GilbertKeith

شارك على مواقع التواصل

كان الأب براون يعتبر هذه القضية أغربَ مثال على نظرية حجة الغياب، وهي النظرية التي
تقول بأنه من المستحيل أن يوجد شخصٌما في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، وذلك في
تحدٍّ لأسطورة الطائر الأيرلندي. بادئَ بدءٍ، ربما كان جيمس بايرن وهو صحفيٌّ أيرلندي،
هو أقرب من يمكن تشبيهُهم بذلك الطائر الأيرلندي الأسطوري؛ فقد اقترب أكثر من أيِّ
شخصآخر من الوجود في مكانين مختلفين في الوقت نفسه تقريبًا؛ ذلك أنه كان في مكانين
يقعان على طرفيَ النقيضمن حيث الخصائصالاجتماعية والسياسية لكلٍّ منهما، وذلك في
غضون عشرين دقيقة فقط. كان المكان الأول الذي وُجِد به هو إحدى قاعات فندق بابيلون
الكبير، التي كانت مكان لقاءِ ثلاثةٍ من أباطرة المال والأعمال المَعنيِّين بترتيب إغلاقٍ لمناجم
الفحم ثم شجبه باعتباره إضرابًا لعمال المناجم، أما المكان الثاني الذي وُجِد به الصحفي
فكان حانة غريبة لها واجهةُ متجرِ بقالة، حيث التقى بثلاثة أشخاصٍذوي نشاط سرِّيٍّ
من أولئك الذين سيتحمسون كثيرًا لتحويل الإغلاق إلى إضراب — ثم تحويل الإضراب إلى
ثورة. وهكذا أخذ المراسلُ الصحفي في التنقُّل ذهابًا وإيابًا بين المليونيرات الثلاثة والقادة
البلشفيين الثلاثة بحصانة الرسول أو السفير الجديد بينهما.
كان أباطرة المناجم الثلاثة قد وُجدوا مختبئين في تلك القاعة التي تُشبه الغابة لكثرة
ما بها من النباتات المزهرة، والأعمدة المزينة المبهرجة بالجِصِّ المذهَّب، وأقفاص الطيور
المذهَّبة المعلَّقة عاليًا تحت القباب المطلية المزينة وسط أعالي سَعَفالنخيل؛ وفي تلك الأقفاص
طيورٌ متعددة الألوان متنوعة الأصوات. لم يكن هناك في البرية طيورٌ تغنِّي ولا يستمع لها
أحدٌ بذلك الشكل، ولم يكن هناك ورودٌ ضيعت جمالها في القِفار كما ضاع جمالُ أزهار
تلك النباتات الطويلة على أولئك الرجال الثلاثة المنشغلين اللاهثين الذين هم في الغالب
أمريكيون، بينما يتحدثون ويجولون في المكان ذهابًا وإيابًا. ووسط تلك الزخارف المفرطة
التي تتبع طرازَ وأسلوب روكوكو والتي لم يلتفت لها أحدٌ، وثرثرة طيور مستوردة بأثمانٍ
باهظة لم يُلقِ لها أحدٌ بالًا، وبين الكثير من الأثاث الرائع ووسط تلك المتاهة من العمارة
الفاخرة، جلس الرجالُ الثلاثة وتحدثوا كيف أن النجاح يقوم على الفكر والتوفير وتوخِّي
الحذر على الجانب الاقتصادي وكذلك على ضبط النفس.
كان أحدهم في الواقع أقلَّ كلامًا بكثير من الآخرين؛ لكنه كان يراقب بعينَين لامعتَين
نادرًا ما ترمشان، كما تبدوان وكأنهما مضغوطتان معًا؛ ذلك أنه كان يرتدي نظارة من
دون إطار، وكانت تلك الابتسامة الدائمة على شفتيه تحت ذلك الشاربِ الأسود الصغير
تبدو وكأنها تنمُّ عن سخرية دائمة من جانبه. كان هذا هو جيكوب بي ستاين الشهير،
وهو لا يتحدث إلا إذا كان لديه شيءٌ ليقولَه. أما رفيقه جالوب العجوز من بنسلفانيا،
فكان رجلًا بدينًا ضخمَ الجثة له شعرٌ أبيضيمنحه الوقارَ ووجهٌ يُشبه الملاكمين، يتحدث
ويُثرثر على الدوام. كما كان في حالة مزاجية مرحة، بينما يستنهض ويستحثُّ المليونير
الثالث؛ جديون وايز وهو رجل يابسٌ جافٌّ؛ عجوزٌ حادُّ الملامح ذو صفات خاصة؛ حيث
يشتهر هو وأبناء بلدته بأنهم يُشبهون أشجارَ الجوز الصُّلبة، كما أن له ذقنًا أشيبَ خشِنًا،
ويُشبه في ملبسه وأسلوبه فلاحًا عجوزًا من السهول الوسطى. كان هناك جدالٌ أزليٌّ بين
وايز وجالوب حول الدمج والمنافسة. ونظرًا لأن وايز العجوز، بسلوكياته كرجلٍ ريفيٍّ،
كان لا يزال يتمسك ببعضآرائه التي تنتمي للطريقة القديمة لإدارة الأعمال بشكل فردي؛
والتي جعلته يُصنَّف، كما نقول في إنجلترا، ضمن مَن يفضلون مدرسة مانشستر في إدارة
الأعمال؛ وكان جالوب دائمًا ما يحاول إقناعَه بأن يوقف المنافسةَ وأن يستفيدَ من اتحاد
مواردشركاتهم معًا.
