GilbertKeith

شارك على مواقع التواصل

كانت روحُ السيد بيريجرين سمارت تحومُ كذبابةٍ حول شيءٍ واحدٍ من مقتنياتِه ودعابة
واحدة. وربما كان البعضيراها دعابةً بسيطة؛ لأنَّها لم تكنْ تتألَّف إلَّا من سؤاله الآخرين
عمَّا إذا كانوا قد رأوا أسماكَه الذهبية. وقد يراها البعضُ أيضًا دعابةً مُكلِّفة، ولكنْ ثَم
شكٌّ حيالَ أنَّه لم يكنْ مهتمٍّا في طياتِ نفسِه بالدعابة بقدرِ ما كان مهتمٍّا بإثباتِ بذَخِه في
الإنفاق. وفي حديثه إلى بعضِ جِيرانه الذين يقطُنون في بضعةِ بيوتٍ جديدةٍ أنُشِئَت حول
المَرج القَديم، سرعانَ ما كان يتطرَّق إلى هوايتِه المُفضَّلة؛ ففي حِواره مع الطبيبِ بيردوك،
وهو اختصاصيٌّصاعدٌ في عِلم الأحياء ذو ذقنٍ عريضٍ وشَعر مُصفَّفٍ إلى الوراء كالألمان،
إنَّك مهتمٌّ بالتاريخ » : تطرَّق السيد سمارت إلى الحديث عن هوايتِه بسَلاسة؛ إذ قالَ له
وصحيحٌ أنَّ شخصًا أرثوذكسيٍّا متعصِّبًا ومؤمنًا «؟ الطبيعي، فهل رأيت أسماكي الذهبية
بنظرية التطور، كالطبيب بيردوك، كان يرى الطبيعة كُلَّها شيئًا واحدًا، ولكن للوهلة الأولى،
لم يكنِ الرابط بين التاريخ الطبيعي والأسماك الذهبية قريبًا؛ لأنَّه كان يُكرِّس تركيزَه
كله لدراسة الأصل البُدائي للزَّرافة. أمَّا في حواره مع الأب براون، القس في كنيسةٍ بالبلدة
الريفية المجاورة، فقد اتَّبع تسلسلًاسَريعًا من الأفكار تطرَّق فيه إلى عدَّة موضوعات، بدايةً
من روما ثم القديس بيتر مُرورًا بالصيَّادين ثم الأسماك، ووصولًا إلى موضوعه المفضَّل؛
الأسماك الذهبية. وعندما يتحدث إلى السيد إيملاك سميث، مدير البنك النحيف الشاحب ذي
المَظهر الأنيقِ والسلوك الهادئ، فهو يَلوي عنق الحوار بشدَّةٍ إلى موضوع الغطاء الذهبي
للعُملة، والذي ما هو إلا خطوة انتقالية فقط إلى موضوع الأسماك الذهبية. وفي حِواره مع
الكونت إيفون دي لارا، ذلك الأكاديمي والرحَّالة الشرقيِّ الذكيِّ (الذي كان ذا لقبٍ فرنسيٍّ
ووجهٍ روسيٍّنوعًا ما، إن لم يكن تتاريٍّا)، أبدَى المُحاوِر الواسع الاطِّلاع والمُلِمُّ بقدرٍ كبير من
الموضوعات المختلفة اهتمامًا شديدًا وذكيٍّا بنهر جانجا في الهند، وكذلك بالمحيط الهندي،
مُتطرِّقًا بالطبعِ إلى احتمالية وجود أسماك ذهبية فيهما.
وقد استطاع سمارت، بشقِّ الأنفس، أن ينتزعَ من السيد هاري هارتوب، الشاب
الفاحش الثراء الذي يتَّسم بالخجل الشديد والصمت، والذي أتى مؤخرًا من لندن، معلومةً
مفادُها أنَّ ذلك الشاب الخجول لم يكنْ مهتمٍّا بصيدِ الأسماك، قبل أن يُضيف قائلًا:
«؟ بخصوصصيد الأسماك، هل رأيتَ أسماكي الذهبية »
الغريب في أسماكه الذهبية أنَّها كانت مصنوعةً من الذهب؛ إذ كانت جزءًا من تُحفة
غريبة الأطوار لكنَّها باهظةُ الثمن، قيل إنَّهاصُنِعت تلبيةً لنزوة أميرٍشرقيٍّ ثري، ثم حصل
عليها السيد سمارت من أحدِ المزادات أو أحدِ متاجر التُّحف الغريبة، التي يرتادها من
أجل حشو منزلِه بأشياءَ فريدة وعديمة الفائدة. وعند النظر من الطرَف الآخر للغرفة التي
كانت هذه التحفة تُوجد فيها، كانت تبدو كأنَّها وعاءٌ كبير بعضَالشيء يحتوي على أسماكٍ
حيَّة ضخمة على غيرِ العادة، أمَّا عند النظر إليها عن كثَب، فيتبيَّنُ أنَّها فقاعةٌ كبيرة من
الزجاج الفينيسيالمنفوخ بجَمالٍ شديد، الذي كان رقيقًا جدٍّا ومطليٍّا بعنايةٍ بطبقةٍ مُعتمة
ذات لونٍ خافت يعكسالتدرجَ اللوني لقوسالمطر، والذي كان يضمُّ داخل عتمته الخفيفة
الملوَّنة أسماكًا ذهبية مزخرفة ذات أعينٍ كبيرة من الياقُوت. ولا شكَّ أنَّ هذه التحفة برُمَّتِها
تُقدَّر قيمتها بكمية كبيرة من المعدن النفيس، وأنَّ دَفع مُقابلٍ أكبر لشِرائها يعتمد على
النزوات الجنونية التي تسري بين هواة جمعِ مثل هذه التُّحف. ومع أنَّ السكرتير الجديد
للسيد سمارت، وهو شابٌّ يُدعى فرانسيس بويل، رغم كونه أيرلنديٍّا ولا يتصف بالحيطة
والحذر، قد فوجئ قليلًا بحديث سيِّده بلا أيِّ تحفُّظ، عن الأحجار الكريمة النفيسة التي
يَحتفظ بها في مقتنياته، مع أناس غرباء نسبيٍّا تصادَفت إقامتهم بالحيِّ كأنَّهم مجموعةٌ
من البدو الرُّحَّل؛ وذلك لأنَّ هُواة جمع التُّحَف النادرة عادةً ما يتحلَّون بالحذَر وأحيانًا ما
يكونون مُتكتِّمين. وبينما تسلَّم السيد بويل مهامَّ مهنته الجديدة وبدأ يُباشرها، اكتشفَ
أنَّه ليس الوحيد الذي يشعر بذلك، وأنَّ بعضخُدَّام السيد سمارت لم يكتفوا بالإعرابِ عن
استغرابٍ بسيط من تصرُّفات سيِّدهم، بل أبدَوا استنكارًا حادٍّا حيالها.
فقد قال هاريس، وصيفُ السيد سمارت، بنبرةٍ لا تخلو من تلذُّذٍ نابعٍ من افتراضٍ
من الغريبِ أنَّ رقبته لم تُنحَر حتى الآن. » : يدورُ في ذِهنه، كأنَّه يتحدَّث بحِسٍّ يُقدِّر الإبداع
«. إن ذلكشيءٌ يثير الشفقة
فيما قال جيمسون، مدير مكتب السيد سمارت، الذي أتى من المكتب إلى المنزل لمساعدة
من الغريب لامبالاته الشديدة بأيِّشيء، إنَّه حتى لا يضعُ تلك القُضبان » : السكرتير الجَديد
«. المتهالكة؛ ليُوصد بها باب منزله المتداعي
أرى أنَّ » : بينما قالت مدبِّرةُ منزله، بشيءٍ من الغموضالقوي، الذي كان يُميِّز آراءَها
الأب براون والطبيبَ لا يُشكِّلان أيَّ خطر، أمَّا بخصوصالأجانب، فلتُدرِكْنا العناية الإلهية!
