مرَّت على الأب براون فترة قصيرة، استمتع فيها، أو بالأحرى لم يستمتع فيها، بشيء يشبه
الشهرة؛ فقد كان مثار اهتمام الصحف لبعضالوقت، بل وكان حتى موضوع جدال شائع
في المجلات الأسبوعية؛ وقد رُويت مآثره بحماسة وعلى نحوٍ غير دقيق في العديد من النوادي
وغُرف الرسم، خصوصًا في أمريكا. وقد جُعل من مغامراته كمحقق موضوعٌ للقصص
القصيرة التي تُنشر في المجلات، على الرغم من أنَّ هذا قد يبدو لأيٍّ ممن يعرفونه غير
مناسب وبالطبع غير قابل للتصديق.
الغريب أن بريق الشهرة الشارد هذا قد أصابه في أكثر الأماكن غموضًا، أو على
الأقل بُعدًا، من بين أماكن إقامته الكثيرة. كان الأب براون قد أرُسِل ليتولَّى منصبًا رسميٍّا،
شيئًا بين مُبشِّر وكاهن أبرشية، في أحد أجزاء الساحل الشمالي لقارة أمريكا الجنوبية،
حيث لا تزال قطاعات من بلدان تلك المنطقة غير خاضعة بقوة للقوى الأوروبية، أو تهدد
باستمرار بأن تصبح جمهوريات مستقلة، تحت مظلة حُكم الرئيس مونرو الضخمة. كان
السكان يتكونون من الهنود الحُمر واللاتينيين؛ أي إنهم كانوا أمريكيين من أصل إسباني،
وكان قطاع كبير منهم من الهنود الحمر من أصل إسباني، ولكن كان هناك تغلغل كبير
ومتزايد للأمريكيين ذوي الأصول الشمالية — الإنجليز والألمان وغيرهم. ويبدو أن المتاعب
بدأت حين اقترب أحد هؤلاء الزوَّار — والذي كان قد وصل حديثًا، وكان منزعجًا للغاية
لأنه فقد إحدى حقائبه — من أول مبنًى وقع عليه بصره، وتصادف أنه هو مقر البعثة
التبشيرية والكنيسة الصغيرة الملحقة به، وأمامهما كان هناك شرفة طويلة وصفٌّ طويل
من الأوتاد التي تتدلَّى عنها أفرع النباتات المتسلقة السوداء الملتوية، والتي كانت أوراقها
المربعة حمراء بسبب الخريف. وخلف صف الأوتاد جلس صفٌّ من الرجال في جمود كما
لو كانوا مثل تلك الأوتاد، وكانوا يشبهون على نحوٍ ما النباتات المتسلقة في لونهم؛ فبينما
كانت قبعاتهم الواسعة الحواف سوداء كعيونهم التي لا ترمش، مال لون بشرة الكثير
منهم إلى لون الخشب الأحمر الداكن للغابات عبر الأطلسية الموجودة هناك. رأى عددًا كبيرًا
منهم يُدخِّنون سيجارًا رفيعًا وطويلًا للغاية لونه أسود، وكان الدخان هو الشيء الوحيد
تقريبًا الذي يتحرك في هذا المشهد. كان الزائر سيصفهم بأنهم من السكان الأصليين، رغم
أن بعضهم كان يفخر بشدة بأصوله الإسبانية، ولكنه لم يكن من نوعية الأشخاصالذين
يستطيعون التمييز بدقة بين الإسبان والهنود الحمر؛ إذ كان يُفضِّل أن يُستبعد السكان
الأصليون من المشهد بمجرد أن يرى أنهم كذلك.
كان رجل صحافة من مدينة كانساس، وكان نحيلًا ذا شعر أشقر وله أنف جريء،
بحسب تعبير جورج ميريديث؛ يمكن للمرء أن يتخيل أن أنفه يتلمَّس طريقه، وأنه يتحرك
كما لو كان خرطوم آكل النمل. كان اسمه سنيث وكان والداه بعد تأمُّل غريب قد أطلقا عليه
شاءول، وهي حقيقة كان يرغب في كتمانها قدر الإمكان. وفي النهاية بالفعل، سوَّى الرجل
المسألة بأن أطلق على نفسه اسم بول، على الرغم من أن السبب وراء اختياره لهذا الاسم لم
يكن هو السبب نفسه الذي كان في حالة القديس بول أو بولس رسول الأمم. وعلى النقيض
من ذلك، وبقدر ما كان للرجل من آراء حول تلك الأمور، فإن اسم المضطهِد كان سيكون
ملائمًا أكثر؛ لأنه كان ينظر إلى الديانات المنظمة بالازدراء التقليدي نفسه الذي يمكن للمرء
أن يتعلمه بسهولة أكثر من إنجيرسول عن فولتير. وكان هذا، كما اتَّضح، هو الجانب
الأقل أهمية من شخصيته، والذي أظهره حين قدِم نحو مقر البعثة التبشيرية ومجموعة
الأشخاصالجالسين أمام الشرفة. تسببشيء بشأن سكونهم ولامبالاتهم الصفيقَين في أن
يتأجَّج لديه شعوره بالأفضلية، وأصبح هو المتحدث الوحيد حين لم يتلقَّ إجابة محددة
على أسئلته الأولى.
وقف هناك تحت أشعة الشمس القوية، في هيئته النظيفة المهندمة، وثيابه الأنيقة
وقبعة بنما الخاصة به، مُحكمًا قبضته على حقيبته الصغيرة. بدأ يصيح في الرجال الجالسين
في الظِّل، وأخذ يشرح لهم بصوت مرتفع جدٍّا لماذا يتَّسمون بالكسل والقذارة والجهل
كالحيوانات، ولماذا كانوا في منزلة أقل من الحيوانات التي تفنى وتهلك، هذا في حال أن
تكون هذه المسألة قد جالت بخاطرهم من قبل. كان هذا في رأيه يعود إلى التأثير الضار
والوخيم للقساوسة الذين جعلوهم فقراء بصورة مزرية ومضطهَدين بصورة بائسة، مما
جعلهم يجلسون في الظل، يدخنون ولا يحركون ساكنًا.
