كان البروفيسور أوبنشو دائمًا ما يفقد أعصابه ويغضب بشدة حين يقول أحدٌ عنه إنه
رُوحاني؛ أو إنه مؤمن بالرُّوحانيات، ولكن هذا لم يكن هو الوقت الوحيد الذي ينفجر
فيه غاضبًا؛ ذلك أنه كان يغضب أيضًا إذا نعته أحدٌ بأنه غير مؤمن بالرُّوحانيات. لقد
كان مصدر فخره أنه كرَّسحياته كلها في البحث في الظواهر الروحية واستقصائها، وكان
مصدر فخره أيضًا أنه لم يصرِّح قط ولو تلميحًا عن رأيه فيما إذا كانت هذه الظواهر
روحية أو أنها مجرد ظواهر غريبة. لم يكن يستمتع بشيء أكثر من استمتاعه بالجلوسبين
مجموعة من المؤمنين بالرُّوحانيات، وتقديمه وصفًا تفصيليٍّا عن كيف أنه فضح أمر وسيطٍ
روحاني تلو الآخر وكيف أنه كشف عملية احتيال تلو الأخرى؛ ذلك أنه كان بالفعل رجلًا
يتحلَّى بمواهب ورؤًى كَشفية حين يثبِّت عينَيه على شيء، وكان دومًا ما يثبِّت عينَيه على
الوسيط الروحاني بوصفه شيئًا مثيرًا للشكوك بشدة. رويَ عنه أنه كشف رجلًا روحانيٍّا
محتالًا في ثلاثة أشكال تنكرية مختلفة؛ في الأول كان يتخفَّى كامرأة، وفي الثاني كعجوز ذي
ذقن أشيب، وفي الثالث كبراهمي ذي لون بُنِّي بلون الشوكولاتة. تسبَّبت مثل هذه القصص
في جعل المؤمنين الحقيقيين بالرُّوحانيات يشعرون بالاضطراب، تمامًا كما هو المفترض
منهم بالفعل، لكنهم لم يكن باستطاعتهم الاحتجاج؛ ذلك أن الروحانيين لا يُنكرون وجود
وسطاء روحانيين محتالين، إلا أن قصص البروفيسور ربما كانت تشير دومًا إلى أن كل
الوسطاء الروحانيين محتالون.
لكن الويل لمعتنق المادية الساذج البريء (ومعتنقو المادية كجماعة بشرية يتَّسمون
بالسذاجة والبراءة) الذي يريد — بعد افتراضصحة هذا الميل في تلك القصص— أن يقدِّم
الفرضية القائلة بأن الأشباح أمرٌ يخالف قوانين الطبيعة أو أن مثل هذه الأمور ليست
سوى خرافاتٍ بائدة، أو أنها كلها هراء أو كلام سخيف. فمثل هذا الشخص سيكتسحه
البروفيسور من الميدان، بعد أن يسدِّد فجأةً كل مدفعيته العلمية في وجهه، وذلك من خلال
رشقه بمدفعية من الأحداث والحالات التي لا يرقى إليها شكٌّ والظواهر غير المبرَّرة، والتي
لم يسمع بها ذلك العقلاني البائسفي حياته قط، ويقدم له كل التفاصيل والتواريخ، ويذكر
كل التفسيرات الطبيعية المطروحة وغير المطروحة، وسيقول كل شيء عن هذا الأمر إلا أن
يصرِّح بطريقة واضحة تمامًا أنه — جون أوليفر أوبنشو — يؤمن بوجود الأرواح أو لا
يؤمن بوجودها، وهذاشيء لا يمكن للروحانيين ولا الماديين أن يتفاخروا باكتشافه قط.
وقف البروفيسور أوبنشو — بقوامه النحيل وشعره الأشقر الكبير الباهت وعينَيه
الزرقاوين اللامعتَين — يتبادل بعض الكلمات مع صديقه الأب براون على الدرَج خارج
الفندق الذي تناولَ فيه كلٌّ منهما فطوره في ذلك الصباح وباتا فيه الليلة الماضية. كان
البروفيسور قد وصل متأخرًا بسبب إجراء واحدة من تلك التجارب الكُبرى — التي أدت
إلى إثارة السخط العام — وكان لا يزال يشعر بالإثارة من الحرب التي كان يشنُّها دائمًا
وحده على كلتا الجبهتَين.
أوه، أنا لا أمانع كلامك؛ أنت لا تؤمن بوجودها حتى ولو » : قال البروفيسور ضاحكًا
كانت حقيقية، لكن كل هؤلاء الناس يسألونني دائمًا عمَّا أحاول إثباته. يبدو أنهم لا
يفهمون أنني رجل عِلم، وأن رجل العِلم لا يحاول إثبات أي شيء؛ إنما يحاول أن يجد ما
«. يمكن أن يُثبت نفسه
«. لكنه لم يجد ذلك بعدُ » : قال الأب براون
في الواقع، لديَّ بعض الأفكار » : أجابه البروفيسور بعد لحظة من الصمت العابس
الخاصة التي لا تُعدُّ سلبية إلى هذه الدرجة كما يعتقد معظم الناس. على كلِّ حال، بدأت
أرى أنه إذا كان هناكشيء يمكن إيجاده، فإنهم يبحثون عنه على الجانب الخطأ. الأمر كله
استعراضيومتكلَّف للغاية؛ إنه محاولة لجذب الانتباه عبر بلازما الروح البرَّاقة والأبواق
والأصوات وما إلى ذلك، كلشيء على طراز الميلودرامات القديمة والروايات التاريخية البائدة
عن شبح العائلة. إنهم إذا ما بحثوا في التاريخ بدلًا من البحث في الروايات التاريخية؛ فإنني
«. أعتقد حينها أنهم سيصلون حقٍّا إلىشيء، لكنهم لا يمكن أن يصلوا إلى وجود أطياف
في النهاية، الأطياف ما هي إلا حالات ظهور. أعتقد أنك ستقول بأن » : قال الأب براون
«. شبح العائلة لا يفعل شيئًا سوى تتبُّع حالات الظهور
تثبَّتت فجأة نظرة البروفيسور — والتي تتصف في العادة بكونها دقيقة ومجرَّدة —
وتركَّزت كيفما كان ينظر إلى وسيط روحاني مشبوه. كان يبدو كأنه رجل يثبِّت عدسةً
مكبِّرةً قويةً على عينه، وليس ذلك لأنه كان ينظر إلى القس على أنه وسيط مشبوه؛ إنما ما
لفت انتباهه هو فكرة صديقه التي تقترب كثيرًا من فكرته.
