alogin

شارك على مواقع التواصل

◦•●✿࿚༺.༻࿙✿●•◦

ܰ
ܰ

استعانت أريج بذراعيها في الزحف لأسفل وتركِ جسدها ينزلق مع الجاذبية أحيانًا، متحملةً آلام اصطدامها، وصلت للطابق الأرضيّ، على بُعد أمتار تتمركز بوابةُ الخروج،
هناك حيثُ دعتها بوابة النورِ في لحظةِ أمل، بعد آخر درجةٍ من هذا الجحيم وضعت كف يديها فوق البلاط الرطب، وقبل أن تحاول الإستيعاب حتى، انطوت الأرضُ للأسفل، وكأنها ملائةٌ فوق حفرة.

وجدت نفسها تنزلق كالحبرِ المسكوب مع المكان من حولها، منتصف السقف جُذِب للأسفل مع الأرض، الجدران الأربعة تقوست وأخذت تُسحب للمنتصف بيدٍ خفية، الدرج والطوابق بأكملها، أصبحت كورقةٍ يتم تطبيقها بعشوائية قبل إلقائها في القمامة.

أغلقت جفنيها وحاوطت رأسها بكلتا يديها، وقد أصبحت جزءًا من هذا العالم المُشوه، وأصبح العالم رغوًا ينزلق بأكمله نحو بقعةٍ في القاع، بقعة مظلمة كما أظلمت حياتها الجديدة، التي ستخوض فيها الكثير رغمًا عنها.

' هذا سيرياليٌّ بحق'

◦࿚༺.༻࿙◦



◦࿚༺.༻࿙◦

مساءٌ هادئ كئيب، الأزرق الغامق يلون تلك البلدة، وجدت الفئران مأواها، النفايات متكدسة جوار الطريق، إعلانات عن أشخاصٍ ضائعين، حملت أحدها
نسماتُ الرياح لمكانٍ مُبهرج من الخارج، الكثير من الشُعل المُضاءة والغوغاء تنبعث من نوافذه مع رائحةِ النبيذ.

وفي داخل ذلك الماخور معنى الضجة، اكتظّ المكان بالأجساد،
الموسيقى تثير في قلوبهم القلق، لكنهم يرقصون،

تلك المرأة تضحك وبيدها كأس من الجعة، ساكب الكؤوس يبدو كأنه من عالمٍ آخر، كالصنم، النادلات يبتسمن في وجوه الرجال.

انحنت نادلةٌ قُرب أحدِ الحاضرين وهمست في أذنه بكلمةٍ ثم استقامت واتجهت لطاولةٍ أخرى، كانت ترتدي مئزرًا قرمزيّ اللون وشعرها الزنجبيلي معقود بربطةٍ بيضاء، جمعت الكؤوس من على الطاولة، غمز لها أحدُ الجالسين فابتسمت وهي تستدير، صعدت بعدها لإحدى الغُرف، وتبعها ذاك الذي همست له قبل قليل.

_______

.



سارت ذات الشعر الأحمر نحو منزلها وهي تعدّ ما جنته هذه الليلة من عملها الدنيويّ، وبين هذه الظلمة لمحت أحدهم يجر أقدامه، كانت حركته غريبة وكأنه مُصاب، عقدت ما بين حاجبيها وهي تعيد النقود لشق صدرها ثم اقتربت نحوه، كان على حُدود زقاقٍ ضيق، يستند بساعده على جدارٍ خُطت فوقه الكثير من الألفاظ النابية.

كلما خطت نحوها تسالدي بدأت معالمُ الشخص بالظهور، كانت فتاة مُبعثرة الهيئة، تعجبت ملامحها الممتلئة بالزينة وهي تمسكها من كتفيها.

" يا فتاة ما بكِ؟"

ترنحت الفتاة قبل أن تنهار بين ذراعيها، فزعت تسالدي وهي تلحقها قبل السقوط، جلست ووضعت رأسها في حجرها، أخذت تصفع وجهها برفق وهي تناديها بخوفٍ صادق.

" أنتِ.. أنتِ انهضي!

كيف أساعدها يا إلهي؟ رأسها ينزف!"