يا لكم من حشد ضعيف لكي تسمحوا بأن يتجبَّر عليكم أولئك » : قال الرجل
المتعجرفون لأنهم يتجوَّلون وهم يرتدون براطلهم وتيجانهم وأرديتهم المذهَّبة وخرقهم
البراقة الأخرى، وينظرون إلى الآخرين باستعلاء وكأنهم حثالة؛ وأن تنخدعوا بالتيجان
والظلل والمظلات الدينية مثل طفل في عرضٍإيمائي صامت؛ لمجرد أن أحد المتعجرفين من
كبار الكهنة العُجُز الخزعبليين يبدو في حُلته وكأنه سيد أهل الأرض، ولكن ماذا عنكم أنتم؟
كيف تبدون أنتم أيها السُّذَّج المساكين؟ إنني أقول لكم إن هذا هو السبب الذي جعلكم
«… متأخرين وهمجيين ولا تستطيعون القراءة أو الكتابة و
في تلك اللحظة، خرج الكاهن الأعلى الخزعبلي على عَجل وبصورة طائشة من باب مقر
البعثة، ولا يبدو وكأنه سيد أهل الأرض، وإنما بدا ككومة من الملابس القديمة السوداء
المزرَّرة حول مئزر قصير من دون أكمام في هيئة رجل. ولم يكن يرتدي تاجه، هذا إذا
اعتبرنا أنه كان يمتلك واحدًا، وإنما كان يرتدي قبعة عريضة رثَّة لا تختلف كثيرًا عن
تلك التي يرتديها الهنود الإسبان، وكانت تميل نحو مؤخر رأسه وكأنه كان منزعجًا من
ارتدائها. كان الكاهن على وشك الحديث إلى السكان الأصليين الجامدين حين وقع بصره
على الرجل الغريب، فقال بسرعة:
«؟ أوه، أيمكنني مساعدتك؟ أتود الدخول »
دخل السيد بول سنيث، وكان دخوله هو بداية زيادة كبيرة في معلومات ذلك الصحفي
حول الكثير من الأشياء. من المحتمل أن حسَّه الصحفي كان أقوى من تحيُّزاته، كما هو
الحال بالفعل مع الصحفيين المهرة؛ وقد طرح العديد من الأسئلة الوجيهة، والتي فوجئ
بإجاباتها واندهشمنها. اكتشفأن باستطاعة الهنود القراءة والكتابة؛ وذلك لسبب بسيط
وهو أن القس قد علمهم ذلك؛ ولكن معرفتهم بالقراءة والكتابة لم تكن تتخطَّى رغبتهم
في التواصل المباشر فيما بينهم، وذلك كان عن تفضيل فطري. وعلم أن أولئك الغرباء
الذين يجلسون متكدسين أمام الشرفة وكأن على رءوسهم الطير كانوا يعملون بكدٍّ في
قِطع الأراضيالتي يمتلكونها؛ خاصة أولئك الذين كانت أصولهم الإسبانية تغلب أصولهم
الهندية؛ ومما أثار دهشته أكثر معرفته بأنهم جميعًا كان لديهم قطع من الأرض كانوا
يمتلكونها بالفعل. عُدَّ هذا جزءًا من تقليد ثابت كان يبدو طبيعيٍّا بصورةٍ ما لدى السكان
الأصليين، ولكن القس لعب دورًا في ذلك أيضًا، وبفعله ذلك كان قد شارك ربما للمرة الأولى
والأخيرة له في السياسة، وإن كان في السياسة الداخلية فقط.
اكتسحت تلك المنطقة مؤخرًا إحدى موجات الراديكالية الإلحادية التي تكاد ترقى
لأن تكون فوضوية، والتي كانت تظهر على نحوٍ دوري في البلدان ذات الثقافة اللاتينية،
وتبدأ عادة بمنظمةسرية وتنتهي عامةً بحرب أهلية أو بشيء لا يختلف عن ذلك كثيرًا. كان
القائد المحلي للجماعة المتمردة يُسمى ألفاريز، وهو مغامر غريب برتغالي الجنسية، ولكنه،
كما قال أعداؤه، كان ذا أصول زنجية، وقد كان زعيم عدد من المحافل والمكاتب المسئولة
عن تأجيج نيران تلك الأنشطة الراديكالية والتي كانت تُخفي الإلحاد تحت عباءة صوفية.
وكان قائد التوجه الأكثر تحفظًا رجلًا عاديٍّا إلى حد كبير، وكان ثريٍّا جدٍّا ويُدعى مندوزا،
وكان يمتلك الكثير من المصانع ويحظى بقدر من الاحترام، ولكنه كان مثيرًا للملل بعض
الشيء. وكان الرأي السائد مفاده أن مسألة وجود القانون والنظام كانت ستضيع تمامًا لو
لم يتبنَّ أنصار هذا التوجه سياسة شعبية أكثر خاصة به، وذلك في شكل تخصيصقطع
من الأراضيللفلاحين؛ وقد تشكَّلت تلك الحركة بصورة رئيسية من مركز التبشير الصغير
الذي يترأسه الأب براون.
وبينما كان القس يتحدث إلى الصحفي، دخل عليهم مندوزا، القائد المحافظ. كان
رجلًا قويٍّا داكن البشرة ذا رأس أصلع كالكمثرى، وجسدٍ مدورٍ كالكمثرى أيضًا؛ وكان
يدخن سيجارًا له رائحة نفاذة بشدة، إلا أنه ألقى به بعيدًا، ربما بصورة دراماتيكية
بعض الشيء، وذلك حين مثَلَ أمام القس، كما لو كان قد دخل الكنيسة؛ وانحنى انحناءة
تكاد تكون غير محتملة من رجل في مثل سمنته. كان الرجل دومًا بالغ الجدية في إشاراته
الاجتماعية، خاصةً تجاه الكيانات الدينية. كان واحدًا من أولئك الأشخاصالعاديين المحبِّين
بشدة للكنيسة أكثر من القساوسة أنفسهم. وقد سبَّب هذا نوعًا من الحرج للأب براون،
خاصةً حين كان يأتي على نفس التصرفات في الحياة الخاصة.
أعتقد أنني لا أشجع سلطة رجال » : قال الأب براون وقد علت وجهه ابتسامة خافتة
الدين، ولكن لم يكن ليكون هناك نصف ما هو موجود منها إذا ما تركوا الأمور في أيدي
«. رجال الدين
لماذا أشعر يا سيد مندوزا أننا تقابلنا من قبل؟ » : تساءل الصحفي في حيوية جديدة
«؟ ألم تكن حاضرًا في مؤتمر التجارة في المكسيك العام الماضي
بدت على جفنَي السيد مندوزا الثقيلين علامات الإدراك، وابتسم بطريقته البطيئة
«. أتذكر ذلك » : وقال
لقد أبرمت صفقات كثيرة جدٍّا هناك في » : قال سنيث وقد بدا أنه مستمتع بحديثه
«. غضون ساعة أو اثنتين. أعتقد أن الأمر شكَّل معك فارقًا كبيرًا أيضًا
«. كنت محظوظًا للغاية » : قال مندوزا في تواضع
أتعتقد ذلك؟! إن الحظ السعيد يرافق من يعرفون متى » : صاح سنيث المتحمس
ينتهزون الفرص؛ وقد أحسنت أنت استغلال الفرصبكل تأكيد، ولكني أخشى أن أعطلك
«. عن أعمالك
لا، على الإطلاق. أنا غالبًا ما أحظى بشرف زيارة القس والحديث إليه » : قال الآخر
«. لفترة قصيرة؛ مجرد حديث قصير
يبدو أن علاقة الود هذه بين الأب براون ورجل الأعمال الناجح، بل وحتى الشهير،
قد أدَّت إلى استقرار حالة الوفاق بين القس والسيد سنيث العملي. وقد نفترض بأنه
شعر بنوع من الاحترام الجديد يغلف مركز التبشير والبعثة نفسها، وكان على استعداد
لأن يتغاضىعن التذكيرات العرَضية لوجود الدين التي من الصعب تجنبها بسبب وجود
الكنيسة الصغيرة ومكان معيشة الكاهن. وقد بدا متحمسًا نوعًا ما لبرنامج القس — على
الأقل لجانبه العلماني والاجتماعي — وأعلن أنه شخصيٍّا مستعد في أي لحظة لأن يكون
بمنزلة وسيلة لإعلام العالم بأسره به. وفي هذه اللحظة، بدأ الأب براون يشعر بأن الصحفي
سيسبب إزعاجًا بتعاطفه أكثر من عداوته.