حالات الظهور! أوه، لكن من الغريب أن تقول هذا الآن. » : غمغم البروفيسور قائلًا
إنني كلما تعلَّمت أكثر، ازداد تصوري أنهم سيخسرون بنظرهم إلى حالات الظهور فقط.
«… أما إذا ما نظروا قليلًا إلى حالات الاختفاء
أجل؛ ففي نهاية المطاف، لم تكن أساطير الجن الحقيقية تتمحور » : قال الأب براون
حول ظهور جني شهير؛ كاستدعاء تيتانيا أو ظهور أوبيرون في ضوء القمر، لكن لم يكن
هناك نهاية للأساطير التي تدور حول اختفاء الناس؛ لأنهم خُطفوا على يد الجن. أتعرف
«؟ قصصكِلميني أو توماس الناظِم
بل أعرف قصصالأشخاصالعاديين المعاصرين الذين تقرأ عنهم في » : أجاب أوبنشو
الصحف اليومية. قد يُفاجئك هذا، لكن هذه هي مهمتي الآن، وأنا أمارسها منذ فترة طويلة.
وبصراحة، في اعتقادي أن الكثير من حالات الظهور الروحانية يمكن تفسير حدوثها. إنما
حالات الاختفاء هي التي لا أستطيع أن أجد لها تفسيرًا، إلا إذا كانت تتسم بالروحانية.
أولئك الأشخاص الذين يختفون ويأتي ذكرهم في الصحف اليومية ولا يتم العثور عليهم
أبدًا — إذا كنت تعلم التفاصيل بقدر علمي لها — وقد حصلت على تأكيدٍ هذا الصباح
فقط؛ إنه خطابٌ استثنائي من مبشِّرقديم، وهو رجل متقدِّم في السن وذو مكانة، وسيأتي
ليزورني في مكتبي هذا الصباح. ربما تتناول معي الغداء أو شيئًا من هذا القبيل، وسأخبرك
«. حينها بالنتائج، على نحوٍسري
«. أشكرك، سأفعل، إلا إذا اختطفني الجن قبل ذلك » : قال الأب براون في تواضع
افترقا على ذلك، وسار أوبنشو وانعطفعند الزاوية، فوصل إلى مكتبصغير استأجره
في الحي؛ كان الهدف الرئيسي من استئجاره المكتب هو نشر دورية صغيرة تعرض
ملحوظات روحانية ونفسية من النوع المباشر للغاية والأكثر شكوكية. كان لديه موظف
واحد فقط، يجلس إلى مكتب في غرفة المكتب الخارجية، وهو الذي كان يحسب الأرقام
ويجمع التفاصيل لأغراضخاصة بالتقرير الذي يُجرى نشره؛ وقد توقفعنده البروفيسور
ليسأله إذا ما كان السيد برينجل قد زاره أم لا. ردَّ عليه الموظف بطريقة آلية بالنفي،
واستمر بنفس الطريقة في مباشرة مهام عمله؛ فاستدار البروفيسور تجاه الغرفة الداخلية
أوه، بالمناسبة » : والتي كانت مكتبه الخاص. ثم أضاف من دون أن يلتفت إليه مرة أخرى
يا بيريدج، إذا ما أتى السيد برينجل، فأدخله إليَّ مباشرةً. لستَ في حاجة لأن تقطع ما تقوم
به من عمل، إنني أريد الانتهاء من هذه الملحوظات الليلة إذا أمكن. يمكنك أن تتركهم على
«. مكتبي غدًا، إذا ما تأخرتُ
ودلف إلى مكتبه الخاص، وكان لا يزال يفكر في المشكلة التي أثارها اسم برينجل؛
أو بالأحرى، أكَّد عليها ورسَّخها في قرارة نفسه. إن أفضل المتشككين اتزانًا لا يزال إنسانًا
جزئيٍّا، وبدا أن خطاب المبشِّر له أهمية كبيرة كشيء واعد يدعم فرضيته الخاصة التي
لا تزال مبدئية. جلس البروفيسور في كرسيه الكبير المريح، مواجهًا لرسم لمونتين، وقرأ
الخطاب الذي أرسله إليه القس لوك برينجل مرة أخرى، والذي حدد فيه موعد اللقاء هذا
الصباح. لم يكن هناك من هو أفضل من البروفيسور أوبنشو في الإلمام بعلامات الرسائل
الغريبة، والتفاصيل المكتظة، وخط اليد الغامض، والطول والتكرار غير الضروريَّين. لم
يكن أيٌّ من هذا ظاهرًا في هذا الخطاب، لم يكن الخطاب سوى بيان جديٍّ ومختصر
ومكتوب على الآلة الكاتبة يقول بأن الكاتب قد صادف بعض حالات الاختفاء الغريبة،
والتي يبدو أنها تقع ضمن نِطاق اختصاصات البروفيسور كدارس للمسائل الروحانية.
كان البروفيسور متأثرًا على نحوٍ إيجابي بالأمر، ولم يتكوَّن لديه أي انطباع مخالف، رغم
قيامه بحركة بسيطة تنمُّ عن تفاجئه، حين رفع نظره فوجد أن القس لوك برينجل كان
موجودًا في الغرفة بالفعل.
