GilbertKeith

شارك على مواقع التواصل

«؟ حقٍّا! وماذا عني » : قال ويلتون
أعتقد أنك رجل لديك هدفٌ واحد، واسمح لي أن أقول إن هدفَك هو » : قال الأب براون
«. الإمساك بدانيال دوم أكثر من كونِه الدفاعَ عن براندر ميرتون
جفل ويلتون قليلًا واستمرَّ في التحديق إلى صاحبه، ثم ببُطء شديد ظهرت على فمِه
«؟ كيف … ما الذي جعلك تعتقد ذلك » : المتجهم ابتسامةٌ غريبة نوعًا ما. وسأله
لقد قلتَ إنك إذا سمعت صوتَ طلقة، يمكنك على الفور صعقُ العدو » : أجاب القَس
الهارب بالكهرباء، وأظن أنه قد تبادر إلى ذهنِك أن الطلقة قد تقتل صاحب عملك قبل أن
تقتلَ الصدمة الكهربائية عدوَّه. لا أعنى أنك لن تحميَ السيد ميرتون إذا استطعتَ، ولكن
يبدو أن الأمر يأتي في المرتبة الثانية عندك. التدابير مُحكمة للغاية، كما تقول، ويبدو أنك
قد أحكمتَها، ولكن يبدو أنها مصمَّمة أكثر بغرضالقَبض على القاتل منها بغرَضإنقاذ
«. أحدِ الرجال
أيها الأب براون، أنت ذكيٌّ جدٍّا، » : قال السكرتير الذي استعاد نبرةَ صوته الهادئة
ولكن لديك ما هو أكثر من الذكاء؛ فأنت بطريقةٍ ما من النوع الذي يريد المرء أن يقول له
الحقيقة؛ إضافةً إلى أنك ستستمع إليه على الأرجح، على أي حال؛ لأنه أمر طريف عني نوعًا
ما. يقولون جميعًا إنني مَهووس بمطاردتي لهذا المحتالِ الكبير، وربما أنا كذلك، لكني
أومأ الأب براون «. سأخبرك بشيءٍ لا يعرفه أحد. اسمي الكامل هو جون ويلتون هوردير
كما لو كان قد استوعب الأمر جيِّدًا، لكن الآخر تابع حديثه.
هذا الرجل الذي يُطلق على نفسه اسم دوم قد قتَل والدي وعمي ودمَّر والدتي. » : فقال
عندما أراد ميرتون سكرتيرًا، تولَّيت المنصب؛ لأنني اعتقدتُ أنه حيثما كانت الكأسفسيأتي
المجرمُ عاجلًا أم آجلًا، لكن لم أكن أعرفُ المجرم ولا يسعني إلا أن أنتظرَه، وأردت أن أخدمَ
«. ميرتون بإخلاص
«؟ فهمت، وعلى أيِّ حال، ألم يحِنِ الوقت كي نطمئنَّ عليه » : قال الأب براون بلطف
جافلًا قليلًا مرة أخرى من سكينته بحيث اعتقد القَس «. عجبًا! بلى » : أجاب ويلتون
«. تفضل بالتأكيد » : أن جنونَه الانتقاميَّ قد شغل بالَه للحظةٍ ثانية. وأضاف
دخل الأب براون مباشرة إلى الغُرفة الداخلية. لم يتبع ذلك صوتُ تحية، ولكن فقط
صمتٌ مميت؛ وبعد لحظة ظهر القسُّ مرة أخرى عند المدخل.
في اللحظة نفسها، تحرَّك فجأةً الحارسُالشخصيالصامت الجالسبالقرب من الباب،
وبدا كما لو أنَّ قطعة أثاث ضخمة قد نُفخت فيها الروح. بدا شيءٌ في تصرُّف القس كما
لو أنه إشارة؛ إذ كان رأسُه في مواجهة الضوء الصادِر من النافذة الداخلية وكان وجهه في
الظل.
«. أظن أنك ستضغطُ على هذا الزِّر » : وقال بشيء من التنهد
بدا ويلتون وكأنه يستيقظ من حُلمه الهمجي قافزًا، ووثب وكأن في حلقه شيئًا.
«. لم تكن هناك طلقة » : وصاح
«. حسنًا، يعتمد الأمر على ما تَعنيه بالطلقة » : قال الأب براون
اندفع ويلتون إلى الأمام، وأسرَعا بالدخول إلى الغرفة الداخلية معًا. كانت غرفةصغيرة
نسبيٍّا، ولكنها كانت ذات فَرش أنيق لكنه بَسيط، وكانت أمامهما نافذةٌ واسعةٌ ومفتوحة
تُطلُّ على الحديقة والسهل ذي الأشجار. وكان قرب النافذة يوجد كرسيٌّ وطاولة صغيرة،
كما لو أنَّ الأسير كان يرغب في أكبر كمٍّ ممكن من الهواء والضوء خلال فترة ترَفِه القصيرة
أثناء عزلته.
على الطاولة الصغيرة تحت النافذة كانت هناك الكأسُ القبطية؛ إذ من الواضح أن
مالكَها كان ينظر إليها في أفضل بُقعة من الضَّوء. كان الأمر يستحق المشاهدة؛ فقد حوَّل
ضوءُ النهار الأبيضاللامع أحجارَها الكريمة إلى ألسنةِ لهبٍ متعددة الألوان لتُصبح نموذجًا
محاكيًا للكأسِ المقدسة. كان الأمر يستحقُّ النظر إليه، لكن براندر ميرتون لم يكن يَنظر
إليها؛ وهذا لأنَّ رأسه قد سقط للخلف من فوق كرسيِّه، وتدلَّى شعره الطويل الأبيض إلى
الأرض، وانتصبتْ رأس لحيتِه الرمادية باتجاه السقف، وبرز من حلقه سهمٌ طويل مطليٌّ
باللون البني وبه رِيشٌ أحمر في طرفه الآخر.
