كان أريستيد فالانتين، رئيس شرطة باريس، متأخرًا عن عَشائه، وبدأ بعضُ ضيوفِه في
الوصول قبله، غير أنَّ خادمَه الخاصإيفان؛ الرجل العجوز ذا الندبة والوجه الرَّمادي، الذي
يكاد أن يقترب لونه من لون شاربه، والذي كان يجلسُ دومًا إلى مِنضدة في قاعة الاستقبال
التي يُوجد بها بعض الأسلحة المعلَّقة، طَمأَنهم بأن أكَّد لهم حضوره. لعل منزلَ فالانتين
كان غريبًا وشهيرًا كصاحبه. كان منزلًا قديمًا عاليَ الجُدران، تحيطُ به أشجار الحور
الطويلة التي تكادُ أن تظلِّل على نهر السين؛ غير أنَّ غرابة تَصميمه المعماريِّ وما قد يكون
له من قيمةٍ بوليسية، هي أنه لم يكن يوجد به سِوى مخرجٍ وحيد عبرَ هذا الباب الأمامي
الذي يحرُسه إيفان ومستودعَ الأسلحة. كانت الحديقة كبيرة ومُنمَّقة، وكان بالمنزل العديد
من المخارج التي تؤدِّي إليها، غير أنه لم يكن بها مخرج يؤدِّي إلى العالم الخارجي؛ إذ كان
يحيط بها جدارٌ طويلٌ أملس لا يمكن تسلُّقه، وقد ثُبِّتت أعلاه أعمدةٌ مدبَّبةٌ خاصة؛ فلعلَّها
كانت حديقةً مناسبة لأن يُمضيفيها رجلٌ، أقسم مئات المجرمين على قتله، وقتَه في التأمُّل.
كما أوضح إيفان للضُّيوف، كان مُضيفهم قد هاتَفَه وأخبره بأنه سيتأخر عشرَدقائق.
وحقيقة الأمر أنه كان يُجري بعضَ الترتيبات الأخيرة بشأن تنفيذِ عقوباتِ إعدامٍ، وأمورٍ
قبيحةٍ أخرى من هذا القبيل؛ وبالرغم من أنَّه كان ينفر نفورًا شديدًا من هذه المهام، فقد
كان يؤدِّيها بدقَّةٍ على الدوام. لقد كان يُلاحق المجرمين بلا هَوَادة، غير أنه كان حليمًا
للغاية بشأنِ عقابهم. ومنذ أن أصبحت له السيادة على الأساليب البوليسية في فرنسا
بأكملها، وكذلك في مُعظم أرجاء أوروبا، كان يستخدم نفوذَه الكبير بشرفٍ في تخفيفِ
الأحكام وتطهير السجون. لقد كان واحدًا من كِبار المفكرين الفرنسيين الأحرار الذين
يُعنَون بالإنسانية؛ والذين كان عيبُهم الوحيد هو أن رحمتهم أكثر برودة من عدالتهم.
حين وصل فالانتين كان بالفعل يرتدي زيٍّا أسود، وقد وضع عليه الشَّارة الحمراء.
كان مظهره أنيقًا، وقد بدأ الشعرُ الرمادي يخطُّ لحيتَه السوداء. دخل إلى المنزل ومنه
إلى غرفة المكتب مباشرةً، والتي كانت تُطلُّ على الأرضالموجودة خلفه. كان باب الحديقة
الموجود بها مفتوحًا، وبعد أن أغلقصندوقَه بعنايةٍ في مكانه المُعتاد، وقف لبضعِ ثوانٍ عند
الباب المفتوح يَنظر منه إلى الحديقة. كان القمرُصافيًا ينازع بقايا عاصِفة، ونظر فالانتين
إليه بأسًى غير معهود من رجلٍ مثله تغلب عليه النزعة العلمية. ربما يكون لدى مثله
من الرجال، الذين تغلب عليهم النزعة العلمية، استبصارٌ روحيٌّ باقتراب وقوع المشكلة
الأضخمِ في حياتِهم. وعلى أيِّ حال، فقد أفاق سريعًا من هذه الحالة المزاجية الغامضة؛ إذ
كان يعرفُ أنه متأخِّر وأنَّ ضيوفَه قد بدءُوا يَصلُون بالفعل. كانت نظرةٌ سريعةٌ واحدة
ألقاها على غُرفة الاستقبال حينَ دخلها كافيةً لأن يتأكد أنَّ ضيفَه الرئيسي لم يحضربعدُ.
رأى جميع ركائز حفله الصغير الآخرين؛ إذ رأى اللورد جالوي، والسفير الإنجليزي، وهو
رجلٌ عجوزٌ غَضوب له وجه خمريُّ اللون كالتفاح، وكان يرتدي الشريطَ الأزرق لوِسام
فرسان الرباط. ورأى الليدي جالوي، وكانت رشيقةً وهيفاء، ذات شعرٍ فضياللون ووجهٍ
رقيق وبديع. ورأى ابنتها الليدي مارجريت جراهام، وهي فتاة ذات بشرةٍ فاتحة وحسناء،
ولها وجه كوجوه الجنِّيَّات، وشعرٌ نُحاسي اللون. ورأى دوقة جزيرة مونت سانت ميشِل
بعينَيها السَّوداوَين وترَفِمظهرها، مع ابنتَيها اللتين تتمتعان بسواد العينَين وترَفالمظهر
أيضًا. ورأى الدكتور سايمون، وهو عالمٌ فرنسيتقليديٌّ، بنظارةٍ ولحيةٍ بنيَّةٍ مُدببة، وجبينٍ
مخطَّط بتلك التجاعيد المتوازية، والتي هي عقوبةُ التعجرُف؛ إذ إنها تظهر نتيجةً لرفع
الحاجبين باستمرار. ورأى الأب براون، من كوبهول بمقاطعة إسكس، والذي كان قد التقاه
منذ عهدٍ قريب في إنجلترا، وربما بدا عليه الاهتمام، بدرجةٍ أكبر من اهتمامه بأيٍّ من هؤلاء،
حين رأى رجلًا طويلًا يرتدي زيٍّا عسكريٍّا، والذي كان قد انحنى أمام آل جالوي دون
أن يتلقَّى منهم أي تقديرٍ ودي، وها هو يتقدم الآن مُنفردًا ليُلقي التحية على مُضيفه.
كان هذا هو القائد أوبراين، القائد بالفيلق الأجنبي الفرنسي. كان رشيقًا ومُختالًا بنفسه
بعضَ الشيء، وكان حليقَ الذقن، وداكنَ الشعر، أزرق العينين، وقد بدا ملائمًا تمامًا لأن
يكونَ ضابطًا في تلك الفرقة المشهورة بالإِخفاقات الظَّافرة وحالاتِ الانتحار الناجحة؛ فقد
كان يعطي انطباعًا بالحيَوية والكآبة في الوقت ذاتِه. كان أيرلنديَّ المولد، وقد عَرف آل
جالوي منذ صباه، ولا سيَّما مارجريت جراهام. كان قد غادر بلده بعد أن تراكمَتْ عليه
الديون، وقد عبَّر الآن عن تجرُّده الكامل من آداب السلوك البريطانية؛ إذ راح يتمايلُ في زيه
حينَ انحنى لأسُرة السفير، أجاب اللورد <« سابر آند سبرز » العسكري على أنغام موسيقى
والليدي جالوي انحناءَتَه على مَضض، أما الليدي مارجريت، فقد أشاحَتْ بنظرها بعيدًا.
ولكن، أيٍّا كانت الأسباب القديمة التي قد تجعل هؤلاء الأشخاص مُهتمٍّا بعضُهم
ببعض، فلم يكن لدى مُضيفهم المميز سببٌ خاصٌّ للاهتمام بهم، ولم يكن أحدٌ منهم،
على أيِّ حال، هو ضيفَ الأمسية بالنِّسبة إليه. كان فالانتين ينتظرُ، لأسبابٍ خاصة، رجلًا
ذا شُهرةٍ عالمية، كان قد وطَّد علاقة الصداقة معه خلال بعضِ جولات التحرِّي العظيمة
وانتصاراتِه التي حقَّقها في الولايات المتحدة. كان ينتظر جوليوس كيه برين، ذلك المليونير
الذي كانت هِباتُه الضخمة، أو حتى الضئيلة منها، للطوائف الدينية الصغيرة، قد حقَّقتْ
للصحف الأمريكية والإنجليزية مادةً خصبةً جدٍّا للسخرية، ومادةً أخصب للتوقير. لم
يستطع أحدٌ أن يعرف ما إن كان السيد برين مُلحدًا أم مورمونيٍّا أم عالمًا مسيحيٍّا، لكنه
كان مستعدٍّا لضخِّ نقوده في أيِّ وعاءٍ فكري، ما دام وعاءً جديدًا. كانت إحدى هواياته أن
ينتظر مجيءَ شكسبير الأمريكي؛ وهي هواية تستلزمصَبرًا أكثر منصيد السمك بالصنَّارة.