رمشت الفتاة وحركت شفاهها فتهلل وجه تسالدي، همّت بمساندتها وقد قررت مصاحبتها لمنزلها هذه الليلة، وضعت تسالدي ذراعي الفتاة حول عنُقها وقامت بحملها على ظهرها.

______

« الصباح التالي»





__◦࿚༺.༻࿙◦__

منزلٌ صغير على حُدود البلدة، سلمه الخشبي متهالك والكثير من السباب خُطَت على الحائط، الأرض حجرية وبعضُ اليرعات الصغيرة تخرج من جوانبها، وجد الذباب ما يتجمع حوله أخيرا، فأكياسُ القمامة وبواقي الطعام مكتظة على جانبيه، لكن واحدة منهم قررت اكتشاف هذا المنزل الذي لا يملك صاحبًا يرعاه.

وصلت المُحملة ببضائع تبضعتها، كانت ترتدي فستانًا أحمرَ اللون يصل لبعد ركبتيها، وتجمع شعرها بربطتها البيضاء.

ولجت الذبابة بولوجِ تسالدي التي أغلقت الباب بقدمها واتجهت للمطبخ فورًا،
بقيت الذبابة تتجول بفضولٍ لا يلائم غيرها في زوايا المنزل، والذي كانت فوضويته بالداخل لا تقِل عن الخارج بشيء،
رأت الذبابة الكثير من الغرف القذرة فولجت إحداها، كانت حجرة ضيقة تكدست فيها الثياب النسائية بين الوسائد والخزانة درفتها مفتوحة.

وعلى الفراش استلقى جسدٌ بدا وجهه منزعجًا، اقتربت الذبابة من شيء ملتصق برأس ذا الجسد، إن به تموجاتٍ كثيرة ونهايتها فرجة مظلمة، قررت الذبابة الولوج للداخل.

' طنين.. طنين'

" أتفهم أنكِ تقومين بعملك لكن ليس لذا الحد!"

صرخت الفتاة بسخط وهي تضرب أذنها بكف يدها.

خرجت الذبابة وهي تترنح، فصفقت عليها بيديها، باعدت بين جزء بسيط ترى إن كانت أمسكتها فخرجت الذبابة مسرعة نحو وجهها وبالتحديد لأنفها.

الكثير من الصراخ المتذمر ركضت على إثرِه تلك الحمراء تاركةً ما بيدها، هرعت نحوها بقلق تتفحصها وتقول.
" ما بكِ؟ لمَ هذا الصراخ؟ هل تؤلمك قدمك؟"

عطست بوجهها فخرجت الذبابة وقد حاصرها المخاط اللزج واستقرتا على ثيابها، تنفست تسالدي الصعداء.

'' لن يمر هذا مرور الكِرام''

ابتسمت الفتاة بحُمق.

.

.

على رأسها خرقةٌ بيضاء، ولا تزال بمنامتها، قضمت تفاحة حمراء وتابعت حديثها وقد استقرت يدها الأخرى على خصرها.

" لا أذكر كيف وصلتُ إلى هنا، عقلي مشوش"

كانت تلك الحمراء المدعوة بتسالدي جالسةً على الوسادة وتخيّط ثوبًا أزرق اللون، ومجهولة الهوية تقف عند الطاولة بمنتصف الردهة،
رفعت حاجباها وقالت.
" كان كاحلكِ الأيسر مُلتوٍ، واستعنتُ بأحد الجيران، وأيضًا أُصيبت رأسك"

طالعتها الفتاة بتفاجؤ.
" استعنتِ بشخصٍ لا يعرف شيئًا عن الطب ليعبث بكاحلي؟"

نفت تسالدي

" بالتأكيد لا أيتها الحمقاء"

ثم تابعت بحسرة طفيفة.
" بدوتِ قبيحة للحد الذي تحتاجين فيه للمساعدة، ظننتكِ تورطتِ في مصيبةٍ ما، لكن اتضح في النهاية أنكِ مجرد ثملة تائهة وكاحلها ملتوٍ!"