سيتعيَّنُ عليك أن تنضمَّ لنا » : وحين دخل بايرن كان جالوب يقول بنبرةٍ لطيفةٍ
يا صديقي القديم، عاجلًا أو آجلًا. تلك هي الطريقة التي يسير بها العالم، ولا يمكننا الآن
«. أن نعودَ لحقبة الرجل الواحد الذي يدير عملًا تجاريٍّا. لا بد وأن نقفَ جميعًا متكاتفين
هل لي بأن أقول كلمة، هناك شيءٌ أكثر إلحاحًا حتى » : قال ستاين بطريقته الهادئة
من التكاتف معًا على مستوى الأعمال؛ إذ يتحتَّمُ علينا أن نتكاتفَ معًا على المستوى السياسي
بأيِّ شكل من الأشكال؛ وهذا هو السبب في طلبي من السيد بايرن أن يلتقيَ بنا هنا اليوم.
إننا لا بد وأن نتحدَ بشأن المسألة السياسية؛ وذلك لسببٍ بسيط وهو أن أكثرَ أعدائنا
«. خطورةً متحدون بالفعل
«. أوه، إنني أوافق تمامًا على الاتحاد على المستوى السياسي » : غمغم جديون وايز
اسمع، أنا أعلم أنك ترتادُ تلك الأماكن الغريبة أيها السيد » : قال ستاين للصحفي
بايرن، وأنا أريد منك أن تصنع لنا معروفًا على المستوى غير الرسمي. أنت تعلم أين يلتقي
أولئك الرجال؛ وهناك اثنان أو ثلاثة منهم فقط على قدرٍ كبير من الأهمية، وهم جون إلياس
«. وجيك هالكيت، الذي يُلقي الخُطب، وربما كان معهما ذلك الشاعر الذي يُدعَى هوم
لماذا توجد علاقةُ صداقة بين هوم وجديون، أكانَا معًا في » : قال السيد جالوب الساخر
«؟ مدرسة دينية أوشيء من هذا القبيل
كان يدين بالمسيحية حينها، ولكن حين يحتكُّ المرءُ » : قال جديون العجوز بنبرة جادة
بالملحدين، فلا يمكنك أن تعرفَ إلى أين يمكن أن يصلَ. لا زلتُ ألتقي به بين الحين والآخر.
لقد كنتُ مستعدٍّا تمامًا لأنْ أساندَه ضد الحرب والتجنيد الإلزامي وما إلى ذلك بالطبع،
«… ولكن حين يئول الأمرُ إلى التعامل مع أولئك البلشفيين الملاعين الآخذين في التزايد
عذرًا، الأمر مُلحٌّ بصورة كبيرة؛ لذا أستميحك عذرًا في أن أكشفَه » : قاطعه ستاين قائلًا
أمام السيد بايرن في الحال. سيد بايرن، يمكنني أن أقول وكلِّي ثقة إن لديَّ معلومات، بل
وربما أدلة، من شأنها أن تزجَّ باثنين من أولئك الرجال في السجن لفترةٍ طويلةٍ من الوقت،
على خلفية تدبير مؤامراتٍ أثناء الحرب الأخيرة. وأنا لا أريدُ أن أستخدمَ هذا الدليل، ولكن
أريد منك أن تذهبَ إليهم وتخبرَهم في هدوء بأنني سأستخدمه، وقد أستخدمُه غدًا، ما لم
«. يُغيِّروا من موقفهم
حسنًا، إن اقتراحك هذا ما هو إلا تلفيقُ جناية، وربما نُطلق عليه ابتزازًا، » : قال بايرن
«؟ ألَا تعتقد أن هذا الأمر خطيرٌ للغاية
أعتقدُ أن في هذا الأمر خطورةً عليهم، وأريدك أن تذهب » : قال ستاين في سخرية
«. وتخبرهم بذلك
أوه، حسنًا، » : نهضبايرن من مكانه وأطلق تنهيدةً تنمُّ عن شيءٍ من سخرية، وقال
سأفعل ذلك على الرغم من صعوبته، ولكن إذا ما وقعتُ في مأزق، فإني أحذرك أنني
«. سأحاول أن أجرَّك معي
«. ستحاول ذلك أيها الفتى » : قال العجوز جالوب وهو يُطلق ضحكة قوية
لفترةٍ طويلةٍ من الوقت كان الحلم العظيم لجيفرسون لا يزالُ باقيًا، وذلك الشيء الذي
أطلق عليه الناس اسم الديموقراطية في بلده، فبينما كان الأغنياءُ يحكمون كالطغاة، كان
الفقراء لا يتحدثون كالعبيد؛ لكن كان هناكشيءٌ من الصراحة بين المضطهِد والمقهور.