« تقدميٌّ » ؛ كان مُعجبًا بوالت ويتمان، لكنه كان يرى أنَّ لوك بي تانَر من باريسببنسلفانيا
وكان يرى أنَّ ،« تقدُّميٍّا » أكثر من ويتمان من جميع النواحي. كان يعجبه أيُّ شيء يراه
وقد ظلَمه بذلك ظلمًا عظيمًا. ؛« تقدميٌّ » فالانتين
كان الظهور القوي لجوليوس كيه برين في الغرفة، حاسمًا كجَرس العشاء. كان
يتمتع بتلك الصفة العظيمة التي يمكن لقلَّةٍ منا أن يَزعموا أنهم يتمتَعون بها، وهي أنَّ
ظهوره كان كبيرًا بقَدر غيابه. كان رجلًا ضخمًا؛ إذ كان سمينًا بقَدر ما كان طويلًا، وكان
يرتدي ثيابَ المساء السوداء كاملةً، دون أي انتقاصمنها، ولو في سلسلة ساعة أو خاتم.
كان شعره أبيضَ وقد مشَّطه جيدًا إلى الوراء مثل شعر الألمان. كان وجهه أحمرَ، ويتسم
بالعنفوان والملائكية، وكان ثمةَ خصلةٌ قصيرة من الشعر الأسود تحت شفتِه السفلى، منحَتْ
هذا الوجه، الذي كان سيصبح طفوليٍّا دونها، تأثيرًا مسرحيٍّا، أو ربما حتى شيطانيٍّا. ومع
ذلك، فلم يتفرسِ الجمعُ في هذا الأمريكي الشهير إلا لمدةٍ قصيرة؛ إذ كان تأخُّره قد صارَ
بالفعل مشكلةً عائلية، وقد توجه بأقصىسرعةٍ ممكنة إلى غرفة العَشاء، والليدي جالوي
تتأبَّط ذراعه.
كان آل جالوي يتعاملون بالدرجة الكافية من الود والتلقائية إلا في حالةٍ واحدة؛ فما
دامت الليدي مارجريت لم تتأبط ذراع ذلك المغامر أوبراين، كان والدها راضيًا تمامًا؛ وهي
لم تكن قد فعلت ذلك، وإنما كانت قد دَخلت بوقار مع الدكتور سايمون. وبالرغم من
ذلك، كان اللورد العجوز جالوي ضَجرًا ووقحًا إلى حدٍّ كبير. لقد تصرَّف بقدرٍ كافٍ من
اللياقة خلالَ العشاء، لكن حين بدءوا في تدخين السيجار، وبدأ ثلاثة من الرجال الأصغر
سنٍّا، وهم سايمون الطبيب، وبراون القس، والمُزْعِج أوبراين المنفي في زيٍّ عسكريٍّ أجنبي؛
يبتعدون للاختلاط مع السيدات أو التدخين في المستنبت الزجاجي، عندئذٍ تجرَّد الدبلوماسي
الإنجليزي تمامًا من جميع أساليب الدبلوماسية؛ فقد كانت تُراوده كلَّ ستين ثانيةً فكرةٌ
مزعجة مفادها أنَّ الخسيسأوبراين ربما يرسل إشارات إلى مارجريت بطريقةٍ ما، لكنه لم
يحاول أن يتخيل هذه الطريقة. لقد تركوه يتناول القهوة مع برين؛ الأمريكي الأشيب الذي
كان يُؤمن بجميع الأديان، وفالانتين؛ الفرنسي ذي الشعر الرمادي، والذي لم يكُنْ يؤمن
بأيٍّ منها. كان بوسعهم أن يتجادل بعضهم مع بعض، غير أنَّ أيٍّا منهما لم يرُقْ له. وبعد
إلى ذروةِ الملل؛ فنهض اللورد جالوي أيضًا « التقدُّمي » حين من الوقت، وصل هذا الجدل
واتجه إلى غرفة الاستقبال. ضل طريقه في الممرات الطويلة لستِّ دقائق أو ثمانٍ؛ إلى أن
سمع الصوت الوعظي العالي النبرة للطبيب، ثم صوت القس الخافت، وقد تبعهما ضحك.
غير .« العلم والدين » راح يفكِّر أيضًا، وهو يسبُّ، في أنهما كانا يتجادلان على الأرجح بشأن
أنه في اللحظة التي فتح فيها باب الغرفة، لم يرَ إلا شيئًا واحدًا؛ رأى ما لم يكن موجودًا؛
فقد رأى أنَّ القائد أوبراين لم يكن حاضرًا، وكذلك كانت الليدي مارجريت.
نهضبنَفاد صبر من غرفة الاستقبال مثلما نهَضمن غرفة العشاء، وراح يخطو في
الممرات مرةً أخرى. كانت فكرتُه عن حماية ابنتِه من الأيرلندي الجزائري العديمِ الفائدة،
قدصارت محورية بل جامحةً في عقله. وبينما كان يتجه إلى الجزء الخلفي من المنزل، حيث
مكتب فالانتين، فُوجئ برؤية ابنته، التي مرَّت من أمامه بسرعة، وقد بدا وجهُها أبيضَ
حانقًا، وهو ما شكَّل لغزًا ثانيًا. لو أنها كانت مع أوبراين؛ فأين هو أوبراين؟! ولو لم تكن
مع أوبراين؛ فأين كانت؟ وبشكٍّ قويٍّ ممتزج بخرَف الشيخوخة، راح يتحسَّس طريقَه إلى
الأجزاء الخلفية المظلمة من المنزل، وأخيرًا عثر على مدخل للخدَم يؤدي إلى الحديقة. كان
القمر بسيفه المعقوف قد بدَّدَ جميع بقايا العاصفة وأبعدها، وأنار الضوء الفضيُّجميع
أركان الحديقة الأربعة. وكان ثمة شخصٌ طويل يرتدي ثيابًا زرقاء يخطو على العُشب
باتجاه بابِ غرفةِ المكتب، وسقط وميضٌ من ضوء القمر الفِضِّي على وجهه؛ فأظهر أنه
القائد أوبراين.
اختفى عبر النوافذ الفرنسية إلى داخل المنزل، تاركًا اللورد جالوي في حالةٍ مزاجية
لا يمكن وصفها؛ كان عدائيٍّا وشاردًا في الوقت ذاته. بدا أنَّ الحديقة المكتسية باللونين
الأزرق والفضي، كأحد المشاهد في المسرح، تَستهزئ به بكلِّ تلك الرقَّة الطاغية والتي كانت
سطوتُه الحياتية فيصراعٍ داخليٍّ معها. أثار طول خطوة الأيرلندي ورشاقتها غضبَه كما
لو كان ندٍّا لا أبًا، وقد أثار ضوء القمر جنونَه. كان حبيسًا، كما لو كان بمفعول سحرٍ، في
حديقة من حدائقِ شُعراء التروبادور، عالمٌ سحري من عوالم الرسام واتو. ولما كان يرغبُ
في تبديد تلك الحماقات الغرامية بالحديث، فقد خَطا بخِفَّة وراء عدوِّه. وبينما كان يفعل
ذلك، تعثر في شجرة أو حَجر فوق العشب؛ فنظر إلى ما تعثر فيه بضيقٍ في البداية، ثم
نظر إليه ثانيةً بفُضول. وفي اللحظة التالية، كان القمر وأشجار الحور شُهودًا على منظرٍ
غير عادي؛ دبلوماسيٌّإنجليزي عجوز يجري بقوة بينما يبكي، أو يصرخ.
استرعىصراخه الأجشُّ انتباه الدكتور سايمون؛ فجاء إلى بابِ غرفة المكتب، بوجهه
الشاحب، ونظارته اللامعة وسيمائه التي تَشِي بالقلق، وكان قد سمع الكلمات الأولى
جثة على العشب، جثةٌ » : الواضحة التي نطَق بها السيد النبيل. كان اللورد جالوي يصرخ
أخيرًا، غاب أوبراين عن ذهنِه تمامًا. «. ملطخة بالدماء
بينما راح الآخر يصف بصوتٍ «. يجب أن نخبر فالانتين على الفور » : قال الطبيب
وبينما كان يتحدث، دخل « من حسن الحظ أنه هنا » . متقطع كلَّ ما جرُؤ على فحصه
المحقِّق العظيم إلى غرفة المكتب؛ إذ اجتذَبه الصراخ. وقد كانت مشاهدةُ تحوُّله المميز أمرًا لا
يخلو من المتعة؛ كان قد جاء بدافعٍ من قلقٍ عادي بصفته مُضيفًا ورجلًا نبيلًا، خشيةَ أن
يكون أحد الضيوف أو الخدم مريضًا. وحين أخبروه بالحقيقة الدموية، تحوَّل على الفور،
فاتخذت هيئتُه جديةً تامة، وبدت عليه الحيوية وقد تحلَّى بهيئة العمل؛ فذلك كان عمله،
حتى وإن كان أمرًا مُفاجئًا ومروِّعًا.