لا أقصد الكونت فقط، بل ذلك الرجلَ الذي يعمل في البنك أيضًا؛ إذ يبدو لي ذا بشرةٍ أشدَّ
«. اصفرارًا من أن تكون بشرةَ رجلٍ إنجليزي
حسنًا، أرى أنَّ ذلك الشاب هارتوب إنجليزيٌّ إلى حدِّ أنَّه لا » : وهنا قال بويل مازحًا
«. يجد كلمةً يقولُها لنفسِه حتى
قد » : ثم أضافت بغموض «. إنَّه يُضمِر في نفسه أكثر ممَّا يُبدي » : فقالت مدبِّرة المنزل
لا يكون أجنبيٍّا بالمعنى الحرفي، لكنَّه ليس ساذجًا مثلما يبدو. إنَّ الأجنبي هو من يقوم
«. بأفعال الأجانب؛ هذا هو رأيي
ومن المُرجَّح أنَّ استياءَها من تصرُّفات سيِّدها كان سيتأجَّج لو سمعت المحادثةَ التي
شهدَتْها قاعةُ استقبال الضيوف في منزله عصرَ ذلك اليوم، والتي دارت حول الأسماك
الذهبية، مع أنَّ ضيفه الأجنبيَّ العدواني حاول مرارًا أن يكون محور الحديث. وليس
المقصود بذلك أنَّه كان يتحدث كثيرًا، لكنْ حتى سكتاته كانت تحمل قَدرًا من الثقة والإقناع.
كان يبدو أضخمَ بُنيانًا بسبب جلوسه على كومةٍ من الوسائد المُكدَّسة فوق بعضِها، فيما بدا
وجهُه المنغولي العريض، في الشفق الذي كان يُخيِّم على الأجواء، يلمع بخفوتٍ مثلما يلمعُ
القمر. وربما أضفَتِ الخلفية التي كان جالسًا أمامَها طابعًا آسيويٍّا على وجهه وهيئَتِه؛ لأنَّ
الغرفة كانت تحوي مزيجًا فوضويٍّا من التُّحف الباهظة يتضمَّن منحنياتٍ ملتويةً وألوانًا
متَّقدة ساطعة لمجموعةٍ لا تُحصىمن الأسلحة الشرقية والغلاوين والأوعية الشرقية والأدوات
الموسيقية، والمخطوطات المُذهَّبة الشرقية. على أي حالٍ، ومع المُضيقُدُمًا في المحادثة، ازدادَ
شعور بويل بأنَّ عموم هيئة هذا الشخصِ الجالس على الوسائد، الذي اختفتْ تفاصيلُ
وجهه وجسَده مع وجود الشفَق في الخلفية؛ شبيهٌ تمامًا بتمثالٍ كبيرٍ لبوذا.
كانت المحادثة عامَّةً بدرجةٍ كافية؛ لأنَّ جميع هؤلاء الجيران السالف ذكرهم كانوا
حاضِرين. وفي الواقع، لقد أصبحوا مواظبين على تلك العادة حيث يتجمَّعون ويسهرون
في بيتِ واحدٍ منهم في كل مرة، وكانوا بحلول ذلك الوقت قد شكَّلوا ناديًا يضم سُكَّانَ
البيوت الأربعة أو الخمسة المُحيطة بالمرج القَديم. ومن بين هذه البيوت، كان بيت السيد
بيريجرين سمارت الأقدم والأكبر والأروع منظرًا، وكان يمتدُّ على جانبٍ واحد من المربَّع
السكني شاغلًا هذا الجانب بالكامل تقريبًا، وتاركًا فيه مساحةً لا تكفي سوى دارٍ صغيرة
يسكنها عقيدٌ متقاعد يُدعى فارني، ويُقال إنَّه قعيد، ولم يُرَ خارجَ منزله قَط بالطبع.
وفي جانبٍ عموديٍّ على هذين البيتين، كان يوجد مَتجران أو ثلاثةٌ تُلبِّي أبسط احتياجاتِ
الذي كان السيد هارتوب، ،« بلو دراجون » القرية، وفي الزاوية بين الجانبين، كان يقع نُزُل
الغريب الوافد من لندن، يمكثُ فيه. وعلى الجانب المُقابل، كان يوجد ثلاثةُ بيوت؛ أحدها
استأجره الكونت دي لارا، والثاني استأجره الطبيب بيردوك، والثالث ما زال شاغرًا. أمَّا
الجانبُ الرابع، فكان يضم البنك وبيتًا مجاورًا يسكنه مدير البنك، وسياجًا مُحيطًا بقطعة
أرضٍمُرخَّصٍبالبناء عليها. وهكذا، كانوا مجموعةً مكتفيةً ذاتيٍّا ومنغلقة جدٍّا على نفسها،
ويبدو أنَّ الفراغ النسبي للأراضي الواسعة الشاغرة المحيطة بهم وطَّدَ العلاقات بينهم،
وجعل بعضَهم يزورُ بعضًا مرارًا وتكرارًا. وفي عصر ذلك اليوم، اقتحم أحدُ الغرباء هذه
الرفقة السحرية؛ كان رجلًا ذا وجهٍ نحيف وطويل وملامح مدبَّبة حادة وتلبُّداتٍ بغيضة
من الشعر تكسو حاجبَيْه وشاربه، وكان يرتدي ثيابًا رثَّة جدٍّا، لدرجة لا توحي بأنه مليونير
أو دوق مرموق (كما زُعم)، أتى لإبرام صفقةٍ مع جامعِ التُّحف المُسِن. لكنه كان يُعرف،
على الأقل في نُزُل بلو دراجون، بالسيد هارمر.
وكالعادة، روى له السيد سمارت أمجاد أسماكه الذهبية، والانتقادات التي يتعرَّض
لها بسبب عدم حفظِها في مأمن.
قال السيد سمارت، وهو يرفع حاجبَه مُشيحًا بنظَره من فوق كتفه إلى مدير مكتبه،
دائمًا ما ينصحني » : الذي كان يقفُ هناك ممسكًا ببعضالأوراق التي أحضَرها من المكتب
كان سمارت رجلًا مُسِنٍّاضئيلًا ذا وجهٍ «. الآخرون بأن أتحلَّى بمزيدٍ من الحرصفي حفظها
دائمًا ما ينصحني » : دائري وجسمٍ مستدير أشبه بِبَبْغاء أصلع بلا ريش. ثم أضافَ
جيمسون وهاريس والبقية بإغلاق الأبواب بالقضبان، كأنني أعيش في قلعةٍ من العصور
القديمة، مع أنني أظنُّ أنَّ هذه القضبانَ القديمة الصدئة البالية أقدَم من أن تمنعَ أيَّ
«. شخصمن الدخول؛ لذا أفضِّل الاعتماد على حُسن حظِّي والشرطة المحلية
ليسشَرطًا أنَّ أفضل القضبان هي التي تمنع الآخرين من الدخول، بل » : فقال الكونت
يتوقف الأمر على هويَّة من يحاول الدخول؛ إذ يُحكى أنَّ راهبًا هندوسيٍّا قديمًا، كان يعيش
أعزل في أحَدِ الكهوف، استطاع أن يتجاوز الجيوش الثلاثة التي كانت تُحيط بالحاكم
المغولي المتجبِّر ويسرِق الياقوتة الكبيرة من عِمامته، ويعود أدراجه سالمًا كطيفٍ خفيٍّ؛
«. وذلك لأنَّه أراد أن يُلقِّن الحاكمَ درسًا مفاده كم هي قاصرة قوانين المكان والزمان
إنَّ دراسة هذه القوانين القاصرة المتعلقة بالمكان » : وقال الطبيب بيردوك بنبرةٍ جادة
والزمان هي التي تُمكِّنُنا عادةً من كشف كيفيةِ تنفيذ هذه الحِيَل. لقد وضَّحَ العلمُ الغربيُّ
قدرًا كبيرًا من الغموض الشرقي. ولا شكَّ أنَّ الكثير من هذه الحِيَل الغامضة يُمكن أن
«. يُؤدَّى بالتنويم المغناطيسي والإيحاء، فضلًا عن خفة اليد
لم تكن الياقوتة في الخَيمة » : فقال الكونت بطريقةٍ توحي وكأنه يرى حُلمًا في منامه
«. الملكية، بل وجدها في وسط مائة خيمة
بدا السؤال أشدَّ «؟ أليس ممكنًا أن يُفسِّر التخاطُر كل ذلك » : فسأله الطبيب بحدة
حدةً؛ لأنَّه تُبِع بصمتٍ ثقيلٍ على النَّفس، كأنَّ الرحَّالة الشرقي البارز قد غفَا في لفتةٍ غير
مُهذَّبة تمامًا.