طلقة صامتة، كنت أفكِّر للتوِّ في تلك الاختراعات » : قال الأب براون بصوتٍ خفيض
«. الجديدة لإخماد أصواتِ الأسلحة النارية، لكن هذا اختراعٌ قديم للغاية وصامت تمامًا
«؟ مع الأسف لقد ماتَ. ماذا ستفعل » : ثم أضاف بعد لحظةٍ قائلًا
سأضغط على ذلك الزرِّ » : وقف السكرتير الشاحبُ اللون بعزمٍ مفاجئ، ثم قال
بالتأكيد، وإن لم يقضِ ذلك على دانيال دوم، فسوف أطاردُه في جميع أنحاء العالم حتى
«. أجدَه
انتبه ألَّا يقضيَذلك على أيٍّ من أصدقائنا، فبالكاد يمكنهم أن يكونوا » : قال الأب براون
«. قد ابتَعدوا؛ من الأفضل أن نستدعِيَهم
هؤلاء القوم يعلمون كلَّ شيء عن الجدار؛ فلن يحاول أيٌّ منهم تسلُّقَه، » : رد ويلتون
«. إلا إذا كان أحدهم … في عجلةٍ من أمره

الذهب الأب براون إلى النافذة التي من الواضح أن السهمَ دخل منها، ونظر إليها.الحديقة، بأحواضأزهارها المسطحة، تقع بعيدًا بالأسفل كخريطةٍ ملونة بدقَّةٍ للعالم. بدا
المشهد بأكمله شاسِعًا وفارغًا للغاية، وبدا البرجُ عاليًا حتى السماء لدرجة أنه عندما حدَّق
فيه عادت إلى ذاكرتِه عبارةٌ غريبة.
سهمٌ من السماء، ماذا كان مِن أمر مَن أخبر بسهمٍ من السماء وموت قادم من » : قال
الأعلى؟ انظر كيف يبدو كلُّشيء بعيدًا؛ يبدو من غير العادي أن يأتي سهمٌ من تلك المسافة
«. البعيدة، إلا إذا كان سهمًا من السماء
عاد ويلتون، لكنه لم يرد، واستمر القسُّ في حديثه، وكأنه في مناجاةٍ للنفس قائلًا:
«. ربما ألُقي من طائرة. علينا أن نسألَ الشابَّ وين … في شأن الطائرات »
«. هناك العديد منها حولَنا هنا » : قال السكرتير
في حالة الأسلحة القديمة جدٍّا أو الجديدة جدٍّا، فلا بد أن بعضَها » : قال الأب براون
سيكون مألوفًا إلى حدٍّ كبير لعمِّه العجوز، على ما أظن؛ لذا ينبغي علينا أن نسأله عن أمر
السهام. هذا يبدو أقربَ لأحد سهام الهُنود الحمر. لا أعرف من أين أطلَقَه هذا الهنديُّ
«. الأحمر، ولكنك تتذكر القصَّة التي أخبرنا بها الرجلُ العجوز. لقد قلتُ إنَّ لها مغزًى
إن كان لها مغزًى، فما هو إلا أن هنديٍّا أحمرَ حقيقيٍّا قد يصيب » : قال ويلتون بلطف
«. شيئًا أبعد مما تتخيَّل. من غير المنطقي أن تقترح شيئًا مماثلًا
«. لا أعتقد أنك قد فهمتَ المغزى جيدًا » : قال الأب براون
على الرغم من أن الكاهنَ القصير بدا كأنه قد ذاب بين الملايين من أبناء نيويورك في
اليوم التالي له دون أيِّ محاولة واضحة، ليكون أيَّشيء سوى رقم في شارع مرقَّم، فقد كان
في الواقع مشغولًا على نحوٍ غير لافتٍ مدة الأسبوعين التاليين بالمهمة التي كُلِّف بها؛ إذ كان
يغمره الخوفُ الشديد من احتمال الفشل في تحقيق العدالة. وجد أنه من السَّهل أن يتحدَّث
مع الرجلين أو الرجال الثلاثة الذين كانوا طرَفًا في القضية مؤخَّرًا، ولكن دون أن يظهر
عليه أي شيء محدَّد يدل على أنه يستبعدهم من دائرة الاتِّهام من ضمن معارفه الجُدد
الآخرين، وقد خاض مع العجوز هيكوري كريك خاصَّةً محادثةً غريبة ومثيرة للاهتمام.
كان ذلك على أحدِ مقاعد متنزَّه سنترال بارك، حيث جلس المحارب القديم بيديه النحيلتين
ووجهِه الرفيع الحاد مستندًا على عصا المَشْي ذات الرأس الغريب الشكل والمصنوعةِ من
الخشب الأحمر الداكن، التي ربما صُمِّمت على شكل فأسِ الهنود الحمر.
حسنًا، قد تكون طلقة من مكان بعيد، ولكني لا أنصحك أن » : قال وهو يهز رأسه
تعتقدَ قُدرة سهام الهنود الحمر على الوصول لمسافاتٍ بعيدة. لقد شاهدت بعضَ سهام
الأقواسالتي بدَتْ أكثر استقامة من أيِّ رصاصة، وكانت مذهلة للغاية في إصابتِها للهدف،
مع أخذ المسافة الطويلة التي قطعتها في الاعتبار. بالطبع إنك لا تسمع الآن تقريبًا عن أحد
من الهنود الحمر بأقواس وسهام، ناهيك عن وجود أيٍّ من هؤلاء في المكان هنا، ولكن إن
كان هناك على أيِّ حال أحدُ رماة الهنود القدامى هؤلاء معه قوسٌ من الأقواس الهندية
القديمة، ويختبئ بين تلك الأشجار على بُعد مئاتِ الياردات عن الجدار الخارجي لمنزل
ميرتون … فلم أكن لأعجب من قدرة الهمجي النبيل على إطلاق سهمٍ ليعبر الجدار ويصل
إلى النافذة العليا لمنزل ميرتون؛ لا، بل إلى ميرتون أيضًا. لقد رأيت الكثيرَ من مثل هذه
«. الأشياء المُذهلة في الأيام الخوالي
«. لا شك أنك لم تكتفِ برؤية الأشياء المذهلة، بل فعلتَها أيضًا » : قال القَس
أوه، هذا كلُّه تاريخ » : ضحك العجوز كريك ضحكةً خافتة، ثم قال بصوت أجش
«. قديم
بعض الناس دأبوا على دراسةِ التاريخ القديم. أظن أنه يبدو لنا عدمُ » : قال القَس
«. وجودشيء في تاريخِك القديم يجعل الناس يتحدثُون بشيء من السوء عن هذا الأمر
سأله كريك وعيناه تتحركان بحدةٍ للمرة الأولى، وبوجهه الأحمر المتخشب الذي يشبه
«؟ ماذا تعني » : إلى حدٍّ كبير رأسَ فأس الهنود الحمر، قائلًا
حسنًا، حيث إنك على درايةٍ جيدة بجميع » : استهل الأب براون حديثَه ببطءٍ قائلًا
«… فنون أصحاب البَشرة الحمراء وصَنْعتهم
كان كريك ذا هيئة محدَّبة وتقريبًا منكمشة عندما كان يجلسوذقنه مُسند على عكَّازه
الغريب الشكل، لكنه في اللحظة التالية وقف منتصبًا كقاتلٍ مستأجَر مستعدٍّ للقتال قابضًا
على عكَّازه كالنبوت.