لقد أخبرني » : قال السيد برينجل معتذرًا، بينما اعتلت وجهه ابتسامة عريضة وعذبة
كانت ابتسامته محجوبةً جزئيٍّا بفِعل كُتل من الشعر الأبيض «. موظفك أن أدخل مباشرةً
المائل إلى الحُمرة على ذقنه وسالفتَيه، كانت لحيته كثيفةً للغاية، كتلك التي يربيها الرجال
البيضالذين يعيشون في الغابات، لكن عينَيه اللتين تعلوان أنفه الأفطس لم تكونا تُبديان
أيَّ شيء من ملامح الجموح أو الغرابة. كان أوبنشو قد وجَّه إليهما في الحال تلك الأضواء
المركَّزة أو العدسة المكبِّرة التي يستخدمها في التدقيق والتشكُّك، والتي كان يوجِّهها دومًا
نحو الكثير من الرجال ليرى ما إن كانوا محتالين أو مختلِّين، وعندئذٍ خالجه شعورٌ غير
اعتيادي بالاطمئنان. ربما كانت اللحية تنمُّ عن غموض، لكن عينَيه كانتا مناقضتَين تمامًا
للِّحية؛ كانتا تزدحمان بابتسامةصريحة وودية لا يمكن أن توجد أبدًا في وجوه المحتالين
الكبار أو المختلِّين الخطرين. كان سيتوقع أن يكون هذا الرجل صاحب تلكما العينَين غير
مستنير أو متشكِّكًا مرحًا، أو رجلًا لديه ازدراءضحلٌ لكنه حماسيٌّتجاه الأشباح والأرواح،
لكن على كل حالٍ، لا يمكن لأي مخادع محترف أن يبدو عابثًا مثله. كان الرجل يرتدي
عباءة رثَّة قديمة مزرَّرة حتى عنقه، ولم يكن في مظهره ما يوحي بأنه قسٌّ سوى قبعته
العريضة اللينة، لكن المبشِّرين الذين يُرسلون إلى الأماكن البعيدة لا يهتمون دومًا بأن
يظهروا بمظهر القساوسة.
من المحتمل أنك تعتقد أن كل هذا » : قال السيد برينجل في شيء من المتعة المجردة
ما هو إلا مزحة أخرى أيها البروفيسور، وآمل أن تعذر ضحكي على ما يعلو وجهك من
استهجان أراه طبيعيٍّا للغاية، لكن رغم ذلك، ينبغي أن أحكي قصتي لشخص لديه عِلم؛
لأنها حقيقية. وجديٍّا، قصتي مأساوية بقدر ما هي حقيقية. وفي الواقع، ولكي أكون
مختصرًا، كنت مبشِّرًا في نيا-نيا، وهي مكان في غرب أفريقيا، في أعماق الغابات، حيث كان
الرجل الأبيضالآخر الوحيد في المكان هو الضابط المسئول عن الإقليم، وهو الكابتن ويلز،
وقد تقاربنا أنا وهو كثيرًا. ليس ذلك لأنه كان يحب بعثات التبشير؛ بل كان بليدًا بأشكال
كثيرة إن جاز التعبير؛ فقد كان رجل حربٍ شديدًا ذا رأسٍ مربع وأكتاف مربعة لا يحتاج
إلى أن يفكر كثيرًا، فضلًا عن فكرة الاعتقاد.
وهذا هو ما جعل الأمر أكثر غرابة. وذات يوم رجع إلى خيمته في الغابة، بعد أن كان قد
غادر لفترة قصيرة، وقال بأنه قد مرَّ بتجربة غريبة، ولم يكن يعلم كيف يتصرَّف حيالها.
كان يُمسك بكتاب قديم مهترئ له غلاف جلدي، ووضعه على الطاولة بجانب مسدسه
وسيف عربي قديم كان يحتفظ به ربما لكونه تحفة جديرة بالاقتناء. وقد قال بأن الكتاب
كان مِلك رجل موجود على المركب الذي نزل عنه لتوِّه؛ وأقسم الرجل أن الكتاب ينبغي
ألا يفتحه أحد أو ينظر إلى ما به، ومن يفعل ذلك فسيحمله الشيطان بعيدًا، أو سيختفي
أو شيء من هذا القبيل. بالطبع قال ويلز بأن كل هذا هراء، وتشاجرا، ويبدو أن ما أثمر
عنه الموقف هو أن ذلك الرجل نظر في الكتاب بالفعل — بعد أن رُمي بالجُبن والاعتقاد في
«… الخرافات — وفي الحال ألقى به من يده، وسار نحو أحد جوانب المركب
لحظة واحدة، قبل أن تُخبرني » : قال البروفيسور الذي كان قد دوَّن ملحوظة أو اثنتين
بأي شيء آخر. هل عرف ويلز مِن ذلك الرجل مِن أين جاء بالكتاب أو مَن كان يملكه في
«؟ الأساس
أجل، يبدو أنه قال إنه كان يعيده إلى » : أجابه برينجل وقد أصبحت نبرته أكثر جديةً
الدكتور هانكي، ذلك الرحَّالة الشرقي الذي يوجد الآن في إنجلترا، والذي كان يملك الكتاب
في الأصل، والذي حذَّره من خصائصه الغريبة. في الواقع، كان هانكي رجلًا مقتدرًا وسيئ
الطباع وساخرًا؛ الأمر الذي يزيد من غرابة المسألة، لكن الغاية من قصة ويلز أبسط بكثير؛
وهي أن الرجل الذي نظر في الكتاب سار مباشرةً حتى وصل إلى أحد جوانب السفينة، ولم
«. يُرَ بعد ذلك قط
«؟ أتُصدِّق هذه القصة » : سأله أوبنشو بعد أن صمت برهة
في الواقع، أصدِّقها، وذلك لسببين؛ الأول هو أن ويلز رجلضيق الأفق » : أجابه برينجل
تمامًا، وقد أضاف إلى هذه القصة لمسةً واحدةً لا يمكن أن يضيفها إلا من يتمتَّع بخيال
خصب. لقد قال بأن الرجل سار مباشرةً إلى جانب السفينة في يوم هادئ كان البحر فيه
«. ساكنًا، لكن لم يكن هناك رشرشة للماء
وما هو السبب » : نظر البروفيسور إلى ملحوظاته للحظات وهو صامت؛ ثم أضاف
«؟ الثاني الذي يدفعك إلى تصديق هذه القصة
«. السبب الآخر هو ما رأيته أنا بنفسي » : قال القس لوك برينجل
ساد الصمت مرة أخرى، حتى استطرد الأخير بنفس النبرة الواقعية الجادة. وأيٍّا ما
كان يتَّصف به ذلك الرجل، فإنه لم يكن يتصف بالتلهُّف الذي يُرى في المحتالين أو حتى
المؤمنين الذين يحاولون أن يقنعوا الآخرين بشيء ما.