اعذرني. لقد نسيتُ أننا نتحاور بالكلمات؛ ففي » : ثم تيقَّظ بابتسامةٍ مفاجئة قائلًا
الشرق نتحاور بالأفكار؛ لذا لا نسيءُ فهمَ بعضنا بعضًا. من الغريب مدى تقديسِكم للكلمات
واقتناعكم بها. فما الفرق الذي سيطرأ على شيءٍ أصبحتم تُسمُّونه تخاطرًا، بعدما كُنتم
تسمُّونه سخافةً؟ وإذا صعد رجل إلى السماء على شجرةِ مانجو، فما الفرق الذي سيُحدثه
وَصفُ ذلك بأنَّه طفوٌ في الهواء بدلًا من وصفِه بأنَّه محضُ أكاذيب. ولو أتَتْ ساحرةٌ من
القرون الوسطى ولوَّحت بعَصاها ومسَخَتني قردَ رباحٍ أزرق، فهل ستصفون ذلك بأنَّه
«. مجرَّد عودة لأصلي
بدا الطبيب لوهلةٍ كأنَّه يَهُمُّ بالقول إنَّ ذلك لن يُحدِث فرقًا كبيرًا في النهاية، ولكن قبل
أن يُنفِّس عن انزعاجِه بهذا القول أو أيِّ قولٍ آخر، قاطعه الرجل المدعو هارمر بنبرةٍ فظَّة
خافتة، قائلًا:
صحيحٌ أنَّ هؤلاء المشعوذين الهنود يستطيعون فعلَ أشياء غريبة، لكنِّي ألاحظ أنهم »
عادةً ما يفعلونها في الهند؛ لذا ربما يكون لديهمشركاء متواطئون معهم، أو أنَّهم يستغلُّون
سيكولوجية الجماهير هناك ليس إلَّا. لا أظنُّ أن مثل هذه الحيل قد يُؤتَى بها أبدًا في قريةٍ
«. إنجليزية، وينبغي أن أقول إنَّ أسماك صديقِنا الذهبية في أمان تام
سأروي لكم قصةً لم تحدث في الهند، بل » : فقال الكونت دي لارا بلا أيِّ حراك كعادَتِه
وقعت خارجها في ثكنة إنجليزية في الجزء الأكثر حداثة من القاهرة. كان أحد الحراسواقفًا
عند بوابة حديديةٍ شبكية من جهة الثكنة ناظرًا بين قضبانها إلى الشارع. ثم ظهر خارج
البوابة متسولٌ حافي القدمين مرتديًا ثيابًا رثَّة محلية وسأل الحارس، بلهجةٍ إنجليزية
مميزة لبِقة إلى حدٍّ مُذهل، عن وثيقةٍ رسمية مُعيَّنة كانت محفوظةً داخل المبنى بهدف
ما » : حمايتِها. فقال له الحارس بالطبع إنَّه لا يُمكن أن يدخل، فأجاب الرجل مبتسمًا
وبينما كان الحارس ما زال يُحدِّق بازدراء عبر البوابة الشبكية «؟ الداخل وما الخارج
الحديدية، أدرك تدريجيٍّا أنَّه صار واقفًا في الشارع، مع أنَّه لم يتحرَّك لا هو ولا البوابة
قيدَ أنملة، وناظرًا من الخارج إلى ساحة الثكنة، حيث أصبح المتسول يقف مبتسمًا بلا
حراكٍ أيضًا. وبعد ذلك، حين اتجه المتسول نحو المبنى ليدخله، استعاد الحارس انتباهَه
مثلما فقده لحظيٍّا، وصاح مُحذِّرًا جميعَ الجنود داخل الثكنة المُحاطة بسياجٍ؛ ليُمسكوا
وحينئذٍ قال المتسوِّل «. لن تخرج من هناك مهما حدَث » : بهذا الرجل. ثم قال متوعِّدًا إيَّاه
وهنا رأَى الحارس، الذي كان لا يزال «؟ ما الخارج وما الداخل » : بنبرته اللبقة الواضحة
يُحدِّق عبر القضبان نفسِها، أنَّه أصبح واقفًا داخلَ الثكنة مرَّةً أخرى ووجد نفسه ناظرًا
«. إلى الشارع، حيث صار المتسول يقف مبتسمًا وممسكًا بالوثيقةِ في يده
في هذه الأثناء، كان السيد إيملاك سميث، مدير البنك، ينظر إلى السجادة حانيًا رأسَه
ذا الشعر الأملس الداكن إلى الأمام، وتحدَّث لأول مرة.
«؟ هل حدث أيشيءٍ بسببِ هذه الوثيقة » : قال متسائلًا
حدسك المهني في محلِّه يا سيدي. لقد كانت وثيقةً ذات » : فقال الكونت بدماثةٍ عابسة
«. أهمية مالية بالغة. وأسفرت عن عواقبَ دولية
«. آمل ألَّا تتكرَّر تلك الحوادث كثيرًا » : فقال الشاب هارتوب بكآبةٍ
لا علاقة لي بالجانب السياسي، بل بالفلسفي فقط. وهذه القصة » : فقال الكونت بهدوء
توضِّح كيف يمكن للإنسان الحكيم أن يقفَ خلف دفَّة الزمان والمكان ويديرها، إن جاز
التعبير، فنرى الدُّنيا كلها تدور أمامَ أعيننا. ولكن من الصعب عليكم أن تصدِّقوا أنَّ القُوى
«. الروحية أقوى من القُوى المادية
حسنًا، أعترف بأنني لستُ على درايةٍ كبيرةٍ بالقُوى » : فقال سمارت بنبرةٍ مرحة
«؟ الروحية. ما رأيُك فيما قيل أيُّها الأب براون
الاستنتاج الوحيد الذي خرجتُ به أنَّ جميع الأفعال » : فأجاب الكاهن الضئيلُ الحجم
الخارقة للطبيعةِ التي سمعناها حتى الآن تبدو كسَرقاتٍ. وأرى أنَّ السرقة بالطرق الرُّوحية
«. شأنها شأن السرقة بالطرق المادية
«. يبدو أنَّ الأب براون فلستيٌّ » : فقال سميث مبتسمًا
أتعاطف مع قبيلتِهم. فالفلستيُّ ليس سوى رجلٍ مُحقٍّ دون أن » : فقال الأب براون
«. يعرفَ السبب
«. كلُّ هذا الكلام يفوق مستوى ذَكائِي » : وهنا قال هارتوب بنبرةٍ صادقة
ربما تريد التحدُّثَ بدون كلمات، كما يقترح الكونت. » : فقال الأب براون بابتسامة
«. ولعلَّه حينئذٍ سيقولُ لاشيءَ بنبرةٍ حادة، فتردُّ عليه بانفعالٍ صامت
قد تُحدِث الموسيقى فَرقًا. ستكون أفضل من كل » : فهمهم الكونت كأنَّه في حُلم، قائلًا
«. هذه الكلمات
«. نعم، ربما أفهمها فهمًا أفضلَ » : فقال الشاب بصوتٍ خفيض
كان بويل يتابعُ المحادثة باهتمامٍ فضولي؛ لأنَّه كان يرى شيئًا ما جديرًا بالاهتمام، أو
غريبًا حتى، في سلوك أكثر من شخصٍبين المُتحدِّثين. ومع انجرافِ المحادثة إلى الموسيقى،
وطَلَبِ البعض من مدير البنك الأنيق (الذي كان عازفًا هاويًا على قَدرٍ من الجدارة) أن
يُطربَهم ببعضالمعزوفات، تنبَّه السكرتير الشابُّ فجأة إلى مهامِّ وظيفتِه، وذكَّر سيِّده بأنَّ
مدير مكتبه ما زال يقفُ صابرًا ممسكًا بالأوَراق.
آه، دَعك من ذلك الآن يا جيمسون. إنَّه مجرَّد شيءٍ يتعلق » : فسرعان ما قال سمارت
بحسابي البنكي، سأبحثه مع السيد سميث لاحِقًا. كنتَ تقولُ يا سيد سميث إنَّ آلة
«… التشيلو
غير أنَّ نفَحات الحديث الفاترة عن العمل كانتْ كافيةً لإخماد حرارة النقاشالفلسفي
الروحاني، وبدأ الضيوف يغادرون واحدًا تلوَ الآخر. وكان السيد إيملاك سميث، مديرُ
البنك والعازف، هو الوحيد الذي بقيَ حتى النهاية، وحين غادر البقيَّة، دخل مع مُضيفه
الغرفة الداخلية، التي يحتفظ فيها بالأسماك الذهبية، وأغلقَ الباب.