ماذا؟ ما هذا الذي تقول؟! أتقف أمامي كي » : وصاح فيما يشبهصرخة ذعرٍ صاخبة
«؟ تقولَ لي إنني قد قتلتُ نسيبي
بين عشرات المقاعد المنتشرة على الطريق، نظر الناس إلى المتنازعَيْن وهما يقفان كلٌّ
منهما في مواجهة الآخر في منتصف الطريق، والرجل القصير النشط الأصلعُ الرأس يلوح
بعصاه الغريبة كالهراوة، بينما القسُّ القصير البدين الأسمر ينظر إليه دون أن يحرِّك
ساكنًا باستثناء جفنَيه. بدا الأمر للحظةٍ كما لو أن الرجل القصير البدين الأسمر سيُضرَب
على رأسه ويُقتل جرَّاء تأهُّب هندي أحمر حقيقي وإجهازه عليه؛ وكان يُلاحظ وجود رجلِ
شرطة أيرلندي كبير البنية على مسافةٍ منهما يلهث متَّجهًا نحوهما، لكن قال القَس بهدوء
شديد كشخصٍيجيب عن سؤال عادي:
لقد خلصت إلى بعضالاستنتاجات حولَ الأمر، لكنني لا أعتقد أنني سأذكرُها حتى »
«. أعدَّ تقريري
سواء بسبب خُطَا رجل الشرطة أو عينَي القس، دس العجوز هيكوري عصاه تحت
ذراعه ووضع قبعتَه على رأسه مرة أخرى، وأخذ ينخِر. تمنَّى له القَس صباحًا سعيدًا
وهادئًا، وخرج بتأنٍّ من المتنزَّه، وشقَّ طريقه إلى ردهة الفندق حيث كان يعلم أنه سيعثُر
على الشابِّ وين. وثب إليه الشاب محيِّيًا؛ وكان يبدو أكثر إنهاكًا وضيقًا من ذي قبل، كما
لو أن قلَقًا من شيءٍ ما كان ينخَر في عِظامه؛ وكان القس يساوره الشكُّ في أن صديقه
الشابَّ قد تورَّط مؤخرًا، بنجاح شديد الوضوح، في التحايُل على التعديل الأخير للدستور
الأمريكي. ولكنه عندما تحدَّث عن هوايته أو علمه المفضل كان يقِظًا وشديد التركيز بما
فيه الكفاية؛ وذلك لأن الأب براون سألَ، بطريقةٍ ودودة وفي إطار المحادثة، عمَّا إذا كانت
هناك طائرات كثيرة تَطير في تلك المنطقة، وأخبره كيف رأى في البدايةِ الجدارَ الدائريَّ لمنزل
السيد ميرتون كما لو كان ميناءً جويٍّا.
من العجيب أنك لم ترَ أيٍّا منها في أثناء وجودنا هناك. في بعض » : أجاب الكابتن وين
الأحيان تكون أفواجًا كالذُّباب؛ فهذا السهلُ المفتوح مكانٌ رائع لها، ولا يجبُ أن أتعجَّب
إذا كان مكان التكاثر الرئيسي، إن جاز التعبير، لطيوري في المستقبل. لقد قُدتُ العديد من
الطائرات بنفسي هناك بالطَّبع، وأعرف معظم الزملاء الموجودين هنا الذين قادُوا طائرات
في الحَرب؛ ولكن ثمة الكثير ممَّن يقودون الطائرات هناك الآن الذين لم أسمَعْ بهم قط في
حياتي. أظنُّ أن الأمر سيصبح كقيادة السيارات قريبًا، وسيكون لكلِّ إنسان في الولايات
«. المتحدة طائرة
هذا نظرًا لأنَّ خالقه بنعمةٍ منه أعطاه الحق في الحياة » : قال الأب براون مبتسمًا
والحرية والسعي وراءَ قيادة السيارات، فضلًا عن الطائرات؛ لذا أظن أنه — فيما يبدو —
إذا كانت ثمة طائرةٌ غريبة تمرُّ فوق ذلك المنزل، في أوقات معينة، فلن تلفت الانتباه على
«. أغلب الظن
«. لا، لا أعتقد ذلك » : رد الشاب
أو حتى إذا كان الرجل معروفًا، فأظنُّ أنه قد يقود طائرةً يصعب » : تابع الآخر قائلًا
معرفة أنها طائرته. إذا كنت، على سبيل المثال، تطير بالطريقة العادية، فيمكن للسيد
ميرتون وأصدقائِه التعرُّف على ملابسك، ربما، ولكن قد تمر على مقربة شديدة من تلك
النافذة بطائرة ذات طِراز مختلف، أو أيٍّا كان ما تطلقون عليه؛ وتكون قريبًا للغاية في
«. واقع الأمر
ثم توقف وظل يُحدِّق «. حسنًا! أجل » : استهل الشاب كلامه بطريقة شبهِ تلقائية قائلًا
في القَس بفم مفتوح وعينين جاحظتَيْن في وجهه.
«! يا إلهي! يا إلهي » : وقال بصوت خفيض
ثم قام من فوق مقعد ردهة الفندق، شاحبَ الوجه يرتعشُ من رأسه إلى أخمص
قدميه ولا يزال يحدِّق في القس.
«؟ أمجنون أنت؟ هل تهذي » : ثم قال
بالتأكيد لقد جئتَ » : ساد الصمت ثم تحدَّث مرة أخرى بصوت هامس سريع، قائلًا
«… إلى هنا لتدَّعي
لا، بل لأجمع المعلومات فحسب. ربما أكون قد » : قال الأب براون وهو يقوم من مكانه
«. توصَّلت الآن لبعضِالاستنتاجات، لكن من الأفضل أن أحتفظ بها في الوقت الحالي
ثم حيَّا الآخر بالكياسة الشديدة نفسِها، وخرج من الفندق لمواصلة جولاته التي يقودُه
فيها الفُضول.
بحلول غسَق ذلك اليوم، قادَتْه تلك الجولات إلى الشوارعِ والدرجات القَذِرة المنتشرة
والمحطَّمة باتجاه النهر في الجزء الأقدم والأكثر تشوُّهًا في المدينة. ومباشرةً أسفل المصباح
الملون المميِّز لمدخل مطعم صينيٍّ حقير بعضَ الشيء قابل شخصًا سبق أن رآه، ولكنه لم
يكنْ بالمظهر نفسِه الذي رآه عليه من قبل.