إنه لأمرٌ غريب أيها السادة » : تحدَّث إليهم، بينما كانوا يُسرعون باتجاه الحديقة
أنني قد ظللتُ طوال عمري أطارد الألغاز في جميع أنحاء الأرض، والآن، ها هو لغز يأتي
عبروا العشب بصعوبةٍ أكبر؛ إذ كان بعض «؟ ويقبَعُ في فنائي الخلفي، لكن أين المكان
الضَّباب الخفيف قد بدأ يتصاعد من النهر؛ ومع ذلك، فقد وجدوا الجثة بإرشادٍ من جالوي
المضطرب، وقد وجدوها مغمورة بين الأعشاب؛ كانت جثةً لرجل طويل للغاية وعريض
الكتفين، كان ملقًى ووجهه إلى الأرض؛ فلم يتمكنوا إلا مِن معرفة أنَّ كتفيه العريضتين
كانتا مكسوَّتَين بقُماشٍأسود، وأنَّ رأسه الكبير أصلع، باستثناء خصلة أو اثنتين من الشعر
البني الذي التصَق بجمجمته كأعشابٍ بحريةٍ مبتلة. وزحفت من تحت وجهه المنكفئ أفعَى
قرمزية من الدماء.
«. إنه ليسواحدًا من الحضور في حَفلنا على الأقل » : قال سايمون بنبرةٍ عميقة ومميزة
«. افحصه أيها الطبيب؛ فربما لا يَكون ميتًا » : صاح فالانتين ببعضالحدة
إنَّ جسمه لم يبرُد بعدُ، لكن يؤسفني أنه ميِّت بالفعل. » : انحنى عليه الطبيب، ثم قال
«. فقط، ساعدوني لكي أرفعه
رفعوه بعناية عن الأرضمسافةَ بوصة، وقد تأكدت، في الحال وبشكلٍ مروِّع، جميعُ
الشكوك بشأن كونه ميِّتًا بالفعل؛ فقد سقط الرأس بعيدًا؛ إذ كان مفصولًا تمامًا عن
الجسد؛ فقد استطاع مَن قطع عنقه أن يَفصِل رقبته أيضًا. حتى فالانتين نفسُه كان
«! لا بدَّ أنه كان في قوَّة الغوريلا » : مصدومًا بعضَالشيء، وغمغم
وبالرغم من أنَّ الدكتور سايمون كان معتادًا على تَشريح الجثث المشوَّهة، فقد كان
يرتجفُ حين رفع الرأس؛ كان به بعضجروحٍ غائرة عند الرقبة والفك، أما الوجه، فكان
سليمًا بدرجةٍ كبيرة. كان وجهًا ضخمًا ومصفرٍّا، وكان غائرًا ومتورمًا في الوقت ذاته، وله
أنف كأنفِ الصقر، وجفنان ثقيلان؛ وجه إمبراطورٍ رومانيٍّ خبيث، وربما مسحةٌ خفيفة
من وَجهِ إمبراطورٍ صيني. بدا أنَّ جميع الحضور كانوا يَنظرون إليه بعيون تشي بفتورٍ
شديد وجَهل. لم يكن من شيءٍ آخر يمكن ملاحظتُه عن الرجل سوى أنَّهم بينما كانوا
يرفعون جسده، لاحظوا تحتَه لمعانَ بياض صِدار قميص، وقد شوهه لمعان الدم الأحمر.
وكما قال الدكتور سايمون، لم يكن الرجل من بين حضور حَفلهم على الإطلاق، لكن من
المرجح جدٍّا أنه كان يحاول الانضمام إليه؛ إذ إنه قد أتى مرتديًا ثيابًا تُلائم مثل هذه
المناسبة.
انحنى فالانتين على يديه وركبتيه وفحصَ العُشب والأرض المحيطة بالجسم على
مساحة عشرين ياردة، بأقصى ما لديه من العِناية المهنية، وكان يساعده في هذه المهمة،
بمهارةٍ أقل، الدكتور سايمون، واللورد الإنجليزي الذي لم تكن مساعدتُه تخلو من الشرود.
لم يظفروا من انحنائهم بشيء إلا بضعةَ أغصان قد كُسِّرت أو قُطِّعت إلى أجزاءٍ قصيرة
للغاية، وقد رفعها فالانتين لفحصٍلم يدُمْ إلا لثانية، ثم رماها بعيدًا.
أغصان، أغصان وشخصٌ غريبٌ تمامًا مقطوع الرأس؛ ذلك هو كل ما » : قال بجدية
«. يوجد على هذا العشب
سادتْ فترة من السكون الذي كاد أن يكون مُخيفًا، ثمصرخ جالوي المضطرب بحدة:
«!؟ من ذاك؟! من ذاك الذي يقفُ هناك بجوار سور الحَديقة »
اقتربَ منهم في ضوء القمر الخافت شخصله جَسَدٌ صغير ورأسٌكبير بشكلٍ غريب،
بدا للحظة مثل عِفريت، ولكن تبيَّن أنه كان القس البريء الضئيل الذي تركوه في غرفة
الاستقبال.
«. أرى أنه لا يوجد بواباتٌ لهذه الحديقة، وأنتم تعرفون ذلك » : قال بوداعة
انعقد حاجبا فالانتين الأسودان بعضَالشيء، كما حدث عندما رأى رداءَ القس، بسبب
ما يعتنق من مَبادئ، غير أنه كان أكثر عَدلًا من أن يُنكر أهمية مثل هذه الملاحظة؛ فقال
أنت على حق؛ فقبل أن نكتشفَ كيف قُتِل، قد يكون علينا أن نكتشف كيف أتى إلى » : له
هنا. والآن، فلتستمعوا إليَّ أيها السادة: إذا كان لنا أن نفعل ذلك دون المَساس بمنصبي
وواجبي؛ فيجب أن نتفق جميعًا على أنه سيكونُ من الأفضل إبقاءُ بعض الأسماءِ المهمة
بعيدًا عن هذا الأمر؛ إذ يوجد العديد من السيدات والسادة، ويوجد كذلك سفيرٌ أجنبي. وإذا
كان علينا أن نعرِّف الواقعة على أنها جريمة؛ فيجب إذن أن نتعاملَ معها مثلما نتعامل
مع الجرائم. ولكن حتى ذلك الحين، يمكنني أن أستخدمَ تقديري الشخصي. إنني رئيس
الشرطة، وأنا معروف للغاية لدرجة تمكِّنني من الحفاظ على خُصوصيتي. أقسم لكم إنني
سأبرئ ساحة جميع ضيوفي قبل أن أستدعي رجالي لكي يفتِّشوا عن أيِّ شخصٍآخر. وأنا
أستحلفكم بشرَفكم أيها السادة ألا يغادر أحد منكم المنزل قبل ظهيرة الغد؛ ويوجد غُرف
تكفي الجميع. سايمون، أعتقد أنك تعرف أين تجد خادمي إيفان في الرَّدْهة الأمامية. إنه
أهل للثقة؛ فأخبره بأن يترك خادمًا آخرَ في الحراسة، وأن يأتي إليَّ على الفور. لورد جالوي،
لا شكَّ بأنك أفضل مَن يخبر السيدات بما حدَث، ويحول دونَ هلعِهنَّ؛ هن أيضًا يجب أن
«. يمكُثن. وسوف أبقى أنا والأب براون مع الجثَّة
حين تحدثت روح القائد في فالانتين أطاعه الجميع، كأنه بوقٌ عسكري. ذهب الدكتور
سايمون إلى مستودع الأسلحة، وأرسل إيفان، المحقق الخاصللمحقق العام. وذهب جالوي
إلى غرفة الاستقبال وألقى الأخبار المريعة بلَباقةٍ كافية، حتى إنه حين عاد الجمع إلى هناك،
كانت السيدات قد جفَلْن بالفعل ثم هدَأن. وفي أثناء ذلك، وقف القس الصالح والملحد
الصالح عند رأس الرجل الميت وقدَمِه، ساكنَين في ضوء القمر، كتمثالَين رمزيين يمثلان
فلسفةَ كلٍّ منهما عن الموت.
أما إيفان، الرجل الثقة ذو الندبة والشارب، فقد خرج من المنزل مثل كُرَة المدفع،
وأتى يعدو على العشب كما يعدو كلبٌ إلىصاحبه. كان بوجهه الشاحِب بعضالحيوية من
وهَج هذه القصة البوليسية المنزلية، وكانت النبرة التي تحدَّث بها، وهو يطلب من سيده
أن يأذن له بفحصِالبقايا، تتسم بحماسٍ مزعج.