كان المنزل طويلًا وضيِّقًا، ويحتوي علىشرفة مغطَّاة بستائر من الخارج تمتد بطول
الطابق الأول، الذي كانت أغلبُ مساحتِه تتكوَّن من غرفٍ يستخدمها صاحبُ المنزل نفسه:
غرفة نومه وغرفة تبديل الملابس وغرفة داخلية كان أحيانًا ما يحفظ فيها كنوزه النفيسة
ليلًا، بدلًا من تركِها في غرف الطابق السفلي. وكانت هذه الشرفة، مثلها مثل الباب غير
الموصد كما ينبغي في الطابق الأسفل، مثارَ قلق لمدبِّرة المنزل ومدير المكتب والخدام الآخرين
الذين كانوا ينتحبون على لامبالاة سيِّدِهم، ولكن في الحقيقة، كان هذا الرجل المُسِن الداهية
أشدَّ حذرًا ممَّا بدا عليه. صحيحٌ أنَّه أبدى عدمَ اعتماده على الأقفال وقضبان الإيصاد، التي
تحسَّرت مديرة المنزل على رؤية الصدأ يَعتليها بسبب تركِها بلا استخدام، لكنَّه كان يُركِّز
على الاستراتيجية الأهم؛ إذ دائمًا ما كان يضع أسماكَه الذهبية المفضلة لديه في الغرفة
التي تقع وراءَ غرفة نومه طوال الليل، وكان ينام أمامَها، إن جاز التعبير، واضعًا مُسدسًا
تحت وسادتِه. وبينما كان بويل وجيمسون في انتظار خروجِه من حواره الثنائي مع السيد
سميث، رأَيَا الباب يُفتَح أخيرًا وسيِّدهما يخرج منه حاملًا الوعاء الزجاجي الكبير بإجلال
شديد، كأنَّه يحتوي على رُفات قِدِّيس.
وفي خارج المنزل، كانت حواف الغروبِ الأخيرة ما زالت متشبثة بأركانِ المرج المربع،
أمَّا في داخله، فكان أحد المصابيح قد أشُعِل بالفعل، وفي ظلِّ امتزاج الضوءَين معًا، كان
الوعاء الكروي يبدو متوهِّجًا كجوهرةٍضخمة، وبدا أنَّ الأشكالَ الخارجية للأسماك اللامعة
كألسنة اللهب تُضفي عليه غموضًا أشبهَ بغموض الطلاسم، مثل الأشكال الغريبة التي
يراها العرَّافون في بلَّورة المصير. ومن فوق كتفِ الرجل المُسِن، كان وجه السيد إيملاك
سميث ذو السمرة الخفيفة يُحدِّق كأحدِ تماثيل أبي الهول.
إنني ذاهبٌ إلى لندن الليلة، يا سيد » : قال سمارت المُسِن بجديةٍ أكبر ممَّا يُبديها عادةً
بويل. سأستقلُّ أنا والسيد سميث قطارَ الساعة السابعة إلَّا الربع مساء. من الأفضل أن
تنام في غرفتي بالطابق العُلوي الليلة يا جيمسون؛ وإذا وضعتَ الوعاء في الغرفة الخلفية
«. كالمعتاد، فسيكون آمنًا تمامًا حينئذ. لا أظنُّ أن أيَّشيء يمكن أن يحدث
قد يحدُث أي شيء في أي مكان. أظنُّ أنَّك عادةً ما تنام » : فقال السيد سميث مبتسمًا
«. واضعًا مُسدسًا تحت وسادتِك. ربما يُستحسن أن تتركَه هنا في هذه الحالة
لم يردَّ بيريجرين سمارت، وخرَجَا من المنزل نحو الطريق المحيط بالمرج القَديم.
نام السكرتير ومدير المكتب في تلك الليلة في غرفةِ نوم سيِّدِهما حسَب توجيهاته. وإذا
أردنا الدقة، فقد نام جيمسون، مدير المكتب، في سريرٍ بغرفةِ تبديل الملابس، لكنَّ الباب
بين الغرفتين كان مفتوحًا؛ لذا كانت الغرفتان، اللتان تمتدَّان بطولِ الجزء الأمامي من
ذلك الطابق، بمثابة غرفةٍ واحدة. باستثناء أنَّ غرفة النوم كانت تحتوي على نافذةٍ فرنسية
طويلة تطلُّ على الشرفة، وبابٍ في الجزء الخلفي منها يؤدِّي إلى الغرفة الداخلية، حيث كان
وعاء الأسماك الذهبية يُوضَع حفاظًا عليه من السَّرِقة. وقَد جَرَّ بويل سريره واضعًا إيَّاه
بعرضهذا الباب ليُغلقَه، ووضع المسدس تحت وسادته، ثم خلع ملابسَه وخَلَد إلى النوم،
ظنٍّا منه بأنَّه اتخذ جميعَ الاحتياطات الممكنة ضدَّ حدثٍ مستحيل أو مستبعد في الأساس؛
إذ لم يكن يرى سببًا يجعله يخشى احتماليةَ وقوع سرقة عاديَّة، وأمَّا بخصوصالسرقات
بالطرق الروحية التي وردت في حكايات الرحَّالة التيسردها الكونت دي لارا، فقَد جالتْ في
خاطرهسريعًا قُبيل النوم مباشرةً؛ لأنَّها كانت كالأحداث التي تظهر في الأحلام، ثمسرعان
ما تحوَّلت تلك الأفكار إلى أحلامٍ متقطِّعة بينها فترات سُبات بلا أحلام. أمَّا مدير المكتب
المُسِن، فكان أشدَّ قلقًا قليلًا كالعادة، ولكن بعدما ظلَّ يتذمَّر وقتًا أطولَ قليلًا، ويُكرِّر
تحسُّراته وتحذيراته المعتادة، استلقى على فراشِه كذلك ونام. وفي هذه الأثناء، سَطَع القمر
وخفَتَ مرَّةً أخرى فوق المرج المربع والكتل الرمادية للمنازل في عزلةٍ وصمت كأنْ لم يرَه
أحد، وحين ظهرت شقوق الفجر البيضاء في زوايا السماء الرمادية بالفِعل، كان ما يخشاه
الجميع قَد وقع.
كان بويل بطبيعة الحال أفضلَ صحَّةً وأثقل نومًا بين الاثنين؛ لأنَّه شاب. ومع أنَّه
يُصبِح نشيطًا بالقدر الكافي عندما يستيقظ، إلا أنه دائمًا ما يستيقظ بصعوبةٍ كأنَّه يرفع
ثقلًا من فوقه. وعلاوةً على ذلك، كان يرى في منامه أحلامًا من ذلك النوع الذي يتشبَّثُ
بالعقول الشابة كأذرُع الأخطبوط القاتمة. وقد كانت أحلامه في تلك الليلة مزيجًا من عدَّة
أشياء، من بينها نظرته الأخيرة من الشرفة نحو الطرق الرمادية الأربعة والمرج القديم، لكنَّ
نمطها تغيَّر وتبدَّل ولفَّ على نحوٍ مثير للدوار، بينما صَدَر صوتٌ مُصاحِب لأزيزٍ خافتٍ
بدا بطريقةٍ ما كأنَّه خرير نهرٍ جوفي، وربما لم يكُنْ سوى صوت شخير السيد جيمسون
في غرفة تبديل الملابس، ولكن في ذهن الحالم، كانت كلُّ هذه الحركة والأصوات الخافتة
المُبهمة مرتبطة ارتباطًا بكلِمات الكونت دي لارا عن الحِكمة التي يُمكن أن تُمسك دفَّة
الزمان والمكان وتُدير الدُّنيا برُمَّتها؛ إذ بدا في الحلم كأنَّ آلةً ضخمة، تُصدِر أزيزًا وتحمل
الدُّنيا من أسفلها، وتنقل مناظر طبيعيةً كاملة في أماكن مختلفة، فتَظْهر أقصى أطراف
الكرة الأرضية في حديقة أحدِ المنازل، أو تُنفى هذه الحديقة إلى ما وراء البحار.
كانت الانطباعات الكاملة الأولى التي وصلَتْه من بينتلك الأصوات كلمات أغنية بنغماتٍ
مُصاحِبة خفيضة رنَّانة نوعًا ما، ولُكْنةٍ أجنبية وصوتٍ ما زال غريبًا، لكنَّه مألوفٌ قليلًا.
غير أنَّه لم يكنْ متيقِّنًا من أنَّه لم يكن ينظِم شِعرًا في أثناء نومه.
فوق البرِّ والبحار الغامرة،
ستأتيني أسماكي الطائرة؛
لأنَّ الصوت ليس من الدُّنيا التي تَبعَثُ فيها الحياة،
ولكن في …
ثم نهض من فراشِه بصعوبة، ورأى أنَّ زميله الآخر في حراسة المقتنيات النفيسة،
جيمسون، لم يكنْ في فراشه، بل كان ينظر من النافذة الطويلة المُطِلَّة على الشرفة، وينادي
شخصًا في الشارع بصوتٍ حاد.