لا يزال السيد نورمان دريدج يواجه العالمَ بصرامةٍ من خلف نظَّارته الواقية الكبيرة،
التي بدت بشكلٍ أو بآخر تُغطِّي وجهه مثل قناع داكن من الزجاج، ولكن باستثناء النظَّارة
الواقية، كان شكله قد تغيَّر تغيُّرًا غريبًا في الشهر الذي انقضَىمنذ واقعة القتل. إذ كان،
كما لاحظ الأب براون، يرتدي ملابسَ أنيقة حتى ذلك الحين، في الواقع، حيث بدأ التعرُّف
على الفَرْق الدقيق بين الرجل الأنيق ودُمَى عرض الملابس خارج مَتاجر الخيَّاطين، ولكن
تغيَّرت الآن كل هذه المظاهر تغيُّرًا غامضًا للأسوأ، كما لو أن دمية الخياط قد تحولت إلى
فزَّاعة. كان لا يزال يرتدي قبعته العالية، لكنها كانت بالية ورثَّة، وكانت ملابسه مهلهلة،
واختفتْ سلسلةُ ساعته وحليُّه الصغيرة، ولكن الأب براون خاطبَه كما لو كانا قد التقَيَا
بالأمس، ولم يتردَّد في الجلوس معه على مقعد في المطعم الرخيص الذي كان متَّجهًا إليه،
غير أنه لم يكن هو مَن بدأ المحادثة.
هل كلشيء على ما يرام؟ وهل نجحتْ في الانتقام للمليونير التقيِّ » : قال دريدج متبرِّمًا
الورع؟ نحن نعلمُ أن جميع المليونيرات من أصحاب التقوى والورع؛ يمكنُك أن تجد ذلك
كلَّه في الصحف في اليوم التالي: كيف كانوا يعيشون في ضوء تعاليم إنجيل العائلةِ الذي
قرءوه وهم صغارٌ جالسون على أرجل أمَّهاتهم. يا رجل! إن كانوا قد قرءوا فقط ولو نزرًا
قليلًا مما في إنجيل العائلة، لصُعقت أمهاتهم، وكذلك المليونير على ما أظنُّ؛ فهذا الكتاب
العتيق مليء بالكثير من المفاهيم القديمة العَنيفة التي لا يتربَّون عليها في هذه الأيام، من
أمثال الحكمة المنتمية إلى العصرالحجري والمدفونة تحتَ الأهرامات. لنفترضأن شخصًا
قد ألقَى الرجل العجوز ميرتون من أعلى برجِ منزله، وتركه لتأكلَه الكلابُ في الأسفل، فلن
يكون الأمر أسوأَ مما حدث لإيزابل. ألم يُقطَّع أجاج إلى قطعٍ صغيرة لأنه مشَىفَرِحًا؟ مشى
ميرتون فَرِحًا طوال حياته، اللعنة عليه، حتى أصبحَضعيفًا للغاية فلم يَعُد يَقدر على السير
على الإطلاق، لكن سهم الرب قد أدرَكَه، كما كان يمكن أن يحدثَ في الإنجيل، وقضىعليه
«. على قمَّة بُرجه ليكون عبرةً للناس
«. كان سهمًا حقيقيٍّا على الأرجح » : قال صاحبه
الأهرامات عمل حقيقي » : ابتسم الرجل ذو النظارة الواقية ابتسامة عريضة قائلًا
وماديٌّ جبار وتحوي في باطنها الملوكَ الموتى بأفضل حال. أعتقدُ أن هناك الكثير ليُقال
عن هذه الديانات الماديَّة القديمة. هناك منحوتات قديمة عاشت لآلاف السنين تُظهر آلهتها
وأباطرتها بأقواسٍ منحنية وأيادٍ تبدو كما لو أن بإمكانها أن تحني أقواسًا من الحِجارة.
ربما تكون أمورًا حقيقية ومادية، ولكن من أي المواد هي؟ ألا تقف في بعضالأحيان تحدِّق
في تلك الأنماط والأشياء الشرقية القديمة، حتى تشعر أن الإله الرب القديم لا يزال عاتيًا
«؟ كما لو كان أبولو أسود يطلق أشعةَ الموت السوداء
إذا كان كذلك، فقد أطلق عليه اسمًا آخر، ولكن أشك في أن ميرتون » : رد الأب براون
«. قد ماتَ بشعاع أسود أو حتى بسهمٍ حجري
أظن أنك تعتقد أنه القديس سيباستيان الذي قُتل بالسهم، أو » : قال دريدج مستهزئًا
تود القول إن المليونير مات شهيدًا. كيف تعرف أنه لم يستحقَّ ذلك؟ أنت لا تعرف الكثير
«. عن هذا المليونير، على ما أعتقد. حسنًا، دعني أخبرك أنه يستحقُّ أكثر من ذلك مائة مرة
«؟ حسنًا، لمَ لمْ تقتله بنفسك » : سأل الأب براون بلطف
«. أتريد أن تعلم لمَ لمْ أفعل؟ عجبًا، إنك لقسٌّ لطيف » : قال الآخر محدِّقًا
«. بتاتًا » : قال الآخر كما لو كان يرفضالمجاملة
أظن أنها طريقتك لتقول إنني قد فعلتُها. حسنًا، أثبِت ذلك، هذا » : زمجر دريدج قائلًا
«. كل ما في الأمر. أما هو، فأعتقدُ أن موتَه لم يكن خسارة
«. بل كان كذلك. كان خسارةً لك؛ ولهذا لم تقتله » : قال الأب براون بحدة
وخرج من الغرفة تاركًا الرجل الذي يرتدي النظارة الواقية فاغرًا فاه.
بعد ما يقرب من شهر، عاد الأب براون للمنزل الذي أدرك فيه المليونير الثالث انتقامَ
دانيال دوم. وعقد الأشخاصالأكثر اهتمامًا بالأمر مجلسًا من نوعٍ ما. جلسالعجوز كريك
على رأس الطاولة مع ابن أخيه على يمينه، وجلس المحامي على يَساره؛ أما الرجل الضخم
ذو الملامح الإفريقية، الذي اتَّضح أن اسمه هاريس، فقد كان حاضرًا على مضَضٍ فقط
بصفته شاهدًا أساسيٍّا؛ وكان هناك شخصٌ ذو شعر أحمر وأنف حادٍّ يدعونه ديكسون
اتَّضح أنه ممثل لوكالة بينكرتون أو وكالة خاصة من هذا القبيل؛ وكان الأب براون جالسًا
على مقعد فارغٍ بجانبه، ومتواريًا عن الأنظار.