لقد أخبرتك أن ويلز وضع الكتاب على الطاولة بجوار السيف، وكان هناك مدخل »
واحد فقط للخيمة، وصادف أنني كنت واقفًا فيه، أنظر نحو الخارج باتجاه الغابة، وكان
ظهري لرفيقي. كان يقف بجوار الطاولة يتذمَّر ويدمدم حيال الأمر برمته؛ فكان يقول
بأنه من الحماقة أن يخاف المرء من أن يفتح كتابًا في القرن العشرين، ويتساءل عن الذي
يمنعه من فَتْحه بنفسه، ثم ثار في نفسي حدسٌ وقلت بأنه من الأفضل له ألَّا يفعل، وبأنه
ما الضرر » : من الأفضل أن يعود الكتابُ إلى الدكتور هانكي، ولكنه قال في اضطراب وتوتر
ما الضرر الذي حدث؟ ماذا حدث لصديقك على » : فأجبته بتعنُّت «؟ الذي يمكن أن يحدث
لم يجبني، وأنا بالفعل لم أكن أعلم ما يمكن أن يُجيب به، لكنني واصلت «؟ ذلك المركب
إن وصل الأمر لهذا، فما هي روايتك » : طَرْح أسئلتي المنطقية بدافع الزهو والخيلاء فحسب
لكنه ظلصامتًا ولم يُجب؛ ثم نظرت حولي ووجدت «؟ عمَّا حدث فعلًا على متن ذلك المركب
أنه قد اختفى.
كانت الخيمة فارغةً وكان الكتاب موضوعًا على الطاولة، كان مفتوحًا لكنه مقلوب
كما لو أنه أداره على وجهه، لكن السيف كان على الأرضبجوار الجانب الآخر من الخيمة،
أما قماش الخيمة فكان مشقوقًا بشقٍّ كبير، كما لو كان أحدهم قد شقَّ طريقه إلى الخارج
باستخدام ذلك السيف. كان الشق مفتوحًا أمامي، لكنه لم يُظهر شيئًا سوى وميضالظلام
في الغابة في الخارج. وحين ذهبت إلى الشق ونظرت من خلاله، لم أكن واثقًا إذا ما كانت
النباتات الطويلة المتشابكة وما تحتها من نباتات منحنيةً أم مكسورة، ليس على بُعد أكثر
من بضع أقدام على الأقل. ومنذ ذلك اليوم لم أسمع عن الكابتن ويلز ولم أرَه مرة أخرى
قط.
لقد لففت الكتاب في ورق بُني، وحرصت ألا أنظر فيه، وأعدته إلى إنجلترا، وكنت أنوي
في البداية أن أعيده إلى الدكتور هانكي، ثم رأيت بضع ملاحظات في دوريتك تقترح فيها
فرضية حول مثل هذه الأشياء، وقررت أن أتوقف في طريقي وأن أعرضالأمر عليك؛ حيث
«. إنك تتمتع بصيتٍ ذائع عن كونك معتدلًا وذا عقل متفتِّح
وضع البروفيسور أوبنشو قلمه ونظر في ثبات إلى الرجل الجالس أمامه عند الناحية
الأخرى من المكتب؛ فكان يركِّز في نظرته هذه كل ما جمع من خبرات طويلة من تعامله مع
الكثير من الأنواع المختلفة للمحتالين وحتى مع بعضالأنواع الغريبة الأطوار والاستثنائية
لغير المحتالين. في العادة، كان سيبدأ كلامه بالحديث عن فرضيته المنطقية بأن كل ما يُقال
مجرد كذب وافتراء. كان يميل في الغالب لأن يفترضأن ما يُقال أمامه مجرد كذب وافتراء،
إلا إنه لم يستطع أن يجد للرجل موضعًا في قصته؛ إذ لم يكن باستطاعته أن يرى أن ذلك
الكاذب المفترَض يمكن أن يخبر مثل هذا النوع من الأكاذيب. لم يكن الرجل يحاول أن
يبدو في مظهره صادقًا، كما يفعل معظم الدجَّالين والمحتالين؛ وبطريقة ما، بدا أن الرجل
على العكس تمامًا، بدا كما لو كان الرجل صادقًا بالفعل، على الرغم من وجود شيء آخر
كان واضحًا في مظهره. فكَّر البروفيسور أن الرجل كان صالحًا ولكنه كان يعاني من وهم
ساذج، لكن مرة أخرى لم تنطبق أعراضهذه الحالة عليه؛ بل كان يبدو على الرجل أنه لا
مبالٍ بصورة كبيرة، كما لو كان الرجل لا يهتم كثيرًا بشأن ما هو موهوم به، هذا إن كان
هذا وهمًا.