«؟ من أنت؟ ماذا تريد » : كان يصيح بحدة قائلًا
ثَمَّ شخصٌيحوم خلسةً حول المنزل. كنت أعرفُ » : ثم التفتَ إلى بويل منفعلًا، وقال
«. أنَّ هذا الوضع ليس آمنًا. سأنزل لأوُصدَ هذا الباب الأمامي بالقضبان، وليكن ما يكون
وركضإلى الطابق السفلي مُهتاجًا، ثم سمع بويل قعقعةَ القضبان على الباب الأمامي،
فيما خرج بويل نفسه إلى الشُّرفة، ونظر إلى الطريق الرمادي الطويل المؤدي إلى المنزل،
وكان يظنُّ أنَّه ما زال يحلُم.
فعلى هذا الطريق الرمادي المؤدي إلى الجانب الآخر من هذه الأرضالبور الشاغرة عَبر
تلك القرية الإنجليزية الصغيرة، ظهَرَ شخصٌربما بَدَا خارجًا مُباشرةً من الأدغال أو سوقٍ
ومع .« ألف ليلة وليلة » شرقية، شخصٌكأبطال إحدى قصصالكونت العجيبة، أو قصصِ
قدوم الضوء من جهة الشرق، انقشع شفَقُ الفجر الرمادي الموحِش، الذي بدأ في إظهار كل
شيءٍ ولكن بلونٍ مشوَّه، تدريجيٍّا كأنَّه وشاحٌ رماديٌّ أزُيح من فوق هذا الشخص، وأظهَر
أنَّه متَّشحٌ بثيابٍ أجنبية غريبة؛ إذ كان مُلفَّعًا بوشاحٍ كبير فضفاضٍ غريب بلون زرقة
البحر كان ملتفٍّا حول رأسه كعمامةٍ ثم حَول ذقنه، مما أوحَى بأنَّه قلنسوة؛ ونظرًا لأنَّ
الوجه هو أهم ما يجب إخفاؤُه، فقد كان مخفيٍّا بقِناع. أمَّا الثياب التي كانت ملفوفةً حول
الرأس فكانت مُلتفَّةً بإحكام كحجاب، فيما كان الرأس نفسه مُنحنِيًا على آلة موسيقيةٍ
غريبة المظهر مصنُوعة من الفِضة أو الحديد الصلب أشبه بآلة كمانٍ مشوَّهة أو ملتَوِية.
وكان يعزف عليها بأداةٍ أشبه بمُشط فضي، بينما كانت نغماتها رقيقةً وحادَّة بغرابة.
وقبل أن ينبس بويل ببنتِ شفةٍ، سمع اللكنة الأجنبية المؤرِّقة نفسها من تحت ظلِّ الثياب
ذات القلنسوة تشدو بأغنيةٍ مُشابهة:
كما تعود إلى الشجرةِ الطيورُ الذهبية،
ستعودُ إليَّ أسماكي الذهبية.
عودي …
«. ليس من حقِّكشيءٌ هنا » : فصاح بويل في سخطٍ، وهو لا يكاد يعي ما يقوله
فقال الغريب، متحدثًا كأنَّه الملك سليمان وليس بدويٍّا حافيًا مُلفَّعًا بعباءَةٍ زرقاء رثَّة:
«! بل من حقِّي الأسماك الذهبية. وستأتي إليَّ. تعالَي »
ثم عَزَف على كمانه الغريبة، بينما ارتفعَ صوته بحدَّةٍ في هذه الكلمة الأخيرة. كان
صوته واخزًا كأنَّه يخترقُ العقل، ثم سُمِع صوتٌ خافت كأنَّه يردُّ عليه، صوتُ همسةٍ رنَّانة
أتى من الغرفة الداخلية المُعتمة التي كانت تحتوي على وعاءِ الأسماك الذهبية.
فالتفت بويل نحوها، وبينما كان يلتفت، تحوَّل الصدَى فيها إلى صوتٍ واخز طويل
كصوت جرسكهربائي، ثم إلىصوتِ تحطُّمٍ طفيف. حدث ذلك في غضون ثوانٍ منصِياحه
في الرجل من الشُّرفة، لكنَّ مدير المكتب المُسِن كان قد عاد إلى قمَّة الدَّرَج بالفعل، وكان
يلهث قليلًا بسبب تقدُّمه في السن.
«. لقد أغلقتُ البابَ على أي حال » : قال
أغلقتَ بابَ حظيرة الخيل بعد فوات » : فقال بويل من وسط عتمة الغرفة الداخلية
«. الأوان
ثم تبعه جيمسون إلى تلك الغرفة ووجده يُحدِّق إلى الأرض، التي كانت مغطَّاةً ببقايا
زجاج ملون مبعثرة كفتاتٍ، منحنية من قوسِ مطر مكسور.
«؟ ما الذي قصدتَه بباب حظيرة الخيل » : فقال جيمسون
أعني أنَّ الجوادسُرِق. الجواد الطائر. أقصد الأسماكَ الطائرة التيصفَّر » : أجاب بويل
«. لها الرجل العربيُّ الواقف بالخارج للتوِّ كالجِراء المُدرَّبة على أداءِ عُروض
ولكن كيف استطاع » : فانفعل مدير المكتب المُسِن، مبديًا استغرابه مما حدث قائلًا
«؟ ذلك
حسنًا، لقد اختفتِ الأسماك. ها هو الوعاء المكسور، الذي كان » : فقال بويل بإيجاز
فَتْحُه بالطريقة الصحيحة سيستغرق وقتًا طويلًا، بينما لم يستغرقْ تحطيمه سوى ثانيةٍ
واحدة، لكنَّ الأسماك اختفت، ولله وحده أعلم بكيفية حدوثِ ذلك، مع أنني أظنُّ أنَّ هذا
«. الرجل الذي كان واقفًا بالخارج يجبُ أن يُسأل عن ذلك
«. إننا نُضيِّع الوقت. يجب أن نلحَق به حالًا » : فقال جيمسون المتحيِّر
من الأفضل الاتصالُ بالشرطة في الحال. يجب أن يسبقوه ويُمسكوا به » : أجاب بويل
بفضل سيَّاراتهم وهواتِفهم التي ستَصِل إلى مَدًى أبعد بكثير ممَّا سنصل إليه إذا ركَضْنا في
أنحاء القرية بثياب النوم، ولكن ربما توجد بعضُالأشياء التي لا تستطيع سيارات الشرطة
«. وكابلات هواتفِهم أن تتفوَّق عليها
وبينما كان جيمسون يتحدث إلى قسم الشرطة هاتفيٍّا بصوتٍ مضطرب، ذهب بويل
مرَّة أخرى إلى الشرفة، وتفقَّد مشهد الفجر الطبيعي الرماديسريعًا بعينيه. لم يرَ أيَّ أثرٍ
للرجل ذي العمامة، ولا أيَّ علامة أخرى على الحياة، باستثناء بعض التحرُّكاتِ الطفيفة
التي ربما كان سيَعرف ماهيَّتَها لو كان خبيرًا. ولأول مرة، فطن « بلو دراجون » في نُزُل
بويل إلى شيءٍ كان يراه دون انتباهٍ بعقله اللاواعي طوالَ الوقت. كان هذا الشيء كحقيقةٍ
تُصارِع في عقله اللاواعي من أجل إبراز نفسِها وتطلُب تَفسيرًا لها، حقيقةٍ مفادُها أنَّ
المشهد الطبيعي الرمادي لم يكن رماديٍّا بالكامل قَطُّ، بل كان يحتوي على بُقعةٍ ذهبية؛
مصباح مضاء في أحد البيوت على الجانب الآخر من المَرج القديم. وحينئذٍ، أوحَى إليهشيءٌ
ما، ربما غير منطقي، بأنَّ هذا المصباح كان مضاءً طوال ساعات الليل، ولم يتضاءلضوءُه
إلَّا مع سطوع ضوء الفجر. ثم عَدَّ البيوت، وتوصَّل إلى نتيجةٍ يبدو أنها تتناسبُ مع شيءٍ
ما، لكنَّه لم يعرفه. على أي حال، كان واضحًا أن هذا البيت هو بيت الكونت إيفون دي لارا.
ثم وصل المُحقِّق بينر بصحبة العديد من رجال الشرطة، واتَّخذَ عدة إجراءاتٍسريعة
وحازمة، مُدركًا أنَّ سخافة المجوهرات الباهظة الثمن في حد ذاتها قد تجعل القضية تحتلُّ
عناوين الصحف الرئيسية؛ إذ فحص كل شيء، وقاسَ كل شيء، ودوَّن أقوال الجميع،
وأخذ بصماتهم، ووضع خططًا احتياطية، ووجد نفسه في النهاية أمام حقيقةٍ لا يستطيع
تصديقها، حقيقةٍ مفادها أنَّ رجلًا عربيٍّا بدويٍّا سار على الطريق العام، وتوقف أمام منزل
السيد بيريجرين سمارت، حيث كان وعاءٌ من الأسماك الذهبية الاصطناعية محفوظًا في
غرفة داخلية، ثم غنَّى أغنية أو ألقى قصيدة صغيرةً، فانفجر الوعاء كالقنبلة وطارتِ
الأسماك في الهواء. ولم يُهدِّئ المُحقِّق ما سمعه من الكونت الأجنبي الذي قالَ له، بصوتٍ
خافت كخرير الماء، إنَّ حدود تجاربه الحياتية تستوعب حدوث ذلك.
