GilbertKeith

شارك على مواقع التواصل

ما تزال قصة الغريبَين المُتنافرَي المظهر العجيبة عالقةً في ذاكرة البعضفي تلك المنطقة من
الكبير الهادئ عَبْر حدائقه على « مايبول آند جارلاند » ساحل ساسكس، حيث يُطِلُّ فندق
البحر. إذ يُحكى أنَّ شخصَين ذوَيْ مظهرٍ مُتنافرٍ على نحوٍ لافتٍ للنظر دخلا بالفعل هذا
الفندق الهادئ في عصريومٍ مشمس، كان أحدهما بارزًا بوضوح في ضوء الشمس ومرئيٍّا
من جميع أنحاء الشاطئ لأنَّه كان يعتمر عمامةً خضراء لامعة تحيط بوجهه الأسمر ولحيته
السوداء، وبدا الآخر للبعض أغرب وأشدَّ شذوذًا لأنَّه كان يعتمر قبعة قسٍّ سوداء مرنة
فوق وجهٍ ذي شاربٍ أصفر وشعرٍ أصفر بطول شعر الأسد. وقد كان ذلك الآخر على الأقل
« باند أوف هوب » يُرى كثيرًا وهو يَعِظ في الشواطئ أو يتولَّى أمرَ تجمُّعات تابعة لجمعية
الخيرية مستخدمًا مجرفة خشبية صغيرة، لكنه لم يُرَ من قبل بالتأكيد داخل حانة فندق.
غير أنَّ وصول هذين الرفيقَين العجيبَين إلى الفندق كان ذروة القصة، وليسبدايتها، ولكي
تُصبح القصصالغامضة واضحةً قدر المستطاع، فمن الأفضلسَردها من بدايتها.
قبل أن يدخل هذان الشخصان اللافِتان الفندقَ بنصف ساعة ويُلاحِظَهما الجميع،
دخله شخصان آخران عاديان جدٍّا، ولم يُلاحظهما أحد؛ كان أحدهما رجلًا ضخم البنيان
ووسيمًا رغم ضخامته، لكنَّه كان يملك مقدرةً خاصة على شغلِ حيِّزٍ صغير جدٍّا، كأنَّه
مجرَّد خلفية، ولا يتبيَّن إلَّا بتدقيقٍ مُرتاب شِبه مَرَضيٍّفي حذائه أنَّه مُفتِّش شُرطي يرتدي
ثيابًا مَدَنية عادية، بل عادية جدٍّا؛ أمَّا الآخر، فكان رجلًا قصيرًا شاحبًا غير جديرٍ بالانتباه،
ذا ثيابٍ عادية أيضًا، ولكن تصادَف أنَّها ثياب قسٍّ، ولكن لم يره أحدٌ يَعِظُ في الشواطئ
من قبل.
ولسببٍ معيَّن حَدَّد جميع أحداث عصر ذلك اليوم المأساوي، وجَد هذان المسافران
أيضًا نفسيهما في قاعةٍ أشبه بغرفةٍ كبيرة مُخصَّصة للتدخين وبها حانة. إن الحقيقة هي
.« يُعاد طلاؤه وتزيينه » كان « مايبول آند جارلاند » أنَّ الفندق الحسن السمعة الذي يُدعى
لكنَّ هذه التجديدات جعلت أولئك الذين كانوا يحبونه في الماضييقولون إنَّه يُشوَّه، أو ربما
يُقضَى عليه. وكان هذا هو رأي المُتذمِّر المحلي، السيد راجلي، المُسِن الغريب الأطوار الذي
كان يشرب كأسًا من براندي الكَرز في أحد أركان القاعة ويتفوَّه بلعناتٍ غاضبة. على أي
حال، كان الفُندق يُجرَّد بعنايةٍ من كلِّ المؤشِّرات التي توحي بأنَّه كان نُزُلًا إنجليزيٍّا في
السابق، وكان يُحوَّل بهمَّة ونشاطٍ، ياردةً ياردة وغرفةً غرفة، إلى مكانٍ أشبه بقصرٍيملكه
لكنَّ الجزء الوحيد ،« يُعاد تزيينه » مُرابٍ شاميٌّ في فيلمٍ أمريكي. باختصار، كان الفندق
الذي اكتمل تجديده، والذي كان بإمكان النزلاء أن يشعروا فيه ببعض الارتياح حتى
هذه اللحظة، كان هذه القاعة الكبيرة المؤدية إلى خارج بهو الفندق. وكانت هذه القاعة