انتشرت في كل صحف العالم أخبارُ كارثة عملاق الأموال، المدبِّر الكبير للأعمال
التجارية الكبرى التي تُهيمن على العالم الحديث، ولكن من المجموعة الصغيرة التي كانت
الأقرب إليه في لحظةِ وفاته لا يمكن معرفة الكثير. أعلن العم وابن أخيه والمحامي الحاضر
للمجلسأنهم كانوا جميعًا خارج الجدار الخارجيِّ قبل أن تحدث الفاجعة، وجاءت إجابات
الحراس الرسميين الواقفين على كلتا جهتَي الجدار على الاستجوابات مشوَّشةً إلى حد ما
ولكنها كانت تؤكد الكلام السابق. بدا تعقيد واحد فقط يدعو للنظر؛ إذ بدا أنه في وقت
الوفاة تقريبًا، قبلها أو بعدها، كان شخصٌ غريب يحوم بشكلٍ غامض حول المدخل،
ويطلب رؤية السيد ميرتون. واجه الخدم بعضَالصعوبة في فهم مقصوده؛ لأن كلامه كان
غامضًا للغاية، ولكن بعد ذلك اعتُبر الأمر مثيرًا للشكوك إلى حدٍّ كبير؛ إذ قال شيئًا عن رجلٍ
خبيث تدمِّره كلمة آتية من السماء.
انحنى بيتر وين للأمام بعينَين لامعتَين ووجهٍ بدت عليه الشراسة، وقال:
«. أراهن على ذلك بأيشيء. إنه نورمان دريدج »
«؟ ومن يكون نورمان دريدج هذا » : سأل عمه
ذلك ما أردتُ معرفتَه. وقد سألته بالفعل، ولكنه كانت لديه قدرة خداعٍ » : رد الشاب
رهيبة على جعل أي سؤال مباشر ملتويًا؛ ليصبح الأمر أشبه بالقفز مُباغتةً في المبارزات.
«. سحَرني ببعضالتلميحات عن سفينةٍ طائرة في المستقبل، ولكني لم أكن أثق فيه قط
«؟ ولكن أي نوعٍ من الرجال هو » : سأل كريك
إنه عالمٌ روحاني. هناك الكثير منهم في كل مكانٍ » : قال الأب براون بسرعة وبساطة
حولنا؛ إنهم هؤلاء الرجال الذين تقابلهم في مقاهي باريس ونواديها الليلية، ويلمِّحون لك
بأنهم قد تكشَّف لهم العديد من الأسرار الغامضة أو أنهم يعرفون سرَّ أغرب الآثار في
«. التاريخ. ومن المؤكد في مثل هذه الحالات أن يكون لديهم بعضالتفسيرات الغامضة
كان رأس المحامي بارنارد بليك ذو الشَّعر الناعم الداكن يميل بأدَب نحو المتحدث،
لكن ابتسامته كانت تتَّسم بالعداء بعضالشيء.
«. لا أعتقد يا سيدي أن لديك أيَّ عداء مع التفسيرات الروحانية » : قال
على العكس، فلذلك السبب بالتحديد » : رد الأب براون طارفًا بعينيه بلطف قائلًا
يمكن ألَّا أتفق مع تلك التفسيرات. بإمكان أي محامٍ زائف أن يخدعني، لكنه لا يستطيع أن
يخدعَك؛ لأنك محامٍ مثله. يمكن لأي أحمق أن يرتدي زي الهنود الحمر، وقد أصدق بسذاجة
أنه الوحيد المتبقِّي من سكان هياواثا الأصليين؛ لكن السيد كريك سيكشف أمره على الفور.
ويمكن لمحتالٍ أن يدعيَ لي أنه يعرف كل شيءٍ عن الطائرات، ولكنه لا يستطيع أن يفعل
ذلك مع الكابتن وين. والأمر نفسه ينطبق مع ذلك الرجُل، هل أصبح الأمر واضحًا؟ ولأنني
اكتسبت بعضالمعرفة بأسرار العالم الروحاني فأنا لا أطُيق رجاله؛ فالعالمون الحقيقيون
بالأسرار لا يخفونها، بل يكشفونها. ويعرضون الأمور في وضَح النهار، وعندما تراها لا تزال
سرٍّا بالنسبة لك. أما مدَّعو العلم بالروحانيات، فيدسُّون الأشياء في الظلام ويتكتَّمون عليها؛
وعندما تصل إليها، لا تجد سوى أشياء تافهة، ولكن في حالة دريدج، أعترف أنه كان لديه
«. أيضًا فكرة أخرى وأكثر عملية في حديثه عن نار أو سهم من السماء
«. وما كانت فكرته؟ أعتقد أنها تستحقُّ التأمل أيٍّا كانت » : سأل وين
حسنًا، أرادنا أن نعتقد أنَّ جرائم القتل كانت معجزات لأن … حسنًا، » : رد القسببطء
«. لأنه يعلم أنها لم تكن كذلك
«. آه، كنت أنتظر ذلك. بوضوح، إنه المجرم » : قال وين بصوت هامس
«. بوضوح، إنه المجرم الذي لم يرتكب الجريمة » : رد الأب براون بهدوء
«؟ هل هذا مفهومك للوُضوح » : سأل بليك بلطف
ستقول إنني عالم » : قال الأب براون بارتباكٍ بعض الشيء، ولكن بابتسامة عريضة
الروحانيات الآن، ولكن الأمر كان حقٍّا مصادفة بحتة. دريدج لم يرتكب الجريمة، أعني هذه
الجريمة؛ فجريمتُه الوحيدة كانت ابتزاز أحد الأشخاص، وقد كان يتسكَّع هنا لارتكابها؛
ولكن من غير المحتمل أنه كان يرغبُ في كشف السر للعامة أو أن ينتهي الأمر كلُّه بسرعة
عن طريق الموت. يمكننا التحدث عنه فيما بعد. أما في الوقت الحالي، فلا أريد سوى أن
«. يبتعد عن الطَّريق
«؟ عن أي طريق يبتعد » : سأل الآخر
«. يبتعد عن طريق الحقيقة » : رد القس وهو ينظر إليه بهدوء وبجفنين ساكنين
«؟ هل تعني أنك تعلم الحقيقة » : قال الآخر متلعثمًا
«. أظنُّ ذلك » : قال الأب براون بتواضع
ساد صمت مفاجئ، صاح كريك بعده فجأة، وبصوت خشن في غيرِ محله:
«. عجبًا! أين ذلك السكرتير؟ ويلتون! كان ينبغي أن يكون هُنا »
أنا على اتصال بالسيد ويلتون، وفي الحقيقة، لقد طلبتُ منه » : قال الأب براون برزانة
أن يتصل بي بعد بضع دقائق من الآن. يمكنني القول إننا اكتشفنا الأمر معًا، إن جاز
«. القول
إذا كنتما قد بحثتما الأمر معًا، فأظن أنَّ كل شيء على ما يرام. » : قال كريك متذمِّرًا
أعلم أنه كان دائمًا أشبه بالكلاب البوليسية في تَقفِّيه لأثر المحتالين المختفين؛ لذلك ربما
كان من الجيد أن تبحث معه عن المجرم، ولكن إذا كنت تعرفُ حقيقة هذا الأمر، فمن أين
«؟ عرفتَها بحق الجحيم
واستمرَّ في التحديق قليلًا في ذلك المحارب القديم «. عرفتها منك » : أجاب القس بهدوء
أعني أنني قمت بتخميني الأول من تلميحٍ في قصة لك عن هنديٍّ » : الغاضب. وأضاف قائلًا
«. ألقى بسكين وأصاب رجلًا على قمة حصن
لقد قلت ذلك عدة مرات، لكن لا يمكنني أن أرى أيَّ » : قال وين بنوع من الحيرة
استنتاج باستثناء أن هذا القاتل قد ألقى سهمًا وأصاب رجلًا على قمة منزل يشبه الحصن.