قال البروفيسور بنبرة حادة كما لو كان محاميًا على وشك أن يوجِّه نقدًا لاذعًا للشاهد
«؟ سيد برينجل، أين يوجد هذا الكتاب الآن » : أمامه
ظهرت الابتسامة على وجه الرجل ذي اللحية مرةً أخرى بعد أن كانت ملامح الرزانة
لقد تركته بالخارج. أقصد في المكتب الخارجي. ربما كان في » : تكسوه أثناءسرده. ثم قال
«. هذا مخاطرة، لكنها أقل المخاطر الممكنة
«؟ ماذا تقصد؟ لماذا لم تحضره إلى هنا مباشرةً » : قال البروفيسور
لأنني علمت أنك ستنظر فيه بمجرد أن تراه، قبل أن تسمع القصة. » : أجابه المبشِّر
«. ففكَّرت أنك من الممكن أن تعيد التفكير بشأن النظر فيه، بعد أن تكون قد سمعت القصة
لم يكن هناك أحد في الخارج سوى موظفك، » : ثم أضاف الرجل بعد أن صمت لبرهة
«. وقد بدا أنه من نوعية الرجال الهادئين الثابتين، وكان منهمكًا بشدة في حساباته
أوه، بابدج! إن كتابك السحري » : ضحك أوبنشو ضحكةً غير متكلَّفة وصاح قائلًا
بأمان معه، أؤكد لك ذلك. اسمه بيريدج — لكنني عادة ما أدعوه بابدج؛ لأنه يشبه الآلة
الحاسبة تمامًا. سيكون هو آخر رجل على الأرجح — إذا صحَّ أن نطلق عليه أنه رجل —
يحاول فتح حزمة من الورق البُني تخصُّ أناسًا آخرين. في الواقع، يمكننا أن نذهب
ثم «… ونحضره الآن، وأؤكد لك أنني سأفكر مليٍّا فيما سأفعل به. وأخبرك بصراحة حقٍّا
إنني لست واثقًا تمامًا إذا ما كان ينبغي علينا أن » : حدَّق إلى الرجل مرة أخرى وأكمل
«. نفتحه هنا والآن، أو أن نرسله إلى الدكتور هانكي
خرج الرجلان معًا من المكتب الداخلي إلى المكتب الخارجي؛ وبينما هما يسيران،صرخ
السيد برينجل وهُرع نحو مكتب الموظف، لقد كان مكتب الموظف موجودًا، لكن الموظف
لم يكن موجودًا على مكتبه. وعلى مكتب الموظف، كان هناك كتابٌ باهتٌ قديمٌ ذو غلافٍ
جلدي، خارج الغلاف الورقي البُني الممزق، وكان الكتاب مغلقًا، لكن كما لو أنه كان
مفتوحًا لتوِّه. كان مكتب الموظف مواجهًا للنافذة العريضة التي تُطل على الشارع، وكانت
النافذة محطَّمةً وفي زجاجها فتحة كبيرة غير منتظمة، كما لو أن جسد إنسان قد قُذف
عبرها نحو الخارج. ولم يكن هناك أي أثر للسيد بيريدج.
كان الرجلان المتبقِّيان في المكتب واقفَين في مكانهما كتمثالَين جامدَين، ثم بدأ
البروفيسور يستعيد حيويته شيئًا فشيئًا. كان يبدو حصيفًا أكثر من أي وقت سابق
في حياته، بينما كان يستدير ببطء ويمدُّ يده نحو المبشِّر.
سيد برينجل، معذرةً. معذرةً على ما راودني من أفكار وما ساورني » : قال البروفيسور
من ظن في هذ الشأن، لكن لا يمكن لأي أحد أن يُطلق على نفسه رجل عِلم من دون أن
«. يواجه حادثة كهذه
أعتقد أننا ينبغي أن نُجري بعضالاستعلامات. » : قال برينجل في نبرة تنمُّ عن ارتياب
«؟ أيمكنك أن تهاتفه في منزله وتنظر ما إذا كان قد ذهب هناك
لا أعلم إن كان هناك هاتف في منزله. أعتقد » : أجابه أوبنشو وهو شارد الذهن نوعًا ما
أنه يعيش في مكان ما على طريق هامبستيد، لكنني أفترض أن أحدًا سيسأل عنه هنا إذا
«. ما افتقده أصدقاؤه أو عائلته
«؟ أيمكننا أن نقدِّم وصفًا عنه إذا ما طلبته الشرطة » : سأله الآخر
الشرطة! وصفًا! في الواقع، » : قال البروفيسور وقد بدأ يستفيق من حالة الاستغراق
أخشى أنه كان شخصًا عاديٍّا مثله مثل أي شخص آخر، عدا أنه كان يرتدي نظارة. إنه
«؟ شاب حليق الوجه. لكن الشرطة … انظر، ماذا سنفعل بشأن هذا الأمر الجنوني
أنا أعلم ما ينبغي عليَّ فعله. سآخذ هذا الكتاب » : قال القس برينجل بنبرة صارمة
مباشرةً إلى الدكتور هانكي، وأسأله عما يحويه بحق الجحيم. إنه يعيش في مكان ليس
«. ببعيد عن هنا، وسأعودسريعًا وأخُبرك بما قال لي
بينما جلس وقد بدا عليه الإرهاق «. أوه. حسن جدٍّا » : قال البروفيسور في النهاية
الشديد، وربما شعر بالارتياح في تلك اللحظة لأنه تخلَّص من المسئولية. لكن، بعد مرور
فترة طويلة بعد أن تخافتت أصوات وقع أقدام المبشِّروهو يسير في الشارع، كان البروفيسور
لا يزال في جِلْسته نفسها، يحدِّق في الفراغ وكأنه رجل في غيبة تنويمية.
كان لا يزال في الموضع نفسه وربما بنفس الوضعية، حين سمع وقْع الأقدام نفسها
على الرصيف في الخارج ودخل المبشِّروشعر البروفيسور بالارتياح هذه المرة حين نظر إليه
ووجد أنه قد عاد بيدَين فارغتَين.