وقد ،« صالون لاونج » لكنَّ اسمها تغيَّر تغيُّرًا غامضًا إلى « بار بارلور » مُكرَّمةً سابقًا باسم
حديثًا على طراز ديوانٍ آسيوي؛ وذلك لأنَّ المنظر العام الجديد أصبح يعجُّ بطُرُز « زُيِّنت »
الزينة الشرقية، وحيث كان يوجد بندقيةٌ مُعلَّقة على خطافات ولوحاتٌ رياضية وسمكة
محنَّطة في وعاء زجاجي، أصبح يوجد الآن ستائر من الأقمشة الشرقية وسيوف محدَّبة
وسكاكين وخناجر تذكارية، كأنَّها تحضيرٌ غير مقصود لمجيء الرجل ذي العمامة، لكنَّ
بيت القصيد من كلِّ ذلك أنَّ النزلاء القلائل الذين وصلوا كانوا يُقتادون إلى هذه القاعة
التي اكتمل تنظيفها وتزيينها؛ لأنَّ الغُرَف التقليدية المُخصَّصة للإقامة كانت قيد الطلاء
والتزيين آنذاك. وربما كان هذا هو السبب أيضًا الذي جعل هؤلاء النزلاء القلائل يتعرَّضون
للإهمال نوعًا ما؛ إذ كان المدير والموظفون الآخرون منشغلين بتقديم تفسيراتٍ أو إرشاداتٍ
في مكانٍ آخر. على أيِّ حال، اضطرَّ المسافران الأوَّلان إلى الانتظار بعض الوقت دون أن
يقابلهما أيٌّ من الموظفين. كانت الحانة آنذاك فارغةً تمامًا، وظلَّ المُفتِّش يقرع ويطرق
بنفاد صبرٍ على نَضَدِها، لكنَّ القس القصير كان قد ارتمى بالفعل على أحد كراسي القاعة
وبدا أنَّه لم يكن مُتعجِّلًا أيَّ شيءٍ على الإطلاق. بل إنَّ صديقه الشرطي حين التفت نحوه،
رأى وجهه المستدير خاليًا تمامًا من أيِّ تعبير، كما هي عادته في بعضالأحيان؛ إذ بدا أنَّه
يُحدِّق من خلال نظَّارته ذات العدستَين الأشبه بقمريْن إلى الحائط المطلي حديثًا.
ليسأمامي الآن سوى أن » : قال المفتشجرينوود، وهو يبتعد عن نَضدِ الحانة متنهِّدًا
أعرضعليك بِنسًا مقابل معرفة الأفكار التي تجول بخاطرك؛ إذ يبدو أن لا أحدَ هنا يريد
بِنساتي مقابل أيِّ شيء آخر. ويبدو أنَّ هذه هي الغرفة الوحيدة في الفندق التي ليست
مليئة بالسلالم ودِلاء الطلاء، بل إنَّها فارغة جدٍّا لدرجة عدم وجود ساقٍ يُعطيني حتى
«. كأسًا من الجعة
أوه … لا تستحق أفكاري بنسًا واحدًا، فضلًا عن » : قال القس وهو يمسح نظَّارته
كأسٍ من الجعة. لا أعرف سبب ذلك … لكنِّي كنت أفكر في أنَّ ارتكاب جريمة قتلٍ هنا
«. سيكون سهلًا جدٍّا
كلُّ أمورِك تسير على أحسن ما يرام أيُّها الأب براون. » : قال المفتش مُداعِبًا صديقه
لقد حللتَ جرائم قتل أكثر بكثير من نصيبك العادل، فيما نظلُّ نحن الشرطيين المساكين
نتعطَّش طوال حياتنا ولو لحلِّ جريمة قتلٍ صغيرة. ولكن لماذا تقول … أوه فهمت، إنَّك
تنظر إلى كل تلك الخناجر التركية المُعلَّقة على الحائط. يوجد هنا الكثير من الأدوات التي
يُمكن ارتكاب جريمة قتل بها، إذا كان هذا ما تقصده، لكنَّها ليست أكثر ممَّا يوجد في أيِّ
مطبخ عادي من سكاكين أو قضبانٍ لتذكية النار أو ما إلى ذلك؛ لذا فهذا ليس المكان الذي
«. قد تظهر فيه جريمة قتل مُفاجئة
بدا أن الأب براون يستحضرأفكاره المُشتَّتة ببعضالحيرة، وقال إنَّه يظنُّ ذلك.