حسنًا، افحصها يا إيفان، إن كنت ترغب في ذلك، لكن لا تُطِلْ؛ إذ » : تحدث فالانتين
«. يجب علينا أن ندخل إلى المنزل وندرسَ هذا الأمر من جميع الجوانب
رفع إيفان الرأس، ثم كاد أن يتركَه يسقط.
عجبًا! إنه … لا، إنه ليس …؛ لا يمكن. أتعرف هذا الرجل » : قال إيفان وهو يشهق
«؟ يا سيدي
«. كلا، من الأفضل أن نذهب إلى الداخل » : أجاب فالانتين دون مبالاة
حمَلوا الجثة معًا إلى أريكةٍ في غرفة المكتب، ثم توجَّهوا جميعًا إلى غُرفة الاستقبال.
جلسالمحقق على المكتب بهدوء ودون أدنى تردد، لكن عينَه كانتْ تلك العين الحديدية
لقاضٍ يترأَّس قضية في محكمة. دوَّن القليلَ من الملاحظاتِ السريعة على ورقة أمامه، ثم
«؟ هل الجميع موجودون هنا » : قال بسرعة
«. السيد برين ليس موجودًا » : تحدثت دوقة مونت سانت ميشِل، وهي تنظر حولها
كلا، ولا السيد نيل أوبراين أيضًا. لقد » : وتحدث اللورد جالوي بصوتٍ أجشَّ خشِن
«. رأيت ذلك السيد يمشي في الحديقة، بينما كانت الجثَّةُ لا تزال دافئة
إيفان، اذهب وأحضر القائد أوبراين والسيد برين. أعرف أنَّ السيد » : قال المحقِّق
برين ينهي سيجارًا في غرفة المائدة، أما القائد أوبراين، فأعتقد أنه يسير جيئةً وذهابًا في
«. المستنبت الزجاجي. لست متأكدًا من ذلك
انطلق الخادم المخلصمن الغرفة، وقبل أن يتمكن أي شخصمن الحركة أو الكلام،
تابع فالانتين حديثه بالأسلوب العسكري السريع ذاته.
جميعنا هنا يعرف أنه قد عُثِر على رجلٍ ميت في الحديقة، وقد فُصِل رأسه عن »
جسده تمامًا. لقد فحصته يا دكتور سايمون؛ فهل تعتقد أنَّ قطع رأس رجل بهذه
«؟ الطريقة، يستلزم قوةً كبيرة؟ أم ربما، سكينًا حادٍّا فحسب
بل أعتقد أنَّ ذلك لا يُمكن أن يكون قد تَمَّ بسكينٍ على » : أجاب الطبيب الشاحب
«. الإطلاق
«؟ هل لديك أي فكرة عن أداة يمكن تنفيذ ذلك بها » : تابع فالانتين
في إطار الأدوات الحديثة المحتملة، ليست لديَّ » : تحدث الطبيب مقوِّسًا حاجبَيه بشدة
فكرة حقٍّا؛ فقطعُ رقبة ليس بالأمر السَّهل، حتى وإن كان القطع غير متقن، أما ذلك
القطع، فهو متساوٍ تمامًا. ربما فعل ذلك باستخدام بلطة قتال، أو بلطةِ جلَّاد قديمة، أو
«. سيفٍ قديم يُمسَك باليدين معًا
يا إلهي! لكن لا يوجد هنا أيُّ سيوف تُمسَك » : صرخت الدوقة بأسلوبٍ شبه هستيري
«. باليدين معًا، أو بلطة قتال
كان فالانتين لا يزال مشغولًا بالورقة التي أمامه. تحدث، وهو لا يزال يكتب بسرعة:
«؟ أخبرني، هل يمكن تنفيذه باستخدام سيفِ فرسانٍ فرنسيٍّ ضالعٍ طويل »
أتى صوت طرقٍ خفيف على الباب، ولسببٍ غير منطقي، جمَّد ذلك دماءَ الجميع في
ومن بين هذا الصمت المتجمد، تمكن الدكتور .« ماكبث » عروقهم، مثلَ الطَّرْق في مسرحية
«. سيفٌ ضالع، أجل. أعتقد أنه قد يفعلُ ذلك » : سايمون من أن يقول
«. شكرًا لك. ادخل يا إيفان » : تحدث فالانتين
فتح إيفان المؤتمن الباب، وأدخَل القائد نيل أوبراين، الذي كان قد وجده أخيرًا يتجوَّل
في الحديقة مجددًا.
«؟ ماذا تريدُ مني » : وقفالضابط الأيرلندي مضطرِبًا ومتحديًا على عتبةِ الباب، وصرخ
اجلس من فضلك. عجبًا، إنك لا تتقلدُ سيفَك. » : تحدث فالانتين بنبرةٍ لطيفةٍ متزنة
«؟ أين هو
لقد » : أجاب أوبراين بلهجته الأيرلندية التي تزداد حدَّتُها، حين يكون مضطرب الحال
«… تركته على منضدة المكتبة. كان مزعجًا، كان
ثم تابع، ،« إيفان، اذهب من فضلك، وأحضر سيف القائد من المكتبة » : قال فالانتين
يقول اللورد جالوي إنه رآك تغادرُ الحديقة قبل أن يكتشف الجثةَ » : بعد أن اختفى الخادم
«؟ مباشرةً. ماذا كنت تفعل في الحديقة
ارتمى القائد على أحد الكراسي باستهتارٍ، وراح يصيح بلهجةٍ أيرلندية خالصة:
«. يا بني « الطبيعة » يا إلهي! كنت أستمتع بجمَال القمر، أناجي »
خيَّم عليهم صمتٌ ثقيل استمر لمدة، وفي نهايته جاء ذلك الطَّرق الخفيف المريع من
هذا كل ما تمكنت » : جديد. ظهر إيفان مرةً أخرى وهو يحمل غِمدًا فارغًا من الصُّلب، وقال
«. من إيجاده
«. ضعه على المنضدة » : قال فالانتين دون أن ينظر إلى الأعلى
ساد الغرفة صمتٌ قاسٍ، مثل ذلك البحر من الصمت القاسي، الذي يحيط بالقاتل
المُدان. كانت تعبيرات التعجب الخافتة، التي كانت تصدر من الدوقة، قد تلاشَتْ منذ فترةٍ
طويلة. وأشُبِعتْ كراهية اللورد جالوي المتضخمة، وربما هدأت أيضًا. أما الصوت الذي
أتى، فقد كان مفاجِئًا للغاية.
هكذاصاحت الليدي مارجريت بذلك الصوت الواضح ،« أعتقد أنه بوسعي أن أخبركم »
بوسعي أن أخبركم بما كان السيد » . المرتعش، الذي تتحدث به سيدةٌ شجاعة في العلن
أوبراين يفعله في الحديقة؛ ما دام يلتزم الصمت. لقد كان يطلب مني أن أتزوَّجَه، وقد
رفضتُ؛ وأخبرتُه أنَّه في ظل ظروف أسرتي، لا يمكنني أن أقُدِّم له سوى احترامي. لقد
ثم أضافت «. كان غاضبًا بعض الشيء من هذا؛ إذ لم يبدُ أنه يعطي قيمةً كبيرة لاحترامي
وأنا أتساءل، إن كان سيعبأ به الآن على الإطلاق؛ إذ إنني أقدمه له الآن. » : بابتسامةٍ باهتة
«. وسأقسم في أي مكان إنه لم يفعل شيئًا كهذا على الإطلاق
دنا اللورد جالوي من ابنته وراح يُرهبها، بنبرة كان يتخيل أنها خافتة؛ قائلًا في همس
«؟… أمسكي لسانك يا ماجي، لمَ تحمين الرجل؟ أين سيفُه؟ أين اللعينة شارة » : راعد
ألجمَتْه النظرة الفريدة التي كانت ترنو بها ابنتُه إليه، وهي نظرةٌ كانت، بلا شك،
قوية كمغناطيس يجذب المجموعة بأكملها.
أيها العجوز الأحمق! ما الذي » : تحدثت إليه بصوتٍ خفيض دون تظاهر بالإذعان
تظن أنك تحاول إثباته؟ إنني أقول لك إنَّ هذا الرجل بريءٌ بينما كان معي. أما إن لم يكن
بريئًا، فقد كان معي كذلك. لو كان قد قتَل رجلًا في الحديقة؛ فمن الذي لا بدَّ أن يكون
قد رآه؟ من الذي لا بد أنه كان، على الأقل، سيعرف؟ هل تكره نيل كثيرًا لدرجة أن تَضعَ
«… ابنتك
صرخت الليدي جالوي، بينما جلس جميع مَن في الغرفة، تَخِزهم لمسة تلك الحوادث
المأساوية الشيطانية التي جرَتْ بين المحبين في الماضي. لقد رأوا الوجه الأبيض الفخور
للاسكتلندية الأرستقراطية وحبيبها المغامر الأيرلندي، كأنهما صورٌ قديمة في منزلٍ مظلم.