سعى السيد بول سنيث بنشاط لإبراز نشاط الأب براون؛ فأرسل عبر أنحاء القارة
لجريدته في الغرب الأوسط الأمريكي مقالات مدح طويلة وصاخبة، والتقط للقس السيئ
الحظ صورًا وهو يؤدي أعماله التقليدية، ونشرها في شكل صور كبيرة في صحف الأحد
الكبرى في الولايات المتحدة. وقد جعل من أقواله شعارات، وكان دومًا ما يقدِّم للعالم
من السيد المحترم في أمريكا الجنوبية. إن أي شعب أقل قوةً وتقبلًا من الشعب « رسالة »
الأمريكي كان سيشعر بملل شديد من الأب براون. وهكذا، استقبل الأب براون عروضًا
سخيَّة ومتحمسة ليبدأ جولة من المحاضرات والعِظات في الولايات المتحدة، وحين كان
يرفض، كانوا يُعدِّلونشروط الاتفاق مع عبارات تعجب وتمنٍّ تنمُّ عن الاحترام. وتم تأليف
سلسلة من القصص حوله، مثل قصص شيرلوك هولمز، عن طريق أفكار السيد سنيث،
وقد قُدِّمت هذه القصصللبطل من أجل الحصول على مساعدته وتشجيعه بشأنها. وحين
وجد القس أن سلسلة القصصهذه قد بدأت بالفعل، لم يستطع أن يقدم أي اقتراح سوى
أنها يجب أن تتوقف. وبدوره، أخذ السيد سنيث هذا الاقتراح وطرحه كموضوع للمناقشة،
وقد دار حول ما إذا كان على الأب براون أن يختفي بصورة مؤقتة على جُرُف صخري،
كما حدث مع البطل صديق الدكتور واطسون. وأمام كل هذه المطالب، لم يكن بوسع
القس إلا أن يجيب كتابة، قائلًا بأنه يوافق على مثل هذه الشروط من أجل التوقف المؤقت
لسلسلة القصص ويتوسل بأن يسمحوا بأن تمر فترة كبيرة من الوقت قبل أن يستكملوا
القصص مرة أخرى. وكانت الملاحظات التي يكتبها يقل طولها أكثر وأكثر، وبينما كان
يكتب آخرها، تنفس الصعداء.
غني عن القول بأن تلك الفقاعة الغريبة التي برزت في الشمال كان لها أثرها في تلك
البقعة الصغيرة في الجنوب التي كان الأب براون يتوقع أنه سيعيش فيها وحيدًا وكأنها
منفاه. وبدأت قطاعات السكان الإنجليزية والأمريكية الكبيرة التي كانت تعيش هناك في
تلك المنطقة بالفعل؛ تشعر بالفخر لأن من بينهم شخصًا يتمتع بمثل هذه الشهرة. والسياح
الأمريكان الذين يطالبون بشدة بالذهاب إلى دير وستمنستر كانوا يصلون إلى ذلك الشاطئ
البعيد ويطالبون بشدة برؤية الأب براون. وكانوا على وشك تسيير قطارات رحلات تحمل
اسم الأب براون، وكذلك على وشك جلب الحشود لرؤيته كما لو كان أحد المعالم الأثرية.
وكان الأب براون منزعجًا بشدة من التجار وأصحاب المتاجر الجدد النشطين والطموحين
في تلك المنطقة، الذين كانوا يزعجونه بصفة دائمة داعين إياه لتجربة سلعهم وبضائعهم
وإعطائهم تزكيات بشأنها. وحتى حين كان لا يرد عليهم بتزكياته، كانوا يراسلونه بشأن
جمع التوقيعات منه. وبما أنه كان شخصًا لطيفًا، كانوا يحصلون على الكثير مما يريدون
منه؛ وذات مرة كتب على عَجل بضع كلمات على بطاقة ردٍّا منه على طلب محدد من تاجر
نبيذ من فرانكفورت يُدعى إيكستاين، وقد كان من شأنها أن تصبح نقطة تحول مهمة في
حياته.
كان إيكستاين رجلًا ضئيل الحجم صعب الإرضاء، له شعر مجعد ويرتدي نظارة
أنفية، وكان حريصًا للغاية على أن يجرب القس شيئًا من نبيذه الطبي الشهير، وليس ذلك
فقط، وإنما عليه أن يخبره أين ومتى سيتناول هذا النبيذ، حين يرسل له الأب براون بأنه
تسلم ما أرسله. لم يكن القس متفاجئًا بشدة من طلب ذلك الرجل؛ لأنه أصبح معتادًا على
عالم الإعلانات المجنون؛ لذا فقد دوَّن شيئًا ثم تحول إلى شيء آخر كان يبدو منطقيٍّا أكثر
بالنسبة إليه. ثم قاطعته مرة أخرى رسالة من عدوه السياسيألفاريز، يطلب منه فيها أن
يأتي إلى اجتماع يأمل من خلاله أن يتوصلوا إلى تسوية بشأن مسألة عالقة؛ واقترح عليه
أن يكون الموعد في تلك الليلة نفسها في مقهًى يقع خارج أسوار المدينة الصغيرة. أرسل
الأب براون رسالة مع الموفَد العسكري المنمق الذي كان بانتظار الرد يقول فيها بأنه قد
وافق على الحضور في الموعد، وحيث إنه كان لا يزال أمامه ساعة أو اثنتان، جلس وحاول
أن ينهي شيئًا يسيرًا من عمله الأصلي. وفي نهاية تلك الفترة، صب لنفسه كأسًا من نبيذ
السيد إيكستاين الاستثنائي، وحدَّق في الساعة بتعبيرات وجه هزلية، وشرب الكأس وخرج
في جُنح الليل.
كان القمر يلقي بأشعة نوره القوي على تلك المدينة الإسبانية الصغيرة؛ لذا حين
خرج الأب بروان إلى بوابة المدينة الرائعة، التي تحمل قوسًا مزخرفًا على طراز الروكوكو
وتقع بعدها مجموعة خلابة من أشجار النخيل، بدا المشهد أمامه وكأنه أحد مشاهد الأوبرا
الإسبانية. كان أحد عروق النخل الطويلة ذات الحواف المسننة — والتي كانت ذات لون
أسود بفعل وقوعها أمام القمر — يتدلَّى على الجانب الآخر من القوس، فرآه الأب براون من
ممر البوابة، وبدا له وكأنه يشبه فك تمساح أسود. لم يكن ذلك المشهد الخيالي ليتشبث
بمخيلته لولا وجودشيء آخر جذب انتباهه اليقظ أصلًا، وهو أن الهواء كان ساكنًا للغاية؛
فلم يكن هناك ولو حتى حركة واحدة للريح؛ إلا أنه رأى بكل وضوح أن عرق النخل المتدلي
يتحرك.