القتلُ سهلٌ دائمًا. فما من شيءٍ أسهل من القتل؛ إذ يمكنني » : قال المفتش جرينوود
قتلُك الآن، بسهولةٍ أكبر من إمكانية الحصول على مشروب في هذه الحانة اللعينة. الصعوبة
الوحيدة هي ارتكاب جريمة قتل دون أن يُتَّهم فاعلها بأنَّه القاتل؛ فالإعراضعن الاعتراف
بارتكاب جريمة قتل، وتحفُّظ القتلة السخيف حيال روائعهم الإجرامية، هو الذي يخلق
تلك الصعوبة؛ لذا سيلتزمون بالفكرة الثابتة الخارقة المتمثلة في قتل ضحاياهم دون أن
يُفتضَح أمرهم، وهذا ما يردعهم عن القتل، حتى في غرفةٍ مليئة بالخناجر، وإلَّا أصبَح كلُّ
محلِّ سكاكين مكتظٍّا بأكوامٍ من الجثث. وهذا، بالمناسبة، يُفسِّر النوع الوحيد من القتل
الذي لا يمكن منعه بالفعل. ولذلك، بالطبع، دائمًا ما نُلام نحن الشرطيين المساكين على
عدم منعه. فحين يقتل مجنونٌ ملكًا أو رئيسًا، لا يمكن منعه؛ إذ لا يمكنك أن تجعل ملكًا
يعيش في قبوٍ لتخزين الفحم، ولا أن تحمل رئيسًا وتطوف به في صندوقٍ من الصلب؛ ولذا
فأيُّ شخصٍلا يمانع أن يصير قاتلًا، يستطيع قتله. وهنا يصبح المجنون كالشهيد، في دُنيا
«. موازية. دائمًا ما يُمكن أن يقتل المُتعصِّب الحقيقي أيَّ شخصٍيريد
وقبل أن يستطيع القس الرد، دخلت القاعةَ مجموعةٌ مبتهجة من المندوبين التجاريين
المتجولين مثل قطيعٍ من خنازير البحر، وجأرَ رجلٌ منهم ضخم متألِّق يرتدي ربطة عنقٍ
ذات دبوسٍ كبيرٍ ومتألِّق أيضًا بصيحةٍ هائلة جَلَبت المدير المتلهِّف المتذلِّل راكضًا، ككلبٍ
يهرع نحو صوت الصافرة، بسرعةٍ لم يستطع الشُّرطي ذو الثياب العادية استثارتها.
قال المدير، الذي ارتسمت ابتسامةٌ مرتبكة بعض الشيء على وجهه وتدلَّت إحدى
أنا في غاية الأسف بكلِّ تأكيد يا سيد » : خصلات شعره المموَّج الشديد اللمعان على جبينه
جوكس. إننا نعاني نقصًا في عدد الموظفين حاليٍّا، وكنتُ مضطرٍّا إلى أن أبُاشرشيئًا بنفسي
«. في الفندق يا سيد جوكس
كان السيد جوكس سخيٍّا، لكنَّه كان سخاءً صاخبًا، وطَلَبَ مشروباتٍ للجميع على
نفقته الخاصة، مُتكرِّمًا حتى بواحدٍ منها على المدير شبه المتذلل. وقد كان يعمل مندوبًا
تجاريٍّا متجولًا لدى إحدىشركات النبيذ والمشروبات الكحولية الشهيرة الرائجة جدٍّا، وربما
تصوَّر نفسه القائدَ الشرعي في مكانٍ كهذا. على أي حال، استهلَّ حديثًا فرديٍّا صاخبًا يميل
إلى تلقين المدير كيفية إدارة فندقه، وبدا أنَّ الآخرين يتقبَّلونه كصاحبِ سُلطة. وطوال هذا
الوقت، كان الشرطي والقس منزويَين في الخلفية على دكَّة منخفضة أمام طاولةٍ صغيرة،
حيث كانا يشاهدان الأحداث منها، حتى اللحظة اللافتة التي اضطرَّ فيها الشرطي إلى
التدخُّل بحسمٍ شديد.