" لا لا، أنا لا أشرب الكحول"

"تتذكرين هذه إذًا؟"

زمت شفتيها وهي تقول بتفكير
"لا أدري، لقد قفزت الجملة بعقلي فحسب، لكني موقنة بها"

تركت تسالدي ما بيدها وهي تحدق في وجهها قليلًا، ثم عادت لتتابع الخياطة وقالت.

"آمل أن يقفز اسمك في رأسك هو الآخر"

وجهت نظرها نحو النافذة، الشمس تتوسط السماء بكل غرور، الأراضي الخضراء لا نهاية لها، بدا المكان ريفيًّا ولطيفًا،
قالت الفتاة وأنظارُها معلقة بالسماء الصافية.

" وحتى يصير هذا، نادِني بشمس"

"شَمَسْدِي، سيكون اسمكِ المؤقت"

استنفرت وهي تنظر نحوها فعوجت تسالدي شفتيها.

" ماذا؟
إنها عادةُ هذه البلدة، على كلِ الأسماء أن تنتهي بـ' دي'..!"

أعادت أنظارها للخارج بينما تابعت بلؤم.

" على كلٍ.. منزلي ليس ملجأً لفاقدي ذكرياتهم، وجودكِ هنا مرهونٌ بعودة عقلك للعمل والتذكر، وأيضًا سيكون هذا معروفًا لتسدّيه"

رفعت شمسدي كتفيها بعدم اكتراث وقالت.
" يمكنكِ استغلالي كيفما تشائين"

دحرجت عينيها بتذمر
" وما الذي سأجنيه من تائهةٍ مثلك؟"

" يمكنني التنظيف، قد أحول مقبرتك هذه لجنة، أو.. لا أدري، اِفعلي ما أنتِ فاعلة، لا أظنني آبه لشيء"

حينئذٍ خطر في عقل تسالدي فكرة جعلت ثغرها ينفرج ببسمةٍ خبيثة، ألقت ما بيدها واتجهت نحوها بسرعة أخافتها، تمسكت بكتفيها وقالت.
" وجدتها وجدتها.. أنتِ لستِ شمس أو شمسدي، ستكونين دورثي"

رفعت حاجباها بتعجب.
"دورثي، بدون 'دي'؟ "

" إنه اسمُ فتاة من عائلة نبيلة، وهم لا يهتمون لهذه العادات، في الغالب"
" وما المميز بشأنه؟"

صدرت عن تسالدي ضحكة خليعة عقبه قولها.
" لا يا عزيزتي، إن المميز عند والدها وليس باسمها، أعني والدكِ.. واسمك"

كانت نبرتها الأخيرة ممتزجة ببسمةٍ لم تُعجب الأخرى فقالت.
" أنا لا أشعر بالراحة"

تركت تسالدي كتفيها وأخذت تدور وهي تضرب بسبابتها ذقنها بلطف وتقول.

" تحتاجين فقط لبعضِ التعديلات، كي تبدين كالأميرات"

"ما الذي تنوين فعله بالضبط؟"

"ستكونين الابنة الضالة، وسأكون العجوز الطيبة التي ربتها"

" الضالة؟"

فرقعت تسالدي إصبعيها وهي تركض نحو غرفتها، هزت الفتاة المذهولة رأسها وقالت وهي تتناول ما تبقى من التفاحة.

" خطبٌ ما في عقلها"

.
.

صرخت باندهاش
" دُمى بتصرفات بشرية!"

تابعت تسالدي بضحكة صاخبة
" ويمقتون البشر"

كانتا تسيران لوسط البلدة، حيثُ المنطقة الحية، أعارت تسالدي فستانًا مناسبًا لدورثي بعد عناء، فمعظم فساتينها إما قصيرة أو شفافة ولم تقبل دورثي بأيٍّ منها.

كان الرجال يتجهون للعمل، والسيدات يذهبون للتبضع، وأيضًا الفقراء، هناك حيثُ راكبي الأحصنة والمسافرين،
ومغفر الشرطة كذلك، لكن وجهتهما ليست إليه، بل للخيّاطة كيثدي.