وقد كان الصمت الطويل يعجُّ بذكرياتٍ تاريخية غيرِ محددة، عن أزواجٍ مقتولين وأخدانٍ
أشرار.
«؟ أكان سيجارًا طويلًا للغاية » : وفي وسط هذا الصمت الكئيب، تحدث صوتٌ بريء
كان تغير الفكرة حادٍّا للغاية، حتى إنهم اضطروا إلى النظر حولهم؛ لكي يروا مَن
تحدث.
أعني، أعني ذلك السيجار الذي ينهيه السيد برين. » : قال الأب براون الضئيل الحجم
«! يبدو أنَّه في طول عصًا للمشي تقريبًا
وبالرغم من أنَّ ما قاله كان بعيدًا عن الموضوع، فقد بدَتْ على وجه فالانتين، حين
رفع رأسه، علاماتُ التأييد والانزعاج أيضًا.
هذا صحيح تمامًا. إيفان، اذهب وابحَثْ عن السيد برين مجددًا، » : وعلَّق بحدة
«. وأحضره إلى هنا فورًا
وفي اللحظة التي أغلق فيها الخادم الباب، وجَّه فالانتين حديثَه إلى الفتاة بجديةٍ جديدة
ليدي مارجريت، أنا متأكد من أننا جميعًا نشعر بالامتنان وكذلك الإعجاب » : تمامًا، وقال
بتصرفك الشجاع في التسامي على كرامتك الأقلِّ أهميةً، وتفسير سلوك القائد. غير أنه يظل
ثمة ثغرة؛ لقد التقى بكِ اللورد جالوي، حسبما أفهم، بينما كنتِ تمرِّين من غرفة المكتب
إلى غرفة الاستقبال، وبعدها ببضع دقائق فقط، وجد الحديقة، وكان القائدُ لا يزال يسير
«. فيها
عليك أن تتذكر، أنني كنت قد رفضته » : أجابت مارجريت بنبرة فيها سخريةٌ خفيفة
للتو؛ فلم يكن لنا أن نعود معًا متشابكَي الذراعين! لكنه على أي حال رجلٌ نبيل؛ وقد تمهَّل
«. بالخلف؛ وهكذا اتُّهِم بالقتل
«… في تلك اللحظات القليلة، قد يكون بالفعل » : تحدث فالانتين بجدية
وجاء صوت الطَّرْق مجدَّدًا، وظهر إيفان بوجهه ذي الندبة.
«! أستمحيك عذرًا، يا سيدي، السيد برين قد غادرَ المنزل » : تحدث قائلًا
ونهَضللمرة الأولى واقفًا على قدمَيه. «! غادر » : صاح فالانتين
اختفى. تلاشى. تبخَّر. وقد اختفت قبَّعته » : أجاب إيفان بلغةٍ فرنسيةٍ مضحكة
ومِعطفه أيضًا، وسأخبرك بشيء يفوق كلَّ ذلك؛ لقد جريت إلى خارج المنزل؛ لكي أجد
«. أي أثر له، وقد وجدت أثرًا، وجدتُ أثرًا كبيرًا
«؟ ماذا تعني » : سأله فالانتين
ثم ظهر مجدَّدًا، ومعه سيفٌ فرنسيٌّضالعٌ طويلٌ لامع وعارٍ «. سأريك » : أجاب خادمه
من غِمده، وملطَّخٌ بالدم عند ذؤابته وحَدِّه. راح جميعُ مَن في الغرفة ينظرون إلى السيف،
وجدتُ » : كما لو أنه كان صاعقة برقٍ؛ لكنَّ إيفان المتمرِّس تابع كلامه بهدوءٍ شديد، قائلًا
هذا مرميٍّا بين الأجَمات على بُعد خمسين ياردة في الطريق المؤدِّي إلى باريس. بعبارةٍ أخرى،
وجدْتُه بالضبط في المكان الذي كان ضيفُكم المحترم السيد برين، قد رماه فيه حين لاذَ
«. بالفرار
ساد الصمت مجدَّدًا، لكنه كان صمتًا من نوعٍ جديد. تناول فالانتين السيف وفحصه،
وراح يتأمل فيه بتركيزٍصادق، ثم استدار إلى القائد أوبراين بوجهٍ وَقور وتحدَّث إليه قائلًا:
« أيها القائد، إننا نثق بأنك ستوفر لنا هذا السلاح في أي وقت، إذا طلبتْه الشرطة للفحص »
أما الآن، فاسمح لي بأن أعيدَ » : ثم أضاف وهو يصفُق السيف مرةً أخرى في الغِمد الرنان
«. إليك سيفك
وبعد هذا التصرفذي الدلالة الرمزية العسكرية، كان من الصعب على الجمع الإحجامُ
عن التصفيق.
أما نيل أوبراين، فقد مثلت له تلك اللفتة نقطة التحول في حياته. وبحلول ذلك الوقت
الذي عاد فيه للتجوُّل من جديد في الحديقة الغامضة في ألوان الصبح، كانت قد سقطتْ عنه
تلك العبثية المأساوية التي كانت تُوحي بها هيئته؛ فقد كان رجلًا يملك الكثير من أسباب
السعادة. أما اللورد جالوي، فقد تصرف بنبلٍ وقدَّم له اعتذارًا. وأما الليدي مارجريت، فقد
كانت أفضل من سيدةٍ أرستقراطية، كانت امرأة على الأقل، وقدَّمت له ما يمكن أن يكون
أفضلَ من الاعتذار؛ إذ تجوَّلا بين أحواضالزهور القديمة قبل الإفطار. كان الجمع بأكمله
أكثر ابتهاجًا وإنسانية، فمع أن لغز الوفاة ظل قائمًا، فقد رُفع حِمل الشك عن كاهلهم
جميعًا، وبُعِث به طائرًا إلى باريس مع المليونير الغريب الأطوار؛ ذلك الرجل الذي كانوا
بالكاد يعرفونه. كان الشيطان قد طُرِد من المنزل؛ كان قد طرَد نفسه.
غير أنَّ اللغز كان لا يزال قائمًا؛ وحين ارتمى أوبراين على أحد مقاعد الحديقة بجوار
الدكتور سايمون، استأنَف ذلك الشخص المتحمِّس للعلم الحديث عنه. غير أنه لم يحظَ
بالكثير من الكلام من أوبراين، الذي كان يفكِّر في أمورٍ ألطفَ كثيرًا.
لا يمكنني أن أزعم أنَّ الأمر يثير اهتمامي كثيرًا، لا سيما » : تحدث الأيرلندي بصراحة
وقد غدا واضحًا الآن للغاية. ظاهر الأمر أنَّ برين كان يكرهُ هذا الغريب لسببٍ ما؛
فاستدرجه إلى الحديقة، وقتَله بسيفي، ثم هرب إلى المدينة، ورمى السيف بعيدًا في أثناء
هروبه. وبالمناسبة، أخبرني إيفان أنه كان في جيب القتيل دولارٌ أمريكي. إذن، فقد كان
«. أحدَ أبناء بلد برين، ويبدو أنَّ هذا يحسم الأمر. لست أرى أي مشكلات في المسأَلة
توجد خمس مشكلاتٍ ضَخمة، كأنها جدرانٌ داخل جدران. » : تحدث الطبيب بهدوء
لا تسئ فهمي، إنني لا أشك بأنَّ برين قد فعلها؛ إذ إنني أرى أنَّ هروبه يثبتُ ذلك. ولكن
المشكلات تتعلق بالطريقةِ التي فعلها بها. المشكلة الأولى هي: لمَ قد يَقتل رجلٌ رجلًا آخر
بسيفٍ ضالعٍ ضخمٍ ثقيل، في حين أنه يستطيع أن يقتله بمطواةٍ صغيرة ويضعها مرةً
أخرى في جيبه؟ والمشكلة الثانية: لماذا لم يكن ثمةَ ضجيج أوصراخ؟ أمن المألوف أن يرى
المرء رجلًا يلوِّح بسيفٍ معقوف دون أن يبدي أيَّ تعليق؟ والمشكلة الثالثة: كان يوجد
خادمٌ يحرس الباب الأمامي طيلة المساء؛ ولا يمكن لجُرذ أن يدخل حديقة فالانتين من أي
مكان، فكيف دخل القتيلُ إلى الحديقة؟ المشكلة الرابعة: إذا وضعنا هذه الظروف نفسها
«؟ في الحسبان، فكيف خرج برين من الحديقة
تحدث نيل بينما كانت عيناه مثبتتين على الكاهن الإنجليزي الذي كان آتيًا ببطءٍ في
«؟ والمشكلة الخامسة » : الممر
أعتقد أنه أمرٌ بسيط، لكني أظنه غريبًا. حين رأيت، لأول مرة، الكيفيةَ » : قال الطبيب
التي فُصِلت بها الرأس، افترضتُ أنَّ القاتل قد ضربَ بسيفه أكثر من مرة، لكنني حين
فَحصتها، وجدت الكثير من الجروح في أنحاء الجزء المبتور؛ بعبارة أخرى، هذه الجروح
جرَتْ بعد فصل الرأس. هل كان برين يكرهُ خصمَه كراهيةً شديدة للغاية، حتى إنه وقف
«؟ يضربُ جسده بالسيف في ضوء القمر
واقشعرَّ جسده. «! هذا فظيع » : قال أوبراين
كان القس الضئيل قد وصل بينما كانا يتحدَّثان، وانتظر والخجل بادٍ عليه، إلى أن
«! عذرًا على المقاطعة، لكنني بُعِثت كي أنُبِّئَكم أخبارًا » : انتهيا، ثم قال بارتباك
وحدَّق فيه عبر نظارته ببعضالألم. «؟ أخبار » : كرَّر سايمون الحديث قائلًا
«. أجل، أنا آسف، لقد وقعتْ جريمة قتل أخرى » : تحدث الأب براون بلطف
انتفضالرجلان من على المقعد؛ فغادراه وهو يهتز.
