تقاعد فلامبو — الذي كان أشهر مجرمي فرنسا ثم أصبح مُحقِّقًا خاصٍّا في إنجلترا — من
مجالَي الإجرام والتحقيق منذ أمدٍ بعيد. ويُقال إنَّ مسيرته الإجرامية خَلَّفت فيه قَدرًا هائلًا
من الهواجس أعاقه عن مواصلة العمل مُحقِّقًا. على أي حال، بعد حياة حافلةٍ بمغامرات
الهروب والمراوغات، انتهى به المطاف إلى مكان قد يعتبره البعض مناسبًا؛ قلعةٍ في إسبانيا.
كانت قلعةً راسخة بالرغم منصِغر حجمها نسبيٍّا، وكانت كرمات العنب الأسود والمساحات
الخضراء لحديقة المطبخ تُغطِّيان مساحةً كبيرة على جانب التلِّ البُنِّي. وكان فلامبو، بعد
كل مغامراته العنيفة، لا يزال لديه ما لدى الكثير من اللاتينيين وما يفتقر إليه الكثير من
الأمريكيين (على سبيل المثال)؛ ألا وهو القدرة اللازمة للتقاعد. ويمكن رؤية هذه القُدرة
في العديد من أصحاب الفنادق الفخمة الذين يُصبح طموحهم الوحيد أن يكونوا فلَّاحين
بُسطاء، وفي العديد من أصحاب المتاجر الفرنسية المحليين، الذين يتوقَّفون عن العمل
حين يمكن أن يتحولوا إلى أصحاب ملايين مثيرين للاشمئزاز يستطيعون شراء شارع من
المتاجر، ليعودوا إلى ديارهم مُكتفين بالعيشفيها في سكينةٍ وراحة وقضاء أوقاتهم في لعب
الدومينو. وقد وقع فلامبو مُصادفةً وتقريبًا فجأةً في حبِّ سيدة إسبانية، فتزوجها وأنشأ
أسرةً كبيرة في ضيعةٍ إسبانية دون أن تبدو عليه أيُّ رغبةٍ واضحة في الخروج منها أبدًا،
ولكن في صباح يومٍ ما، لاحظت أسرته أنَّه قلقٌ ومنفعلٌ على غير العادة، قبل أن يركض
على نحوٍ أسرع من الأطفال الصغار وينزل الجزء الأكبر من المنحدر الجبلي الطويل ليلتقيَ
الزائر الذي كان قادمًا عبر الوادي، حتى حين كان هذا الزائر ما زال يبدو مُجرَّد نقطةٍ
سوداء من بعيد.
ازداد حجم النقطة السوداء تدريجيٍّا دون تغييرٍ كبير في شكلها؛ لأنَّها ظلَّت، إن جاز
القول، مستديرةً وسوداء في أثناء اقترابها. وصحيحٌ أنَّ ثياب رجال الدين السوداء لم تكن
غريبةً في تلك التلال، لكنَّ ثياب هذا الزائر، وإن كانت كهنوتية، بَدَت، فور رؤيتها، شائعةً
وشبه أنيقةٍ مُقارنةً بأردية القساوسة والكَهَنة المعتادة، وكانت تشير بوضوحٍ إلى أنَّ مُرتديها
رجلٌ من الجُزُر الشمالية الغربية، كأنَّه يحمل لافتةً تُشير إلى أنَّه آتٍ من تقاطُع كلابام.
وكان يُمسك مظلةً قصيرةً سميكةً ذات مقبضٍ كالهِراوة، وحالما رآها صديقه اللاتيني،
اغرورقت عيناه بدموع التأثُّر؛ لأنَّها كانت حاضرةً في العديد من المغامرات التي تشاركاها
منذ فترةٍ طويلة. لقد كان هذا الزائر هو الصديق الإنجليزي لفلامبو الفرنسي، الأب براون،
الذي جاء إليه في زيارةٍ طال انتظارها كما طال تأجيلها. وصحيحٌ أنَّهما كانا يتراسلان
باستمرار، لكنَّهما لم يلتقيا منذ سنوات.