كان حديثهم المرتفع يلفت الكثير من الأنظار، ومن بينهم رجلٌ بسيط الهيئة، يخفي نصف وجهه بقبعته،
بقي يتبعهم بهدوء وينصت لحديثهما الشيق بفضولٍ طفيف، وقد استقرت على وجهه ابتسامة من ذهول دورثي.

كانت دورثي منبهرة مما سمعته من تسالدي، رفعت يديها فوق رأسِها وقالت باندهاش.

" هذا غيرُ معقول! تعنين أن بكل قارة كائنات مختلفة!"
"إنه الواقع، عزيزتي"

" هنا أنتم.. نحن البشر، وفي القارة الغربية تمكث الدمى.. _"
قاطعتها تسالدي
" ماقتي البشر"
"أجل.. أجل، وفي القارة الشمالية القطبية، المندسون!"

حدقت تسالدي بالأفق ثم قالت بحقد.

" المندسون، أقذر حتى من الدمى، إنهم يتعاملون مع البشر كالملابس!

حمداً للرب أنهم لا يستطيعون العيش في المناخ المعتدل، وإلا كان قد هلك البشر منذ أجل"

نظرت نحوها دورثي وقالت.

" أن يحتلوا أجسادنا ويتحكمون بنا، هذا فظيع"
أومأت تسالدي فتابعت الأخيرة وكأنها لا تصدق ما تقصه عليها ذات الشعر الزنجبيلي.

" لا زلتُ لا أفهم، منذُ متى وحدث كل هذا؟ من أين ظهر المندسون والدمى وكل تلك الكائنات الغريبة؟ "

التقطت عينيّ تسالدي لافتة متجر كيثدي فابتسمت قائلة
" في وقتٍ لاحق، دورثي"

توقف الغريب عند اتجاههما للمتجر، وتلك الحفرة في خده الأيمن لا تخفت لابتسامته.

" كيثدي، يا إلهي افتقدتكِ كثيرًا!
"
ألقت تسالدي بكلامها الشاعريّ وهي تحتضن كيثدي التي بادلتها الحضن وبابتسامتها الرقيقة قالت.
" افتقدتكِ أنا أيضًا، تسالدي كلما كبُرتِ أصبحتِ أجمل"

" هذا لطفٌ منكِ كيث، أنا مسرورة بمقابلتك حقًا"

حولت كيثدي أنظارها لتلك الهائمة عند نافذة المتجر تحدق بالخارج وهي تسأل.
" ومن هذه الجميلة؟"
نظرت تسالدي نحو دورثي المنشغلة بمراقبة الناس وقالت بحزن برعت في تمثيله.
" إنها الفتاة الضالة، تخيلي.. تاهت عن والديها منذ الصغر، واكتشفت من وقتٍ قريب أن عجوزًا من خارج البلدة كانت تعتني بها حتى شبت، قابلتُ العجوز وهي على مشارف الموت، حاولتُ مساعدتها لكن.. كانت نهايتها وهي أدركت هذا، وكانت وصيتها الأخيرة إعادتها لمنزلها،
دورثي الضالة"

فغر فاه كيثدي وتساءلت.
" كل هذا! يا إلهي قصة مأساوية بحق!
لكن كيف وصلتِ للعجوز؟ وكيف ستتعرفين على منزلها؟"

أخفت تسالدي ارتباكها ببراعة وهي تقول.
"إنها قصة طويلة كيث، وستحتاجين للدلاء من أجل دموعك"
" آوه!"

" كما أني على عجلة من أمري"

ابتسمت تسال وهي تتابع همسها لكيث
"أردتُ إسعادها ببعض الفساتين التي تلائمها"
ربتت كيث على ذراع تسال وقالت.
" هذا لطفٌ منكِ!
أخبريني كم فستانًا تريدين؟"

" اثنان بالكثير من الزخارف والأكمام المنفوشة، دورثي.. دورثي!"

لم تستجب لها وبقيت تنظر لظهر ذلك الرجل، الآن يستدير بعد أن ألقاها بابتسامته وغمزته تلك، همست بتقطيبة.

"يا له من وقح!"

" أنتِ"

فزعت دورثي وهي تلتفت فإذ بتسالدي تجذبها من ذراعها وعلى وجهها ابتسامة منزعجة، رأتها تكز على ضروسها وتوخزها بنظراتها، ثم قالت تقدم لها صديقتها.