وفي الواقع، كان سلوك كل عضوٍ في الرفقة الصغيرة مميَّزًا؛ إذ عاد بيريجرين سمارت
نفسُه من لندن في صبيحة اليوم التالي ليسمع خبرَ فقدان أسماكه الذهبية. وبالطبع اعترف
بشعوره بصدمةٍ، لكنَّها كانت تحمل سمات شجاعة واعتدال لدى الرجل المُسِن الضئيل،
وهذا طابعٌ دائمًا ما جعل هيئته الضئيلة المتبخترة تبدو كهيئة عُصفورٍ؛ لأنَّه أبدى حيويةً
في البحث عن ضالَّته أكبر من اكتئابه عند فُقدانها. أمَّا الرجل المدعو هارمر، الذي جاء إلى
القرية من أجلشراء الأسماك الذهبية، فقد صار غاضبًا نوعًا ما حين علم بسرقتها، وربما
يكون معذورًا في ذلك، ولكن في الحقيقة، بدا أنَّ شعر شاربه وحاجبيه الكث، ينتفضُبشيءٍ
أشد عزمًا من خيبة الأمل، فيما ظلَّ يتفرَّسسريعًا في بقية أفراد هذه الرفقة بعينيه اللتين
كانتا تُشعَّان يقظةً تكاد تكون شكٍّا. وبدا أنَّ وجه مدير البنك الشاحب، الذي عاد أيضًا من
لندن على متن قطارٍ لاحق، قد اجتذبَ هاتين العينين المُشِعَّتين المتنقِّلتين بين وجوه الجميع
كالمغناطيس. أمَّا الفردان المتبقيان من الرُّفقة الأصلية، فكان الأب براون صامتًا في العموم
إلَّا حين يخاطبه أحدُهم، فيما كان هارتوب المذهول صامتًا في أغلب الأحيان حتى حين كان
أحدُهم يخاطبه.
لكنَّ الكونت لم يكن يسمح بمرور أيِّ شيء يعطي آراءَه أفضليةً ظاهرية دون أن
يستغله؛ إذ ابتسم في وجه غريمه العقلاني، الطبيب، ابتسامةَ شخصٍ يعرف كيف يمكن
أن يُزعج الآخرين بتملُّقهم.
لعلَّك ستعترف أيُّها الطبيب بأنَّ بعض القصص التي كنتَ تظنُّها مستبعدةً » : وقال
جدٍّا، على الأقل، تبدو أوقع اليوم ممَّا كانت عليه بالأمس؛ فحين يتمكَّن رجلٌ ذو ثيابٍ رثَّة،
كأولئك الذين وصَفْتهم، من تحطيم وعاء زجاجي داخل الجدران الأربعة للمَنزل الذي يقف
خارجه بنُطق كلمةٍ واحدة، فربما يمكنُ أن يُعدَّ مثالًا لما قلتُه عن القُوى الروحية والحواجز
«. المادية
ويمكن كذلك أن يُعَدَّ مثالًا لما قلتُه أنا عن أنَّ القليل من المعرفة » : فقال الطبيب بحدة
«. العلمية يكفي لتوضيح كيفيَّةِ الإتيان بمثل هذه الحيل
هل تقصد حقٍّا أيها الطبيب أنَّك تستطيعُ » : فسأله سمارت بنبرةٍ تحمل بعضالإثارة
«. إماطة اللثام عن هذا اللغز بأيِّ تفسير علمي
يمكنني توضيح ما يسميه الكونت لغزًا؛ لأنَّه ليس لغزًا على الإطلاق. » : فقال الطبيب
وهذا الجزء منه واضحٌ جدٍّا. فالصوت ليس سوى موجةٍ من الاهتزازات، ويُمكن لبعض
الاهتزازات كسر الزجاج، إذا كان الصوت ذا ترددٍ معين وكان الزجاج من نوعٍ معين؛
فالرجل لم يقف وسط الشارع ويُفكِّر، مثلما يُخبِرنا الكونت بأنَّ التفكير هو الطريقة المثلى
التي يتبعها الشرقيُّون حين يريدون إجراء محادثة قصيرة، بل غنَّى ما أراد، بصوت عالٍ،
وعزف معزوفةً صاخبة على آلة موسيقية. وهذا مشابهٌ للعديدِ من التجارب التي تشهد
«. تصدُّعَ زجاجٍ ذي تكوينٍ خاص
مشابه لتلك التجربة التي شهدت اختفاء عدة مصنوعاتٍ » : فقال الكونت باستخفاف
«. كبيرة من الذهب الخالصفجأة
وهنا يأتي دور المُحقِّق بينر. لا أخُفيكمسرٍّا أنني أعتقد أنَّه سيعتبرُ » : فيما قال بويل
التفسير الطبيعي الذي ذكره الطبيب قصةً خرافية، تمامًا كالخرافة التي سردَها الكونت.
«. ففِكْر السيد بينر متشكِّكٌ جدٍّا، لا سيما تجاهي. أظنُّ أنني موضع شك
«. أظنُّ أننا جميعًا موضعُ شك » : فقال الكونت
كان شعور بويل بأنَّه موضعُ شكٍّ هو الذي دفعه إلى طلَبِ المشورة الشخصية من الأب
براون. وكانا يسيران معًا حول المرج القديم، بعد ذلك ببضع ساعاتٍ في اليوم نفسه، حين
توقَّف القسُّ، الذي كان يُحدِّق إلى الأرض عابسًا بتفكيرٍ عميق في أثناء إنصاتِه إلى بويل،
فجأة.
هل ترى ذلك؟ يبدو أنَّ شخصًا ما كان يمسح الرصيفَ هنا، فقط هذه » : وسأل
القطعة الصغيرة من الرصيف خارج منزل العقيد فارني. أتساءل عمَّا إذا كان ذلك قد
«. حدث أمس
ثم نظر الأب براون بجديةٍ نوعًا ما إلى المنزل، الذي كان عاليًا وضيِّقًا، ويحتوي على
صفوفٍ من ستائرَ مخططة ذات ألوانٍ فاقعة، لكنَّها أصبحت باهتةً بالفعل، فيما بَدَت
الفتحات أو الفراغات الموجودة بينها التي تُعطي لمحةً عن منظر البيت من الداخل أشدَّ
قتامة، وفي الواقع، بدت شبهَ سوداء بالنسبة إلى الواجهة التي كانت تبدو ذهبيةً في ضَوء
الصباح.
هذا بيت العقيد فارني، أليس كذلك؟ أظنُّ أنَّه وافدٌ من الشَّرق » : سأل الأب براون
«؟ أيضًا. أيُّ نوعٍ من الرجال هو
لم أرَه قط. ولا أظنُّ أنَّ أيَّ شخصٍ رآه، باستثناء الطبيب بيردوك، » : فأجاب بويل
«. وأتصوَّرُ حتى إنَّ الطبيب لا يراه إلَّا حسبَ حاجته
«. حسنًا، سأذهب وأقابله لدقيقة » : فقال الأب براون
فُتِح الباب الأمامي الكبير وابتلع القسَّالقصير داخلَ البيت، فيما وقفصديقه يُحدِّق
إليه بذهولٍ وبلاهةٍ، كأنَّه يتساءل عمَّا إذا كان سيظلُّ مغلقًا إلى الأبد. وبعد ذلك ببضعِ
دقائق، فُتِح الباب مرة أخرى، وظهر الأب براون وهو ما زال مبتسمًا، وواصل سيره البطيء
المتسكع على الطريق المحيط بالمرج القديم. وبدا في بعضالأحيانِ كأنَّه نسي القضية التي
كانا يناقشانها؛ لأنَّه كان يُدلي بملاحظات عابرة عن قضايا تاريخية واجتماعية، أو آفاق
التنمية في المنطقة. وتحدَّث عن قطعة الأرض التي استخدَمَها البنك لإنشاء طريقٍ جديد،
ونظر إلى المرج القديم بتعبيرٍ غامض، قائلًا:
هذه أرضٌ مشتركة ذات ملكيَّةٍ جماعية. أظنُّ أنَّ السكان يجب أن يستخدموها »
لإطعام خنازيرهم وإوزِّهم من أعشابها، إذا كان لديهم أي خنازير أو إوز، ولكن يبدو في
الواقع أنَّها لا تُطعِم سوى بعض نباتات القراص والنباتات الشائكة. من المؤسِف أنَّ ما
كان من المفترض أن يكون مرجًا أخضر كبيرًا صار أرضًا بائرةً صغيرة بلا أهمية. هذا
«؟ منزل الطبيب بيردوك الواقع أمامنا على الجهة المقابلة، أليس كذلك
«. بلى » : فأجاب بويل بنبرةٍ توحي بسعادته بهذا السؤالِ المفاجئ
«. حسنًا، أعتقد أننا سنعود إلى الداخلِ مرة أخرى » : فقال الأب براون
وبينما كانا يفتحان الباب الأمامي لمنزل سمارت ويَصعدان الدرج، كرَّر بويل لرفيقِه
العديد من تفاصيل الحادث الذي وقَع في المنزل فجر اليوم.
