alogin

شارك على مواقع التواصل



يغِطّون في نومِهم ومطبخُهم قد اقتُحِم.

" ما الذي تريده مني؟"

صمته أثار ريبتها، ونظرته المطولة لمنتصف عينيها جعل من أنفاسها تزداد اضطرابًا.

" أنتِ"

.

.

.

" أنتِ ممحاةٌ لسواد هذا العالم،
بقاؤكِ يعني نبضي.

شخصٌ لا يذكر معنى الإيثار كان أنا، أريد خلاصي بأي ثمنٍ ولو كنتِ جواري كجثة."

طالعته بجحوظ وقلبها يدق بعنفٍ راغبًا الهروب من قفصها، لكن حتى وإن خرج.. فلا يزال بين يديه!

" قد أكون السجين هنا، لكنّ لي رخصة"

بإنهائه لكلماته اهتزت الطاولة التي تجمعهم، ذعرت أريج وتشبثت بكرسيّها، وقبل أن يستوعب عقلها ما يحدث كانت الجدران البنية حولهم تتقشر، والبساط تهاوى للأسفل، تعلقت الطاولة بكرسيّيها في فضاءٍ حالك، تراه بوضوح هي، كأول مرة في شرفتها، عدا أن الشمس اختفت وبات ينبوع الضياء اليوم معدوم.

" هذا هو سجني، العالم بدونك"

فُغر فاهها والحلكة التي تكتسح المكان تزيد اضطراب نبضاتها، وكأنها ذهبت لأكثر بقعة فارغة في الفضاء، حيثُ اللا شيء، زادت هذه الفكرة من رهبتها
وقد تخيلت لو سقطت.. ستُصبح كتلك المخلفات التي يتخلص منها المكوك في الفضاء؟!

نظرت نحوه بأعين منفرجة وريقٍ جاف، فطالع ذعرها هذا بلوحةِ وجهه المتجمدة.

" ابكِ"

اختنقت بغصتها تطالعه وقد أوشكت على الهطول بالفعل.

" أ أبكي؟"

أومأ فاندفعت عيناها تفرز سائلها الشفاف، ويدها قد ابيضت لاشتداد قبضتها.

بقي هو يتأمل قطرتها حتى تترك أسفل ذقنها، وبدلًا من النزول نحو ثوبها قد تبددت في المنتصف، كاشفةً عن شعاعٍ ضوئي يشوب الحلكة، وكأنه مصباحٌ صغير لكن ضوءه لم يؤثر في الفراغ من حولهما.

كتمت شهقتها تطالع الشعاع لكنها خشيت لمسه، أخرج هو من جيبِ بنطاله قمقم فضّي، ودحرجه على الطاولة نحوها، لم تمتد يدها لتوقفه فسقط في حجرها.

طالعت القمقم بتعجب ثم نظرت نحوه، لم ينبس هو منتظرًا أن تمسها أصابعها، فتخلت عن قبضتها اليمنى تلتقطه عن حجرها، أردف هو حينها.

" اجمعيهم فيه"

طرفت بعينيها تحاول تجميع شتاتها تستوعب مطلبه، وبعد لحيظاتٍ أردفت بنبرةٍ غير متزنة.

" أتسخر مني؟"

"عقلكِ قد يتآكل، تنسين ما حدث، حياتكِ السابقة، لقاؤنا هنا.. لكن سبب وجودك محفورٌ داخلك، وتلك النقوش دلالتك"
لم يمنح لتروس عقلها فرصة للدوار، بل

شهقة فرت منها لاهتزاز الطاولة، فأسرعت تحكم قبضتيها على كرسيّها تضغط على جفنيها المُغلقين بقوة، وبسرعةٍ شديدة هوت للأسفل جاعلةً من شعرها يطير للأعلى.

كان اصطدام الأربعة قوائم شديد عليها، لم تكن من محبّي أرجوحة الدودة هي، وأثناء شهيقها وزفيرها كانت الجدران قد عادت، واختفى هو.

وهجٌ أزرق اخترق بنيتيها العالقتان على القمقم.