ولكن بالطبع لم يُرمَ السهم بل أطُلق، وكان ليصل إلى أبعد من ذلك بكثير. من المؤكد أنه
«. ذهب بعيدًا على غير المألوف، ولكني لا أفهم كيف يوصلنا هذا إلى أبعد من ذلك
مع الأسف، لقد أغفلت المغزى من القصة. لا يعني أنه إذا كان » : قال الأب براون
ثمة شيء يمكنه أن يصلَ بعيدًا أن شيئًا آخر يمكنه أن يصلَ إلى أبعد منه، بل إن الأداة
الواحدة يمكن أن يكون لها أكثر من استخدام؛ اعتبر الرجال في حصن كريك أن السكين
أداةٌ للقتال اليدوي ونسوا أنه يمكن أن يُستخدم للقذف كالرِّماح. واعتبره آخرون، أعرفهم،
شيئًا يُستخدم للقذف كالرماح ونسوا، مع ذلك، أنه يمكن استخدامه للطَّعن كالحربة في
القتال اليدوي. باختصار، المعنى الأساسي للقصة هو أنه بما أنه يمكن تحويلُ خنجر إلى
«. سهم، فإنه يمكن أيضًا تحويل سَهم إلى خنجر
كانوا جميعًا ينظرون إليه في ذلك الحين؛ لكنه تابع حديثَه بالنبرة نفسها دونما تكلُّف
بطبيعة الحال، تساءلنا وقلقنا كثيرًا حول مَن أطلق هذا السهم عبر » : أو حسبان قائلًا
النافذة، وعما إذا كان قد جاءَ من مكان بعيد جدٍّا، وما إلى ذلك من الأمور، ولكن الحقيقة
هي أنه لم يطلق أحد السهم على الإطلاق، ولم يأتِ السهم عبر النافذة بأيِّ حال من
«. الأحوال
فكيف وصل إلى هنا » : سأل المحامي الأسمر اللون وهو مطأطأ الرأس لأسفل قليلًا
«؟ إذَن
أظن أن أحدَ الأشخاص أحضره معه؛ فهو لا يصعب حمله أو » : قال الأب براون
إخفاؤه. وقد كان في يد أحد الأشخاص، بينما كان واقفًا مع ميرتون في غرفته، والذي
دفعه في حَلقه كالخنجر، ثم جاءت له الفكرة الشديدة الذكاء المتمثلة في وضع كلِّ شيء
في موضع وزاوية يجعلاننا جميعًا بالنظر سريعًا نفترض أن السهمَ قد دخل عبر النافذة
«. كأحدِ الطيور
«! أحد الأشخاص » : قال العجوز كريك بصوت ثقيل كالحجارة
رنَّ جرسالهاتفمحدثًاصخبًا مُلحٍّا بنغمته العالية والمفزعة. كان في الغرفة المجاورة،
وقد اندفع الأب براون إليها قبل أن يتمكَّن أي شخصآخر من الحركة.
ما كل هذه الجلبة بحق » : صاح بيتر وين، الذي بدا مهتزٍّا ومشتتًا للغاية، قائلًا
«؟ الجحيم
«. قال إنه يتوقع اتصالًا من ويلتون السكرتير » : رد عمه بالصوت الخافت نفسه
أظن أنه ويلتون، أليس » : علَّق المحامي كشخصيتحدَّث ليكسرالصمت ويملأ الفراغ
لكن لم يُجِب أحد عن السؤال، حتى عاد الأب براون إلى الظهور فجأة وفي صمتٍ «؟ كذلك
في الغرفة، ومعه الإجابة.
أيها السادة، إنكم أنتم من طلبتم مني البحثَ » : قال بعدما عاود الجلوس على مقعدِه
عن حقيقة هذا اللغز، وقد وجدت الحقيقة، وعليَّ أن أخبركم بها، دون أي تظاهر بالتمهيد
للصدمة. مع الأسف، أي شخص يتورط في مثل هذه الأعمال لا يمكن أن ينالَ احترام
«. الآخرين
أعتقد أن هذا يعني أن شخصًا منا متَّهم، » : قال كريك كاسرًا الصمت الذي تبِعَ ذلك
«؟ أو مشكوك في أمره، أليس كذلك
جميعنا موضعُ شك. قد أكون أنا نفسيموضع شكٍّ؛ لأنني وجدت » : أجاب الأب براون
«. الجثة
بالطبع نحن مشتبَهٌ بنا. وقد بيَّن الأب براون لي مشكورًا كيف لطيار » : قال وين بحدة
«. مثلي أن يحاصِرالبرج من طائرته
لا، أنت مَن وصفت لي كيف يمكنك فعل ذلك. وقد كان ذلك الجزءَ » : رد القس مبتسمًا
«. المثير للاهتمام في الأمر
يبدو أنه يعتقد في احتمال أن أكون قد قتلته بنفسي بسهمٍ » : قال كريك بنبرة تذمر
«. من أسهم الهنود الحمر
بل أعتقد أنه من غير المرجح. آسف إن أسأت القول، » : قال الأب براون بوجه ساخر
ولكني لم يسَعْني أن أجد طريقة أخرى لفحص الأمر؛ فلا يمكنني التفكير في أي شيء
مستبعدٍ أكثر من فكرة أن الكابتن وين قد طار بطائرة ضخمةٍ فوق النافذة في الوقت
نفسه الذي حدَثَت فيه جريمة القتل، ولم يلاحظه أحد إلا ربما أن يكون ثمة رجلٌ عجوز
قد لعب دورَ هندي أحمر، وأمسك بسهم وقوس خلف الشجيرات كي يقتل شخصًا كان
بإمكانه أن يقتله بعشرين طريقةً أخرى أسهل، ولكن كان عليَّ معرفة ما إذا كان لديهما
«. أي علاقة بالأمر؛ ولذلك كان عليَّ اتهامهما كي أتمكن من إثبات براءَتهما
«؟ وكيف أمكنك إثبات براءتهما » : سأل بليك المحامي منحنيًا للأمام في اهتمام شديد
«. فقط من خلال الغضَب الذي ظهر عليهما عندما وُجِّه إليهما الاتهام » : رد الآخر
«؟ ما الذي تعنيه بالتحديد »
إذا سمحت لي أن أقول ذلك، فقد اعتقدت بلا شك » : علَّق الأب براون بهدوء تامٍّ قائلًا