أفترضُ أنَّك لم تَغفُ مرةً أخرى، أليس كذلك؟ وبذلك لم تمنح » : فسأله الأب براون
«. شخصًا ما الوقت لصعود الشرفة بينما ركضَجيمسون لإغلاق الباب
كلَّا. وأنا متيقِّنٌ من ذلك. استيقظتُ لأسمع جيمسون يصيح في الرجل » : فأجاب بويل
الغريب من الشرفة، ثم سمعته يركضُ نحو الطابق السفلي ويضع القضبانَ على الباب،
«. وبعدها نهضتُ مسرعًا إلى الشرفة بنفسي في خطوتَيْن فقط
أم أنَّه استطاع التسلُّل إلى البيت من مكانٍ آخر؟ هل توجد مداخلُ » : فسأله القس
«؟ أخرى غير المدخل الأمامي
«. لا يوجد على ما يبدو » : فقال بويل بجدية
ثم «؟ من الأفضل أن أتيقَّنَ بنفسي، ألا تظن ذلك » : فسأله الأب براون بنبرةٍ اعتذارية
اتَّجه بهدوء إلى الطابق السفلي مرَّة أخرى. فيما بقِيَ بويل في غرفة النوم الأمامية يُحدِّق
إليه بارتياب. وبعد برهةٍ قصيرة نسبيٍّا، ظهر وجه القس المستدير ذو القسمات الرِّيفية
نوعًا ما مرَّة أخرى عند أعلى الدرج، وبدا كأنَّه شبحٌ مرسومٌ على ثمرةِ لِفتٍ مع ابتسامةٍ
عريضة.
يا إلهي! أظنُّ أنَّ ذلك يكشفُ غموضمسألة المداخل. والآن » : قال القسُّبنبرةٍ مبتهجة
بعدما وضعنا أيدينا على كلِّ الخيوط، إن جاز التعبير، أظنُّ أننا نستطيع تقييمَ ما لدينا.
«. إنها قضية غريبة نوعًا ما
هل تظنُّ أنَّ الكونت أو العقيد، أو أيٍّا من هؤلاء الرحَّالة الشرقيين لهم » : فسأله بويل
«؟ علاقة بذلك؟ هل تظنُّ أنَّ ما حدث كان خارقًا للطَّبيعة
سأتنازل وأقرُّ بذلك، إذا كان الكونت، أو العقيد، أو أيٌّ من جيرانكم » : فقال القسُّ
قد تنكَّر بملابس عربيةٍ وتسلل إلى هذا المنزل في الظلام؛ حينئذٍ سيكون ما حدث خارقًا
«. للطبيعة
«؟ ماذا تقصد؟ لماذا » : فسأله بويل
لأنَّ الرجل العربي لم يترك وراءَه آثارَ أقدام. وبيتكم محاطٌ ببيتِ » : أجاب الأب براون
العقيد من جهة وبيت مدير البنك من جهةٍ أخرى، إذ إنَّهما أقرب جيرانكم. وتلك الأرضذات
التربة الحمراء الرِّخوة بينكم وبين البنك كانت ستنسخ آثار أقدام حافية كقوالب جصِّيَّة،
وربما كانت ستُخلِّف علاماتٍ حمراء في كل مكان. وقد تحمَّلتُ مزاج العقيد الحاد مثل
توابل الكاري الهندية؛ كي أتحقَّقَ من أنَّ الرصيف الأمامي مُسِح يوم أمس وليس اليوم،
أي إنَّه كان مبتلٍّا بما يكفي ليُخلِّف آثارَ أقدام مبلَّلة على طول الطريق. أمَّا إذا كان هذا
الزائر هو الكونت أو الطبيب الذي يعيش في الجهة المقابلة، فربما كان سيصل إلى منزلِكم
عبر هذا المرج المشترك بالطبع، ولكن لا بد أنَّه كان سيجدُ السير فيه بقدمين حافيتين غير
مُريحٍ على الإطلاق؛ لأنَّه، كما قلتُ سلفًا، بمثابة كُتلةٍ واحدة من النباتات الشائكة ونباتات
القرَّاصاللاذع؛ لذا فمن المؤكد أنَّه كان سيتعرَّضللوَخْز، وربما كان سيترك آثارًا لهذا؛ إلَّا
«. إذا كان كائنًا خرافيٍّا، كما تقول
حدَّق بويل إلى وجهِ صديقه القس الرزين المُبهَم.
«؟ هل تقصدُ أنَّه كان كذلك » : ثم سأله أخيرًا
ثمة حقيقة عامَّة جديرة بالذكر هنا. فأحيانًا » : فقال الأب براون بعد سكوتٍ لحظي
ما يكون الشيء أقرب من أن يُرى، مثلما لا يستطيع الرجل رؤيةَ نفسه على سبيل المثال.
يوجد رجلٌ كانت تقف على عينه ذبابةٌ حين كان ينظرُ عبر الِمقراب، فظنَّ أنَّه اكتشف وجود
تِنِّينٍ لا يُصدَّق على سَطح القمر. وقد قيل لي ذات مرةٍ: إنَّ الرجل إذا سمع نسخةً طبقَ
الأصل من صوته، سيظنه صوتًا غريبًا. وعلى هذا المنوال، فإذا كان يوجدُ أيُّ شيءٍ أمام
أعيننا مباشرة طوال الوقت، فإننا لا نكادُ نراه، وإذا رأيناه، فربما سنظنُّ أنَّه غريب تمامًا.
وإذا ابتعد هذا الشيء ليُصبِحَ على بُعدٍ متوسطٍ منَّا، فربما سنحسبُ أنَّه أتى من بعيد. تعالَ
معي خارج المنزل مُجدَّدًا لحظةً واحدة. أريد أن أبُين لك كيف يبدو ذلك من وجهة نظرٍ
«. أخرى
كان القس قد نهض بالفعل، وبينما كانا ينزلان على الدرج، واصل تعليقاته بنبرةٍ
تتحسَّس الكلمات، كأنَّه كان يُفكِّر بصوتٍ عالٍ.
سنحتاج هنا إلى الاستعانة بالكونت والجوِّ العام الآسيوي؛ لأنَّ كلشيءٍ في مثل » : قال
هذه القضية يَعتمد على تهيئة العقل؛ إذ يمكن للمرء أن يصلَ إلى حالةٍ لو سقطت فيها لبنةٌ
على رأسه، لظنَّها لبنةً بابلية عليها نقوشٌ مسمارية ساقطةٌ عليه من حدائق بابل المعلَّقة،
فلا ينظر أبدًا إليها حتى، ولا يكتشف أنَّها مجرد لبنة من تلك التي شُيِّد بها بيتُه؛ لذا ففي
«… حالتك هذه
ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني هذا » : فقاطعه بويل وهو يُحدِّق ويشير إلى الباب الأمامي
«. بحقِّ السماء؟ البابُ موصدٌ بالقضبان مرَّة أخرى
كان يُحدِّق إلى الباب الأمامي الذي دلفا منه قبل قليل، لكنَّه وجده موصدًا مرَّة أخرى
بقضبان الحديد السوداء الكبيرة الصَّدئة، التي وصفها سلفًا في فجر اليوم بأنَّها أوصدت
الباب بعد فوات الأوان. كان ثَمَّشيءٌ مثيرٌ لسخريةٍ غامضة وصامتة في انغلاق تلك القضبان
الموصدة خلفهما وحبسهما، كأنَّها تحرَّكت من تلقاء نفسها.