والأغرب من » : تابع القس حديثه، وهو يرنو بعينَيه الخاملتَين إلى شجيرات الردندرة
ذلك، أنها من نفس النوع المقزِّز: جريمة قطع رأسٍأخرى. لقد وجدوا الرأسَالثاني ينزف
«… في النهر على بُعد بضع ياردات في طريق برين إلى باريس؛ لذا فإنهم يظنُّون أنه هو
«؟ أيتها السماء! هل يعاني برين من هوَسٍ أحُادي » : صاح أوبراين
إنهم يريدون منكما أن » : ثم أضاف ،« ثمة عمليات ثأر أمريكية » : قال القس بهدوء
«. تأتيا إلى المكتبة لتشاهداه
تبع القائد أوبراين الآخرَين متوجِّهين إلى الاستجواب، وقد كان يشعر بكل تأكيد
بالسقم؛ فبصفته جنديٍّا، كان يمقت هذه المذبحة المتكتَّمة بأَسرها. عند أي نقطة ستتوقفُ
عملية تقطيع الأشلاء المتطرِّفة هذه؟ في البداية، قُطِع رأس، ثم آخر، وراح يقول لنفسه
بمرارة، إنه من غير الصحيح القول إنَّ رأسَين أفضل من رأسٍ واحد في هذه الحالة. وبينما
كان يعبر غرفة المكتب، كادتْ مصادفةٌ صادمة أن تجعله يترنَّح من الذُّهول. فعلى منضدة
فالانتين، استقرَّت صورةٌ ملونة لرأسٍ ثالث ينزف؛ وقد كانت رأس فالانتين نفسه. ومن
أي المقصلة. « ذا جيلوتين » النظرة الثانية، تبين له أنها كانت مجرد جريدةٍ وطنية، تُدعى
كانت هذه الجريدة تَعرضفي كل أسبوعصورةً لأحد خصومها السياسيين بعينَين دائريتين
في محجرَيهما وملامح يبدو عليها تلَوِّي هذا الشخص من الألم بعد الإعدام مباشرة؛ إذ
كان فالانتين من المعارضين البارزين لسُلطة الكنيسة. أما أوبراين، فقد كان أيرلنديٍّا، وكان
يتَّسمُ بشيء من العفَّة حتى في آثامه؛ فشعر بالتقزُّز تُجاهَ تلك الوحشية الهائلة في الفِكر،
والتي لا وجودَ لها إلا في فرنسا. استشعرَ باريس بأكملها، من زخارف فن الجروتسك على
الكنائس القوطية، وحتى الرسوم الكاريكاتورية الشائنة التي تُعرَضفي الصحف. وتذكر
مفارقات الثورة وسخريتها العظيمة. كان يرى أنَّ المدينة بأكملِها وحدةٌ واحدة من الطاقة
القبيحة، بدايةً من الصورة الدموية التي تقبَعُ على منضدة فالانتين، وحتى قمة جبل وغابة
من تماثيل حيوانات الجرجول الأسطورية، حيثُ يبتسم الشيطان العظيم ابتسامةً عريضةً
من فوق كاتدرائية نوتردام.
كانت المكتبة طويلةً ومنخفضة ومظلمة؛ كان الضوءُ الذي يدخُل إليها ينبعثُ من
تحت الستائر الخفيضة، وكان لا يزال يحمل بعضًا من مسحة الصباح الوردية. كان
فالانتين وخادمه إيفان ينتظرانهم على الطرف الأعلى لمكتبٍ طويل ومائل بعضَ الشيء،
حيث كانت تقبع بقايا القتيلين، وكانت تبدو ضخمةً في الشفَق. كان في مواجهتهما الجسد
الأسود الضخم والوجه الأصفر للرجل الذي وجَدوه في الحديقة، وكانا دون أي تغير جوهريٍّ
فيهما. أما الرأس الثاني الذي انتشلوه من بين بوصالنهر في ذلك الصباح، فقد ظلَّ يسيل
ويقطر بجانبه؛ وكان رجالُ فالانتين لا يزالون يحاولون العثورَ على بقية هذه الجثة الثانية،
والتي كان من المفترضأن تكون طافية. أما الأب براون، والذي لم يكن يبدو أنه يُشاطر
أوبراين مشاعره الحساسة على الإطلاق، فقد توجَّه إلى الرأس الثاني وفحَصَه بعنايته
الشديدة. لم يزد، إلا قليلًا، عن كونه كتلةً كثيفة من الشعر الأبيض المبتلِّ، حوافه ذات
لونٍ فضيٍّمتأجج في ضوء الصباح الأحمر المنبسط. وأما الوجه الذي بدا قبيحًا ومصطبغًا
باللون الأرجواني، وربما كان يبدو من النوع الإجرامي، فكان قد تعرضلضرباتٍ عنيفة
من الأشجار أو الأحجار عند رميِه في الماء.
صباح الخير أيها القائد أوبراين. أعتقد أنك » : تحدَّث فالانتين بلهجةٍ وديةٍ هادئة
«؟ سمعت عن آخر التجارب التي قام بها برين في الذَّبح، أليس كذلك
كان الأب براون لا يزال مُنحنيًا على الرأس ذي الشعر الأبيض، وقال دون أن يرفع
«. أعتقد أنَّه من المؤكد أن برين هو الذي قطَع هذا الرأسَ أيضًا » : بصره
حسنًا، يبدو ذلك منطقيًا. لقد قُتل بالطريقة نفسها » : قال فالانتين ويداه في جيوبه
التي قُتل بها الرجل الآخر، وعُثِر عليه على بعد بضع ياردات منه، وذُبِح بالسلاح نفسه،
«. الذي نعلم أنه أخذه معه وأبعده
أجل، أجل، أعرف. غير أنني أشك في أن يكون برين هو » : أجاب الأب براون بإذعان
«. مَن قطع هذا الرأس
«؟ ولمَ لا » : استفهم الدكتور سايمون بنظرةٍ عقلانية
حسنًا، أيها الطبيب، هل يمكن لرجل أن يقطع رأسه؟ لا » : قال القس دون أن يرمش
«. أدري
شعر أوبراين وكأن عالَمًا مجنونًا يتصادَم عند أذنَيه؛ أما الطبيب فانتفضَإلى الأمام
مدفوعًا بحسٍّ عمليٍّ طائش، وأزاح الشعرَ الأبيضالمبتل إلى الخلف.