كان مكانُ التقاء الثائرين غريبًا وخاليًا وله جدرانٌ مطلية باللون الأبيض، وعلى تلك
الجدران كانت هناك لوحتان غريبتان ومشوَّهتان مرسومتان باللونَين الأبيض والأسود،
على طرازٍ كان من المفترض أن ينتميَ لفنِّ الطبقة العاملة، ولم يكن هناك ولو شخصًا
واحدًا في المليون ممَّن ينتمون لتلك الطبقة يمكنه أن يفهمَ من تلكما اللوحتين شيئًا. ربما
كانت النقطة المشتركة الوحيدة بين غرفتَي التشاور هي أن كلتيهما كانت تنتهك الدستور
الأمريكي بشأن وجود مشروباتٍ كحوليةٍ قوية التأثير؛ فقد كان هناك الكثيرُ من المشروبات
الكحولية ذات ألوان مختلفة أمام المليونيرات الثلاثة. كان هالكيت، وهو أكثر البلشفيين
اتباعًا للعنف، يعتقد أنه من المناسب فقط تناولُ مشروب الفودكا. وقد كان رجلًا طويلًا
ضخمَ الجثة محدَّب الظهر على نحوٍ يُشعر بالخوف، وكان وجهُه ينمُّ عن عدائية كبيرة
كما لو كان يُشبه الكلبَ؛ حيث تبرزُ أنفُه وشفتاه بروزًا كبيرًا، وكانت شفتاه تحملان
شاربًا أشعثَ أحمرَ اللون وهما ملتويتان للخارج فيما يوحي على ما يبدو بحالةٍ دائمة
من الازدراء من جانبه. أما جون إلياس فكان رجلًا يقظًا داكنَ البشرة يرتدي نظارة، وله
ذقنٌ أسود مدبَّب؛ وكان قد اعتاد علىشراب الأفسنتين في الكثير من المقاهي الأوروبية. كان
كلُّ ما تَملَّك الصحفي، بعد كل ذلك، هو شعورٌ بمدى التشابه الكبير بين كلٍّ من جون
إلياسوجيكوب بي ستاين. حيث كانت تجمعهما نقاطٌ متشابهة كثيرة في الشكل والتفكير
والأسلوب، بحيث بدا له وكأن المليونير قد عبَر بابًا خفيٍّا في فندق بابيلون ليخرجَ من طرفه
الآخر في معقل البلشفيين.
كان للرجل الثالث أيضًا ذوقٌ غريب في المشروبات، وكان مشروبه وكأنه رمزٌ يعبِّر
عنه. ذلك أن المشروب الذي كان موضوعًا أمام الشاعر هوم كان كوبًا من الحليب، وقد كان
اعتداله الشديد في مثل هذا الاجتماع يوحي بوجودشيء من الخطر والشر بخصوصه، كما
لو أن انعدام شفافية الحليب وبياض لونه كانَا يُشبهان معجون علاج البرَص الذي هو
أكثرُ سمِّيَّة من مشروب الأفسنتين ذي اللون الأخضرالشاحب، لكن في الواقع كان الاعتدال
حقيقيٍّا بالقدر الكافي ليُوحي بوجود الصفة نفسها في هنري هوم؛ ذلك أنه شقَّ طريقًا
مختلفًا تمامًا كي ينضمَّ لمعسكر الثوار وأتى من أصول مختلفة كذلك عن كلٍّ من جيك
— الغوغائي والسوقي — وإلياس — المثقَّف والسياسي الدولي المحنَّك. حيث حظيَ هوم
بما يمكن أن نُطلقَ عليها تنشئةً مُحافِظة؛ فقد ذهب إلى كنيسةٍصغيرةٍ في طفولته، وتمسَّك
طوال حياته بالامتناع عن تناول المشروبات الكحولية، وهو الأمر الذي ظل متمسكًا به
حتى حين نبذ بعض الأشياء التي يراها غيرَ مهمة مثل الديانة المسيحية والزواج. كان له
شعرٌ أشقر ووجهٌ مليحٌ يكاد يقترب في ملامحه من الشاعر الإنجليزي شيلي، إذا لم يُطلق
شعيراتِ لحيته الغريبة. وبطريقةٍ ما، جعلتْه اللحيةُ يبدو في مظهره كالمرأة؛ كما لو أن
إطلاقَ تلك الشعيرات الذهبية هو كلُّ ما أمكنه فعلُه.