آه، هذه القضبان! لقد وضعتُها على الباب بنفسي » : فقال الأب براون بعدم اكتراث
«؟ للتو. ألم تسمعني
«. نعم، لم أسمعْ شيئًا » : أجاب بويل فاغرًا عينيه
حسنًا، ظننتُ أنَّك لن تسمع ذلك؛ إذ لا يوجد أي سبب يجعل أي » : فقال الآخر بهدوء
شخصٍفي الطابق العلوي يسمعصوت إيصاد الباب بهذه القضبان؛ لأنَّ خُطافاتها تنساب
بسلاسةٍ في التجاويف المخصَّصة لها. وحتَّى حين تكون قريبًا جدٍّا إليها، فلن تسمع سوى
طقطقةٍ خفيفة. أمَّا الشيء الوحيد الذي سيُصدِر صوتًا يُمكن أن يسمعَه مَن في الطابق
«. العلوي هو هذا
نزع القسُّ القضيب من التجويف المخصَّص له، وتركه يسقط بجوار الباب مُحدثًا
إنها تُحدِث قعقعةً حين تنزعُها عن الباب، حتى لو فعلتَ ذلك » : قعقعة ثم قالَ بجدية
«. بحرصٍشديد
«… أتقصدُ »
أقصدُ أنَّ ما سمعته حين كُنتَ في الطابق العلوي كان صوتَ » : قال الأب براون
القضبان وجيمسون ينزعها عن الباب، وليس وهو يوصدُه بها. والآن، دعنا نفتح الباب
«. بأنفسنا ونخرج
وحين وقَفَا في الشارع تحت الشرفة، استأنف القسُّ القصير تفسيرَه السابق بهدوء،
كأنَّه يُلقي محاضرةً كيميائية.
كنتُ أقول إنَّ الرجل قد يُصبحُ في حالةٍ ذهنية تجعله يبحثُ عن شيء بعيد » : وقال
جدٍّا، ولا يُدرِك أنَّه شيء قريب جدٍّا، شيءٌ قريب جدٍّا إلى نفسه، بل ربما شيءٌ يشبهه كثيرًا.
لقد حسبتَ أنَّ ما رأيته حين نظرت إلى هذا الشارع شخصٌ غريبٌ أجنبيٌّ. وأظنُّ أنَّه لم
«؟ يخطر ببالك قَط أن تُفكِّر فيما رآه هو حين نظر إلى تلك الشرفة
كان بويل يُحدِّق إلى الشرفة ولم يرد، ثم أضافَ الآخر:
كنتَ تظنُّ أنَّه من الغريب والعجيب أن يأتي رجلٌ عربيٌّ عبر إنجلترا المتحضرة »
«. بقدَمين حافيتين. ولم تتذكر أنَّ قدميك في اللحظة نفسها كانتا حافيتَين أيضًا
ثم عثر بويل أخيرًا على كلماتٍ، لكنَّه كرَّر كلماتٍ قيلتْ بالفعل.
«. فتح جيمسون الباب » : إذ قال بنبرةٍ آلية
نعم. فتح جيمسون الباب، وخرَج إلى الشارع مرتديًا ثياب نومه، » : فأجاب صديقه
تمامًا كما خرجتَ أنت إلى الشرفة. وأخذ معه شيئَين رأيتهما مائة مرة؛ ذيل الستارة الزرقاء
القديمة الذي لفَّه حول رأسه، والآلة الموسيقية الشرقيَّة التي لا بد أنَّك رأيتها كثيرًا في كُومة
التحف الشرقية الغريبة. أمَّا الباقي، فكان يعتمد على الجوِّ العام وأدائه التمثيلي، الذي كان
«. بارعًا؛ لأنَّه فنانٌ بارع في الجريمة
جيمسون! لقد كان عجوزًا غبيٍّا، لدرجة أنني » : فصاح بويل غير مُصدِّق ما يسمعه
«. لم أنتبهْ حتى إليه قَط
بالضبط، لقد كان فنانًا. وما دام استطاعَ تمثيل دور ساحرٍ أو شاعرٍ » : قال القس
«؟ موسيقي ستَّ دقائق، فهل تظنُّ أنَّه لا يستطيع تمثيل دور موظَّف مكتبي ستة أسابيع
«. ما زلتُ غير متيقنٍ تمامًا من هدَفه » : قال بويل
لقد تحقَّق هدفه، أو كاد أن يتحقَّق.سرق الأسماك الذهبية بالطبع » : فقال الأب براون
بينما كانت لديه عشرون فرصةً لفعل ذلك، ولكن لو كان سرقها ببساطة، لأدرك الجميع
أنَّه كان لديه عشرون فرصةً لفعل ذلك؛ لذا ابتدع شخصية ساحرٍ غامضأتى من أقاصي
الأرض، واستطاع بذلك أن يُضلِّل أفكارَ الجميع، ويجعلها تشرد بعيدًا نحو شبه الجزيرة
العربية والهند؛ كي لا يُصدِّق أحدٌ، ولا حتى أنت، أنَّ كل شيء كان قريبًا جدٍّا إلى المنزل.
«. لقد كان أقربَ من أن يُرى
إذا صحَّ ذلك، فقد كانت مُجازفةً هائلة، وكان عليه أن يخوضَها بدقةٍ » : قال بويل
متناهية.صحيحٌ أنني لم أسمع الرجل الواقف في الشارع يقول أيَّشيء حين كان جيمسون
يتحدث من الشرفة؛ لذا أعتقد أنَّ كل ما حدث كان مزيَّفًا. وأعتقد أنَّه كان يوجد متسعٌ من
«. الوقت ليخرج إلى الشارع قبل أن أستيقظَ تمامًا، وأخرجَ إلى الشرفة
كل جريمةٍ تعتمد على ألَّا ينتبه أحدٌ ما مبكِّرًا، وبكلِّ معنى الكلمة، » : قال الأب براون
ينتبه معظمنا بعد فواتِ الأوان. فأنا، على سبيل المثال، تنبهت بعد فوات الأوان بكثير؛ لأنني
«. أظنُّ أنَّه هرب منذ وقتٍ طويل، قُبيلَ أخذ بصماته أو بعد ذلك مباشرةً
لكنَّك تنبهت قبلَ أيِّ شخصٍ آخر على أي حال، وما كنتُ لأنتبه مثلك » : قال بويل
على هذا النحو أبدًا. لقد كان جيمسون في غايةِ الاستقامة والحيادية حتى إنني غفلت عنه
«. تمامًا
احذر من الرجل الذي تغفل عنه؛ لأنَّه الوحيدُ الذي يُمكن أن يباغتَك » : ردَّ صديقه
ويضعك في مأزق، لكنني أيضًا لم أشكَّ فيه، حتى أخبرتني بالصوت الذي سمعته وهو
«. يوصدُ الباب
«. على أي حال، نحن مدينون لك بكلِّ ذلك » : فقال بويل بنبرةٍ ودودة
«. بل مدينون بكلِّ ذلك للسيدة روبنسون » : فقال الأب براون بابتسامة
«؟ السيدة روبنسون؟ لا تقُل إنَّك تقصدُ مدبِّرة المنزل » : فتساءل السكرتير متعجبًا
احذر من المرأة التي تغفل عنها، بل وأكثِر من الحذر. كان هذا الرجل » : فأجاب الآخر
مجرمًا بارعًا جدٍّا، وممثِّلًا ممتازًا كذلك؛ ومن ثَم خبيرًا في علم النفس؛ فرجلٌ مثل الكونت لا
يُنصِت أبدًا إلَّا إلى صوتِه، لكن هذا الرجل ظلَّ مُنصِتًا، حين نسيتُم جميعًا أنَّه كان موجودًا
بينكم، وجَمَع أنسبَ الخيوط لنسج حِيلتِه الماكرة، وعَرف بالضبط الوتر الحسَّاس الذي
يُمكن أن يضرب عليه ليُضللكم جميعًا، لكنَّه ارتكب خطأً فادحًا في فهم نفسية السيدة
«. روبنسون، مدبِّرة المنزل
«. لا أفهم ما علاقتُها بذلك » : فقال بويل
لم يتوقع جيمسون أن يجدَ الباب موصدًا؛ إذ كان يعلم أنَّ الكثير » : قال الأب براون
من الرجال، لا سيما الرجال الذين لا يبالون مثلك ومثل سيِّدك، يمكنهم أن يظلُّوا أيامًا
يقولون إنَّه يجب أن نفعل شيئًا ما، أو إنَّه ربما نفعل. ولكن إذا أبلغتِ امرأة بضرورة فعل
«. شيءٍ ما، فسيظلُّ ثَم خطرٌ مخيف؛ وهو أن تفعل هذه المرأة ذلك الشيء فجأة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.