" هذه كيثدي، صديقتي العزيزة"
أحنت دورثي رأسها بترحيبٍ كما فعلت كيث والتي ابتسمت بخفة وهي تصافحها.

" لا تقلقي عزيزتي، سنصنع لكِ ما يناسبك"

" أشكرك"

" هل تستديرين لأخذ المقاسات من فضلك؟"

__◦࿚༺.༻࿙◦__

" يستحيل أن أفعل ذلك!"

نهضت دورثي رافضةً فكرة تسالدي، قالت تسالدي ببرود وهي تضع صحنًا من حساء الخضروات على الطاولة.
"ابحثي عن مكانٍ يؤويك إذن"

رمقتها بكره وهي تكز على أسنانها، جلست تسالدي وأخذت تتناول طعامها بهدوء.

"الباب أمامك"

" لن أكون شريكة في عملية احتيال"

رفعت الملعقة نحو فمها وهي تقول

" اخلعي ثوبي قبل رحيلك"

همهمت دورثي بغيظ وهي تولج للغرفة، بدلت فستانها بالمنامة الزرقاء التي جاءت بها وقبل أن تغادر المنزل قالت لتسالدي دون النظر نحوها.

" أنتِ أسوأ امرأة قد تقابليها في حياتك"

" أعرف، اخرجي"

مر باقي اليوم بهدوء، قضته تسالدي في صنع العشاء بكميةٍ وفيرة وتنظيف منزلها، حل المساء فتجهزت وارتدت فوق ثيابها معطفها الأزرق وقبعتها المزينة بورد الياسمين، خرجت من المنزل فرأت أن أكياس القمامة قد ازدادت، صكت على أسنانها بغيظ وهي تركلها بعيدًا عن منزلها كما ألقت بالكثير من السباب، ابتعدت عن منزلها بضع أقدام فإذ بشخصٍ يتقوقع على نفسه خلف منزلها، رفعت حاجب وأنزلت الآخر، تقدمت نحوه وقد أحرزت من هو.

" الفتاة الضالة؟"

السخرية كانت صريحة في شرخ صوتها، لم تجد الأخيرة شيئًا تزدرده من جوفها الجاف، بضوء القمر كانت عيناها تلمعان، وبصوتٍ متحشرج قالت قبل أن تنفجر في نوبة بكاء.
" لا أدري لأين أذهب!"
تنهدت تسالدي بقليل من السأم.
" أنتِ تدركين ما عليكِ فعله"
تقوست شفتاها أثناء قولها بانفعال.
" لكن هذا خاطئ!"
قالت وهي تهم بالمغادرة
" ابكِ على الأطلال إذًا"

__◦࿚༺.༻࿙◦__

وقفت قِبال نفسها، شعرها الكستنائي مُصفف، رداؤها السماويّ يناسب بشرتها المخملية، إنها جميلة بشكلٍ سيء، عضت على شفتيها بتوتر وقد أوشكت على البكاء.

" أميرتنا الصغيرة جاهزة؟"

التفتت فرأت تسالدي متنكرةً كعجوز طاعنة السن، بدا تنكرها غيرُ واقعي البتة، أردفت وهي ترمقها بتعجب

" لا زلتِ تبدين كشابة"
ضحكت تسالدي بتكلف
" هذا من لطفك!"
" لا، عنيتُ أن تنكركِ سيئًا"

تجهمت وقالت وهي تستدير بغطرسة
" تنكّري ليس سيئًا، إنما جمالي يأبى أن يُطمَس"

تبعتها الضالة متمتمة بيأس.

" أثق بأنهم سيطردوننا، بقصتك الغبية وتنكرك الأحمق"

" هيا، العربة جاهزة"

ساعدهما الحوذيّ في الصعود، زفرت دورثي وهي تموج فستانها بقبضتيها.

" إلهي اغفر لي هذا، هي من أجبرتني"

كان صوت ضحكتها كنغمة شاذة أصابت أذن دورثي بالإعياء.

