم أن هذه الرائحة رائحة هذه المرأة سأل عن قصتها، وما هو العمل الذى قامت به حتى رفع الله قدرها وأعلى مكانتها؟.

يسأل النبي جبريل: وما شأنها؟.

فيقص له جبريل القصة، وأنت تقرأ القصة تجد العظمة في أسمى صورها، والإيمان الكامل، والثبات كل الثبات.

هذه المرأة كانت تعمل ماشطة لابنة فرعون، وكانت تؤمن بالله الحق، في يوم من الأيام وقع المشط من يدها.

قالت المرأة: بسم الله.

فقالت ابنة فرعون: أبى، لأن فرعون استخف قومه وقال لهم ما علمت لكم من إله غيرى وأنا ربكم الأعلى.

قالت المرأة المؤمنة: لا ، ولكن ربى ورب أبيك الله .

قالت ابنة فرعون: أخبره بذلك، يعنى ستخبر فرعون.

قالت المرأة المؤمنة: نعم، يعنى: افعلي ما تشائين فأنا لا أخشى إلا الله الحق.

تذهب البنت لأبيها الظالم الطاغية وتخبره أمر هذه الماشطة المؤمنة.

وهنا جُن جنون فرعون، فهو الذى يركع له الجميع ويسجد، هو الذى فرض ألوهيته على الجميع ، أتقف في وجهه امرأة!.

ويستدعى فرعون الماشطة...

فرعون: يا فلانة وإن لك ربا غيرى؟.

الماشطة المؤمنة: نعم ربي وربك الله الذى في السماء.

وهنا يشتد غضب الإله الذى أفحمته امرأة ويتهدد ويتوعد، واحمى لها بقرة من نحاس وأخبرها أنه سيلقيها وأولادها فيها ظنا منه أنها سترجع عن الحق وستسجد له وتركع كبقية العبيد الذين يركعون له ويسجدون، ولكنها تقف في وجه الفرعون ثابتة، وهي لا تملك إلا نفسها وأولادها.

وهنا يتفنن فرعون في عذابها والتأثير عليها، فجعل يلقى بأولادها واحدا واحدا أمام عينيها، وهي ترى كيف يعذب أولادها، وكيف يذوبون في النار والنحاس، ومع ذلك لم تجزع ولم تفزع بل ازدادت ثباتا وقوة، إلى أن وصل فرعون إلى آخر أولادها وهو ابنها الرضيع الصغير، لم يرحم حتى هذا الطفل، وهنا تأثرت المرأة برضيعها وكأنها تقاعست من أجله ، ولكنها لم تتقاعس ، فأنطق الله الطفل الرضيع ليعيد إليها ثباتها وقوتها قائلا: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهنا ألقت بنفسها في النار.

هذه المرأة تخلصت من العبودية للبشر والخضوع للحكام الظالمين المستبدين المجرمين المفسدين، ووقفت أمامهم وهي امرأة وحيدة لا تملك مالا ولا جاها ولا قبيلة قوية ولا من يشاركها ويطالب بحقها، ومع ذلك وقفت بمفردها في وجه أعتى العتاه وأظلم الظالمين وأفسد المفسدين وأجرم المجرمين.

ففرعون الذى استعبد شعبا كاملا لم يستطع أن يستعبد هذه المرأة، بل تظهر له حجمه الطبيعي وتجعله يشعر بضآلته ولأول مرة في تاريخه.

أيها الدعاة ..

إن أصحاب العقيدة والمبدأ هم أصحاب قضية وعقيدة وفكرة يضحون من أجلها بأموالهم وأنفسهم، فحفاظهم على عقيدتهم أكبر من حفاظهم على حياتهم، ودفاعهم عن قضيتهم أكبر من الدفاع عن شخصهم.

كذلك أيضا: حين يرى الناس مظلوما يقتل أو يموت دون أن يأخذ حقه أو ينجيه ربه من العذاب يقولون: لو كان على حق لنصره الله ومكّن له ....

فهل يستطيع أحد أن يقول عن الماشطة مثل هذه الكلمات بعد أن رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- مكانتها في الجنة ؟.

أو هل يستطيع أحد أن يقول ذلك عن الحسين وعمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم-، والأنبياء الذين قتلوا على أيد بنى اسرائيل؟.

أفهموا الناس ذلك وربّوهم على العزة والرفعة.

المطلب الثاني: علماء السوء.

لقد مرّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج على قوم يعذبون أشد العذاب، رآهم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من جهنم، وكلما قرضت عادت كما كانت لتقرض مرة ثانية وهكذا.