أنه من واجبي أن أشتبهَ فيهما وفي الجميع. لقد شككت في السيد كريك وفي الكابتن وين،
بمعنى أنني نظرتُ في إمكانية أو احتمالية أن يكونا مذنبين. وأخبرتهما أنني قد توصَّلت إلى
استنتاجات حول الأمر، وسأقول لهما الآن ما هي تلك الاستنتاجات. أنا واثق من براءتهما؛
بسبب الطريقة واللحظة التي انتقَلا فيها من اللاوعي بالأمر إلى السُّخط منه. وما داما
لم يفكِّرا قط في احتمال كونهما متَّهمَين، فقد استمرا في إعطائي الأدلة لدعم اتهامي؛ فقد
شرحا لي عمليٍّا كيف كان بإمكانهما ارتكاب الجريمة، ثم أدركا فجأة في صدمةٍ وصيحة
غضب أنهما كانا متهمَين؛ وقد أدركا ذلك بعد وقت طويل من توقعهما لذلك الاتِّهام، ولكن
قبل وقت طويل من اتهامي لهما. لا يمكن لأي شخص مذنب أن يفعلَ ذلك؛ فقد يكون
سريع الغضب ومرتابًا من البداية، أو قد يتظاهر بعدم الوعي أو البراءة حتى النهاية، لكنه
لن يشرع في جعل الأمور تعمل ضدَّه، ثم يتحول تحوُّلًا سريعًا غاضبًا منكرًا لفكرةٍ ساعد
بنفسه في انبثاقها في الأذهان؛ فلا يتأتَّى هذا إلا من فشله الحقيقي في إدراكه لما كان يُوحي
لمن أمامه به. إن الوعي الذاتي للقاتل سيكون دائمًا على الأقل مريضًا بما يكفي لمنعِه من
نسيان علاقته بالأمر أولًا ثم من تَذكُّر إنكاره؛ لذلك استبعدتكما كما استبعدت آخرين
لأسباب أخرى لست بحاجة إلى مناقشتها الآن. على سبيل المثال، كان هناك السكرتير …
ولكني لن أتحدث عن ذلك الآن. انتبهوا، لقد تحدَّثت للتو مع ويلتون عبر الهاتف، وقد
أعطاني الإذن كي أنقل لكم بعض الأخبار الشديدة الخطورة. وأعتقد أن جميعكم يعرفُ
«. الآن ويلتون وما كان يسعَى له
أعلم أنه كان يسعى وراء دانيال دوم ولم يكن ليسعد حتى يجدَه، » : رد بيتر وين
ولقد سمعت القصة التي تقول إنه ابن العجوز هوردير؛ ولذلك فهو لديه رغبة في الانتقام.
«. على أي حال، لا بد أنه يبحثُ عن الرجل الذي يُدعى دوم
«. حسنًا، لقد وجده » : قال الأب براون
هبَّ بيتر وين واقفًا في دهشة.
«؟ القاتل! هل القاتل متحفَّظٌ عليه بالفعل » : وصاح
لا؛ قلت إن الأخبار خطيرة، وهي أكثر خطورة من ذلك. » : قال الأب براون آسفًا
يؤسفني أن يكون ويلتون المسكين قد تحمل مسئولية شاقة، ويؤسفني أنه سيُحملنا
مسئولية شاقة كذلك؛ فقد وجد المجرم، وعندما ضيق الخناق عليه أخيرًا، حسنًا، أخذ بثأره
«. منه بمعرفته
«… أنت تقصد أن دانيال دوم » : قال المحامي
أعني أن دانيال دوم قد مات. شبَّصراع وحشي نوعًا ما بينهما، وقتله » : قال القس
«. ويلتون
«. نال ما استحقَّه » : قال السيد هيكوري كريك بصوت هادر
لا يمكننا لوم ويلتون على قتله لمحتالٍ كهذا، خاصةً مع وجود عداء » : وافقه وين قائلًا
«. بينهما؛ كان الأمر يشبه دهسَ أفعى
لست معكما في ذلك؛ إذ أعتقد أننا جميعًا نتحدث برومانسية » : قال الأب براون
وعشوائية دفاعًا عن إعدام شخصدون محاكمة وعن مخالفة القانون؛ ولكني أرى أننا إذا
فقَدْنا قوانيننا وحقوقنا فإننا سنندم على ذلك. إلى جانب هذا، يبدو لي من غيرِ المنطقي أن
نقول إن ثمةَ شيئًا يُقال عن ارتكاب ويلتون لجريمة القتل، حتى دون تحقُّق مما إذا كان
هناك أي شيء يمكن أن يقال عن ارتكاب دوم للجريمة. وأنا أشك في الواقع فيما إذا كان
دوم مجرد قاتل عاديٍّ؛ فربما يكون نوعًا من الخارجين عن القانون لديه هوس بالكأس،
يحاول أخذه بالتهديد ولا يقتل إلا بعد عِراك؛ فقد قُتلت الضحيتان على عتبتَي منزليهما.
«. اعتراضيعلى ما فعله ويلتون هو أننا لن نستطيعَ أن نستمع أبدًا لجانب دوم في القضية
أوه، أنا لا أتحمَّل هذه المحاولة العاطفية لالتماسالأعذار للأوغاد » : صاح وين بحماس
«. القَتلى الوضعاء. إذا كان ويلتون قد قتل المجرم، فقد قام بعمل رائع، وانتهى الأمر
«. هذا صحيح، هذا صحيح » : قال عمه وهو يومئ برأسه بقوة
ولكن وجه الأب براون كان قد ظهرت عليه جدية أكبر وهو ينظر ببطء لنصف الدائرة
حتى عندما قال ذلك «؟ هل هذا حقٍّا ما تعتقدونه جميعًا » : التي تُكوِّنُها وجوههم. وسأل
كان يدرك أنه رجل إنجليزي بعيدًا عن وطنه، وكان يدرك أنه وسط أجانب، حتى وإن كان
وسط أصدقائه. حول تلك الحلقة من الأجانب اشتعلتْ نارٌ لا تهدأ والتي لم تكن أصيلة
لسلالته؛ تلك الروح العنيفة للأمة الغربية القادرة على التمرُّد والإعدام دون المحاكمة، وقبل
كلشيء، الاتحاد. وقد علم أنهم قد اتحدوا بالفعل.