إن الشيء التالي الذي حدث، كما ذُكِر سلفًا، كان الظهور المُدهش—على غرار التجليات
الدينية — للرجل الآسيوي الأسمر ذي العمامة الخضراء، مصحوبًا بظهورٍ أكثر إدهاشًا
(إنْ جاز التعبير) لقسٍّ بروتستانتي انشقاقي، ومثلُ هذه النُّذُر تظهرُ قبل الموت، وفي هذه
الحالة، لم يكن ثمة شكٌّ في الدليل الذي أكَّد هذا النذير؛ إذ شَهِد كلٌّ من الفتى الصموت،
لكن القوي الملاحظة، الذي كان يُنظِّف عَتَبات الفندق الخارجية طوال الساعة المنصرمة
(لأنَّه يعمل بتمهُّلٍ شديد)، وساقي الحانة الأسمر السمين الثقيل، وحتى المدير الدبلوماسي،
المُشتَّت رغم ذلك؛ المعجزة التي وقعت.
وقد بَرَز هذان الظهوران لأسبابٍ طبيعية تمامًا، كما يقول المُشكِّكون؛ فالرجل ذو
الشعر الأصفر الأسَدي والثياب الشبيهة بثياب القساوسة لم يكن مألوفًا بصفته واعظًا في
الشواطئ فحسب، بل كان داعيةً معروفًا ينشر دعوته في جميع أرجاء العالم المعاصر. لقد
حظر المشروبات » كان هو القسُّ ديفيد برايس-جونز، الذي كان شعاره الرنَّان المؤثِّر هو
وكان خطيبًا مفوَّهًا ومُنظِّمًا بارعًا، «. الكحولية والتطهُّر لوطننا والبريطانيين في الخارج
وقد خَطَرت بباله فكرةٌ كان يجب أن تخطر ببال أنصار حظر الكحوليات منذ أمدٍ بعيد.
كانت فكرةً بسيطة مفادها أنَّه ما دام تحريم الكحوليات هو الصواب؛ فهذا يعني أنَّ بعض
الفضل في ذلك يرجع إلى النبي الذي ربما كان أول دعاة تحريم المُسكِرات؛ ولذا كان يتراسَل
مع بعضأئمة الفِكر الديني الإسلامي، إلى أن نجح أخيرًا في إقناع إمام مُسلِمٍ بارز (كان أحد
بينما كانت الكلمات الأخرى منسوبةً إلى بعض أسماء لله غير القابلة « أكبر » كلمات اسمه
للترجمة) بالمجيء إلى إنجلترا وإلقاء محاضرةٍ عن الحُكم الإسلامي القديم الأزل بتحريم
الخمر والمُسكِرات، وبالتأكيد لم يدخل أيٌّ منهما حانة فندقٍ من قبل، لكنَّهما اضطرَّا إلى
دخولها بسبب الإجراءات المذكورة سلفًا؛ إذ اقتادهما أحد الموظفين من غُرفاحتساء الشاي
الأنيقة إلى القاعة المطلية والمزيَّنة حديثًا. وربما كان كلُّ شيءٍ سيسير على ما يرام لو لم
يذهب داعية حظر الكحوليات الشهير، بمنتهى البراءة، إلى نَضَدِ الحانة ويطلب كأسًا من
اللبن.