«. آه، إنه برين بلا شك. لقد كانت لديه تلك الشُّطْفَة في أذنه اليُسرى » : قال القسبهدوء
فتح المحقِّق، الذي كان ينظر إلى القس بعينَين ثابتتَين ولامعتَين، فمَه المزموم وقالَ
«. يبدو أنك تعرف الكثيرَ عنه أيها الأب براون » : بحدة
أجل، هذا صحيح. لقد كنتُ قريبًا منه على مَدار عدة » : قال الرجل الضئيل ببساطة
«. أسابيع؛ إذ كان يفكر في الانضمام إلى كنيستنا
لمعت عينا فالانتين بنظرتِه الخبيرة بالمتعصبين دينيٍّا؛ وسار باتجاه القس بيدين
وربما كان يفكِّر أيضًا في أن يترك جميعَ أمواله » : مقبوضتين، وصاح فيه بسخريةٍ لاذعة
«. لكنيستك
«. ربما، هذا مُحتمل » : أجاب براون دون مبالاة
في هذه الحالة، ربَّما تعرفبالفعل الكثير » : صاح فالانتين، وعلى وجهه ابتسامةٌ مرعبة
«… عنه، عن حياته وعن
اسحب كلامك القذِر الشائن » : وضع القائد أوبراين يده على ذراع فالانتين، وقال
«. يا فالانتين، وإلا فربما سيكون ثمةَ المزيد من السيوف
لكنَّ فالانتين كان بالفعل قد استعادَ هدوءَه (تحت تأثير نظرة القس الثابتة
حسنًا، يمكن لآراء الناس الشخصية أن تنتظر. وأنتم أيها » : والمتواضعة)، وقال بسرعة
السادة ما زلتم مُلزَمين بالحفاظ على وَعدكم بالبقاء؛ عليكم أن تطبِّقوا هذا الوعدَ على
أنفسكم، وعلى بعضكم بعضًا. وها هو إيفان هنا سيخبركم بأيشيءٍ آخر تودُّون معرفته؛
أما أنا، فيجب أن أبدأ في العمل وأحُيل الأمر كتابةً إلى السلطات. لا يُمكننا أن نُبقي هذا
«. الأمر طيَّ الكتمان أكثرَ من ذلك. سأكون في مكتبي أكتب إذا كان ثمةَ أيُّ أخبارٍ جديدة
هل » : وبينما كان رئيس الشرطة يخطو خارجًا من الغرفة، سأل الدكتور سايمون
«؟ من أخبارٍ جديدة يا إيفان
بقي أمرٌ واحد يا سيدي، على ما أعتقد، » : أجاب إيفان، مقطِّبًا وجهه الرمادي العجوز
وأشار إلى الجسد ،« غير أنَّ له أهميته أيضًا. بقي أمر هذا العجوز الذي وجدتموه على العُشب
لقد توصلنا إلى » : الأسود الضخم، والرأس الأصفر، دون أن يبدي احترامًا لهما، ثم أكمل
«. هُويته، على أي حال
«؟ حقٍّا! ومَن هو » : صاح الطبيب المندهش
اسمه أرنولد بيكر، غير أنه كان يستخدم العديد من » : تحدث مساعد المحقق قائلًا
الأسماء المستعارة. لقد كان أحد المجرمين الأنذال الذين يتجوَّلون من مكان إلى مكان.
ويُعرَف عنه أنه قد زار أمريكا قبل ذلك؛ لذا كان هذا هو ما دفع برين إلى أن يغرزَ فيه
سِكينه. لم يكن لنا شأنٌ كبير به؛ إذ كان معظم عمله في ألمانيا. لقد تواصلنا بالطبع مع
الشرطة الألمانية، لكنَّ الأمر الغريب، هو أنَّ له توأمًا، اسمه لويس بيكر، وقد كان لنا شأنٌ
كبير به. في الواقع، لقد وجَدنا أنه من الضروري أن ننفذ فيه حكم الإعدام بالأمس فقط.
حسنًا، إنه أمرٌ غريب أيها السادة، لكنني أصُبت بأعظم ذهول في حياتي حين رأيت هذا
الرجلَ مستلقيًا على العشب. لو لم أرَ بأمِّ عيني لويس بيكَر يُعدم، لأقسمتُ أنَّ لويس بيكَر
هو ذلك الرجل المستلقي على العشب. ثم، بالطبع، تذكرت توأمه الموجود في ألمانيا، ولمَّا
«… تتبعتُ الخيط
توقف إيفان عن إيضاحه لسببٍ وجيه، وهو أنه لم يكن هناك مَن يستمع إليه. كان
كلٌّ من القائد والطبيب يحدقان في الأب براون، الذي كان قد انتفضواقفًا بتصلُّبٍ، ممسكًا
صُدغيه بقوة كمَن يعاني من ألمٍ مفاجئ وعَنيف.
توقف، توقف، توقف! توقف عن الحديث لدقيقة؛ فأنا لا أرى إلا » : وراح يصيح
نصفَ الصورة. هل سيمدُّني الرب بالقوة؟ أيُفيق عقلي من سُباته ويرى الصورة الكاملة؟
فلتساعدني السماء! لقد عهدتُ نفسي جيِّدًا في التفكير إلى حدٍّ كبير. إن بمقدوري أن أعُيد
صياغةَ أيِّ صفحةٍ من كتابات توما الأكويني بعباراتٍ أخُرى. هل سينفجر رأسي أم إنني
«. سَأراها؟ إنني أرى النصف، أنا لا أرى سوى النِّصف
دفن رأسَه في يديه، ووقف كمن يخوض معاناةً شديدةً وهو يفكِّر أو يؤدي صلاةً،
بينما لم يكن في وسع الثلاثة الآخرين فعلُ شيءٍ سوى الاستمرار في التَّحديق نحو هذه
الأعجوبة الأخيرة في الاثنتي عشرة ساعة الغريبة التي مرَّت بهم.
حين نزلت يدا الأب براون عن رأسه، بدا وجهه نضِرًا وجادٍّا كوجه طفل. تنهد تنهيدةً
لننتهِ من هذا الأمر ونحسمه بأسرع ما يُمكن. استمعوا إليَّ، هذه هي » : ضخمة، وقال
دكتور سايمون، » : والتفت إلى الطبيب وقال «. الطريقة الأسرع لتقتنعوا جميعًا بالحقيقة
إنك تتمتع بذهنٍ حادٍّ، وقد سمعتك هذا الصباح تطرح أصعبَ خمسةِ أسئلةٍ بشأن هذه
«. الواقعة. حسَنًا، إذا طرحتها مجددًا، فسوف أجيبك عنها
وقعتْ نظارة سايمون عن أنفه وبدا في شك ودهشة في الوقت ذاته، لكنه أجاب على
حسنًا، لقد كان السؤال الأول هو: لماذا يقتل رجل رجلًا آخر بسيف ضالعٍ ثقيل، » : الفور
«؟ في حين أنه يستطيع قتلَه بخنجر
لا يمكن لرجلٍ أن يقطع رأسرجل بخنجر، وقد كان قطع الرأس » : قال براون بهدوء
«. أمرًاضروريٍّا للغاية في واقعة القتل هذه
«؟ لماذا » : تساءل أوبراين باهتمام
«؟ والسؤال التالي » : وسأل الأب براون
حسنًا، لماذا لم يصرخُ الرجل أو يفعل أيشيء؟ من المؤكَّد أنَّ وجود » : فتحدث الطبيب
«. سيف في الحديقة أمرٌ غير معتاد
ثم التفتَ إلى النافذة التي «. أغصان الشجر » : أجاب القس والكآبة بادية على وجهه
لم ينتبه أحدٌ لأغصانِ الشجر. ما السببُ في » : كانت تطلُّ على مَسرح جريمة القتل، وأكمل
وجودها على ذلك العشب؟ انظروا إليها. إنها بعيدة للغاية عن أيٍّ من الأشجار. إنها لم
تنكسر، بل قُطِعت. لقد شغل القاتل عدوه بأداء بعضِالخدع بالسَّيف الضالع، فأراه كيف
أنه يستطيع قطعَ غصن وهو في الهواء، أو شيئًا من هذا القَبيل. وبعد ذلك، وبينما كان
«. عدوه ينحني ليرى النتيجةَ، نزلتضربة سيف صامتة على رأسه، الذي سقط
حسنًا، يبدو ذلك منطقيٍّا بدرجةٍ كافية. لكنَّ سؤاليَّ التاليين » : قال الطبيب ببطء
«. سيستعصيان على فهم أي شخص
كان القس لا يزال واقفًا ينظر بجدِّيَّة من النافذة وينتظر.