" أنتِ من اختار الطريق الأيسر، عزيزتي"
شردت ميليدي في كفيها المضمومين.
' أنا فعلت'

بعد صمتٍ قصير، بدأت تذكر تسالدي لدورثي ما عليها فعله وتكرره مرارًا حتى سئمت بنية العينين، أخرجت من سلتها سوارًا يحوي قلبين فضيين وسحبت يد دورثي لتُلبسها إياه.
" ما هذا؟"
تساءلت وهي تتأمل السوار على معصمها.

" بمجرد رؤيتهم لهذا السوار، سيتأكدون أنكِ ابنتهم"

" ومن أين كل هذه الثقة؟"
ابتسمت وهي تبحث في سلتها.
" لأنه كان لابنتهم"

طالعتها بتفاجؤ ثم سألت
" وكيف وصل إليكِ؟"
" هذا الجزء لا يخصك"

كانت كلماتها جافة وأشعلت الفضول في قلبِ الثانية، همهمت دورثي ثم تحدثت مرة أخرى.

" أخبريني تسالدي، كم عمرك؟"

نظرت نحوها بنفور وتكلمت كالعجائز.

" لا تسأل امرأةً عن عمرها،
وأيضًا على الفتاة أن تبكي عند رؤية أبيها بعد كل هذه السنوات"

ربعت ذراعيها بحنق
" لا أجيد البكاء"

" سيكون البصلُ كافٍ،
انطلق أيها الحوذي"

لامس السياط أكتافهم فضربت حوافرهم الأرض.

وفي رحلةٍ أخرى، كان ابن اللورد بلايث يتجه بعربته الفاخرة لزيارة أخيه وعائلته، نحو قصر أحد كبار التجار وصاحب ثلاثة من مراكز تصدير الأوعية البشرية لمدينة المندسين، السيد كاثبيردي.

ببراعةٍ كانت تلك السيدة الأنيقة تطلق أصابعها على البيانو، فتُسمِع السيد كاثبيردي أنغامًا تجعله يذوب في غفلته، كان الرجل عجوزًا لكنه يحافظ على أناقةِ ثوبه وتصفيفة شعره، بيده كأس نبيذ فاخر، ويحرك رأسه تزامنًا مع النغمات.

عند الأقطوعة المفضلة انفعل وانسجم بشكلٍ لا يليق بمكانته، وابنته البكر ' السيدة بيردي' تجلس على بُعدٍ قليل منه، تقرأ الجريدة وبيدها الأخرى كوب شاي، لم تُلقِ ولا الخدم نظرةً واحدة للسيد الممتزج مع النغمات، وكأنهم معتادين على تصرفاته الغريبة، جاءت كبيرة الخدم محنية الرأس مهرولةً نحو ابنة كاثبيردي، التي قالت.
" هل وصل؟"

نفت السيدة السمينة وهي تجتر من الهواء ما تستطيع وبأنفاسٍ متقطعة همست لها جوار أذنها بجملةٍ قصيرة أذهلتها، تركت ما بيدها وهي تقف وترفع يدها للعازفة كي تكف عن العزف، عمّ هدوءٌ أثار سخط السيد كاثبيردي، وقبل أن ينفجر بوجه ابنته قالت بعينين براقتين.

" لقد عثروا على دورثي"

ذلك الاسم الذي ظن أن أذنيه لن تسمعاه مرة أخرى.


.

.

رجفة يديه وهو يتلمس وجهها أمامه أرغمتها على البكاء، رغم احتضان التجاعيد لعينيه الزرقاوين إلا أنهما يظهران جمال ماضيه، حاوط وجهها بيد وأخذ بالأخرى يتلمس السوار،
قطرات دموعه قد لامست شفتيه،
قال بارتعاش يخشى أن يكون من أمامه مجرد سراب من خياله المريض.

" أنتِ.. تشبهينها كثيرًا"

ابتسمت تسالدي وهي تقول بصوتٍ أصابته رعشة مزيفة.
" لأنها ابنتك يا سيدي"

ضحك الرجل وهو يحتضنها ويقبل معصمها.

" أجل، ابنتي.. أجل.. أخيرًا!"