ومع أنَّ المندوبين التجاريين المتجولين كانوا مُهذَّبين، أطلقوا تأوهاتٍ عَفوية من شدة
المفاجأة حين سمعوا ذلك الطلب، وسُمِعَت همهمةٌ ببعضالدعابات الساخرة المكبوتة، مثل
لكنَّ السيد جوكسالضخم، «. من الأفضل أن تُخرج البقرة من جعبتك » أو «. اجتنب القَدَح »
الذي شعر بأنَّ مكانته ومظهره الراقي يُحتِّمان عليه أن يأتي بدُعابةٍ أكثر تهذيبًا، روَّح
يعرفون » : بيديه على وجهه كمروحةٍ ورقية كأنَّه على وشك الإغماء، وقال بنبرةٍ مثيرة للشفقة
أنَّهم يستطيعون إسقاطي أرضًا بريشةٍ. يعرفون أنَّ زفيرًا واحدًا سيذروني بعيدًا. يعرفون
أنَّ طبيبي أوصاني بعدم التعرُّض لهذه الصدمات. وها هُم يأتون ويشربون اللبن البارد
«. بدمٍ بارد أمام عيني
كان القس ديفيد برايس-جونز، المُعتاد على التعامل مع المشاكسين في الاجتماعات
العامة، طائشًا جدٍّا لدرجة أنَّه جازَف بإبداء تذمُّره من هذه الدعابات وإطلاق اتهاماتٍ
مضادة في هذه الأجواء المختلفة تمامًا والأكثر شعبية بكثير. أمَّا رفيقه الشرقي الممتنع عن
المُسكرات، فامتنع عن الردِّ. ولا شكَّ أنَّ هذا التصرُّف زاده وقارًا. وفي الواقع، كان يرى أنَّ
الثقافة الإسلامية أحرزت بذلك انتصارًاصامتًا بالتأكيد؛ إذ تجلَّى بذلك أنَّه أرقى خُلُقًا بكثير
من المندوبين التجاريين، لدرجة أنَّهم بدءوا يُبدون غيظًا طفيفًا من تحفُّظه النبيل، وحين
بدأ السيد برايس-جونز يُشير في جدالٍ بينه وبينهم إلى شيء من هذا القبيل، تفاقم توتُّر
الأجواء للغاية.
أسألكم أيُّها » : وقال السيد برايس-جونز بإيماءاتٍ ممدودةٍ كأنَّه يخطب على منبر
الأصدقاء، لماذا يضرب صديقُنا هنا مثالًا للمسيحيين أمثالنا في ضبط النفس والأخُوَّة كما
أمرت بهما التعاليم المسيحية حقٍّا؟ ولماذا يقف هنا نموذجًا للمسيحية الحقيقية والتأدُّب
الحق والسلوك الراقي الصادق، وسط كل المشاحنات والمشاكسات في أماكن كهذه؟ لأنَّ على
الأقل تُربة روحه، بغضالنظر عن الاختلافات العقائدية بيننا، لم ينبُت فيها نباتٌ خبيث،
«… كالجنجل أو العنب الملعونين، قط
وفي هذه اللحظة العصيبة من الجدال، دخل الفندقَ مثل جيش غازٍ، جون راجلي
— الأشبه بطائر نوء يظهر مصحوبًا بمائة عاصفةٍ من الجدال — يدخل بوجهه الأحمر
وشعره الأبيض — معتمرًا قبعته العالية العتيقة على مؤخرة رأسه ومؤرجحًا عصاه
كالهراوة.
كان معظم الآخرين يرون جون راجلي مجنونًا. لقد كان يبعث برسائل إلى الصحيفة،
لكنَّها لم تكن تُنشَر في الصحيفة عادةً، بل تُنشر بعد ذلك على هيئة كتيبات مطبوعة (أو
سيئة الطباعة بالأحرى) على نفقته الخاصة، وتوزَّع في نهاية المطاف على المئات من سلال
النفايات الورقية. وكان يدخل في مشادَّاتٍ مع الإقطاعيين المحافظين والمجالس الراديكالية
في المُقاطعة على حدٍّ سواء، وكان يكره اليهود، ولم يكن يثق في أيِّ شيء تقريبًا يُباع في
المتاجر، أو حتى في الفنادق. غير أنَّ نزواته الجنونية كانت مدعومة بحقائق؛ لأنَّه كان على
درايةٍ بكلِّ خبايا المُقاطعة وتفاصيلها الغريبة، وكان قوي الملاحظة. وحتى المدير، المدعو
بالسيد ويلس، كان يُبدي احترامًا مصطنعًا للسيد راجلي؛ إذ كان على درايةٍ فِطرية بنوعية
الجنون المسموح بها في الطبقة الراقية، وصحيحٌ أنَّ احترامه للسيد راجلي لم يكن كالتبجيل
المُتذلل الذي يُبديه تجاه العَظَمة المَرِحة للسيد جوكس، الذي كان بارعًا جدٍّا في التجارة،
لكنَّه على الأقل كان محض رغبةٍ في تجنُّب التشاجر مع المتذمر المُسِن؛ ربما كي يَسلَم من
لسانه.