سرعان ما اندمج الأب براون في دائرة أسرة فلامبو، التي كانت كبيرةً بما يكفي
لإعطاء انطباعٍ عام بأنَّها عشيرةٌ أو مجتمع؛ إذ قدَّمه فلامبو إلى الصور الخشبية الكبيرة
ذات الخشب المطلي والمُذهَّب للملوك المجوس الثلاثة الذين يُحضرون الهدايا إلى الأطفال في
عيد الميلاد؛ لأنَّ شئون الأطفال تشغل حيِّزًا كبيرًا من الحياة المنزلية في إسبانيا. ثم قدَّمه
إلى الكلب والقط والماشية التي كانت تعيش في المزرعة، ولكن تَصادَف أنَّه قدمه أيضًا إلى
أحد الجيران، الذي جَلَب إلى هذا الوادي بعضالثياب والعادات الأجنبية من مناطق بعيدة،
شأنه في ذلك شأن الأب براون نفسه.
في الليلة الثالثة من إقامة القَسِّ في القلعة الصغيرة، رأى شخصًا غريبًا جليلًا يُحيِّي
الأسرة الإسبانية بانحناءةٍ لا يمكن لأيِّ إسبانيٍّ نبيل أن يضاهيها. لقد كان رجلًا مُهذَّبًا
طويلًا نحيفًا رمادي الشعر وشديد الوسامة، وتلمع يداه وطرفا كُمَّيه وأزرارهما لمعانًا
طاغيًا، لكنَّ وجهه الطويل لم يكن يُبدي أيَّ لمحةٍ من ذلك الكسل المرتبط بتقليم الأظافر
وأطراف الأكمام الطويلة كما يظهر في الرسوم الساخرة في بلادنا، بل كان يقظًا وحادٍّا
بعضالشيء، فيما كانت عيناه تعلوهما نظرةٌ استفهامية بريئة نادرًا ما تتوافق مع الشعر
الرمادي. وربما كان هذا كفيلًا بتمييز جنسية الرجل، مثلما كانت الخنخنة التي تغلبُ
على نبرته اللبقة وافتراضه البديهي للقِدَم السحيق لجميع الأشياء الأوروبية المحيطة به.
وفي الواقع، لم يكن هذا الرجل سوى السيد جرانديسون تشيس من بوسطن، وهو رحَّالةٌ
أمريكيٌّ أوقف لبعض الوقت رحلاته واستأجر الضيعة المجاورة التي كانت تضم قلعةً
مُشابهةً بعض الشيء وتقع على تل مشابه نوعًا ما. كان سعيدًا بقلعته العتيقة، واعتبر
جاره الودود تُحفةً محلية عتيقة من نفس النوع؛ وهذا لأنَّ طريقة فلامبو في التقاعد، كما
ذُكِر سلفًا، جعلته يبدو وكأنه كان مستقرٍّا على نحوٍ تام في هذا المكان منذ فترة طويلة؛ إذ
بدا كأنَّه ترعرع هناك مع كرمات العنب وشجرة التين الخاصة به في حديقته منذ أمدٍ بعيد.
كان مُجرَّد ،« الشُّعلة » ، وقد استأنف استخدام لقب عائلته الحقيقي، دوروك؛ لأنَّ لقبَه الآخر
اسمٍ مستعار كتلك الأسماء التي غالبًا ما يتلقَّب بها رجلٌ يعتزم شنَّ حربٍ على مجتمعه.
وكان مُغرمًا بزوجته وأسرته، ولم يكن يبتعد عن منزله قَط بأبعد مما تقتضيه ممارسة
الصيد في قليلٍ من الأحيان، وبدا بالنسبة إلى جاره الرحَّالة الأمريكي تجسيدًا لتقديس
الاحترام المُبهِج والرفاهية المعتدلة، الذي كان الأمريكي حكيمًا بما يكفي ليراه في شعوب
البحر المتوسط ويُعجَب به. إن الرجل الأشبه بحجرٍ متدحرجٍ قادم من الغرب كان سعيدًا
بأخذ استراحةٍ قصيرة على هذه الصخرة الجنوبية المستقرة تمامًا منذ زمنٍ بعيد، لكنَّ السيد
تشيس كان قد سمع عن الأب براون؛ لذا تغيَّرت نبرته قليلًا وهو يحادثه كأنَّه يتحدث إلى
أحد المشاهير. واستيقظت فيه غريزةُ إجراء حوارٍ مطوَّل، بلباقةٍ يشوبها بعضالتوتر. وإذا
شَبَّهنا محاولته اجتذاب الأب براون إلى الحوار باقتلاع سِنٍّ من فم أحد الأشخاص، فيُمكن
القول إنَّه فعل ذلك باستخدام أبرع طُرُق طب الأسنان الأمريكي وأقلِّها إيلامًا.