حسنًا، أرى أنكم قد غفَرْتم بلا أدنى شك لهذا الرجل التعيس » : قال الأب براون بحسرة
جريمتَه، أو ما تصور هو أنه تطبيق للعدالة، أو أيٍّا ما تسمونه. في هذه الحالة، لن يضره
«. إذا أخبرتكم قليلًا عن الأمر
قام فجأة على قدميه، وعلى الرغم من أنهم لم يروا معنًى لحركته؛ فقد بدت بطريقة
أو بأخرى مغيِّرة أو منعشة للأجواء في الغرفة.
«. قَتل ويلتون دوم بطريقة غريبةٍ بعضالشيء » : قال
«؟ كيف قتله ويلتون » : سأل كريك بحدة
«. بسهم » : قال الأب براون
كان ضوء الشفق يتجمَّع في الغرفة الطويلة، ويتضاءل ضوء النهار إلى بريق من
النافذة الكبيرة في الغرفة الداخلية حيث مات المليونير الكبير. وقد توجَّهتْ عيون الجمع
ببطء تلقائيٍّا نحوها، ولكن لم يكن ثمة صوت حتى ذلك الحين. ثم جاء صوت كريك أجشَّ
وعاليًا وعجوزًا يهذي كديك يصيح:
«… ماذا تعني؟ ماذا تعني؟ قُتل براندر ميرتون بسهم. هذا المحتال قُتل بسَهم »
«. بالسهم نفسِه، وفي اللحظة نفسها » : قال القس
مرة أخرى، ساد نوع من الصمت الخانق، بل الحانق والطافِح أيضًا، ثم قال الشاب
«… هل تعني » : وين
أعني أنصديقَك ميرتون كان هو دانيال دوم، وهو دانيال » : قال الأب براون بنبرة ثقة
دوم الوحيد الذي قد تجدُه يومًا. كان صديقك ميرتون دائم الهوس بتلك الكأس القبطية
التي اعتاد على تقديسها كصنمٍ كل يوم؛ وفي شبابه الجامح قتل بالفعل رجُلَين للحصول
عليها، غير أنني لا أزال أعتقد أن حالتي الوفاة وقعتا على نحوٍ ما نتيجةً لحادثتي سرقة.
على أي حال، لقد حصل عليها؛ وهذا الرجل دريدج عرف القصة وكان يبتزُّه، ولكن ويلتون
كان يلاحقه لغرض آخر تمامًا؛ أتخيَّل أنه لم يعرف الحقيقة إلا عندما دخل إلى منزله.
«. ولكن على أي حال، في منزله وفي تلك الغرفة انتهتْ هذه الملاحقة، وقتل قاتل والده
مرَّ وقت طويل دون أن يردَّ أحد، ثم كان بالإمكان سماع العجوز كريك وهو يطرق
بأصابعه على الطاولة ثم تَمتَم قائلًا:
«. لا بد أن براندر كان مجنونًا. لا بد أنه كان مجنونًا »
ولكن، يا إلهي، ماذا علينا أن نفعل؟ ماذا علينا » : انفجر بيتر وين في الحديث قائلًا
أن نقول؟ أوه، كلُّ شيء مختلف تمامًا! ماذا عن الأموال ورجال الأعمال الكبار؟ براندر
«. ميرتون كان كالرئيس أو بابا روما
أعتقد بالتأكيد أن الأمور قد اختلفت » : قال بارنارد بليك، المحامي، بصوتٍ خفيض
«… تمامًا. ويشمل ذلك الاختلاف مجموعة
ضرب الأب براون الطاولة حتى طقطقت الكئُوس التي كانت عليها؛ وكادوا يتخيلون
دويٍّا كدوي الأشباح آتيًا من الكأس الغامضة التي كانت لا تزال في الغرفة وراءهم.
لا! لا يجب أن يكون هناك فرق. أعطيتكم الفرصةَ » : صاح بصوت كصوت طلق ناري
للتعاطف مع الشيطان المسكين عندما كنتم تظنون أنه مجرم عادي، لكنكم ما كنتم
لتستمعوا حينها؛ إذ كان كل ما يعنيكم جميعًا الثأر الشخصي. كنتم جميعًا مع تركه يُذبح
كحيوانٍ مفترس دون جلسة استماع أو محاكمة علنِيَّة، وقلتم إنه نال ما استحقه. حسنًا
جدٍّا إذَن، إذا كان دانيال دوم قد نال ما استحقَّه، فإن براندر ميرتون قد نال ما استحقَّه.
وإذا كان ذلك قدْر دوم، فبكل ما هو مقدَّس هذا أيضًا قدْر ميرتون. فلتختاروا عدالتكم
الهمجية أو شرعيَّتنا الكليلة؛ ولكن باسم الرب القدير، فلتكن فوضى للجميع أو قانونًا
«. للجميع
ماذا ستقول الشرطة إذا » : لم يردَّ أحد سوى المحامي، الذي أجاب بشيء من الزمْجَرة
«؟ أبلغناهم بأننا نريد التغاضيعن جَريمة
ماذا سيقولون إذا أخبرتُهم بأنك تغاضيتَ عنها بالفعل؟ يأتي » : رد الأب براون
«. احترامك للقانون في مرتبة متأخِّرة نوعًا ما لديك، أيها السيد بارنارد بليك
أنا شخصيٍّا على استعداد لقول الحقيقة » : بعد توقف استأنف بلهجةٍ أكثر تسامحًا
إذا سألتْني السلطات المختصة؛ ويمكنكم جميعًا أن تفعلوا ما تشاءون، ولكن في الواقع
لن يُحدث ذلك فرقًا كبيرًا؛ فقد اتصل بي ويلتون فقط ليخبرني أنني حر الآن في إخباركم
«. باعترافه؛ لأنكم عندما تسمعُونه، سيكون قد أفلتَ من الملاحقة
دلف ببطء إلى الغرفة الداخلية ووقفَ هناك عند الطَّاولة الصغيرة التي مات المليونير
بجانبِها. وكانت الكأس القبطية لا تزال في مَكانها، وبقي لبعضِالوقت يحدق في مجموعة
ألوان قوس قزح البادية جميعًا عليها، ويحدق فيما وراءَها في الزُّرقة اللامتناهية للسَّماء
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.