أظنُّك ستشرب مشروبك » : قال السيد ويلسوهو ينحني ناظرًا بخُبثٍ عبر نَضَدِ الحانة
«. المعتاد يا سيدي
قال السيد راجلي متذمرًا وهو يخلع قبعته العتيقة الغريبة ويضعها أمامه بعُنف:
إنَّه المشروب الوحيد المناسب الذي ما زال لديك. سُحقًا، أحيانًا ما أظنُّ أنَّ الشيء الإنجليزي »
الوحيد المتبقي في إنجلترا هو براندي الكَرز؛ إذ يشعر المرء فيه بمذاق الكَرز. هل يُمكنك
أن تذكر لي أيَّ جعةٍ يشعر شاربها بمذاق الجنجل، أو أيَّ نبيذ تفاح يشعر شاربه بمذاق
التفاح، أو أيَّ نبيذ عنب يحوي أدنى مؤشرٍ على أنَّه مصنوعٌ من العنب؟ توجد بعض
الممارسات الخادعة الجهنمية التي تحدث الآن في كل فنادق البلد، والتي كانت ستُشعِل
ثورةً لو حدثت في أيِّ بلدٍ آخر. ويُمكنني القولُ إنني اكتشفت شيئًا أو اثنين بشأنها.
فلتنتظرْ حتى أطبعها، وحينئذٍ سيستفيق الشعب من غفلته. فإذا استطعت إيقاف تسميم
«… شعبنا بكلِّ هذه المشروبات السيئة
وهنا، مرَّة أخرى، أظهر القسُّ ديفيد برايس-جونز إخفاقًا واضحًا في التحلِّي باللباقة،
مع أنَّها كانت فضيلةً يكاد يقدِّسها. كان شديد الحماقة لدرجة أنَّه حاول تشكيل تحالف
مع السيد راجلي، بالخلط الساذج بين فكرة الشراب الكحولي السيئ وفكرة أنَّ تناول الشراب
الكحولي شيء سيئ. وسعى مرَّة أخرى إلى إقحام صديقه الشرقي الرزين الرابط الجأش
في الجدال، باعتباره أجنبيٍّا راقيًا، سلوكه أسمى من سلوكياتنا الإنجليزية الفظَّة. بل بَلغ
من الحماقة أنَّه تحدَّث من وجهة نظرٍ لاهوتية أوسع، حتى وصل به المطاف إلى ذِكر اسم
النبي محمد، الذي تكرَّر بعدها في انفعالٍ مُدوٍّ كالانفجار.
لعنة الربِّ على روحك! » : صاح السيد راجلي في ردِّه عليه من منظورٍ لاهوتي أضيق
أتقصدُ أنَّ الإنجليز يجب ألَّا يشربوا الجعة الإنجليزية؛ لأنَّ ذلك المدعي محمدًا حرَّم الخمر
«؟ في صحراء لعينة
وفي لحظةٍ واحدة، وصل المفتش إلى وسط الغرفة بخطوةٍ واسعة؛ ويرجع ذلك لأنَّ
اللحظة التي سبقتها شهدت تغيُّرًا ملحوظًا في سلوك الرجل الشرقي، الذي كان يقف حتى
تلك اللحظة ساكنًا تمامًا بعينَين ثابتتَين متلألئتَين. ولكن، في مفارقة لما قالهصديقه عن أنه
قدضَربَ مثالًا في مبادئ ضبط النفس والأخوة المسيحية حقٍّا، إذا به في هذه اللحظة يصل
إلى الجدار بوثبةِ نمر، وينتزع أحد السكاكين الثقيلة المُعلَّقة عليه، ويسدده بقوةٍ كحجرٍ
منطلق من مقلاع، فيستقر مُهتزًا اهتزازة طفيفة في الجدار فوق أذُن السيد راجلي بنصف
بوصةٍ بالضبط. وكان السكين سيستقرُّ بلا شكٍّ في جسد السيد راجلي لو لم يتدخل المفتش
جرينوود في الوقت المناسب ليدفعه بذراعه بقوة ويُبعده قليلًا عن مرمى السكين. ظلَّ الأب
براون جالسًا على مقعده يُراقب المشهد بعينَين شبه مغلقتَين وقسماتٍ ملتوية ناجمة عن
شيءٍ أشبه بابتسامةٍ في زوايا فمه، كأنَّه رأى شيئًا آخر يتجاوز العنف اللحظي الذي شهدته
المشادَّة.