كانوا يجلسون في مكانٍ أشبه بفناءٍ خارجي غير مسقوفٍ جزئيٍّا كتلك الأفنية التي
توجد عادةً في مداخل معظم البيوت الإسبانية. كان الغسق يُعتِم إيذانًا بحلول الليل، ومع
اشتداد حدة تلك التيارات الهوائية الجبلية فجأةً بعد غروب الشمس، كان يوجد موقدٌ
صغير على بلاط الفناء يزداد توهُّجًا بعينين حمراوين كعفريتٍ، ويرسم نمطًا أحمر على
الأرضية، لكنَّ شعاعًا منه كان يصل بالكاد إلى القوالب السفلية لجدار الطوب البُنِّي الخالي
الشاهق الذي كان يرتفع فوقهم مُخترقًا الليل الأزرق القاتم. كان جسد فلامبو الكبير ذو
المَنكِبَين العريضين والشاربين الكبيرين اللذين بدوا كسيفين يظهران بخفوتٍ في الشفق
بينما كان يتحرَّك باستمرار لاغتراف النبيذ الداكن من برميل كبير وتوزيعه على ضيفَيه.
وفي ظِلِّه كان القَسُّ يبدو منكمشًا وضئيلًا جدٍّا كأنَّه متقوقعٌ على نفسه فوق الموقد، لكنَّ
الزائر الأمريكي كان منحنيًا إلى الأمام بأناقةٍ واضعًا كوعه على ركبته، فيما كانت قَسَمات
وجهه البارزة الجميلة ظاهرةً في ضوء الموقد الساطع، وكانت عيناه تُشِعَّان ذكاءً فضوليٍّا.
جريمة » يمكنني أن أؤكِّد لك يا سيدي أننا نعتبر إنجازك في قضية » : كان يقول للقس
«. أبرز انتصار في تاريخ علم التحرِّي « قتل مونشاين
تمتم الأب براون بشيء؛ وهي تمتمة قد يظنُّها البعضأشبه قليلًا بتأوُّهٍ.
نحن على دراية تامةٍ بالإنجازات المزعومة » : ثم واصل الضيف الغريب كلامه بثبات
لدوبين وغيره، وإنجازات لوكوك وشيرلوك هولمز ونيكولاسكارتر وغيرهم من الشخصيات
الخيالية التي جسَّدت المهنة، لكننا نلاحظ اختلافًا واضحًا من عدة نواحٍ بين طريقتك
في التعامل مع القضايا، وطريقة هؤلاء المُحقِّقين الآخرين، سواءٌ الخياليون منهم أم
الحقيقيون. وقد تكهَّن البعض يا سيدي بأنَّ اختلاف الطريقة ربما يتضمَّن عدم وجود
«. طريقةٍ مُحدَّدة نوعًا ما
كان الأب براون صامتًا. ثم ارتجف قليلًا كأنَّه استيقظ من غفوةٍ فوق الموقد، وقال:
«. معذرةً. نعم … عدم وجود طريقة … أخشى أن يقولوا عدم وجود عقلٍ أيضًا »
أقصد طريقةً علمية مُحكمة الترتيب؛ فإدجار » : واصل الأمريكي المتسائل كلامه قائلًا
بو يطرح العديد من المقالات الصغيرة في شكل محادثة، موضِّحًا طريقة دوبين بما تشمله
من روابط منطقية دقيقة. ويضطر الدكتور واطسون إلى الاستماع إلى بعض الشروحات
الدقيقة لطريقة هولمز بما تتضمَّنه من انتباهٍ إلى التفاصيل المادية، ولكن يبدو أنَّ أحدًا لم
يتوصَّل إلى تصور كامل لطريقتك أيُّها الأب براون، وقد علمتُ أنَّك رفضت عرضًا لإلقاء
«. سلسلةٍ من المحاضرات في الولايات المتحدة عن هذا الموضوع