تعرفون أنَّ الحديقة بأكملها مغلقةٌ كغرفةٍ محكمة الغلق. » : تابع الطبيب حديثه
«؟ حسنًا، كيف دخل الرجل الغريبُ إلى الحَديقة
«. لم يتواجد أيُّ رجلٍ غريب في الحديقة مُطلقًا » : أجاب القس الضئيل دون أن يَلتفت
سادتْ فترة من الصَّمت، ثم انطلق صوتُ ضحكٍ طفولي خفَّفَ من التوتُّر. دفعت
آه! إذن فنحن لم نجرَّ جثةً » : منافاةُ تعليق براون للمنطق إيفان إلى البدء في التهكُّم؛ فصاح
«؟ ضخمة سمينة إلى الأريكة في الليلة الماضية؟ فهو لم يدخل الحديقة، أليس كذلك
«. دخل الحديقة؟ كلا، ليس الأمر كذلك تمامًا » : ردد براون متأملًا
«. تبٍّا! إما أن يكون الرجل قد دخل الحديقة، وإما أنه لم يدخل » : صاح سايمون
ليس بالضرورة. ما السؤال التالي، أيها » : تحدث القس وعلى وجهِه ابتسامةٌ باهتة
«؟ الطبيب
أعتقد أن ثمة علةً بك، لكنني سأطرح » : كان الدكتور سايمون متعجِّبًا وصاحَ بحدة
«؟ عليك السؤال التالي إن كان هذا هو ما ترغَبُ فيه. كيف خرج برين من الحديقة
«. إنه لم يخرجْ من الحديقة » : تحدَّث القس وهو لا يزال ينظُر من الشرفة
«؟ لم يخرج من الحديقة » : اندفع سايمون قائلًا
«. ليس تمامًا » : تحدث الأب براون
إما أن يكون الرجل قد » : لوَّح سايمون بقبضتَيه في نوبةٍ من المنطق الفرنسي، وصاح
«. خرج من الحديقة، وإما أنه لم يخرج
«. ليس دائمًا » : قال الأب براون
ليس لديَّ » : انتفض الدكتور سايمون واقفًا على قدمَيه بنفاد صبر، وصاح بغضب
وقتٌ أضيعه في مثل هذا الكلام الذي لا معنَى له. إن كنت لا تستطيع أن تفهم ما إذا كان
«. رجل على هذا الجانب من السور أم على الجانب الآخر؛ فلن أزعجك أكثر من ذلك
أيها الطبيب، لقد كنَّا دائمًا على وِفاقٍ جيِّد فيما » : تحدث القس بلطفٍ شديد وقال
«. بيننا. تمهَّلْ واتْلُ عليَّ سؤالك الخامس، ولو لأجل الصداقة القديمة فحسب
كان الرأس » : جلس سايمون ضائقَ الصَّدر على كرسي بجوار الباب، وقال بإيجاز
«. والكتفان قد جُرِحا هنا وهناك بطريقةٍ غريبة. وبدا أنَّ ذلك قد تمَّ بعد موتِ الرجل
أجل، لقد تمَّ ذلك لجعلك تفترض ذلك الافتراضَ » : قال القس الساكن بلا حراك
الخاطئ الوحيد الذي افترضته. لقد فَعل ذلك لكي يجعلك تُسَلِّم بكون الرأس ينتمي إلى
«. الجسد
تحركت المنطقة البينية في العقل، والتي تُصنع فيها جميع الوحوش، تحرُّكًا شنيعًا
داخل أوبراين الأيرلندي. لقد استشعر الحضور الفوضوي لجميع الرجال الخيول والنساء
السمكات، والذي أنجبته مخيلة البشر الغريبة. وبدا أنَّ صوتًا أقدم من آبائه الأوائل يقول
ابتعد عن الحديقة المخيفة التي تنمو فيها الشَّجرة التي تُثمر الفاكهة الخادعة. » : في أذنه
بالرغم من ذلك، فبينما كانت «. اجتنب الحديقة الشريرة التي ماتَ فيها الرجل ذو الرأسَين
هذه الأشكال الرمزية المخزية تمرُّ أمام المرآة القديمة لروحه الأيرلندية، فإنَّ عقله المنطقي
ذا الصبغة الفرنسية، كان منتبهًا للغاية، وكان يراقب القس الغريب بتفحُّص وتشكك،
مثلما كان يفعل جميع الباقين.
استدار الأب براون أخيرًا، ووقف قبالة النافذة، وكان وجهه مكسوٍّا بظلٍّ كثيف؛
وبالرغم من هذا الظل، فقد استطاعوا أن يروا أنه كان شاحبًا كالرماد. ومع ذلك فقد
تحدث بعقلانيةٍ تامة، كما لو لم يكن ثمة أرواحٌ أيرلندية على الأرض.
يا سادة، إنكم لم تجدوا جسد بيكَر الغريب في الحديقة. إنكم لم تجدوا أي جسد » : قال
غريب في الحديقة. وفي وجه عقلانية الدكتور سايمون، فإنني ما زلت أؤكد لكم أنَّ بيكَر لم
مشيرًا إلى الكتلة السوداء للجثة الغامضة)، ) «! يكن حاضرًا إلا بشكلٍ جزئي. انظروا هنا
«؟ إنكم لم تروا ذلك الرجل أبدًا في حياتكم. هل رأيتم هذا الرجل من قبلُ » : ثم أكمل قائلًا
وبسرعةٍ دحرج الرأسالأصلع الأصفر المجهول بعيدًا، ووضع مكانه الرأسذا الخصلة
البيضاء المجاور له. وعندئذٍ، أصبح جوليوس كيه برين مستلقيًا، كاملًا كوحدةٍ واحدة
بشكلٍ واضح لا يقبل الشك.
لقد قطع القاتل رأسعدوه، ورمى السيف بعيدًا من على » : تابع براون حديثه بهدوء
السور، لكنه كان ماهرًا للغاية، فلم يرمِ السيف فقط، بل رمى الرأسمن على السور أيضًا.
بعد ذلك، ما كان عليه إلا أن يضيف رأسًا آخر إلى الجثة، ولأنه أصرعلى تحقيقٍ خاص،
«. فقد تخيلتم جميعًا رجلًا جديدًا
يضيف رأسًا آخر! أي رأسٍ آخر؟ إنَّ الرءُوس لا تنمو على » : تحدث أوبراين محدقًا
«؟ شجيرات الحديقة، أليس كذلك
ثمة » : ثم تابع حديثه وهو ينظرُ إلى حذائه ،« بلى » : تحدث الأب براون بصوتٍ أجش
مكانٌ واحد فقط تنمو فيه. إنها تنمو في سلة المقصلة، والتي كان رئيس الشرطة، أريستيد
فالانتين، يقف بجوارها قبل ساعة من حادث القتل فقط. والآن يا أصدقائي، استمعوا إليَّ
لدقيقة قبل أن تمزِّقوني إلى أشلاء. إنَّ فالانتين رجلٌشريف، لو كان الغضب من أجل قضية
جدليَّةضربًا من الشرف. لكن ألم تروا في عينه الرمادية الباردة أنه غاضب! إنه سيفعل أي
شيء، أيشيء، لكي يُسقِط ما يدعوه باسم خرافة الصليب. لقد قاتل من أجل هذه القضية
وعانى من أجلها، وها هو الآن قد ارتكب جريمة قتل في سبيلها. إنَّ ملايين برين المجنونة،
قد ظلَّتْ حتى ذلك الحين موزَّعةً بين العديد من الطوائف؛ فما كانت تغير من توازن الأمور
إلا قليلًا. أما الآن، فقد سمع فالانتين بعضَالهمس بأنَّ برين، كغيره العديد من المتشكِّكين
المُشتتي العَقل، في سبيله إلى أن يتحوَّل إلى كنيستنا، وكان ذلك أمرًا مختلفًا تمامًا. كان
برين سيضخُّ الكثير من الموارد إلى كنيسة فرنسا الفقيرة المشاكسة؛ وكان سيدعم ست
كانت المعركة متوازنة بالفعل عند مرحلةٍ محددة، وجُنَّ .« ذا جيلوتين » جرائدَ وطنيةٍ مثل
جنون هذا المتعصِّب من وجود هذا الخطر؛ فقرر أن يقتل المليونير، وقد فعل ذلك بالطريقة
التي يتوقعها المرء من أعظم محقِّق يرتكبُ جريمته الوحيدة. لقد أخذ رأس بيكَر المقطوع
متعللًا بأي سبب يتعلق بعلم الجريمة، وأحضره إلى المنزل في صندوقِه الرسمي. وخاض
ذلك الجدال الأخير مع برين، والذي لم يسمع اللورد جالوي نهايته؛ ولما خسرهذا الجدال،
اقتاده إلى الحديقة المغلقة، وتحدث معه عن المبارزة بالسيف، واستخدم أغصان الشجر
«… والسيف الضالع للتوضيح، ثم
أيها المخبول! ستأتي معي إلى سيدي الآن، » : انتفض إيفان ذو الندبة واقفًا وصاح
«… وإن أخذتك ب
مهلًا، لقد كنتُ ذاهبًا إليه بالفعل؛ فعليَّ أن أطلب » : تحدث الأب براون بتثاقل قائلًا
«. منه الاعتراف وما إلى ذلك
وبينما كانوا يسوقون براون التعيس أمامهم كأنه رهينة أو قربان، اندفعوا معًا إلى
السكون المفاجئ لغرفةِ مكتب فالانتين.
كان المحقِّق العظيم جالسًا على مكتبه، وبدا لهم وكأنه كان مشغولًا للغاية فلم يسمع
دخولهم العنيف. توقفوا للحظة، ثم كان ثمة شيء في مظهر هذا الظَّهر المستقيم الأنيق
جعل الطبيب يجري فجأة إلى الأمام. وبمجرد لمسة ولمحة، تبيَّن له وجود علبة صغيرة من
حبوب الدواء بجوار مرفق فالانتين، وأنَّ فالانتين كان ميتًا في كرسيِّه؛ وعلى وجه المنتحر
الذي ذهب نورُ عينيه، ارتسمتْ ملامح كبرياء، فاق كبرياء كاتو