نظر حوله وأدرك أنه كان بمفرده. كان قد ابتعد عن آخر المنازل التي كانت كلها
مقفلة تقريبًا، وكان يسير بين جدارين طويلين بُنيا من أحجار كبيرة مستوية لا شكل لها،
تتخللها أحيانًا الأعشاب الغريبة الشائكة التي تنمو عادةً في تلك المنطقة — كان الجداران
كلٌّ منهما في محاذاة الآخر طوال الطريق وصولًا إلى البوابة. ولم يتمكن الأب براون من
رؤية أنوار المقهى الذي يقع خارج البوابة؛ فربما كان المقهى يقع على بُعد كبير منها. ولم
يكن هناك شيء يستطيع الأب براون رؤيته تحت القوس سوى رقعة أكبر من الرصيف
المفروشبالأحجار الكبيرة الذي بدا شاحبًا تحت نور القمر، مع وجود أعداد من نبات التين
الشوكي الشاردة هنا وهناك. كان يراوده شعور قوي بأن شيئًا سيئًا سيحدث، كما راوده
شعور غريب بأنه مرهق جسديٍّا؛ إلا أنه لم يفكر في أن يتوقف. ربما كانت شجاعته، التي
كانت كبيرة، أقل قوةً من فضوله؛ فقد كان مدفوعًا طوال حياته باشتهاء فكري لمعرفة
الحقيقة، حتى في توافه الأمور. كان غالبًا ما يتحكم في ذلك بغاية إحداث التوازن؛ إلا أن
اشتهاءه لمعرفة الحقيقة كان دائم الوجود. سار الأب براون عبر البوابة، فاندفع نحوه رجل
من الناحية الأخرى كان قد سقط عن قمة شجرة وكأنه أحد القرود، ووجه نحوه سكينًا.
وفي اللحظة نفسها، تسلَّل نحوه رجل آخر كان يسير بسرعة بطول الجدار ملوحًا بهِراوة
فوق رأسه، ثم هوى بها. انحنى الأب براون وترنح ثم سقط على الأرض مغشيٍّا عليه،
وبينما كان يُغشى عليه، ارتسمت على وجهه المستدير ملامح دهشة هادئة وعميقة.
في ذلك الوقت، كان يعيش في المدينة الصغيرة نفسها شابٌّ أمريكي آخر، يختلف
اختلافًا كبيرًا عن السيد بول سنيث. كان اسمه جون آدامز ريس، وكان يعمل مهندس
كهرباء، كان مندوزا قد عيَّنه ليُجهِّز المدينة القديمة بكل وسائل الراحة الجديدة. كان
بعيدًا كل البُعد عن الأخبار الساخرة وأخبار القيل والقال الدولية على عكس ما كان عليه
الصحفي الأمريكي. إلا أن أمريكا في واقع الأمر تحتوي على مليون ممن هم على شاكلة ريس
مقابل واحد ممن هم على شاكلة سنيث. كان ريس استثنائيٍّا في براعته في أداء وظيفته،
إلا أنه كان يتسم بالبساطة الشديدة في أي جانب آخر من جوانب حياته. لقد بدأ حياته
كمساعد صيدلي في إحدى القرى الغربية، وترقَّى بسبب عمله وجدارته، ولكنه كان لا يزال
ينظر إلى المكان الذي نشأ فيه على أنه المحور الطبيعي للعالم المسكون. كان قد تربَّى على
يد والدته على مسيحية من النوع المتزمت، أو الإنجيلي البحت، من الكتاب المقدس العائلي؛
وعلى الرغم من أنه كان أمامه الكثير من الوقت لكي يختار الطائفة التي يريدها، كان
لا يزال يتبع الطائفة التي تربى عليها. ووسط الأضواء الباهرة لأحدث الاكتشافات وأكثرها
جموحًا، وحين كان يذهب إلى ما هو بعيد في التجارب حيث يصنع المعجزات بالضوء
والصوت وكأنه إله يخلق نجومًا وأنظمة شمسية جديدة، فإنه لم يشك ولو للحظة قط أن
كانت هي الأفضل في العالم؛ حيث أمه والكتاب المقدس العائلي وهدوء « في موطنه » الأشياء
قريته وأخلاقياتها الفُضلى. كان يشعر تجاه أمه بنوع من القدسية الجدية والنبيلة كما
لو كان رجلًا فرنسيٍّا عابثًا. كان متأكدًا تمامًا من أن عقيدة الكتاب المقدس هي العقيدة
الصحيحة حقٍّا؛ ونادرًا ما كان يرى غير ذلك حين كان يخرج إلى العالم الحديث. كان من
غير المتوقع بالنسبة إليه أن ينسجم مع المظاهر الخارجية للدين في البلدان الكاثوليكية؛ وقد
اتفق مع السيد سنيث في كُره تيجان الأساقفة وعِصيِّهم التي يمسكون بها، رغم اختلافهما
في درجة الثقة التي يتحلَّى كلٌّ منهما بها تجاه ذلك. لم يكن يحب انحناء مندوزا لرجال
الدين على الملأ ولم يحب كذلك احتكاكه بهم، وبالطبع لم يشعر بالانجذاب نحو التصوف
الماسوني الذي يتبعه الملحد ألفاريز. ربما كانت كل تلك الحياة شبه الاستوائية ملونة أكثر
من اللازم في عينيه ومطعَّمة باللون الأحمر للهنود والأصفر للإسبان. وعلى أي حال، هو لم
يكن يتفاخر حين قال بأن لاشيء يمكن أن يُضاهي مكان نشأته؛ فقد كان يعني تمامًا أن
هناك في ذلك المكان شيئًا بسيطًا ومتواضعًا ومؤثرًا، وهو ما كان يحترمه حقٍّا أكثر من أي
شيء آخر في العالم. كان هذا هو التوجه العقلي لجون آدامز ريس في أحد الأماكن في قارة
أمريكا الجنوبية، وقد كان يتنامى بداخله ولبعضالوقت إحساس غريب يتناقضمع كل
آرائه وأحكامه المسبقة، ولم يتمكن من تعليله. إن حقيقة الأمر كانت كالآتي: وجه الأب
براون المستدير ومظلته السوداء الرثة (ولسبب غامض) كانا هما الشيء الوحيد الذي لقيه
في أسفاره والذي كان يُذكِّره على الأقل بكومة الخشب القديمة التي تمثل المكان الذي أتى
منه وأخلاقيات ذلك المكان، وبالكتاب المقدس الذي كانت والدته تعلمه منه.