«. نعم رفضت » : فقال القسُّ وهو يُحدِّق في الموقد قاطبًا حاجبيه
لقد أثار رفضك كَمٍّا هائلًا من الأحاديث المثيرة للاهتمام. يمكنني » : علَّق تشيس قائلًا
القول إنَّ البعضيؤكِّد أنَّ عِلمك غير قابلٍ للشرح؛ لأنَّه أكثر من مجرد علم طبيعي. ويقولون
«. إنَّسِرَّك لا يُمكن الإفصاح عنه؛ لأنَّه غامضٌبطبعه
«؟ لأنَّه ماذا » : سأله الأب براون بنبرةٍ حادة بعضالشيء
أقصد أنَّ القدرة على فَهمه ربما تقتصرعلى فئةٍ معينة. يُمكنني القول إنَّ » : أجاب الآخر
البعضشعر بإثارةٍ بالغة حيال جريمة قتل جالوب، وجريمة قتل شتاين، ثم قتل ميرتون
المُسِن، والآن قتل القاضي جوين، وجريمة القتل المزدوج التي ارتكبها دالمون، الذي كان
مشهورًا في الولايات المتحدة. وفي كلِّ قضيةٍ من هذه القضايا، كُنتَ حاضرًا في بؤرة الحدث في
التوقيت المناسب تسرد للجميع كيفية ارتكاب الجريمة ولا تُخبِر أيَّ أحدٍ بكيفية توصُّلِك إلى
الحل أبدًا؛ لذا بدأ البعضيظنُّ أنَّك تعرف ماهية الأشياء دون النظر إليها، إن جاز التعبير.
وقد ألقت كارلوتا براونسون محاضرةً عن نماذج التفكير مستعينةً برسوماتٍ توضيحية
«… من قضاياك التي حللتَ ألغازها. إن جمعية البصيرة النسائية في إنديانابوليس
كان الأب براون لا يزال يُحدِّق في الموقد، ثم قال بصوتٍ عالٍ كأنَّه يُخاطب أناسًا لا
«. أوه، أصغِ إليَّ. هذا لن يحدث أبدًا » : يسمعونه
لا أعرف بالضبط كيف يمكن تجنُّب ذلك؛ إذ تحتاج » : فقال السيد تشيس مُمازحًا
جمعية البصيرة النسائية إلى كابحٍ هائل يُثنيها عن ذلك. والطريقة الوحيدة التي أظنها
«. قادرةً على كبحها هي أن تبوح لنا بالسرِّ رغم كلشيء
تأوَّه الأب براون، ونكَّس رأسه بين يديه وبقي هكذا لحظةً، كأنَّه يتشنَّج مُفكِّرًا في
صمت. ثم رفع رأسه وقال بنبرةٍ خافتة:
«. حسنًا. لا مفرَّ من أن أبوح بالسر »
طافت عيناه بالمشهد المُظلِم كُلِّه بنظراتٍ عابسة، بدءًا من العينين الحمراوين للموقد
الصغير إلى الارتفاع الشاهق للجدار القديم، الذي كانت تبرز من فوقه نجوم الجنوب البرَّاقة
بلمعانٍ أشد.
ثم سكت كأنَّه كان عاجزًا عن مواصلة كلامه، قبل أن يستأنفه «… السر هو » : وقال
قائلًا:
«. أصغِ إليَّ، أنا مَن قتل كلَّ هؤلاء »
«؟ ماذا » : قال الآخر بصوتٍ خافت كسرَ صمتًا طويلًا
أصغِ إليَّ، لقد قتلتهم جميعًا بنفسي؛ لذا كنت أعرفكيفية » : فأوضح الأب براون بصبر
«. وقوع تلك الجرائم بالطبع
هنا هَبَّ جرانديسون تشيس واقفًا بعلو قامته كرجلٍ دُفِع إلى السقف بسبب انفجارٍ
ما. وحدَّق نحو الأسفل إلى براون مُكرِّرًا سؤاله الذي ينُمُّ عن عدم تصديقِ ما سمعه.