ثم اتخذت المشادَّة منعطفًا غريبًا قد لا يفهمه الجميع، حتى يفهم الآخرون ماهية
أولئك الرجال أمثال جون راجلي فهمًا أفضل ممَّا يفهمونها بالفعل؛ وذلك لأنَّ المتعصِّب
المُسِن ذا الوجه الأحمر وَقَف وظلَّ يضحك بصخبٍ كأنَّه سمع أطرف نكتة على الإطلاق.
وبدا أنَّ كلَّ ذَمِّه اللاذع وتذمُّره الحاد قد فارقاه، وعامَل المُتعصِّب الآخر، الذي حاول قتله
للتو، بنوعٍ من اللُّطف الصاخب.
«! سُحقًا لك، إنَّك أول رجلٍ ألتقيه منذ عشرين عامًا » : إذ قال له
«؟ هل تريد أن توجه له اتهامًا، يا سيدي » : فقال المُفتِّش بارتيابٍ
أتَّهمه؟! بالتأكيد لا. بل كنتُ سأهديه مشروبًا على نفقتي لو كان يجوز » : قال راجلي
لهشُرب أيِّ مشروب. لم يكن يحقُّ لي التطاول على دينه، وأتمنَّى من الربِّ أن تكون لديكم
جميعًا أيُّها الحقراء الجرأة الكافية لقتل رجل، لن أقول للتطاول على دينكم لأنَّكم بلا أيِّ
«. دين، ولكن للتطاول على أيِّشيء، حتى ولو جِعتكم
ها هو يصفنا جميعًا الآن بالحقراء، ويبدو أنَّ السلام » : قال الأب براون لجرينوود
والوئام قد عادا إلى نصابهما. كنت أتمنى أن يُطعَن هذا الخطيب الناهي عن المسكرات
«. بسكين صديقه؛ لأنَّه كان السبب في كل هذا الأذى
وبينما كان يتحدث، بدأت الجماعات المتنافرة الموجودة في الغرفة تفترق بالفعل؛ إذ
أخلى بعض الموظفين الغرفة التجارية للمندوبين التجاريين، الذين ذهبوا إليها، ثم تبعهم
ساقي الحانة حاملًا دُفعةً جديدة من المشروبات على صينية. وظلَّ الأب براون يُحدِّق
بُرهةً إلى الكئوسالمتروكة على نضد الحانة، وسرعان ما عَرف كأس اللبن المشئومة، وكأسًا
أخرى تفوح منها رائحة الويسكي، ثم التفتَ في اللحظة المناسبة ليرى الافتراق بين هذين
الشخصين اللافتَين الغريبَين؛ المتعصِّب الشرقي والمتعصِّب الغربي. كان راجلي ما يزال
يُبدي لُطفًا صاخبًا حادٍّا، أمَّا الرجل المُسلم، فكان ما يزال فيه شيءٌ غامض قليلًا يُنذِر
بشؤمٍ ما، وربما كان ذلك شيئًا طبيعيٍّا، لكنَّه فارَق السيد راجلي بإيماءاتٍ جادة توحي
بإتمام مُصالحةٍ وقورة، وكانت كل المؤشرات تُشير إلى أنَّ المشكلة انتهت بالفعل.
ومع ذلك، ظلَّ تذكُّر هذه التحيَّة الوداعية المهذبة بين الرجلَين المتشاحنَين وتفسيرها
يحملان بعضالأهمية، في ذهن الأب براون على الأقل؛ وذلك بسبب الحدث الشديد الغرابة
الذي وقع لاحقًا؛ فحين نزل الأب براون من غرفته باكرًا جدٍّا في صباح اليوم التالي؛ لأداء
فروضه الدينية في الجوار، وجَد قاعة الحانة الطويلة، بزينتها الآسيوية الرائعة، مفعمةً
بضوءٍ أبيض شاحب من ضياء الفجر بَدَت فيه كلُّ تفاصيلها جليةً، وكان من بين هذه
التفاصيل جثَّةُ جون راجلي مُحدَّبةً ومكوَّمةً في أحد أركان القاعة بخنجرٍ معقوف ثقيل
المقبض مغروسٍ في قلبه
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.