النبي –صلى الله عليه وسلم- يتعجب منهم ويسأل عنهم جبريل –عليه السلام- ، فيخبره جبريل أن هؤلاء علماء السوء وخطباء الفتنة الذين يقولون شيئا ويفعلون ضده ويقرأون كتاب الله تعالى ولا يعملون بمقتضاه، ولا ينادون بتطبيقه وتحكيمه().

وليتهم جهلة لا يعرفون القرآن ولا أحكامه، بل هم علماء به ويقرأون ويعرفونه، وقد أخبر جبريل –عليه السلام- في بعض الروايات بذلك.

إن هؤلاء المعذَبين هم الوحيدون الذين تعجب منهم جبريل -عليه السلام- حيث تذكر بعض الروايات أن جبريل أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن هؤلاء هم الخطباء من أمته الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ، ثم قال جبريل للنبي –صلى الله عليه وسلم-: أفلا يعقلون؟.

وهذا المستنقع الذى وقع فيه بعض الخطباء والعلماء من هذه الأمة هو نفس المستنقع الكريه النتن الذى حذر الله منه اليهود الذين يقرأون التوراة ويعلمون ما فيها ويأمرون الناس بالإيمان والعمل للآخرة، ثم لا يعملون هم بما يأمرون الناس به: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾().

يقول الإمام ابن عجيبة:" كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه، قيل له: أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التذكير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء"().

إن هذا الموقف هو رسالة قوية موجهة من الله للعلماء أن يتقوا الله في أقوالهم وأفعالهم وألا يخضعوا إلا للحق.

ولكن مصيبة الكثيرين في هذا الزمان جمع وتكرار الأحاديث الصحيحة في فضل العلم ومجالسه ومكانة العلماء وكيف رفع الله قدرهم....

ثم يغفلون بعد ذلك عن الدور المنوط بالعلماء والأئمة!.

لذلك فإن رواية المعراج هذه تطلق صيحة تحذير ونصح لكل الدعاة مذكرة إياهم أن العلماء في القرآن نوعان:

الأول : رباني ملائكي، وهو الذى ذكره القرآن في الآيات السابقة.

الثاني : شيطاني حيواني.

وهذا النوع يغفل عنه الكثير.

إن القرآن الكريم لم يشبه أحدا بالحيوان إلا نوعية من العلماء، هناك أهل الشرك شبههم الله بالأنعام بصفة عامة أُولَئِكَ ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾().

ولكنني أتحدث عن النوعية التي اختار الله لها حيوانا معينا ليشبهها به، لن تجد غير نوعية من العلماء شبههم الله بالكلاب والحمير.

من شبههم الله بالكلاب: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾().

هذا الرجل أتاه الله العلم وأراد أن يرفعه إلى العالم السماوي ليكون عالما ربانيا ينقل أوامر الله إلى عباده، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، حكّم الهوى في العلم، وفضّل الأرض على السماء وخضع للسلطان الأرضي البشرى ولم يخضع للسلطان السماوي الإلهي.

ـــ من شبههم الله بالحمير: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

هؤلاء حملوا التوراة حفظا ولم يحملوها منهجا وتطبيقا فمثلهم كمثل الحمار الذى يحمل الأسفار على ظهره دون أن ينتفع بها.

الناظر إلى هذه النوعية من العلماء التي نزل الله بها من عالم الملائكية إلى عالم الحيوانية ولم يجعلها حتى من أفراد العالم الآدمي يجد أن النوعية الكلبية حسب أقوال المفسرين وأسباب النزول قد ركن إلى السلطة وانقاد لمطالبها الآثمة، والنوعية الأخرى (الحمارية) لم يعملوا على تطبيق كلمات الله ولا حتى تنشئة جيل ينادى بذلك.

وهكذا كل عالم يؤتيه الله العلم ويجعل القرآن في صدره ولا يطبقه أو ينادى بتطبيقه فهو عالم ولكنه عالم حيواني أو بعبارة محددة هو عالم حماري كلبي.

إن تشبيه العالم الذى يعلم الناس الخير ولا يعمل هو به بالحمار ليس في الدنيا فقط، بل إنه في الآخرة سيكون كالحمار أيضا، ولكن هناك فرق، ففي الدنيا هو كالحمار ولكن يعيش في النعيم وقد لا تُعرف حقيقته، لكن في الآخرة شبهه النبي –صلى الله عليه وسلم- بالحمار ولكن سيكون معروفا وستُكشف حقيقته ولن يكون في النعيم بل في النار، ففي الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ "().