لقد خططتُ لكلِّ جريمة بعنايةٍ فائقة. فكرتُ بدقَّةٍ في » : واصل الأب براون كلامه قائلًا
كيفية ارتكابشيءٍ كهذا، وبأيِّ أسلوبٍ أو حالة ذهنية يمكن للقاتل ارتكابه. وحين أصبحت
«. متيقنًا من أنني تقمَّصت وجدان القاتل وأفكاره تمامًا، كنت أتوصل لهويته بالطبع
تنهَّد تشيس تنهيدةً بطيئة تنُم عن ارتياح.
قد أفزعتني بشدة. ظننتُ لوهلةٍ أنَّك تقصد أنَّك كنت القاتل حَقٍّا. وتخيَّلتُ » : ثم قال
فَضحُ هوية القَسِّ المُحقِّق » : لوهلةٍ ذلك الخبر منتشرًا في جميع الصحف في الولايات المتحدة
حسنًا، بالطبع إذا كان ذلك «. الذي اتضح أنَّه قاتل، مئات الجرائم ارتكبها الأب براون
«… مجرد مجازٍ بلاغيٍّ، وكنت تقصدُ أنَّك حاولت إعادة تشكيل الجوانب النفسية
طَرَق الأب براون بحدةٍ على الموقد بالغليون القصير الذي كان على وشك أن يملأه،
وقَطب حاجبيه في واحدةٍ من نوبات انزعاجه النادرة جدٍّا.
كلَّا، كلَّا البتة. لا أقصد مجرد مجازٍ بلاغي. هذا ما يتبادر إلى » : ثم قال بغضب
الأذهان عند محاولة الحديث عن أمورٍ عميقة … ما فائدة الكلمات؟ إذا حاول المرء أن
يتحدث عن حقيقةٍ معنويةٍ بحتة، يعتقد الناس دائمًا أنَّ كلامه مجازيٌّ بحت. لقد قال لي
فقلتُ له بطبيعة الحال: «. أومن بالروح القدسمن منظورٍ روحاني فقط » : رجلٌ ذات مرَّةٍ
وحينئذٍ، ظنَّ أنني أقصد أنَّه يجب ألَّا يؤمن «؟ ومن أيِّ منظورٍ آخر يُمكنك أن تؤمن به »
بأي شيء سوى التطور أو الحركة الأخلاقية أو بعض هذا الهراء … أقصد بكلامي أنني
في واقع الأمر رأيت نفسي، أي نفسي الحقيقية، ترتكب جرائم القتل. صحيحٌ أنني لم أقتل
الضحايا بوسائل مادية، لكنَّ هذا ليس موضوعنا. ربما كان يُمكن لأيِّ قالب طوبٍ أو آلة
أن تفعل ذلك. أعني أنني فكَّرتُ مليٍّا في كيفية وصول رجلٍ إلى هذه الحالة، حتى أدركتُ
أنني تقمَّصت هذه الحالة حَقٍّا بجميع عناصرها ما عدا الموافقة النهائية الفعلية على الفعل.
لقد اقترح عليَّ أحد أصدقائي اتِّباع هذه الطريقة ذات مرَّةٍ باعتبارها نوعًا من الممارسات
«. الدينية. وأعتقد أنَّه عرفها من البابا ليو الثالث عشر، الذي دائمًا ما كان قدوتي المُفضَّلة
قال الأمريكي بنبرةٍ ما زالت مُتشككة وكان يواصل التحديق في القَسِّ كأنَّه حيوانٌ
يؤسفني أنَّك اضطررت إلى أن تشرح لي المزيد قبل أن أعرف قصدك. إنَّ علم » : برِّي
«… التحرِّي
وهنا طقطق الأب براون أصابعه بالقدر نفسه من الانزعاج المُفعم بالانفعال، وصاح
هذا مربط الفرس، وهذا هو الموضع الذي نختلف فيه. يكون العلم شيئًا عظيمًا » : قائلًا
حين تفهمه حقَّ فهمه، وإذا أدُرك على نحوٍ حقيقي فإن حروفه تُشكِّل إحدى أعظم
الكلمات في العالم، ولكن ما الذي يقصده هؤلاء الرجال، في تسع مرَّاتٍ من أصل عشر، حين
يستخدمون هذه الكلمة في الوقت الحاضر، حين يقولون إنَّ التحرِّي علم، وحين يقولون
إنَّ دراسة الإجرام علم؟ إنهم يقصدون دراسة الرجل من الخارج كأنَّه حشرةٌ عملاقة، من
منظورٍ يصفونه بأنَّه محايد ومجرد، وأصفه أنا بمنظورٍ عديم الروح ومُجرَّد من الإنسانية.