وجد ريس نفسه وعلى غير وعي منه يراقب ذلك الرجل الأسود العادي الهزلي هذا
بينما كان يسير بنشاط؛ كان يشاهده وكأنه مفتون به مرضيٍّا، كما لو كان لغزًا أو شيئًا
متناقضًا متحركًا. كان ريس قد وجد شيئًا لم يستطع منع نفسه من أن يحبه وسط كل
تلك الأشياء التي كان يكرهها؛ كان الأمر وكأنه يُعذَّب بشكل مروِّع على يد شياطين صغار
نفسه كان رجلًا عاديٍّا للغاية. « إبليس » ثم وجد أن
يمر أمامه، « إبليس » تصادف أنه حين كان ينظر من شباكه في تلك الليلة المقمرة رأى
ذلك الشيطان صاحب البراءة غير القابلة للتفسير، وهو يرتدي قبعته العريضة السوداء
ومِعطفه الأسود الطويل، ويسير في الشارع تجاه البوابة، وقد شاهده باهتمام لم يكن
هو نفسه يمكنه فهمه. كان يتساءل في نفسه أين يتجه القس وما الذي يُوشك أن يفعله؛
وظل يحدق في الشارع الذي غمره ضوء القمر حتى بعد أن اختفى صاحب القوام الضئيل
الأسود. ثم رأى شيئًا آخر أثار فضوله كثيرًا؛ رأى رجلين كان يعرفهما وقد مرَّا أمام نافذته
وكأنهما يسيران على مسرح مضاء. وقد مرَّ شعاع ضوء قمر أزرق يشبه أضواء المسرح
فصنع هالة طيفية حول كتلة الشعر المنتصبة الكبيرة على رأس إيكستاين القصير، بائع
النبيذ، وقد أظهر ذلك الشعاع أيضًا جسدًا أطول وداكنًا أكثر من الأول، فظهر على شكل
نسر يرتدي قبعة سوداء غريبة وطويلة وقديمة الطراز، ولكن الشكل العام لجسد ذلك
الشخصكان لا يزال يبدو غريبًا، وكأنه أحد الأشكال التي يراها المرء حين يشاهد مسرحية
إيمائية صامتة تُستخدم فيها الظلال. لام ريس نفسه لأنه سمح لضوء القمر بأن يتلاعب
بمخيلته بتلك الطريقة؛ لأنه وبالنظر مرة أخرى تعرَّف تلك السوالف الإسبانية السوداء
التي تميز وجه الدكتور كالديرون، وهو طبيب بارز في المدينة كان قد رآه ذات مرة وهو
يعالج مندوزا. ورغم ذلك، كان لا يزال هناكشيء غريب بشأن الطريقة التي كان يتهامس
بها الرجلان وينظران بها إلى الشارع. قفز ريسباندفاع مفاجئ من فوق العتبة المنخفضة
للنافذة، وخرج عاري الرأس إلى الطريق، يتقفَّى أثرهما. رآهما يختفيان تحت جُنح ظلام
الممر، وبعد ذلك بلحظة جاءت صرخة مرعبة من الخلف، كانت الصرخة حادة ومدوِّية،
وقد شعر ريسحينها بأن دمه قد تجمَّد؛ لأنه سمع شيئًا بوضوح شديد يُقال بلغة لم يكن
يعرفها.
وفي اللحظة التالية لذلك، كان هناك أصوات أقدام تهرع وصرخات أكثر ثم جاءت
صيحة مضطربة تنمُّ عن غضب أو حزن كادت أن تهتز لها الأبراج وأشجار النخيل الطويلة
الموجودة في المكان، كان الحشد الذي اجتمع يتحرك كما لو كانوا يتقهقرون للخلف عبر
البوابة. ثم دوى صوت آخر في الممر المظلم، كان الصوت مفهومًا له هذه المرة ويشير إلى
موت أحدهم، حيث كان يصيح في الممر قائلًا:
«! لقد مات الأب براون »
لم يعلم أبدًا ما الشيء الذي توقف عن العمل في عقله، أو لماذا خذله فجأةً شيء كان
يعتمد عليه؛ ولكنه هرع نحو البوابة ووصل إليها في الوقت المناسب ليقابل الصحفي سنيث
وهو يخرج من المدخل المظلم شاحبًا كجثة هامدة ويطقطق أصابعه بعصبية.
الأمر حقيقي، لقد مات. كان الدكتور » : قال سنيث بنبرة فيهاشيء من المهابة والتبجيل
يتفقَّده وليس هناك أمل. لقدضربه بعضهؤلاء اللاتينيين الملاعين بهِراوة بينما كان يمر
«. عبر البوابة — والرب وحده يعلم السبب. سيكون موته خسارة كبيرة لهذا المكان
لم يُجبه ريس، وربما لم يكن قادرًا على الرد عليه، ولكنه جرى تحت المدخل المقوَّس
ليصل إلى مكان الجثة. كان الجسد الأسود القصير راقدًا حيث سقط على غابة الأحجار
العريضة التي تتخلَّلها الأشواك الخضراء؛ وكان الحشد الكبير يحافظ على المسافة بينه
وبين الجثة، بفعل إيماءات من رجل ضخم في مقدمتهم. ولأن الأعداد كانت كبيرة فقد كانوا
يتحركون هنا وهناك بحركة واحدة من يد ذلك العملاق، كما لو كان ساحرًا.
كان ألفاريز الديكتاتور والزعيم الدهماوي رجلًا مغرورًا طويل البنية ودائمًا ما
يرتدي ثيابًا مزينة ومبهرجة، وفي ذلك الموقف، كان يرتدي زيٍّا أخضراللون به تطريزات
وكأنها ثعابين فضية تزحف عليه، وعلى رقبته وسام عسكري معلق على ربطة كستنائية
زاهية. كان شعره المجعد الكثيف قد تحول إلى اللون الرمادي بالفعل، وخلافًا لذلك كانت
بشرته — التي كان يصفها أصدقاؤه بأنها زيتونية اللون وكان يصفها خصومه بأنها
سوداء — تبدو وكأنها ذهبية تمامًا، كما لو كان يرتدي قناعًا ذهبيٍّا، لكن وجهه الكبير
الذي كان ينم عن ملامح القوة والمرح كان في تلك اللحظة متجهمًا وتبدو عليه ملامح
الجدية. قال إنه كان ينتظر الأب براون على المقهى حين سمع صوت ضجيج وسقوط على
الأرض، وحين خرج وجد الجثة طريحة الأحجار.
أعلم ما قد يفكر فيه بعضكم، وإذا كنتم تخافون » : قال وهو ينظر حوله متفاخرًا
مني — كما أنتم خائفون الآن — فسأقولها بالنيابة عنكم. إنني ملحد؛ فليس لي إله أحلف
به أمام من لن يصدقوا كلامي، ولكني أقول لكم باسم جذور الشرف الذي قد تبقَّى في
الجندي والإنسان، إنني ليس لي يد فيما حدث. إنني كنت سأسعد برؤية من فعلوا ذلك
«. مشنوقين في تلك الشجرة إن كانوا هنا
من » : قال مندوزا العجوز في حدة وجدية وهو يقف بجوار جسد رفيقه الصريع
الطبيعي أن نمتن لسماعك وأنت تقول ذلك. إن هذه الضربة التي تعرضنا لها مروعة
بصورة أكبر من أن نتمكن من قول ما نشعر به في هذه اللحظة. وأقترح أنه من اللائق
ثم أضاف وهو ينظر «. والمناسب أكثر أن نرفع جثة صديقي وننهي هذا التجمع الغريب
«. فأنا أرى أنه ليس هناك شك في موته للأسف » : إلى الطبيب في تأثر شديد
«. ليس هناك شك » : قال الطبيب كالديرون
عاد جون ريس إلى مسكنه حزينًا ويملؤه إحساس استثنائي بالوحدة. بدا من
المستحيل له أن يفتقد رجلًا لم يعرفه على الإطلاق. وعرف أن الجنازة ستكون في اليوم
التالي؛ لأن الجميع شعروا أن الأزمة ينبغي أن تمر بأسرع ما يمكن، خوفًا من الشغب
الذي كان يتفاقم على مدار الساعة. عندما رأى سنيث صف الهنود الحمر وهم يجلسون
أمام الشرفة، ربما كانوا يشبهون صفٍّا من المنتمين إلى حضارة الأزتيك القديمة المحفورة
صورهم على لوح خشبي أحمر، لكنه لم يَرَهُم على حقيقتهم حين عرفوا أن القس قد مات.