حين دخل الصحفي، كان جيك السيئُ السمعة يتحدَّث، كما كان يفعل في الغالب.
هذا الشيء أو ذاك، وكان « حرَّم الرب » حيث تلفَّظ هوم بعبارات عرضية وتقليدية من قبيل
ذلك كفيلًا لأن ينطلق لسانُ جيك بسيل من الألفاظ النابية.
حرَّم الرب ذلك! هذا هو كلُّ ما يفعله، إن الربَّ لا يفعل أيَّ شيء سوى » : قال جيك
أن يحرِّم هذا وذاك؛ يحرِّم الإضراب، ويحرِّم القتال، ويحرِّم إطلاق النار على أولئك المرابين
الملاعين ومصاصي الدماء حيثما كانوا. لمَ لا يحرِّم الربُّ عليهم هم شيئًا؟ لمَ لا ينهضُ
القساوسة والكهنة الملاعين ويقولون الحقيقة بشأن أولئك الحيوانات على سبيل التغيير؟
«… لماذا لا يقوم إلههم العظيم
تنهَّد إلياس تنهيدةً خفيفة، كما لو كان ينفث فيها شيئًا من تعبٍ خفيف.
إن القساوسة ينتمون كما وضَّح ماركس إلى المرحلة الإقطاعية من عملية » : وقال
تطور الاقتصاد؛ ومن ثَم فإنهم لا يمثلون حقٍّا أيَّ جزء من المشكلة. إن الدور الذي كان
«… يلعبه القَسُّ يلعبه الآن الخبيرُ الرأسمالي و
أجلْ، وقد حان الوقت المناسب » : قاطعه الصحفيُّ بعناده الشرس والساخر قائلًا
ثم ومن دون أن يُشيحَ بعينَيه عن عينَي «. لتعلمَ أن بعضَهم ماهرٌ للغاية في لعب ذلك الدور
إلياس الجامدتَين اللامعتين، أخبرَه بتهديد ستاين.
كنتُ مستعدٍّا لشيء مثل هذا، ربما » : قال إلياس وهو مبتسِم من دون أن يتحرَّك
«. يمكنني القولُ إنني كنتُ مستعدٍّا تمامًا
تلك الكلاب القذرة! إذا قال أحدُ الفقراء هذا الكلام فسيُحكم عليه » : انفجر جيك قائلًا
بالأشغال الشاقَّة، ولكنني أظن أنهم سيذهبون إلى مكان أسوأ من السجن دون أن يشعروا.
«!؟ فإذا لم يذهبوا إلى الجحيم، فلا أعرفُ بحقِّ الجحيم إلى أين سيذهبون
أتى هوم بحركةٍ يعبِّر بها عن احتجاجه، ربما لم يكن احتجاجًا على ما يقوله الرجل
بقدر ما هو احتجاجٌ على ما كان سيقوله، وقطع إلياس الحديث بدقةٍ بالغةٍ.