يقصدون الابتعاد عنه بمسافةٍ كبيرة كأنَّه وَحشٌ من عصور ما قبل التاريخ، والتحديق
كأنَّها عنصرٌغريب في جسده، مثل القَرن الذي يعلو أنف « جمجمته الإجرامية » إلى شكل
وحيد القرن. حين يتحدث العالِم عن فئةٍ مُعيَّنة، لا يقصد نفسه أبدًا، لكنَّهدائمًا ما يقصد
أحد جيرانه، لا سيما جاره الأفقر على الأرجح. لا أنكر أنَّ المنظور المحايد المجرد قد يُجدي
نفعًا في بعض الأحيان، مع أنَّه منافٍ لطبيعة العلم تمامًا من إحدى النواحي؛ فبعيدًا عن
كونه معرفة، فإنه يقمع ما نعرفه في الواقع؛ إذ يُعامِل صديقًا على أنه غريب، ويدَّعي أنَّ
شيئًا مألوفًا غريبٌ وغامضٌحَقٍّا. إن هذا يشبه أن يقول أحدهم إنَّ رجلًا لديه خرطوم بين
ليسكذلك « سرٍّا » عينيه، أو إنَّه يفقد وعيه مرَّةً كل أربع وعشرين ساعة. حسنًا، ما تُسمُّونه
إطلاقًا بل العكس تمامًا؛ فأنا لا أحاول دراسة الرجل من الخارج، إنما أحاول الغوصفي
أعماق روح القاتل. في الواقع، إن الأمر أكثر من ذلك بكثير، ألا ترى؟ إنني أدخل داخل
الرجُل بالفعل، ودائمًا ما أكون هكذا، أحرِّك ذراعيه وساقيه، لكنني أنتظر حتى أدركَ أنني
داخل القاتل، أفكِّر أفكاره وأصارع أهواءه، حتى أحني نفسيكي أتقمَّصكراهيته المنحنية
المتفحِّصة، وحتى أرى العالم بعينيه الحولاوَين المحتقنتين بالدماء، ناظرًا بهما بين غمائم
تركيزه الأبله، وباحثًا عن منظور قصيرٍ ثاقب لطريقٍ مستقيم نحو بِركة دماء، حتى أصبح
«. قاتلًا حَقٍّا
وهذا ما تُسمِّيه » : ثم أضاف «! أوه » : قال السيد تشيسناظرًا إليه بوجهٍ طويل متجهم
«؟ ممارسةً دينية
«. نعم، هذا ما أسمِّيه ممارسة دينية » : قال الأب براون
إنها ممارسةٌ دينية حقيقية جدٍّا » : وبعد صمتٍ لحظي، استأنف القسُّ كلامه قائلًا
لدرجة أنني كنت أفضِّل ألَّا أقول أيشيء عنها، لكنني ببساطةٍ لم يكن بإمكاني أن أتركك
تُخبر جميع أبناء بلدك بأنَّني أملك سحرًا سرِّيٍّا مرتبطًا بنماذج التفكير، أليس كذلك؟
صحيحٌ أنَّني صغتها بأسلوبٍ سيئ، لكنَّها صحيحة. لا يوجد رجلٌ يُصبح صالحًا حَقٍّا
حتى يعرف مدى سوئه، أو مدى السوء الذي ربما يصير إليه، وحتى يُدرك تمامًا مدى
كأنَّهم قرودٌ في « المجرمين » أحقيته في ممارسة كلِّ هذه العجرفة والسخرية والحديث عن
غابة تبعد عشرة آلاف ميل، وحتى يتطهَّر من رجس خداع النفس المتمثل في الحديث عن
الفئات الدُّنيا والعقول الناقصة، وحتى تُعتَصَر روحه لتسقط منها آخر قطرة من زيت
الفريسيين الذين يؤمنون باعتزال الخاطئين والابتعاد عنهم، وحتى يُصبح أملُه الوحيد
بطريقةٍ أو بأخرى أن يقبض على مجرمٍ واحد، ويبقيه آمنًا سليم العقل مكبوح الجماح