كانوا بكل تأكيد سيهبُّون ثائرين وسيُعدِمون الزعيم الجمهوري، لو لم يصدهم عن
ذلك الضرورة الشديدة للتصرف باحترام في حضور النعشالذي يرقد فيه زعيمهم الديني.
إن القاتلين الفعليين — الذين كان إعدامهم سيصبح أمرًا طبيعيٍّا تمامًا — يبدو أنهم قد
تلاشوا في الهواء. لم يعرف أحدٌ أسماءهم؛ ولن يعرف أحدٌ أبدًا ما إذا كان القتيل قد رأى
وجوههم. إن نظرة الدهشة الغريبة والتي من الواضح أنها كانت آخر نظرة له على وجه
الأرض ربما كانت تدل على تعرُّفه على وجوههم أما ألفاريز فقد ظل يكرر بعنف أنه لا
دخل له فيما حدث، وحضرالجنازة وسار خلف النعش في زيه الفخم ذي اللونين الأخضر
والفضيفيشيء من التبجيل والتفاخر.
خلف الشرفة، كانت هناك مجموعة من الدرجات الحجرية التي تؤدي إلى حافة
خضراء شديدة الانحدار، مُسيَّجة بلفيف من الصبار، وكان النعش مرفوعًا على الأرض
فوقها، ووُضع بصورة مؤقتة عند أسفل الصليب الكبير المنعزل الذي يشرف على الطريق
ويحف الأرضالمقدسة. وتحت هذا المشهد كان هناك حشد كبير من الناسينوحون ويتلون
صلواتهم وهم ممسكون بمسبحاتهم — كانوا كحشد من اليتامى الذين فقدوا أباهم. ورغم
كل تلك الرموز الاستفزازية بما يكفي بالنسبة إلى ألفاريز، فإنه تصرف باحترام وضبط
للنفس؛ وكان الأمر كله سيسير على ما يرام — كما قال ريس في نفسه — لو تركه الآخرون
وشأنه.
قال ريس في نفسه في مرارة إن مندوزا العجوز كان يبدو دومًا وكأنه أحمق عجوز،
وكان الآن يتصرفكليٍّا وبصورة لافتة وكأنه أحمق عجوز. وبفعل عادةشائعة في المجتمعات
البسيطة، كان النعش مفتوحًا وكان وجه القتيل غير مغطٍّى؛ مما رفع حالة الرثاء التي
يعيشها كل هؤلاء البسطاء إلى درجة من درجات العذاب. لم يكن هذا ليتسبب في أي
ضرر، لكونه متماشيًا مع التقاليد، إلا إن أحد المتطفلين أضاف لذلك المشهد إحدى عادات
دعاة الفكر الحر الفرنسيين، وهي إلقاء الخطب عند المقابر. تقدم مندوزا ليلقي خطبة
— وقد كانت طويلة نوعًا ما، وكلما طالت أكثر تدنت معنويات جون ريس وقل تعاطفه
مع الطقس الديني المرتبط بهذا الحدث. طُرحت قائمة بالنعوت والصفات الفاضلة — من
النوع البائد العتيق على ما يبدو — على لسان رجل مُضجِر بطيء لا يعرف كيف يتوقف
عن الحديث. كان هذا سيئًا بما يكفي، لكن مندوزا كان يتمتع بالغباء الشديد عندما بدأ في
إلقاء اللوم على خصومه السياسيين بل وحتى الاستهزاء بهم. كان قد نجح في غضون ثلاث
دقائق في افتعال مشهد وإحداث جلبة، ويا له من مشهد استثنائي جدٍّا ذلك الذي افتعله!
قد نتساءل حقٍّا أين يمكن أن نجد مثل هذه الفضائل » : قال وهو ينظر حوله في تفاخر
بين أولئك الذين نبذوا بغباء عقيدة آبائهم. إننا حين نجد بيننا ملحدين، قادة ملحدين، بل
وحتى في بعضالأحيان حكامًا ملحدين، نكتشف أن فلسفتهم الشائنة تؤتي أكلها في مثل
«… هذه الجرائم. وإذا سألنا من قتل هذا الرجل التقي، فسنجد بكل تأكيد
بدت أفريقيا وغاباتها في عينَي ألفاريز، ذلك المغامر الهجين؛ ورأى ريس أن ذلك
الرجل كان في نهاية الأمر همجيٍّا لا يستطيع السيطرة على نفسه حتى نهاية الجنازة؛
متأثرة بعقيدة الفودو. على أي حال، « المستنيرة » ويمكن أن يخمن المرء أن فلسفته المتعالية
لم يستطع مندوزا أن يكمل حديثه؛ لأن ألفاريز ظهر أمامه فجأة وأخذ يصرخ في وجهه
ويمنعه من الحديث، بصوتٍ عالٍ للغاية.
من قتله؟ إلهك قتله! لقد قتله إلهه! طبقًا لما تقوله، فإنه يقتل » : صرخ ألفاريز قائلًا
وأشار في عنف ليس إلى النعش وإنما إلى «. كل أتباعه المخلصين الأغبياء — كما قتل هذا
الصليب. وبعد أن بدا أنه سيطر على نفسه شيئًا ما، أكمل حديثه بنبرة لا تزال غاضبة
أنا لا أصدق ذلك، ولكنك تصدقه. أليس من الأفضل ألَّا يكون لك إله » : ولكنها جدلية أكثر
على أن يكون لك إله يسرقك بهذه الطريقة؟ إنني على الأقل لا أخشىالقول بأنه ليس هناك
إله. ليس هناك قوة في هذا الكون الأعمى المعتوه يمكنها أن تسمع صلواتك أو أن تعيد
صديقك إلى الحياة. إنك تتضرَّع إلى السماء أن تعود إليه الحياة، ولكن ذلك لن يحدث.
ورغم أنني أتحدى السماء أن تعيد إليه الحياة، فإن ذلك لن يحدث. إنني أضع إيمانك
موضع اختبار هنا والآن — إنني أتحدى الرب الذي هو غير موجود أن يوقظ الرجل الذي
«. قد مات للأبد
سادت لحظة من الصمت جراء الصدمة، وكان كلام القائد الدهماوي مثيرًا لحفيظة
الحضور.
ربما كنا سنعرف حين سمحنا لرجال » : صاح مندوزا في صوت غليظ أشبه بالكركرة
«… مثلك
قاطع حديثه صوت جديد كان عاليًا وحادٍّا بلهجة أمريكية.