يريد الدكتور هانكي أن يحتفظ بالكتاب لساعة وأن ينظر في » : قال برينجل بجدية
أمره. ثم طلب منا أن نزوره، وسيخبرنا بقراره. وقد أراد بصورة خاصة أيها البروفيسور
«. أن تصحبني في زيارتي الثانية له
«؟ مَنْ هو الدكتور هانكي بحق الجحيم » : ظل أوبنشو يحدِّق صامتًا، ثم قال فجأة
يبدو كأنك تقصد أنه هو الشيطان بنفسه، وأتخيَّل أن بعض » : قال برينجل مبتسمًا
الأشخاص فكروا بهذا الأمر أيضًا. إنه يتمتع بصيت كبير في نفس مجالك، لكنه اكتسب
كثيرًا من هذا الصيت في الهند؛ حيث كان يبحث في السحر المحلي هناك وما إلى ذلك؛ لذا
ربما لا يكون مشهورًا هنا. إنه رجل ضئيل الحجم أصفر البشرة نحيف البنية، وله ساق
عرجاء وذو طباع مثيرة للريبة، لكن يبدو وكأنه يعمل بوظيفة عادية في تلك الأنحاء، ولا
أعلم أيشيء سيئ بشأنه — إلا إذا كان من الخطأ أن تكون الشخصالوحيد الذي يمكن
«. أن يعرف أيشيء عن هذا الأمر الجنوني
نهض البروفيسور أوبنشو بتثاقل وذهب إلى التليفون، واتَّصل بالأب براون وغيَّر
موعد اللقاء بينهما ليكون على العشاء بدلًا من الغداء؛ بحيث يتفرَّغ للذهاب إلى منزل ذلك
الدكتور الأنجلو هندي؛ وبعد ذلك جلس مرة أخرى وأشعل سيجارًا وغرق مرة أخرى في
أفكاره التي يتعذَّر عليه فهمها.
ذهب الأب براون إلى المطعم الذي جرى الاتفاق عليه لموعد العشاء، وأمضى بعض
الوقت في تأمل الردهة المليئة بالمرايا والنخيل المزروع في أصُص في انتظار البروفيسور،
كان أوبنشو قد أبلغه عن الزيارة التي سيقوم بها بعد الظهر، وبينما كانت خيوط المساء
السوداء ورياحه تغلِّفان الردهة الزجاجية والنباتات الخضراء، خمَّن الأب براون أن الزيارة
نتج عنها شيء طويل الأمد وغير متوقع. حتى إنه تساءل للحظة عمَّا إذا كان البروفيسور
سيحضر فعلًا أم لا، لكن حين حضر البروفيسور في النهاية، كان واضحًا أن التخمينات
الأعم للأب براون كانت مبرَّرة. ذلك أن من ركب السيارة مع السيد برينجل عائدًا من زيارة
في شمال مدينة لندن كان هو البروفيسور أوبنشو لكن كانت عيناه هائجتَين وشعره غريبًا،
وكانت الضواحي التي عادا منها لا تزال محاطةً بنفايات الأرضالبوار وبقايا الشجيرات
المنتشرة في الأرجاء، وكانت تبدو أكثر كآبةً تحت أضواء شمسالغروب الرعدية. غير أنه من
الواضح أنهما وجدا منزل الدكتور، الذي كان بمعزل قليلًا عن مجموعة من المنازل الأخرى،
جيه آي هانكي. » : وقد تأكَّدا من ذلك عندما وجدا اللوحة النحاسية المحفور عليها الآتي
إلا إنهما لم يجدا الطبيب نفسه. لقد وجدا ما تهيئا «. طبيب وعضو الكلية الملكية للجراحين
له لا شعوريٍّا وكأنه هاجسٌ كابوسي: وهو قاعة استقبال عادية وبها طاولة موضوع عليها
ذلك الكتاب الملعون، كما لو كان أحدهم يقرؤه للتو، وفيما وراء ذلك، وجدا بابًا خلفيٍّا
مفتوحًا على مصراعيه وأثرًا ضعيفًا لآثار أقدام تتَّجه لبضع خطوات على طول ممر منحدر
في الحديقة، وقد بدا من الآثار أنه من غير الممكن لرجل به عرج أن يجري هذه المسافة بهذه
الخِفة، لكن بالفعل كان رجل أعرج هو من جرى تلك الخطوات؛ ذلك أن تلك الخطوات
كانت تُظهر علامةً مشوَّهةً وغير متكافئة لحذاء طبي من نوع ما، ثم أظهرت الخطوات
بعد ذلك أثريَن لهذا الحذاء وحده (كما لو كان المخلوق قد قفز) ثم اختفت الآثار تمامًا.
لم يكن هناكشيء آخر يمكن أن يعرفوه عن الدكتور هانكي، عدا أنه كان قد اتخذ قراره.
كان الدكتور قد قرأ الكتاب وتلقَّى مصيره.
وحين دخل الرجلان إلى مدخل المطعم تحت أشجار النخيل، وضع برينجل الكتاب من
يده فجأة على طاولة صغيرة، كما لو أن الكتاب كان يحرق أصابعه. رمقه القس بارتياب،
ولم يكن على غلافه سوى بضع كلماتٍ مكتوبة بخطٍّ بدائي تكوِّن بيتَين من الشعر:
كلُّ مَن ينظر في هذا الكتاب،
سيخطفه الرعب الحوَّام.
واكتشفالأب براون بعد ذلك أن تحت هذه الكلمات تحذيراتٌ مشابهة باللغة اللاتينية
واليونانية والفرنسية. راح الرجلان الآخران يتجرعان الشراب وذلك جرَّاء دافع طبيعي بعد
شعورهما بالإنهاك والارتباك؛ ونادى أوبنشو على النادل الذي أحضركأسين تضمان مزيجًا
من المشروبات الكحولية على صينية.
لكن السيد «. آمل أن تتناول العشاء معنا » : قال البروفيسور موجِّهًا حديثه إلى المبشِّر
برينجل هزَّ رأسه نافيًا في كياسة.
إذا سمحت لي، سأغادر لأنظر بنفسيفي أمر هذا الكتاب وما ينطوي عليه ذلك » : وقال
«؟ في مكانٍ ما. أيمكنني أن أستخدم مكتبك لساعة أو اثنتين
«. أعتقد أن … أخشى أنه مغلق » : قال أوبنشو وهو متفاجئ بعضالشيء
واعتلت وجهه ابتسامة «. لقد نسيتَ أن هناك فجوةً في النافذة » : قال القسلوك برينجل
عريضة للغاية ثم ابتلعه الظلام في الخارج.