«. بعيدًا عن أعين الناس
وهنا تقدَّم فلامبو وملأ كأسًا كبيرة بالنبيذ الإسباني ووضعها أمام صديقه، بعدما
وضع كأسًا مماثلة بالفعل أمام ضيفه الأمريكي. وتحدَّث للمرة الأولى في هذه المسامرة،
قائلًا:
أعتقد أنَّ الأب براون خاض مجموعةً جديدة من القضايا الصعبة. أظنُّ أننا كُنَّا »
نتحدث عنها قبل أيام. لقد تعامل مع بعض الأشخاص الغريبي الأطوار منذ آخر مرة
«. التقيته فيها
نعم، أعرف القصص تقريبًا، لكنني لا أعرف » : قال تشيس وهو يرفع كأسه بتمعُّن
شيئًا عن تطبيق طريقته في فكِّ طلاسمها. هل يمكنك أن تذكر لي أي أمثلة؟ … أقصد هل
«؟ استخدمت ذلك الأسلوب الاستبطاني في هذه القضايا الأخيرة
رفع الأب براون أيضًا كأسه، وبدا أنَّ توهُّج نيران الموقد جعل النبيذ الأحمر شفَّافًا،
كالزجاج ذي اللون الأحمر القاني للنوافذ التي تحمل رسومات الشهداء. بدا أنَّ الشعلة
الحمراء تُحدِّق إليه كما يُحدِّق إليها وتمتصنظراته التي غاصت أعمق وأعمق فيها، كأنَّ
هذه الكأسالواحدة تحمل بحرًا أحمر من دماء جميع الرجال، وكأنَّ روحَه غطَّاسٌيغوص
في تواضع كئيب وتخيُّلات سلبية بدرجةٍ أعمق من أكثر وحوش البحر عمقًا وأقدم طبقات
الوحل القابع في قاع هذا البحر. وقد رأى في هذه الكأس انعكاس أشياء كثيرة، كأنَّها مرآة
حمراء؛ إذ لمح أفعاله في أيامه الأخيرة تتحرَّك كظلالٍ قرمزية، ورأى أمثلة القضايا التي
طلبها رفيقاه تتراقص كأشكالٍ رمزية، ومرَّ أمامه شريطٌ من كل القصص التي تُروَى
هنا. كان النبيذ المُضاء آنذاك يشبه غروبًا أحمر مترامي الأطراف على رمال حمراء داكنة
تقف عليها أطياف رجالٍ داكنة، أحدهم كان طريح الأرض، وآخر كان يركض نحوه. ثم
بدا أنَّ الغروب تفتَّت إلى رُقَعٍ مختلفة أشبه بمِشْكاوات حمراء تتأرجح من أغصان أشجار
الحديقة، وبِركة تُشِعُّ احمرارًا وتعكس كالمرآة، وبعدئذٍ بدا أنَّ كل اللون الأحمر تجمَّع مرَّة
أخرى في وردةٍ كبيرة من الكريستال الأحمر، أشبه بجوهرةٍ تُنير العالم كشمسٍ حمراء،
باستثناء ظلِّ شخصٍ طويل يعتمر غطاء رأس عاليًا كالذي كان القساوسة يعتمرونه في
عصور ما قبل التاريخ، ثم تلاشى مُجدَّدًا حتى لم يتبقَّ سوى شعلةٍ تُشِعُّ من لحيةٍ حمراء
شعثاء تتطاير في الريح فوق رجل أسود جامح ذي شعر رمادي. لقد ظهرت كل هذه
الأشياء، التي ربما قد تُرى لاحقًا من مناظير أخرى وبحالاتٍ مزاجية أخرى غير التي رآها
بها، في ذاكرته حين سمع سؤال الأمريكي، وبدأت في التحوُّل إلى حكاياتٍ وحجج.
نعم. يمكنني أن أتذكر على » : ثم قال بينما كان يرفع كأس النبيذ ببطء إلى شفتيه
«… نحوٍ كامل تمامًا