بدأت دورثي تبكي على صدره وأنظارها نحو تسالدي التي ابتسمت وهي تشير بعينيها لسلتها.

_ لم نستخدم البصل في النهاية_

زاد هذا من بكائها.

مر ذلك اليوم بأحضانٍ مبتلة بالدموع، وكم كانت وفيرة!

لم يسمح السيد كاثبيردي لدورثي بالذهاب بعيدًا عنه حتى ترجته بيردي ليتركها للراحة قليلًا، كانت تسالدي قد جهزت قصتها المؤثرة وسردتها على مسامعهم، لم يُكذبها كاثبيردي ورغم التشكك على وجه بيردي لم تقاطعها قط.

أخذت بيردي دورثي لغرفةِ الضيوف حتى يجهزون لها حجرتها القديمة، فقد أغلق كاثبيردي هذه الغرفة منذ اختفائها ولم يسمح لأحدٍ بولوجها.

__◦࿙◦__

في الجناح الغربي مكثت تلك العجوز السعيدة، تلمست يداها كل شيءٍ رأته تقريبًا ولم تتوقف عن إطلاق صيحات الانبهار، ألقت بجسدها على الفراش وبابتسامة عريضة.

" لقد أصبحتُ ثرية"

صرخت بسعادة وهي تلكم الهواء وترفس، قاطع تلك اللحظة الحميمية طرقٌ على الباب، فقفزت من على الفراش بسرعة وهي تقول بصوت مرتفع.
" تفضل"
تحمحمت بغباء قبيل أن تغير صوتها لعجوز.
" أعني تفضل!"

ولجت الخادمة بقلقٍ طفيف.
" سيدتي أكل شيء على ما يرام؟ لقد سمعت صوت صراخ!"

سعلت قليلًا وهي تشير لها بيدها.
" كل الأمور بخير، اذهبي فحسب"

أومأت الخادمة وهي تجر فستانها الأسود نحو الخارج عقب قولها.

" سنُعلمُك عند تجهيز الغداء"

أشارت لها تسالدي بالتعجل في الخروج، تنهدت وهي تضرب جبينها.

" كدتِ تفضحينني!"

كان مساء ذلك اليومِ حارًا، في وقتٍ متأخر من الليل نهضت بنية العينين ووجهها بأكمله متعرق، مسحته بكلتا كفيها وهي تتجه نحو المرآة، كان شعرها المتموج مبعثرًا بشكل رهيب، وأطرافه التصقت على جبهتها ورقبتها، قامت بتمشيطه سريعا ثم عقصته.

أشعلت إحدى الشموع لتنير لها طريقها، كان بحثها الأوليّ عن المرحاض، سارت في الرواق المظلم وشعور الرهبة يخنقها، كان هذا المكان مكتظًا بالخدم صباح اليوم!

توجد حجرتها المؤقتة في الطابق الأرضيّ، وقفت عند نهاية الدرج تلقي نظرة نحو بدايته، همست وهي تدير وجهها عنه.
" هذا كبيرٌ جدا!"

طالت رحلتها الصغيرة، ولم تصل في النهاية لمبتغاها بل للمطبخ، كادت تتابع تقصي ما خلف بقية الأبواب لولا شعورها بشيء غريب، بقيت عند بابه تمد شعلتها لتنير لها أقصى ما تستطيع ويدها الأخرى تقبض على الباب، تحركت النار للخلف بسبب نسمات الرياح المقبلة من النافذة المفتوحة، نظرت نحوها دورثي.
' النافذة'

لم تقف كثيرًا حتى قررت الذهاب لولا أنها لمحت مقدمة حذاء يجلس صاحبها مختبئًا خلف الفرن،
شككت في ما رأته أولًا فمضت نحوه وقد تسلحت بملعقةٍ خشبية أخذتها من على الطاولة أثناء سيرها، وجهت الشعلة نحوه وقبل أن تصل إليه، يدٌ امتدت من خلفها وطوقت حركتها والأخرى كتمت صرختها الهلعة، وببسمةٍ متكلفة.