ليسمن الضروري تمامًا » : قال وهو ينظر إلى بايرن بنظراتٍ ثابتةٍ من خلال نظَّارته
بالنسبة لنا أن نتبادلَ التهديدات مع الجانب الآخر. ويكفي تمامًا أن نقول إن تهديداتِهم
غير مؤثرة علينا على الإطلاق. لقد اتخذنا أيضًا جميع الترتيبات، ولن نُظهرَها إلا بعد أن
يُظهروا هم التهديدات على أرضالواقع. ومن وجهة نظري، فإن استعراضالقوة المفرط
«. وقطْع العلاقات الفوري سيكون وفقَ خطتنا تمامًا
وفيما كان يتحدث بنبرة هادئة تمامًا ومفخَّمة، كان هناك أمرٌ ما بشأن وجهه الأصفر
الجامد ونظارته الكبيرة يُثير شيئًا من الخوففي جسد الصحفي. فربما كان الوجه الوحشي
لهالكيت ينمُّ عن زمجرة منه حين تنظر إليه من الجانب في إضاءة خافتة، ولكن حين تنظر
إلى وجهه مباشرةً، تجدُ أن الغضبَ في عينَيه يخالجُه أيضًاشيءٌ من قلق، كما لو أن المعضلة
الأخلاقية والاقتصادية في نهاية المطاف أكثر مما يمكنه تحمُّله؛ وربما بدا على هوم أنه
يتعلق بأحبال القلق والنقد الذاتي. لكن بشأن ذلك الرجل الثالث الذي يرتدي النظارة،
والذي تحدَّث بمنطقٍ وبساطة بالغَينِ، كان هناكشيءٌ غامض؛ كما لو أن رجلًا ميتًا يجلس
إلى الطاولة ويتحدَّث.
وبينما خرج بايرن ومعه رسالةُ التحدي تلك، وقطَع ذلك الممرَّ الضيق بجوار متجر
البقالة، وجد نهايتَه مسدودةً بجسد شخصٍ غريبٍ لكنه بدَا له مألوفًا على نحوٍ غريب
أيضًا؛ كان قصيرًا وقويَّ البنية، وبدا طريفًا للغاية عند رؤية حدودِ جسده الخارجية بدون
إضاءة توضِّح تفاصيله؛ خاصة مع رأسه الكروي الشكل وقبعته العريضة.
الأب براون! لا بد أنك وصلت إلى الباب الخطأ. فليس من » : صاح الصحفي المذهول
«. المرجح أنك جزءٌ من تلك المؤامرة الصغيرة
«. مؤامرتي أقدمُ كثيرًا، لكنها واسعة الانتشار تمامًا » : أجابه الأب براون وهو يبتسم
حسنًا، لا يمكنُك أن تتخيل أن أيٍّا من أولئك الموجودين بالداخل يقترب » : قال بايرن
«. ولو عن بُعدِ ألف ميل من دائرة اهتماماتك
ليس من السهل دومًا معرفةُ ذلك، ولكن في الواقع، هناك » : ردَّ القَسُّ بهدوء واتزان
«. شخصواحد فقط يبعد بمقدار بوصة واحدة عن اهتماماتي
واختفى في المدخل المظلم، وأكمل الصحفيُّ طريقَه وهو في حيرة شديدة. وزادته حيرةً
على حيرته تلك الحادثةُ الصغيرة التي حدثت له حين دخل الفندق ليقدم تقريرَه لعملائه
الرأسماليين. كانت التعريشة التي تتكوَّن من الأزهار وأقفاص الطيور التي يتحصَّن
فيها أولئك العُجُز الغاضبون متصلةً بدرجات سلَّم رخامية، ويحيط بها تماثيلُ حوريات
وتريتونات مذهَّبة. وعند أسفل تلك الدرجات، كان هناك شابٌّ متعجلٌ يجري، له شعرٌ
أسود وأنفٌ أفطس ويضع زهرةً في عروة السترة، وقد أمسك الشابُّ ببايرن ودفعه جانبًا
قبل أن يتمكَّن من صعود تلك الدرجات.
دعْني أخبرْك أمرًا، أنا بوتر — سكرتير جديون العجوز، هناك » : همس في أذنه قائلًا
«؟ صاعقة يجري التحضيرُ لها، أليس لديك علمٌ بهذا الأمر
لقد توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن أولئك المسوخ السايكلوب » : أجابه بايرن بحذر
يُحضِّرون لشيء ما على السندان، ولكن تذكَّرْ دومًا رغم أن السايكلوب عملاقٌ، لكنه لا
«… يمتلك سوى عينٍ واحدة. أعتقد أن البلشفية
وبينما كان يتحدث، كان السكرتير يستمع إليه وقد بدتْ على وجهه تقريبًا كلُّ أمارات
الجمود المنغولي، على الرغم من الحيوية في ساقَيه وملبسه، ولكن حين قال بايرن كلمة
تحولت عينَا الشابِّ الحادَّتان وقال مسرعًا: ،« البلشفية »
ما علاقةُ ذلك — أوه، أجل، ذلك النوع من الصواعق؛ آسف للغاية، هذا خطئي. من »
«. السهل جدٍّا أن تقول سندان وأنت تعني صندوق الثلج
وبتلك الكلمات، اختفى الشابُّ الغريب عند أسفل الدرجات واستمر بايرن فيصعودها،
وما زالت سحائبُ الغموضتتكثَّف في ذهنه.