«. توقفا! توقفا! هناكشيء محيِّر! أقسم أني رأيته يتحرك » : صاح سنيث الصحفي
هُرِع نحو الدرجات وصعدها إلى النعش، فيما اهتز الحشد أسفله في نوبة جنون لا
توصف، ثم استدار في اللحظة التالية وقد علت وجهه علامات الدهشة ثم أشار بإصبعه
إلى الدكتور كالديرون، الذي هرع هو الآخر نحو النعش. وحين ابتعد الرجلان عن النعش
مرة أخرى، كان بإمكان الجميع أن يروا أن الرأس قد تحرك عن وضعه. تعالت صيحات
الدهشة من الحشد ثم بدا أنها توقفت فجأة، كما لو كانت قد انقطعت في الهواء؛ حيث
تأوَّه القس في النعش ورفع نفسه على أحد مرفقيه، ونظر إلى الحشد بعينين رامشتين
ومُجهدتين.
أما جون آدامز ريس—الذي لم يكن حتى هذه اللحظة يعرفإلا المعجزات العلمية—
فلم يكن قادرًا على الإطلاق حتى بعد مرور سنوات على وصف الأيام المضطربة التي تلت
ذلك اليوم. بدا وكأنه قد انخلع من العالم الذي نعرفه وعن بُعدَي الزمان والمكان إلى بُعد
آخر لا يمت للمنطق بصلة. لقد تحولت تلك المدينة الصغيرة والمنطقة بأكملها في غضون
نصف ساعة إلى شيء لم يكن أحد يعرفه لألف عام؛ تحوَّل شعب بدائي إلى حشد من
الرهبان بفعل معجزة مذهلة؛ تحولت المدينة إلى مدينة يونانية نزل بها الرب وسار بين
البشر. انبطح الآلاف في الطرقات وتلوا الصلوات؛ وأخذ المئات النذور في الحال؛ وحتى
الأجانب مثل الرجلين الأمريكيين لم يكونا قادرين على التفكير أو التحدث بشأن أي شيء
سوى تلك المعجزة. كان ألفاريز نفسه ينتفض، وهو أمر ليس مفاجئًا؛ جلس وقد دفن
رأسه بين يديه.
وفي خضم أجواء الغبطة هذه كان هناك رجل ضئيل الحجم يكافح من أجل أن يُسمع
صوته. كان صوته ضعيفًا وخافتًا والضوضاء من حوله تكاد تصم الآذان. كان قد أتى على
عدة إيماءات بسيطة ضعيفة تشير إلى شعوره بالانزعاج أكثر من أي شيء آخر. وصل إلى
الحاجز الذي يعلو الحشد، وأشار لهم بيده أن اهدءوا، كانت إشارته أشبه برفرفة جناحَي
طائر البطريق القصيرين. ثم ساد ما يشبه السكون بين الحشد؛ ثم وصل الأب براون
وللمرة الأولى إلى أقصىحدٍّ من السخط يمكن له أن يصبه على أبنائه.
«. أوه، أيها الحمقى. أوه، أيها الحمقى المغفلون » : وقال في نبرة عالية مرتعشة
حينها، بدا فجأة وكأنه استجمع قواه فتوجَّه بسرعة نحو الدرجات في مشيته المعتادة،
ثم بدأ ينزل عنها على عجل.
«؟ إلى أين أنت ذاهب أيها الأب » : قال مندوزا في نبرة تتخطَّى تبجيله المعتاد
إلى مكتب التلغراف. ماذا؟ لا؛ بالطبع ليسالأمر بمعجزة. » : قال الأب براون على عجالة
«. لماذا يُسمى ما حدث بمعجزة؟ المعجزات ليست رخيصة إلى هذا الحد
نزل بتعثُّرٍ على درجات السلم، بينما احتشد الناس حوله ليلتمسوا شيئًا من بَركته.
بوركتم، حفظكم الرب. حفظكم الرب جميعًا وأسبغ » : قال الأب براون على عجل
«. عليكم مزيدًا من العقل
واندفع عنهم بعيدًا بسرعة غير معهودة نحو مكتب التلغراف، حيث أرسل تلغرافًا إلى
هناك قصة جنونية حول حدوث معجزةٍ ما هنا، آمل ألَّا يُلقي سيادته » : سكرتير أسقفه
«. وزنًا لذلك؛ فليس هناكشيء مهم بشأنها
وبينما كان يسير بعد أن انتهى من مسعاه، ترنَّح قليلًا، فأمسكه جون ريس من
ذراعه.
«. دعني أذهب بك إلى المنزل، فأنت تستحق أكثر مما يقدمه لك هؤلاء » : قال جون ريس
جلس جون ريس والقس في بيت الأخير. كانت الأوراق التي كان القس يعمل عليها في
اليوم السابق لا تزال مكدسة على الطاولة؛ بينما كانت زجاجة النبيذ والكأسالفارغة التي
شرب فيها في مكانهما الذي تركهما فيه.
«. والآن، يمكنني أن أبدأ في التفكير » : قال الأب براون على نحوٍ شبه متجهم
لا ينبغي أن تُنهك نفسك بالتفكير الآن. لا بد أنك في حاجة إلى الراحة. » : قال الأمريكي
«؟ علاوة على ذلك، فيمَ ستفكر
كنت دومًا ما أتحرى عن جرائم القتل. والآن عليَّ أن أتحرى عن » : قال الأب براون
«. جريمة قتلي
«. لو كنت مكانك، لتناولت كأسًا من النبيذ أولًا » : قال ريس
وقف الأب براون، وصبَّ لنفسه كأسًا أخرى من النبيذ، ورفعها عند فمه، ونظر في
الفراغ أمامه بتمعن، ثم وضعها من يده. ثم جلس مرة أخرى وقال:
أتعرف كيف كان شعوري حين فارقت الحياة؟ قد لا تصدق ما أقول، ولكني شعرت »
«. بدهشة غامرة
«. في الواقع، أفترضأنك كنت مندهشًا من أنك تلقيتضربة على رأسك » : أجابه ريس
كنت مندهشًا من أني لم أتلقَّضربة » : انحنى الأب براون نحوه وقال بصوت خفيض
«. على رأسي
نظر إليه ريس للحظة وكان يفكر في أن الضربة التي تلقاها كان تأثيرها شديدًا جدٍّا
«؟ ماذا تقصد » : عليه؛ ولكنه قال فقط
أقصد أن الرجل عندما هوى بهراوته بقوة، توقفعند رأسيتمامًا وحتى لم يمسسها. »
وبالطريقة نفسها، كان رفيقه الآخر على وشك أن يضربني بسكين، ولكنه لم يُصبني بخدش
«. حتى. كان الأمر وكأنه مسرحية. أعتقد أنه كان ذلك. ولكن بعد هذا حدثشيء عجيب
ثم نظر بتمعن في الأوراق الموجودة على الطاولة للحظة ثم استطرد قائلًا:
على الرغم من أني لم أصب بأي أذًى من السكين أو الهراوة، فإنني بدأت أشعر أن »
ساقي لم تعد تقوى على حملي وشعرت بأن حياتي تنسحب مني. علمت بأنني قد أصابني
أشار «؟ شيء، ولكن ما أصابني لم يكن سكينًا أو هراوة. أتعرف ماذا أعتقد أنه أصابني
نحو زجاجة النبيذ على الطاولة.