" صهٍ.. وكوني فتاة جيدة"

__◦࿚༺.༻࿙◦__



أخذت أطرافها تتراقص على سيمفونية الخوف، ونبضاتُ قلبِها ذاتَ أثرٍ على أذنيه، شهقةٌ فرّت منها حالما رفع يده الأخرى يمسح بها على رأسِها، فتصلب جسدها متحولة لدمية خشبية بمقل جاحظة، وخيالاتٌ ضبابُها بدأ ينقشع تدريجيًا مرت أمام مرآها.

لقد رأت فتاة حمراء الرأس تبكي، حجرٌ أسود يلمع، الدرجات وهي تزحف عليها، غريب هويّة أزرق يصفّق.

انتفض جسدها جزعًا والملعقة انفلتت من بين أصابِعها مصدرةً صوتًا ضعيفا على الأرض الرخاميّة، حينئذ أرخى يده من عليها، مبتعدًا.

عالقة هي في مكانها، تطالع نافذة المطبخ المفتوحة، والهواء يتسرب منها للداخل كما تتسرب بقايا قدرتها على الوقوف، ببطء تدحرج بؤبؤاها ينظران لجانبها حيثُ هو، دون تحريك أنملةٍ منها، علّه يظنها ماتت من الجزع واقفة ويذهب لسبيلِ حالِه!

لكنّ السنتيمترات بينهما لم تتمم نصف متر، هدوءه هذا يزيد من جزعها، إن أراد قتلها فليفعل وهي تدير له ظهرها، لا تريد رؤية دمائها تغادرها.

"دورثي إذن؟"

بللت حلقها وقد عادت تروس عقلِها للدوار لكن ببطء، بشكلٍ أصابها بالصداع، أنصتت أذناها لخطواتِه ذات الوقع الهادئ المثير للأعصاب، تنتظر ظهور أنيابِه وغرزها بلحمها، لكنّه كان بليدًا بنظراتِه تلك، كأن روحه مفقودة، عيناه بلا لمعة، قاتمان هما رغم صفاء البحرِ فيهما. كأنه لوحةٌ كل خطٍ فيها كان الأزرق، ورغم صفائه قاتم.

دحرج مقلتيه يتفحص المكان حوله، وبنبرتِه الذابلة تخلّلٌ لذهولٍ طفيف.

" كل هذا حقيقيّ.."

خالته يسخر وقد كان على لسانها التفوه بتلك الجملة قبله، ومشهد توجّه العالم نحو بقعةٍ سوداء إثر تصفيقتِه المجلجلة للقلوبِ تلك لا يزال ينخر عقلها، لكنّها أخلصت لدورها كدمية خشبية، تهدئ من تسارع نبضها كي لا يستشعر بوجوده.

" أنتِ هي.."

اكتفى بتلكما الكلمتان قبل أن يعاود لصمته، ازدردت ريقها تنتظر الفصل التالي من المسرحية، حتى انفرجت شفتاه لينبس.
" اجلسي"

لم تكن كلمته الصارمة تلك محركًا كافيًا لقدميها، قد حالت لقطعةِ خشبٍ واحدة والصمغُ يُبقيها ملتصقة بالأرض.

"قلتُ اجلسي"

إعادته لأمرِه بنبرةٍ أشد جعلها تهرع منفذةً أمره، كطالبة تخشى العقاب.
اتخذت أقرب كرسيّ لتُريح قدميها الهلاميتان، والمقابل له لأجلِ الحيطة والحذر.

" ظننتُ أن كل ما يطويه ذاك الحجر الفضاء الأسود فقط، لكن بدخولك انقشعت الظُلمة وتجسد أمام عيناي ما كان مخفيّا، كنتِ المفتاح لِبابٍ موصد، الخيطُ الذي بسحبِه تُحَل تلك العُقدة العويصة، أنتِ خلاصي من وحشتي، من اليوم حيثُ تخطّ قدماكِ سيكون موطني"

بتهدج تحدثت، كأنها ما عادت قادرة على تكوين الجمل.

" ما الذي تريده مني؟"

صمته أثار ريبتها، ونظرته المطولة لمنتصف عينيها جعل من أنفاسها تزداد اضطرابًا.

" أنتِ "
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.