وجد الرجال الثلاثة قد زادوا إلى أربعة بحضور شخصله وجهٌ نحيل وملامحُ حادَّة
وشعر غثٌّ بُنِّيُّ اللون ويرتدي نظارةً بعين واحدة، والذي بدا وكأنه مستشارٌ لجالوب
العجوز، وربما كان محاميه، رغم أنه لم يُدعَ بهذا اللقب على الإطلاق. كان اسمه ناريس،
وكانت الأسئلة التي وجَّهها لبايرن تُشير في الأغلب، لسبب أو لآخر، إلى عدد أولئك المشاركين
في التنظيم الثوري. ومن هذا المنطلق، ولأن بايرن لم يكن يعرف الكثيرَ من المعلومات عن
تلك النقطة، فلم يتكلم كثيرًا؛ وفي النهاية قام الرجال الأربعة من مقاعدهم، وجاءت آخرُ
الكلمات من الرجل الذي كان كثيرَ الصمت.
شكرًا لك سيد بايرن، لم يبقَ سوى أن أقول إن » : قال ستاين وهو يطوي نظارتَه
كلَّ شيء جاهز؛ إنني أتفق مع السيد إلياس في تلك النقطة. غدًا وقبل الظهيرة، ستكون
الشرطةُ قد ألقت القبض على السيد إلياس بناءً على دليل سأقدِّمه لهم، وسيكون أولئك
الرجال الثلاثة على الأقل في السجن بحلول المساء. وكما تعلم، لقد حاولتُ أن أتجنَّب هذا
«. المسار. أعتقد أن هذا هو كلُّشيء، أيها السادة
لكن السيد جيكوب بي ستاين لم يقدِّم دليلَه في اليوم التالي؛ وذلك لسببٍ غالبًا ما
يعوق أنشطةَ مثل أولئك الرجال المواظبين على أعمالهم. لم يقدِّم دليلَه لأنه قد مات؛ ولم
يتمَّ تنفيذُ أيِّ شيءٍ من الخطة، لسبب وجده بايرن مكتوبًا بخطوطٍ عريضةٍ حين فتح
«. جريمة قتل ثلاثية مرعبة: مقتل ثلاثة مليونيرات في ليلة واحدة » : جريدته الصباحية
توالت بعد هذه الجملة عباراتُ تعجُّب مكتوبة بخط أصغر، لكنها كان
توالت بعد هذه الجملة عباراتُ تعجُّب مكتوبة بخط أصغر، لكنها كانت أكبرَ من الخط
العادي بأربعة أضعاف، الأمر الذي أكَّد على الملامح المميزة لذلك اللغز: وهي حقيقة أن
أولئك الرجال الثلاثة لم يُقتَلوا فقط في الوقت نفسه، وإنما في ثلاثة أماكنَ منفصلة بعضها
عن بعض للغاية؛ فقد قُتل ستاين في مقرِّه الريفي الفاخر على بُعدِ مائة ميل في داخل
البلاد، وقُتل وايز خارج الشاليه الصغير على الشاطئ حيث كان يعيش مُستمتعًا بنسمات
البحر وبالحياة البسيطة، وقُتل جالوب العجوز في غابة صغيرة، بالقرب من بيت الحرس
الخاصبمنزله الكبير في الجهة الأخرى من البلاد. وفي الحالات الثلاث كلِّها، لم يكن هناك
شكٌّ بشأن العنف الذي تعرَّضوا له قبل مقتلهم مباشرة، على الرغم من أن جثة جالوب لم
تُكتشَف إلا في اليوم التالي، حيث وُجدت جثتُه الضخمة والمُفزعة معلقةً بين أفرُع وأغصان
تلك الشجيرات الصغيرة التي سحَقها وزنُه الثقيل، مثل ثَور بَيسون مندفعًا نحو أسنَّة
الرماح، فيما كان من الواضح للغاية أن وايز قد دُفع من على حافة الجُرف إلى البحر، بعد
مقاومةٍ منه؛ ذلك أن آثار احتكاكه وانزلاقه عن الجُرف ما زالت بارزةً على الحافة، لكن
الإشارة الأولى لاكتشاف تلك المأساة كانت رؤيةَ قبَّعته الكبيرة المصنوعة من القشِّ وهي
تطفو على بُعدٍ على الأمواج التي كان بالإمكان رؤيتُها بوضوحٍ من على الجُرف. ولم يكن
من السهل أيضًا في البداية اكتشافُ جثة ستاين حتى مع البحث، حتى أرشد أثرٌ ضعيف
من الدماء المحقِّقين إلى حمَّام على الطراز الروماني القديم كان يَبنيه في حديقته؛ ذلك أنه
كان رجلًا يتمتَّع بعقلية محبَّة للتجربة ولدَيْهِ ميل إلى التحف والآثار القديمة.