«. رجل غريب جدٍّا » : قال البروفيسور عابسًا
تفاجأ البروفيسور عندما وجد أن الأب براون يتحدث مع النادل الذي أحضر
المشروبات، وكان من الواضح أنهما يتحدثان عن أمر في غاية الخصوصية بالنسبة إلى
النادل؛ ذلك أنهما أتيا على ذكر طفل رضيع تخطَّى لتوِّه مرحلة الخطر. علَّق البروفيسور
على ما حدث وقد أبدى اندهاشه، وتساءل عن كيف تمكَّن القس من التعرف على الرجل؛
أوه، إنني أتناول العشاء هنا كل شهرين أو ثلاثة، وكنت أتحدث » : لكن القس أجاب قائلًا
«. إليه بين الحين والآخر
كان البروفيسور الذي يتناول عشاءه في هذا المكان خمس مرات أسبوعيٍّا مدركًا
لحقيقة أنه لم يحاول قط أن يتحدث مع النادل، لكن تقطعت أفكاره بفعل رنين الهاتف
العالي واستدعائه للرد عليه. كان الصوت الآتي من الهاتف يقول بأنه برينجل، وقد كان
الصوت مكتومًا، لكن ربما كان مكتومًا بفعل تلك اللحية والسوالف الكثيفة. أما الرسالة
التي حملها المتصل فكانت كفيلة بأن يتأكد البروفيسور من هويته فعلًا.
أيها البروفيسور، لا يمكنني أن أتحمَّل الأمر أكثر من ذلك. سأنظر فيه » : قال الصوت
بنفسي. إنني أحُدِّثك من مكتبك والكتاب أمامي. إذا ما حدث لي شيء، فهذا هو الوداع. لا؛
لن تفيد محاولتك في إثنائي. لن تصل في الوقت المناسب على أي حال. إنني أفتح الكتاب
«… الآن، أنا
ظنَّ أوبنشو أنه سمع شيئًا كارتعاش أو اهتزاز ثم تلاه صوت اصطدام خافت، ثم
ظل يصيح باسم برينجل مرارًا وتكرارًا، لكنه لم يسمع شيئًا آخر. وضع سماعة الهاتف،
وبعد أن استعاد هدوءه الأكاديمي المميز، الذي يشبه الهدوء الناتج عن اليأس، عاد إلى
الطاولة وجلس إلى كرسيه في هدوء. ثم وبكلِّ برود، أخبر القس بكل تفاصيل هذا اللغز
الشنيع، وكأنه يصف فشل خدعةٍ سخيفة صغيرة في جلسة تحضير أرواح.
لقد اختفى حتى الآن خمسة رجال بهذه الطريقة المستحيلة. كل » : قال البروفيسور
رجل منهم هو حالة استثنائية، لكن الحالة الوحيدة التي لا يمكنني تخطِّيها بسهولة هي
«. حالة موظفي بيريدج. وحالته هي الأغرب لأنه كان أهدأ شخصقابلته
أجل، كان من الغريب أن يفعل بيريدج ذلك على أي حال؛ لقد كان » : أجابه الأب براون
صاحب ضمير حي بصورة كبيرة. كما كان حريصًا على الفصل بين أعمال المكتب ومتعته
«… الشخصية. يا إلهي، لم يكن أحد يعلم أنه كان مرِحًا في منزله و
«؟ بيريدج! ما الذي تتحدث عنه بحق الجحيم؟ أكنت تعرفه » : صاح البروفيسور
أوه لا، فقط كما تقول إنني أعرف النادل هنا. » : قال الأب براون بنبرة تنمُّ عن لامبالاة
كنت كثيرًا ما أنتظرك في مكتبك حتى تعود، وبالطبع كنت أقضيالوقت مع بيريدج المسكين.
كان شخصًا فكاهيٍّا. أتذكر أنه قال ذات مرة بأنه يريد أن يجمع الأشياء غير الثمينة أو
التي لا قيمة لها، تمامًا كما يفعل الآخرون الذين يجمعون الأشياء السخيفة التي يعتقدون
«. أنها ثمينة. أنت تعرف القصة القديمة عن المرأة التي كانت تجمع الأشياء غير الثمينة
لست واثقًا عن ماذا تتحدث، لكن حتى ولو كان موظفي غريب الأطوار » : قال أوبنشو
(ولم أعرف قط في حياتي رجلًا أعتقد أنه ليس بغريب الأطوار) فلن يفسِّر هذا ما حدث
«. له، ولن يفسر ما حدث للآخرين أيضًا
«؟ مَن الآخرون » : سأله القس
حدَّق إليه البروفيسور وتحدَّث إليه بنبرةٍ واضحةٍ للغاية وكأنه يتحدَّث إلى طفل:
«. عزيزي الأب براون، لقد اختفى خمسة رجال »
«. عزيزي البروفيسور أوبنشو، لم يختفِ أحد »
حدَّق الأب براون إلى مضيفه بنفس النظرات الثابتة وتحدث إليه بنفس النبرة
الواضحة. إلا أن البروفيسور كان يرغب في أن يعيد الأب براون على مسامعه ما قاله،
«. أقول إن أحدًا لم يختفِ » : وقد كرَّر الأب براون كلماته بنفس النبرة
أفترضأن من أصعب الأشياء أن تُقنع » : وبعد لحظة من الصمت، أضاف الأب براون
أي أحدٍ بأن مجموع ثلاثة أصفار هو صفر. إن المرء ليصدق أغرب الأشياء إذا ما وقعت
في سلسلة متعاقبة؛ هذا هو السبب في أن ماكبث صدَّق الكلمات الثلاث للساحرات الثلاث،
رغم أن الأولى كانت شيئًا يعرفه بنفسه، وكانت الأخيرة شيئًا يمكنه أن يتسبَّب فيه، لكن في
«. حالتك تكون الكلمة الوسطى هي أضعفها
«؟ ماذا تعني »