◦•●✿࿚༺.༻࿙✿●•

لا زلتُ على حالي، عقارِب الساعة تدق وتدق، فوهة الصنبور تقذف بقطرةِ ماء تلوَ الأخرى.

بينما أنا.. عاجزة مكاني.

مُحاطة بعالمٍ لم أفهمه، ولا أريد فهمه.

عيناي تحدقان في نقوش القمقم، وأنفاسي المضطربة قد استقرت،
ما الذي يحدث بالضبط؟

قد نهضتُ في الصباح، اتجهت لجامعتي، زاولت عملي من ثم قابلتُ جُمانة..

بعدها عدتُ للمنزل، أردتُ إعداد كوب قهوةٍ سوداء ومشاهدة برنامجي المفضل فحسب.

لكن ذاك الصوت من الظلام، وهذا الرجل.. ثقبٌ أسود انبثق وجذب كل شيء نحوه.

والآن.. أنا أنتحل دور فتاة لا أعرفها!

لقد كانت حياتي مملة لكني لم أرغب في تغييرها، لم أطلب بكسر قواعدها والطفو نحو الغيهب.

لم أعطاني هذا؟

من أين جاء هو أصلًا؟

لماذا أنا؟!

أرخيتُ رأسي بين يداي، والقمقم أمامي على الطاولة.

قد بدأ صداعٌ يداهمني، لا أدري ما عليّ فعله الآن.. هل أصعد وكأن شيئًا لم يكن؟
أم أغادر فحسب؟ ولإن فعلت لأين أذهب؟!

دلكتُ صدغاي وبات الأرقُ أسيري.

لن أبقَ هنا دقائق أخرى، عليّ الذهاب، لا يهم لأين لأغادر فحسب.
ترددتُ في أخذِ القمقم معي، لكنّي التقطتُه في النهاية.

ثم نهضتُ بخطواتٍ متعجلة نحو المخرج.

طالما أني لست بمنزلي، فكل بقعةٍ غريبة عني، والأشياء الغريبة لا تلائمني.

لم أُمهِل نفسي لانتعال أي حذاءٍ، بل غادرت في تهورٍ بخفّي، مستغلةً غفوة الحارِس لأفرّ بجلدي.

لم يكن بالطقسِ السيّء، هواءُ الفجرِ كان مسكنًا لآلام رأسي.

ودون شعورٍ منّي أخذَت قدماي تتسابقان كمن حُرِم من الركضِ لأمد.

الهواء يثلج روحي قبل جسدي، بينما شعري يرتطم بوجهي فيعيقني عن الرؤية، لكنّي لم أشأ لتلك اللحظة أن تنتهي، أريد عيشها لوقتّ أطول.

بأيّ طريقةٍ كانت سأهرب من هنا!


.

.

.

تباطأت خطواتي إثر وصولي لضواحي البلدة، لا يزال الوقتُ مبكرًا لكنّ المكان يضج بالحياة رغم ذلك، وكأنهم ينهضون مع أولِ أشعةٍ تُرسِلها الشمس.

الدكاكين مفتوحة والناس منتشرون، حاوطتُ جسدي بكلتا يداي إثر ملاحظتي لتحديقِ أحدهم بي.

أسرعتُ أبحث عن مكانٍ خالٍ أنزوي فيه لكنّ صرخة قريبة منّي أجفلتني.

" ماما..!"

التفتُ فإذ بطفلةٍ منهارة وحولها الجمعٌ يتزايد، يحاولون تهدئتها.

ما استنبطّه من الحدث هو أنها تائهة، لم أستطع البقاء فتابعت سيري متجاهلةً صخب الصغيرة تلك، إن كانت تائهة عن منزلها، فأنا تائهةٌ عن عالمي بأكملِه!

كما أن رأسي ثقيلةٌ بالفعل، وأكاد أغفى وأنا واقفة.

تخطّيت الحشود أجذب فتاتي نحو ذاك الزقاق، لكنّ امرأة سدت طريقي بعرضِ أكتافها، وقفت تحدق بي من قمةِ شعري المنكوش لخفيّ المنزلي.

طالعتها بتعجب أنتظر ابتعادها، وقد تغلبت روحي المتعبة علي.