وأيٍّا كان ما قد يفكر فيه، فإن بايرن لا يملك سوى الاعتراف بعدم وجود دليل قانوني
ضد أيِّ شخص في الوضع الراهن. حيث لم يكن وجودُ دافع لارتكاب هذه الجرائم دليلًا
كافيًا، وكذلك الاستعداد الأخلاقي لارتكابها، ولم يكن بإمكانه تخيُّل هنري هوم، ذلك اليافع
الشاحب المسالم، وهو يقتل رجلًا آخر بعنف ووحشية، على الرغم من أنه كان بإمكانه أن
يتخيَّل أن كلٍّا من جيك الكافر وحتى ذلك اليهودي الساخر كان باستطاعتهما فعلُ أيِّ
شيء. أما عن الشرطة وذلك الرجل الذي بدا أنه يساعدهم (والذي لم يكن سوى ذلك الرجل
الغامضصاحب نظارة العين الواحدة، الذي تعرَّف عليه باسم السيد ناريس)، فقد أدركَا
الوضع الراهن بوضوح تام كما كان الصحفي يراه.
لقد كانوا على علْم أنه من غير الممكن تقديمُ المتآمرين البلشفيين للمحاكمة والإدانة
في ظل الموقف الحالي، وأنه سيكون إخفاقًا يُثير الرأي العام؛ إن تمَّ تقديمُهم للمحاكمة ثم
حصولهم على البراءة. بدأ ناريس بأن دعاهم بتعقُّل وسلامة نية ماكرة إلى المجلس، فطلب
منهم الحضورَ إلى اجتماع خاص وطلب منهم أن يُبدوا آراءهم بحرية، لصالح الإنسانية.
كان ناريس قد بدأ تحرِّياتِه عند أقرب مسرح لتلك المأساة، وهو الشاليه الصغير الواقع
عند البحر؛ وسُمح لبايرن أن يكون حاضرًا في مشهد غريب، والذي كان مؤتمرَ محادثات
سلمية بين الدبلوماسيين وفي الوقت نفسه استقصاءًسريٍّا أو تحقيقًا مع المشتبه بهم. ومما
أثار دهشةَ بايرن أن تلك الصحبة المتنافرة، التي تجلسحول المنضدة داخل الشاليه، كانت
تتضمن وجودَ الأب براون بجسده القصير البدين ورأسه الشبيه برأس البومة؛ رغم أن
صِلته بالمسألة لم تتضح إلا في وقت لاحق. أما عن حضور الشاب بوتر، وهو سكرتير القتيل،
فربما كان طبيعيٍّا أكثر؛ لكنَّ تصرفاتِه لم تكن طبيعية على الإطلاق. وكان هو الوحيد الذي
يألف مكانَ اجتماعهم، بل وكان يمكن اعتبارُه مضيفَهم ولو بشكل استثنائي؛ إلا أنه لم
يقدِّم إلا القليل من المساعدة أو المعلومات. كان وجهه ذو الأنف الأفطس يحمل ملامح
الاستياء والعبوس أكثر مما حمل ملامح الحزن.
وكالعادة، تحدث جيك هالكيت كثيرًا؛ ولم يكن من المتوقع من رجل مثله أن يجاريَ
سيناريو عدم اتهامه هو وأصدقائه. وقد حاول الشاب هوم بأسلوبه اللبق أن يصدَّه عن
الخوضفي سبِّ الرجال الذين قُتلوا؛ لكن جيك كان على استعداد لأن يسبَّ أصدقاءه بالقدر
نفسه كما يفعل مع أعدائه. وقد نعى جديون وايز الراحل بصورة غير رسمية من خلال
مجموعة من الكلمات التي تُشير إلى أنه كان كافرًا. هذا وقد جلس إلياس ساكنًا وبدت
نظراتُه من خلف النظارة التي تغطِّي عينَيه وكأنه غيرُ مبالٍ.