أنت لم ترَ أيَّ أحد يختفي. أنت لم ترَ الرجل وهو يختفي من المركب. لم ترَ الرجل »
يختفي من الخيمة. كل هذه الأحداث تستند إلى كلمة السيد برينجل، وهذاشيء لن أتطرَّق
إليه الآن. لكنك ستعترف بهذا، لم تكن قط لتصدِّق كلمته لولا أن رأيتها تتحقق باختفاء
موظفك، تمامًا كما أن ماكبث لم يكن قط ليصدق أنه سيكون ملكًا، لو لم يتحقق من أنه
«. سيكون أمير كودور
قد يكون هذا صحيحًا، لكن حين تحققت من » : قال البروفيسور وهو يومئ ببطء
الأمر، عرفت أنه الحقيقة. أنت تقول إنني لم أرَ شيئًا بنفسي، لكنني فعلت؛ لقد رأيت
«. موظفي يختفي. لقد اختفى بيريدج
«. بيريدج لم يختفِ. بل على العكس » : قال الأب براون
«؟« بل على العكس » ماذا تقصد بقولك »
«. أقصد، أنه لم يختفِ قط. بل ظهر » : قال الأب براون
حدَّق أوبنشو في صديقه، لكن عينَيه كانتا قد تغيَّرت النظرة فيهما، تمامًا كما حدث
لقد ظهر في مكتبك، » : حين كان يركِّز على عرضجديد لمشكلةٍ ما. واستكمل القس حديثه
متنكرًا في لحية حمراء كثيفة ويرتدي رداءً رثٍّا، وقال بأنه القس لوك برينجل. ولم تلحظ
أنت من قبل موظفك لكي تعرفه في هيئته الجديدة، حين كان متخفيًا بهذه الهيئة البسيطة
«. للغاية
«… لكن بالتأكيد » : قال البروفيسور
أيمكنك أن تصفه للشرطة؟ ليس أنت. أنت تعرف أنه كان حليقًا » : سأله الأب براون
ويرتدي نظارة ملونة، وكان مجرد خلع هذه النظارة يعد تخفيًا أفضل من ارتداء أيشيء
آخر. أنت لم تنظر إلى عينَيه قط، وكذلك لم تنظر إلى جوهره؛ هاتَين العينَين الضاحكتَين.
لقد وضع كتابه العبثي وكل الأشياء الأخرى، ثم حطم النافذة في هدوء ووضع اللحية
«. والرداء ودخل إلى مكتبك، وهو يعلم أنك لم تنظر إليه قط في حياتك
«؟ لكن لماذا يدبر لي مثل هذه الخدعة المجنونة » : تساءل أوبنشو
وطُوِيت أصابع يده على نفسها «. لأنك لم تنظر إليه قط في حياتك » : قال الأب براون
وانقبضت، كما لو كان على وشك أن يضرب الطاولة بقبضته إذا ما استسلم لهذه الحركة.
كنت تطلق عليه لقب الآلة الحاسبة؛ لأن هذا هو كلُّ ما كنت تحتاج إليه فيه. » : ثم أكمل
أنت لم تعرف عنه قط ما عرفه غريبٌ جلس في مكتبك بعض الوقت وتحدث معه لخمس
دقائق، لم تعرف أنه كان يمتلك شخصية؛ أنه كان غريب الأطوار؛ أنه كان لديه آراء كثيرة
الناس. ألا تستطيع أن تفهم تلهُّفه لكي يثبت « كشف » عنك وعن نظرياتك وسمعتك في
أنك لم تستطع أن تكشف موظفك الخاص؟ إن لديه أفكارًا كثيرة غير منطقية وحمقاء من
كل الأنواع؛ على سبيل المثال، رغبته في جمع الأشياء العديمة القيمة. ألا تعرف قصة المرأة
التي اشترت أكثر شيئين عديمي القيمة؛ لوحة نحاسية لطبيب كبير، وقدم خشبية؟ بهذين
الشيئين خلق موظفك الذكي شخصية الدكتور هانكي البارزة، بنفس السهولة التي خلق
«… بها شخصية الكابتن ويلز الخيالية. لقد وضع هذين الشيئَين في منزله
«؟ أتقصد أن المكان الذي زرناه بعد هامبستيد كان منزل بيريدج نفسه » : سأله أوبنشو
أكنت تعرف منزله، أو حتى عنوانه؟ انظر، لا تعتقد بأنني » : ردَّ القس بنبرة حاسمة
أتحدث بقلة احترام عنك أو عن عملك. أنت خادم كبير للحقيقة وأنت تعلم أنني ما كان
لي أن أقلل من احترام هذا. لقد كشفت الكثير من الكاذبين، حين ركَّزت ذهنك على هذه
المهمة، لكن لا تنظر إلى الكاذبين فقط. انظر أيضًا — بين الحين والآخر — إلى الأشخاص
«. الصادقين، كالنادل هنا
«؟ أين بيريدج الآن » : سأله البروفيسور بعد أن صمت لبرهة طويلة
ليسلديَّ أدنى شك أنه عاد إلى مكتبك. في الواقع، لقد عاد إلى مكتبك » : قال الأب براون
«. في نفس اللحظة التي قرأ فيها القس لوك برينجل هذا الكتاب الشنيع واختفى في الفراغ
ساد صمت طويل مرة أخرى، ثم ضحك البروفيسور أوبنشو؛ كانت ضحكة رجل
عظيم بما يكفي لكي يبدو بهذا المظهر الضئيل. ثم قال فجأة:
أعتقد أنني أستحق ذلك؛ لأنني لم أوُلِ اهتمامي لأقرب مساعديَّ، لكن ينبغي أن »
تعترف أن تتابع الأحداث كان هائلًا. ألم يحدث أن شعرت قط بالرعب ولو للحظة من ذلك
«؟ الكتاب الشنيع
أوه، يا له من كتاب! لقد فتحته بمجرد أن رأيته موضوعًا. إنه عبارة » : قال الأب براون
«؟ عن صفحات فارغة برمته. أترى أنني لست أوُمن بالخرافات