أمسك ريس بكأس النبيذ ونظر فيها وشم رائحتها.
أعتقد أنك محق. لقد عملت في بداية حياتي كصيدلي ودرست الكيمياء. » : قال ريس
ولا يمكنني أن أجزم بشيء الآن من دون إجراء تحليل، ولكني أعتقد أن هناك شيئًا غير
مألوف تمامًا في هذا النبيذ. هناك عقاقير يستخدمها الآسيويون لإحداث حالة من النوم
«. المؤقت التي تشبه الموت
هو كذلك بالفعل. لقد جرى اختلاق أمر هذه المعجزة برمته، » : قال القس في هدوء
لسبب أو لآخر. لقد جرى تدبير مشهد الجنازة — وكذلك توقيته. أعتقد أنه جزء من جنون
الدعاية الشديد الذي تمكن من سنيث؛ ولكني أجد صعوبة في تصديق أنه قد يصل إلى هذا
الحد، من أجل هذه النتيجة فقط. ففي النهاية، أن يصنعوا مني نسخة ويُظهروني بمظهر
«… مزيف لأبدو مثل شيرلوك هولمز فهذا أمرٌ، وأن
وفيما كان يتحدث القس، تبدلت ملامح وجهه. أغُلق جفناه اللذان كانا يرفَّان فجأة،
ثم وقف كما لو كان يختنق. ثم مدَّ يده المرتعشة كما لو كان يتلمس طريقه للوصول إلى
الباب.
«؟ إلى أين أنت ذاهب » : سأله الرجل الآخر فيشيء من الدهشة
أعتقد أنني سأذهب لأصلي. أو بالأحرى، لأمجِّد » : قال الأب براون وقد شحب بشدة
«. الرب
«؟ لست واثقًا من أنني أفهم ما تقول. ما خطبك »
إني سأذهب لأمجِّد الرب لأنه أنقذني بصورة غريبة وعلى نحوٍ لا يصدق — لقد »
«. أنقذني بأعجوبة
بالطبع، أنا لا أتبع عقيدتك، ولكن صدقني، عقيدتي فيها ما يكفي » : قال ريس
«. لتجعلني أفهم ما تقول. بالطبع ستشكر الرب على أنه أنقذك من الموت
«. لا، ليس من الموت، بل من الخزي والعار » : قال القس
جلس الآخر محدقًا، بينما خرجت الكلمات التالية من فم القس مع نوع من البكاء.
ولن يكون هذا الخزي وذلك العار من نصيبي وحدي! بل هو الخزي في حق كل ما » : قال
أمُثِّله وأدافع عنه؛ هو الخزي في حق العقيدة التي أرادوا أن يكيدوا لها. كيف كان الأمر
سيكون؟! كان سيكون أكبر وأفظع فضيحة تُدبَّر لنا منذ أيام الكذبة التي غصت حلق
«. تيتوس أوتس
«؟ عن ماذا يا تُرى تتحدث » : تساءل رفيقه قائلًا
ثم جلس واستطرد في «. حسنًا، من الأفضل أن أخُبرك بكل شيء الآن » : قال القس
لقد استوعبت الأمر في ومضة عين حين ذكرت سنيث وشيرلوك هولمز. » : هدوء أكثر قائلًا
والآن تذكرت ما كتبته عن خطته العبثية؛ كان هذا هو الشيء الطبيعي الذي كنت سأكتبه
في هذا الوضع، ولكني أعتقد أنهم تلاعبوا بي ببراعة من أجل أن أكتب تلك الكلمات. كان
أنا على استعداد لأن أموت وأعود للحياة من جديد مثل شيرلوك » : ما كتبت شيئًا من قبيل
وفي اللحظة التي فكرت فيها في ذلك، أدركت أني «. هولمز، إذا كان هذا هو الحل الأمثل
أجُبِرتُ على كتابة كل تلك الكلمات، التي تشير كلها إلى الفكرة نفسها. كتبت لهم وكأني
كنت متواطئًا معهم أنني سأشرب النبيذ الذي يحتوي على المخدِّر في وقت معين. والآن، ألا
«؟ ترى ما أرمي إليه
أجل، أعتقد أني بدأتُ أرى ما ترمي » : انتفضريسواقفًا وهو ما زال يحدق فيه وقال
«. إليه
كانوا سيُروِّجون للمعجزة، ثم يفسدونها. والأسوأ من ذلك، أنهم كانوا سيثبتون أني »
كنت متواطئًا. كانت المعجزة ستكون من زيفنا. هذا هو كل ما في الأمر، وكنا على شفا
«. ورطة كبيرة
كانوا بكل تأكيد سيجعلونني » : ثم قال القس بنبرة معتدلة، بعد أن سكت برهة
«. موضوع الكثير من الأخبار المثيرة
كم عدد الهمجيين المشاركين في هذه » : نظر ريس في حدة إلى الطاولة وقال في تجهم
«؟ المكيدة
أكثر مما أود أن أتخيل، ولكني آمل أن بعضهم لم يكن » : هز الأب براون رأسه وقال
إلا مجرد أداة. ربما يعتقد ألفاريز أن كل شيء مباح في الحرب، ربما؛ فهو يتمتع بعقلية
غريبة. وأخشىأن مندوزا عجوز منافق؛ إنني لم أثق به قط، وكان لا يحب أفعالي في مسائل
التجارة، ولكن كل هذا سينتظر؛ ليس عليَّ الآن سوى أن أشكر الرب على النجاة من ذلك،
«. وخصوصًا أني أرسلت تلغرافًا للأسقف في الحال
لقد أخبرتني بالكثير مما كنت » : بدا جون ريس غارقًا في أفكاره، ثم قال في النهاية
لا أعرفه، وأشعر بميل لأن أخُبرك بالشيء الوحيد الذي لا تعرفه. يمكنني أن أتخيل كيف
خطط هؤلاء لهذا الأمر بكل دقة. لقد ظنوا أن أي رجل على وجه الأرض، يستيقظ في نعش
ويجد أن كل الناس من حوله يمجدونه وكأنه قديس، ويجد أنه تحول لمعجزة تسير على
قدمين على الأرضتبهر الجميع، سينساق لمحبيه ويقبل بتاج القدسية الذي حلَّ عليه من
السماء. وأظن أن خطتهم هذه تستند إلى مبادئ نفسية عملية. لقد تعاملت مع أنواع كثيرة
من الناسفي الكثير من الأماكن، وأقول لك بصدق إني لا أعتقد أن هناك رجلًا بين ألف من
الرجال يمكن أن يستيقظ بهذه الطريقة ويسعفه هكذا ذكاؤه وفطنته؛ وبينما لم يسترد
وقد تفاجأ «… وعيه بشكل كامل، كان لا يزال يتحلى بالعقل والبساطة والتواضع لكي
كثيرًا لأنه وجد أنه هو نفسه قد تأثر بما حدث، وبدأت نبرة صوته ترتعش.
كان الأب براون يحدِّق على نحوٍ شارد، وربما شزرًا، في الزجاجة الموضوعة على
«؟ اسمع، ما رأيك أن نشرب زجاجة من النبيذ الحقيقي » : الطاولة. ثم قال