أعتقد بأنه من غير المجدي أن أقول لك إن ملاحظاتِك عن القتيل » : قال ناريس بفتور
غير لائقة، وقد يزيد تأثيرُ الأمر عليك إذا أخبرتك أنها طائشة ومتهورة. إنك تعترف تقريبًا
«. بأنك كنت تكرهه
وستزجُّون بي في السجن من أجل هذا، أليس كذلك؟ حسنًا، » : قال الغوغائي ساخرًا
ولكن سيتحتم عليكم أن تشيِّدوا سجنًا كبيرًا بحيث يتسع لأكثر من مليون شخص من
الفقراء ممن لديهم أسبابُهم التي تدفعهم لكره جديون وايز. وأنتم تعرفون أن هذا حقيقيٌّ
«. بقدر ما أعرفه أنا
كان ناريس صامتًا، ولم يتحدث أحدٌ حتى تدخَّل إلياس وتحدث بنبرة بطيئة لكن
متلعثمة.
يبدو لي أن هذه المحادثة عديمةُ الجدوى لكلا الطرفين. لقد استدعيتمونا هنا إما » : قال
للحصول على معلومات منا، وإما لإخضاعنا لاستجواب مباشر. وإذا كنتم تثقون بنا، فإننا
نقول لكم بأننا لا نملك أيَّ معلومات. وإذا كنتم لا تثقون بنا، فلا بد وأن تخبرونا بالتهمة
الموجهة إلينا؟ أو تتمتعوا بالكياسة لتُبقوا تلك الحقيقة لأنفسكم. فليس هناك منكم من
يمتلك ولو دليلًا ضعيفًا يربط أيٍّا منا بتلك الجرائم التي وقعت، تمامًا كما أنه ليس هناك
أدلة تربط بيننا وبين مقتل يوليوس قيصر. أنتم لا تجرءون على إلقاء القبض علينا، ولن
«؟ تصدقونا. فما الجدوى إذن من بقائنا هنا
وانتصب واقفًا، وأغلق زِرَّ معطفِه في هدوء، وتبِعه أصدقاؤه في ذلك. وفيما كانوا
يتوجهون نحو الباب، استدار الشابُّ هوم وواجه المحققين للحظة بوجهه المتعصب
الشاحب.
أريد أن أقول إنني دخلت أحد السجون القذرة أثناء فترة الحرب لأنني » : ثم قال
«. رفضتُ أن يُقتل رجلٌ
وبهذه الجملة، خرجوا جميعًا، ونظر بقية أفراد المجموعة بعضهم إلى بعضفي تجهُّم.
«. لا أعتقد أننا نظلُّ في موقف المنتصر، حتى بعد الانسحاب » : قال الأب براون
لا أمانعُ شيئًا سوى أن نُهان على لسان ذلك الحقير الكافر الذي يُدعى » : قال ناريس
هالكيت. كان هوم نبيلًا على كل حال، ولكن أيٍّا كان ما يقولونه، فإنني على يقين تامٍّ بأنهم
يعرفون شيئًا؛ إنهم مشاركون في تلك الجرائم، أو إن معظمهم كذلك. لقد اعترفوا بذلك
تقريبًا. لقد سخروا منا واستهزءوا بنا؛ لأننا لسنا قادرين على إثبات أننا على حقٍّ، أكثر مما
«؟ استهزءوا بنا لأننا مخطئون. ماذا تعتقد أيها الأب براون
وبشكل يكاد يُثير القلق، نظر الشخصالذي وُجِّه إليه الحديث إلى ناريسنظرةً دمثة
تنمُّ عن تفكير عميق.
صحيح تمامًا أنني قد كوَّنتُ فكرة تقول بأن شخصًا واحدًا بعينه يعرف » : وقال
معلوماتٍ أكثر مما أخبرنا بها، ولكنني أعتقد أنه من الأفضل ألَّا أذكرَ اسمه الآن، ليس
«. بعد
الأمر ليس رسميٍّا حتى » : وقعت نظارةُ ناريس من عينه، ورفع نظره إلى الأعلى وقال
الآن. وأعتقد أنك تعرفُ أن موقفك سيكون خطيرًا إذا ما كتمتَ معلوماتٍ في مراحلَ متقدمة
«. من الأحداث
موقفي بسيط، إنني هنا لكي أرعى المصالح الشرعية لصديقي هالكيت، » : ردَّ القَسُّ
وأعتقد أن من مصلحته في ظل هذه الظروف، أن أخُبرَكم أنه سيقطع علاقته بالتنظيم،
وبذا سيتوقف عن كونه اشتراكيٍّا. ولديَّ أسبابٌ كثيرة تدفعني لأن أعتقد بأنه سينتهي به
«. المطافُ تابعًا للمذهب الكاثوليكي
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.