" هل يمكنكِ التحرك قليلًا؟"

بتهدّجٍ وركاكة كانت كلماتي، انعدام حركة شفتيها جعلني أظنّ أنها لم تسمعني، ففرّقتُ بين شفتاي أستحثّ الكلمات أن تعلو هذه المرة.

" سيّدتي..! "

بُتِرت كلماتي لتجمّع الكثيرين حولي، لقد تركوا الفتاة هناك تبكي وجاءوا يحدّقون بي، أصبحتُ مركز الدائرة الآن!

هذا... لا يشعرني بتحسن!

" المعذرة؟"

تفوّهتُ بخفوت وقد بلغ التوتر ذروته داخلي.

تحدّث رجلٌ من المتحولقين حولي، وعلى إثرِه تتابعت الكلمات من الآخرين.

" انظر لها! لا أكاد أصدّق!"

" تركت الفتاة تبكي وتابعت طريقها!"

" لم تكلّف نفسها عناء التربيت على ظهرها حتى!"

" كيف تكونين بهذِه القسوة؟"

" أتمتلكين قلبًا أم قراميد؟"

انهارت فتاةٌ شقراء باكية وهي تضم قبضتيها عند صدرِها.

" كيف تعيشين الحياة وأنتِ.. متحجرةٌ هكذا بلا رحمة؟"

تجمّعوا حولَها يطبطبون على كتفها، وامرأةٌ أخرى احتضنتها تواسيها على البطون السوداوية التي تُخرج للعالم أشخاصًا قُساة.. مثلي؟!

ما هذا؟

هل يعانون من عطبٍ في عقولِهم؟!

أنا لم أفعل شيئًا!

بي ما يكفيني، لا ينقصني المزيد!

كما أن تلك الصغيرة التائهة لا تزال تصرخ هناك، ولم يعيروها انتباها!

صراخها يكاد يمزق طبقة الأوزون!

أعينهم تحدّق نحوي بازدراء واحتقار، ولم تتوقف كلماتهم المسننة عن التدافع لتمزيق ما تبقى من فُتاتي.

هذا كثيرٌ عليّ،

حقًا..

أظنني.. سأبكي.

طبقتان من الزجاج تجمّعتا على حدقتيّ، تذكرتُ مطلبه الغريب ذاك، فتهاطلت دموعي على وجنتيّ تمحو ما تبقى من ملامِحي السليمة.

أنا مُرهقة، كل ما أريده فراشيَ البارد!

لم أعد أسمع ما يقولونه، قليلٌ من الوقت وصوت بكائي ارتفع، لم تعد تلك الصغيرة تبكي بمفردها الآن..
أنا أؤنسها!

أصبح الأمر يثير الشفقة، والضحك في الآن ذاته.

هل أبدو حمقاء وأنا أصرخ كمن فقدت أمها في الزحام؟

لا سيمًا بهيئتي المبعثرة هذه!

وجدتُني أضحك عندما تخيّلتُ شكلي، رأسي شعره منكوش وأقف في الشارع بمنامتي وخفّي.

لو كنتُ أعلم أن موقفًا بهذا السوء سيُكتَب في إحدى صفحاتي، لوأدتُني في بطنِ أمي!

لم تعد رؤيتي طبيعيّة، فغشاءُ دموعي كان كثيفًا، لكن هُيّئ لي أن حالةً من الهدوء والسكينة حلّت عليهم، حتى صوتُ بكاء الفتاة تلك ما عُدتُ أسمعُه.

صوتٌ رنّان اخترق أذناي، على إثره انسحب الجميع من حولي، مهرولين نحو اتجاهٍ واحد.

بينما انخفض بكائي حتى تلاشى، ولم يبقَ سوى دموعي العالقة بأهدابِي.

رفعتُ يدي أمسح عيناي بكمّ ثوبي، وقد لاحظتُ اختفاء الفتاة الصغيرة خلفهم.

وبينما أحاول الحصول على رؤيةٍ أفضل بتكرارِ فتح وغلق عيناي، همسٌ خافِت جذب انتباهي.

"أنتِ يا فتاة"

استدرتُ برأسي فإذ برجلٍ عجوز يشير لي بالاقتراب، أثارت هيئته في نفسي الريبة، فمعطفه بالٍ ويغطي نصف وجهِه بقبعةٍ من القش.