إذا كان هذا حال من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ولا يلتزم هو بذلك، تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من النار، ويدور في النار كما يدور الحمار برحاه. فما بالكم بمن يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف؟.


المطلب الثالث: الخوض في أعراض الناس.

إن النبي –صلى الله عليه وسلم- رأى في المعراج أيضا شيئا عجيبا، رأى قوما يعذبون أنفسهم بأيديهم عذابا حسيا فضلا عن عذاب النار الذى يعذبون به، ورآهم يعذبون أنفسهم بأيديهم عذابا معنويا.

رآهم يأكلون الجيفة النتنة كالكلاب المسعورة، ورأى أن لهم أظفارا من نحاس خلقها الله لهم، وإذا بهم يخمشون بهذه الأظفار وجوههم وصدورهم، هذا غير عذاب جهنم وجحيمها.

كل أنواع العذاب هذه تدل على عظم جرمهم.

يسأل النبي –صلى الله عليه وسلم-: مَن هؤلاء يا أخي يا جبريل؟.

يرد جبريل –عليه السلام- قائلا: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم().

إن الغيبة حرمها الإسلام وشدد العقوبة عليها، يقول الله –تعالى-: ﴿يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾().

وإن من أشد الغيبة غيبة العلماء والوقوع في أعراضهم والنيل منهم.

ونحن نقف على المنابر وفي الدروس والمحاضرات والندوات ونحذر من ذلك ونصرخ بأعلى أصواتنا لحوم العلماء مسمومة .....

ثم بعد ذلك نجد بعض من غرّتهم هيئتهم بالعمامة أمام المرآة يقعون في عرض العلماء بأبشع الشتائم والألفاظ، يُجّهّلون الأئمة ويسفهونهم!.

قد يقول قائل: وهل لأنه عالم لا نراجعه في قول أو ننتقده؟.

أقول: لا أحد معصوم، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا سيد الخلق –صلى الله عليه وسلم-.

ولكن نرد بالدليل وليس بالهوى والعواطف، نذكر أدلته ونرد عليها، ثم نذكر أدلتنا على صحة قولنا.

لكن المنتشر الآن –إلا من رحم الله- هو الحقد والحسد، فلا نجد ردا علميا، بل نجد هتافات وشتائم، وقد لا نجد هتافات ولا شتائم وإنما نجد عبارات عاطفية ترضي العامة مثل: هل هذا القول يرضي الله؟ هل هذا علم؟ ماذا يقول لربه؟، ونسوا أن الآراء الفقهية والأدلة لا يُرد عليها بالعبارات العاطفية والشعارات وإنما يُرد عليها بالأدلة.

فإذا كانت الغيبة والنميمة حراما، والخوض في أعراض الناس حراما، فما بالكم بالخوض في أعراض العلماء؟، وما بالكم بخوض بعض الدعاة في إخوانهم؟.

الخاتمة

مما سبق بيانه نخلص إلى ما يأتي:

• أهمية إبراز الدلالات الدعوية لكتاب الله –عز وجل- وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة.

• فضل النبي –صلى الله عليه وسلم- على كل الأنبياء والملائكة، ومدى حب الله –تعالى- له صلى الله عليه وسلم.

• أهمية المسجد الأقصى، وتسليمه إلى نبينا –صلى الله عليه وسلم- من قِبل الأنبياء السابقين.

• العمل على إخضاع القلوب لله وحده، فالعبودية لله شرف وحرية، وما ضاعت الأديان إلا عندما فقد أتباعها عبوديتهم الكاملة لله وحده لا شريك له.

• وجوب الوحدة والتعاون بين المسلمين عامة، والدعاة خاصة.

• التلاقي بين أهل العلم والدعوة بصفة عامة، وبين قادة الدعوة والدعاة الجدد بصفة خاصة.

• التحلي بالأمانة العلمية ونسبة الفضل إلى أهله.

• التحذير من انحراف الدعاة عن المنهج السليم، وميلهم إلى إرضاء غير الله بدعوتهم.

• التحذير من الخوض في أعراض الناس عامة، وأعراض الأئمة والدعاة خاصة.

• إظهار مصير من ضحوا بأنفسهم من أجل عقيدتهم ومبادئهم كماشطة ابنة فرعون.

المراجع

القرآن الكريم –جلّ من أنزله-.

العهد القديم والجديد.

كتب التفسير:

• البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة (المتوفى: 1224هـ)، المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، الطبعة: 1419هـ.

• الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى: 671هـ). تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964م.

• الخواطر، محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ)، الناشر: مطابع أخبار اليوم.

• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمرو، الزمخشري (المتوفى: 538هـ)، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407هـ.

• تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، للإمام: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفي : 1393هـ). الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984هـ.

• جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير، الطبري (المتوفى: 310هـ). المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000م.

• لطائف الإشارات، للإمام: عبد الكريم بن هوازن القشيري (المتوفى: 465هـ). المحقق: إبراهيم البسيوني، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر، الطبعة: الثالثة.

كتب الحديث الشريف:

• الجامع الكبير، محمد بن عيسى الترمذي، (المتوفى: 279هـ)، المحقق: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، سنة النشر: 1998م.

• الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل البخاري، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

• المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري (المتوفى: 261هـ). المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

• سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني (المتوفى: 273هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.

• سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ). المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.

• مسند الإمام أحمد بن حنبل، للإمام/ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (المتوفى: 241هـ). المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2001م.

كتب عامة:

• الأعلام: خير الدين بن محمود، الزركلي (المتوفى: 1396هـ). الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر- أيار / مايو 2002م.

• الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام، أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري المالكي، المحقق: د. أحمد حجازي السقا، الناشر: دار التراث العربي – القاهرة.

• البيان الصحيح لدين المسيح، ياسر جبر. دار الخلفاء الراشدين- الإسكندرية، الطبعة: الأولى.

• التعريفات: علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفى: 816هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت –لبنان. الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م.

• الدعوة الإسلامية (أصولها– وسائلها– أساليبها– في القرآن الكريم)، أ.د/ أحمد أحمد غلوش، مؤسسة الرسالة 2005م.

• الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، إبراهيم بن علي اليعمري (المتوفى: 799هـ)، الناشر: دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.

• السيرة النبوية، إسماعيل بن عمر بن كثير (المتوفى: 774هـ)، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، عام النشر: 1395 هـ - 1976م.

• السيرة النبوية وأخبار الخلفاء: محمد بن حبان، أبو حاتم البُستي (المتوفى: 354هـ)، صحّحه، وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك وجماعة من العلماء، الناشر: الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1417 هـ.

• الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، الناشر: دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ‍ - 1987م.

• العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين محمد بن أحمد الحسني (المتوفى: 832 هـ)، المحقق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1998م.

• المعجم الوسيط، المؤلف: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الناشر: دار الدعوة.

• ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد، محمد بن أحمد بن علي الفاسي (المتوفى: 832هـ). المحقق: كمال يوسف الحوت، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1410هـ/199م..

• سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار (المتوفى: 151هـ)، تحقيق: سهيل زكار، الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة: الأولى 1398هـ /1978م.

• سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، 1405هـ/ 1985م.

• طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفى: 771هـ)، الناشر: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1413هـ.

• فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379. رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي.

• فقه السيرة، محمد الغزالي السقا (المتوفى: 1416هـ). الناشر: دار القلم– دمشق، الطبعة: الأولى، 1427هـ.

• قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، للإمام: محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (ت ١٣٠٧هـ).

• لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ)، الناشر: مؤسسة الخافقين ومكتبتها– دمشق، الطبعة: الثانية - 1402 هـ - 1982م.

• مختصر تاريخ دمشق: محمد بن مكرم بن على (المتوفى: 711هـ). المحقق: روحية النحاس، رياض عبد الحميد مراد، محمد مطيع، دار النشر: دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق – سوريا، الطبعة: الأولى، 1402 هـ - 1984م.

• معاني القرآن وإعرابه، المؤلف: إبراهيم بن السري (المتوفى: 311هـ)، الناشر: عالم الكتب – بيروت، الطبعة: الأولى 1408 هـ - 1988م.

• معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر»،عادل نويهض، الناشر: مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت – لبنان ، الطبعة: الثالثة، 1409 هـ - 1988م.

• هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، محمد بن أبي بكر بن أيوب (751هـ)، مكتبة الصفا، الطبعة: الأولى.

• وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان (المتوفى: 681هـ)، الناشر: دار صادر – بيروت.

الدوريات:

رحلة الإسراء والمعراج تأكيد لعروبة القدس وحرمة الأقصى، تأليف الأستاذ الدكتور/ إسماعيل الدفتار (ت 1439هـ - 2018م)، هدية مجلة الأزهر عدد شهر رجب 1443هـ = فبراير 2022م.
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.