تجاهلتُه وأنا أسير على جانِب الطريق، دون وجهةٍ محددة.

رفعتُ برأسي للأعلى أطالع زرقة السماء الصافية، قد برزت الشمس فيها أكثر، وكأن هُطولي يُشرِقها.

وبعد مروري من جوار زقاقٍ ضيّق،
يدٌ امتدت منه وكتمت فمي، ساحبة إيايّ لمكان مظلم.

ما بالُ الأيادي التي تظهر فجأةٍ هذه؟!

سحبني هذا المجهول لمنزلٍ ما، وأغلق الباب بسرعةٍ.

وجدتُني أقِف بترنّح في مكانٍ لا يدخله ضوء الشمس، استعدتُ تركيزي في أقل من دقيقةٍ كان هو يُشعل فتيل المصباح، ثم يغطيه بالزجاج.

نظرتُ إليه بخوفٍ وقد حاوطتُ جسدي، خفق قلبي بشدة عندما التفت نحوي، إنه ذاك العجوز المريب!

بحركةٍ استعراضيّة، خلع قبعة القش خاصته متحدثًا بنبرتِه المرتعشة.

" عذرًا للطريقة التي جلبتكِ بها لمنزلي، لكنّكِ لم تسمحي لي بغير هذا"

أظنني إما فقدتُ القدرة على الحديث، أو ابتلعتُ لساني.

لم أجد شيئًا أقوله!

سحب هو كرسيّا سبب صوت نشاز يحثني.

" اجلسي اجلسي"

لم آخذ كلماته كضِيافة، بل كأمر، وكأن صوت ذاك الأزرق عالقٌ في ذهني.

أيقظني الرجل من سهوتي بإشارته للكرسيّ مجددا، فجلست ولم تتدحرج حدقتاي عنه.

استهل هو بوتيرةٍ سريعة، وبسمة تشق وجهه وتزيد من تجاعيده.

" أنا لُفافة، صاحبُ القصصِ الخلابة، اختر أي نوع تريد، ستنسجه تروس عقلي لحظتها.

عن رجلٍ تحطم وجدانه بتحطم بلاده بعد حربٍ دامية، أم أنك رومانسيّ وترغب بمعرفة ما حدث لاثنان يبحثان عن الحب؟ أم أنك تحب المغامرة؟ رجلٌ قصير مشرد، يقابل ساحرًا يهديه قوة خاصة، فيتحول لمُحقق أمنيات؟ أم سفاح مُصاب بالجنون، يظن في قتله لكل من أخطأ تحقيقًا للعدالة؟ ما رأيك بشقيقان تيتما في عمرٍ مبكر، وبقرارٍ مندفع يهربان من مديرة الملجأ العنيفة؟"

لُجِم لساني أطالعه بجمود، بينما هو توقف عن الحركة وابتسامته لم تتقلص ينتظر إشارتي.

لمَ حدّثني بصيغة المذكر؟

هل حالي سيءٌ لهذا الحد؟!

لا يزال ينظر نحوي بهذه الطريقة المريبة، امتصصتُ شفتاي قبل أن أنبس، بنبرةٍ وهُنَت لشدةِ بكائي.

"أنا لا أريد سماع قصة"

تكفيني قصّتي!

تجهم وجهُه للحظة ثم عاد بشوشًا كما بالسابق، وهو يلح عليّ.

" لكنكِ تحتاجين لسماعِ قصة"

" لا، لا أحتاج لسماع قصة"

" بلى، أنتِ كذلك"

" قلتُ أني لا أريد سماع أي شيء، اتركني وشأني!"

خرج صوتي باهتًا بالكاد مسموع، وقد عادت عيناي تذرفان الدموع.

رماني هو بنظرةٍ غير راضية، قبل أن يغادر.

راقبتُ الباب وهو يُغلق، ويمكنني سماع صوت القفلِ من الخارج.

لن أُنكد على نفسي لأنه قام بحبسي الآن، على الأقل سأتمكن من النوم بعد الإنتهاء من البكاء!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.