GilbertKeith

شارك على مواقع التواصل

كان السيد موريس برَن والسيد أرمان أرمانياك يَعبُران شارع الشانزليزيه، الذي تسطَع
عليه الشمس، بنَوع من الوقار النابض بالحياة. كانا قصيرَين ونشيطَين وجريئَين، وكان
لكلٍّ منهما لحية سوداء لا يبدو أنها تتناسَب ووجهَيهما، وكانت تبعًا للموضة الفرنسية
الغريبة التي تجعل الشعر الحقيقي يبدو مُستعارًا. وكان للسيد برن قطعة مثلَّثة من
الشَّعر الداكن اللون تبدو وكأنها مُلصَقة أسفل شفتِه السُّفلى. أما السيد أرمانياك، فقد كان
له — من قَبيل التغيير — لحية بارزة على جانبَي ذقنِه الحاد. كانا شابَّين، وكانا مُلحدَين،
وكان لكلَيهما نظرةٌ ثابتة كئيبة، ولكنَّ فِكرَهما كان في حقيقة الأمر يتَّسم بالمرونة وتقبل
كبير للتغيير. كانا تلميذَين للعالِم والصحفي والداعية الأخلاقي الكبير الدكتور هيرش.
« أديو » لقد اشتُهر السيد برن بدعوتِه لحذْف الكلمة الفرنسية الشائعة الاستعمال
من جميع الأدبيات الفرنسية، وفرض غرامة زهيدة على (« في رعاية الرب » (التي تَعني
حينَها، سيدوي اسم رَبِّكُم المُتوهَّم للمرة » : استخدامها في الحياة الخاصة؛ إذ كان يقول
أما السيد أرمانياك، فقد كان متخصِّصًا في مقاوَمة النزعة العسكرية، «. الأخيرة في آذان البشر
لتصير « إلى السلاح، أيها المُواطِنون » وكان يأمُل أن تتغيَّر لازمة النشيد الوطني الفرنسيمن
غير أن معاداته للنزعة العسكرية كانت معاداةً غريبة من ،« إلى الإضراب، أيها المواطنون »
نوعِها وفرنسية الطابع؛ إذ كان رجلٌ إنجليزي مرموق وثري للغاية من الكويكرز قد جاء
لرؤيتِه والترتيب معه لنزع السلاح من العالم بأكمله، ولكنه أحُبط بدعوته بأنه يَنبغي على
الجنود (بادئ ذي بدء) أن يُطلقوا النار على ضباطهم.
وفي واقع الأمر، كان الرجلان مختلفين، في هذا الشأن، اختلافًا بعيدًا عن قائدهما
وأستاذهما في الفلسفة؛ فقد كان الدكتور هيرش، على الرغم من ولادته في فرنسا ونهله
من حسنات الظَّفَر بتعليم الفرنسيين، مختلفًا من الناحية المزاجية؛ إذ كان وديعًا وحالِمًا
وعطوفًا، وقد كان مع فكره المتشكِّك لا يَخلو من اعتناق فلسفة رُوحية. باختصار، كان
أقرب إلى الألمان من الفرنسيِّين؛ وعلى قَدر إعجابهما به، كان شيء في اللاوعي لدى هذَين
الغاليَين يَغضب من دعوته للسلام بطريقة مسالِمة للغاية. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان
أشباههما يعتبرون بول هيرش قدِّيسًا للعلم في جميع أنحاء أوروبا؛ إذ أفصحت نظرياتُه
الكونية الكبيرة والجريئة عن حياتِه المتقشِّفة وأخلاقه النقيَّة، وإن كانت تتَّسم بالجمود نوعًا
ما؛ فنال مكانة كلٍّ مِن داروين وتولستوي، لكنه لم يكن نصيرًا للفوضىولا مُعاديًا للوطنية؛
فقد كانت آراؤه حول نزع السلاح مُعتدلة وتطوُّرية، وقد وثقَت الحكومة الجمهورية ثقةً
كبيرة فيه وفي تحسيناته الكيميائية المتنوِّعة. وقد اخترع مؤخَّرًا مادة متفجرة صامتة، وهو
السر الذي كانت تُخفيه الحكومة بعناية.
كان منزله يقع في شارعٍ أنيق بالقرب من الإليزيه؛ شارع بدا في ذلك الصيف الشديد
الحرارة مُمتلئًا بأوراق الشجر كما لو كان حديقة؛ إذ بدَّد صفٌّ من أشجار الكستناء أشعة
الشمس، التي لم تتخلَّلْه إلا في مكان واحد حيث يمتدُّ مقهًى كبير إلى الشارع. وقبالته
تقريبًا كانت الستائر البيضاء والخضراء لمنزل العالم الكبير في شرفتِه الحديدية، المَطلية
باللون الأخضرأيضًا، تمتدُّ أمام نوافذ الطابق الأوَّل. أسفل ذلك يوجد مدخل المنزل المؤدي
إلى فِناء مزدهر بالشجيرات والبلاط، حيث مرَّ الرجلان الفرنسيان وهما يتحدثان حديثًا
مفعمًا بالحيوية.
فتح لهما الباب خادم الدكتور العجوز، سيمون، الذي كان هو نفسه يُشبه العلماء
كثيرًا ببدلته السوداء الجادة ونظَّارته وشعره الرمادي وطريقتِه الهادئة. في الواقع، كانت
هيئتُه تُوحي بأنه رجلُ علمٍ أكثر بكثير مما تُوحي هيئة سيدِه الدكتور هيرش، الذي كان
يشبه ثمرة فجل متشعِّبة برأس كبير يبدو معه جسمه ضئيلًا للغاية. بكل جدية، وكأنه
طبيب كبير يُعطي مريضه وصفة طبية، أعطى سيمون رسالة للسيد أرمانياك، ففتحها
الرجل بصبر نافد وقرأ ما يلي بسرعة:
لا يُمكنُني النزول للحديث معك؛ فهناك رجل في المنزل أرفضمقابلتَه، إنهضابط
شوفيني واسمه دوبوسك، يَجلس على الدرج وكان يَركل الأثاث في جميع الغرف
الأخرى؛ فحبستُ نفسيفي مكتبي المقابل للمقهى. إذا كنت تُحبني، فاعبر الشارع
إلى المقهى وانتظر عند إحدى الطاولات بالخارج. سأحُاوِل أن أرسله إليك. أريدك
أن تتحدث إليه وتتعامل معه؛ فلا يُمكنُني مقابلته بنفسي. لا يُمكنني، ولن أفعل.
إذ قد يتسبَّب ذلك في قضية دريفوس أخرى.
ب. هيرش
نظر السيد أرمانياك إلى السيد برن، وأخذ السيد برن الرسالة وقرأها ثم نظر إلى
السيد أرمانياك. بعد ذلك اتَّجه كلاهما سريعًا إلى إحدى الطاولات الصغيرة أسفل أشجار
الكستناء في الجهة المقابلة؛ حيث طلَبا كوبَين كبيرين من شراب الأفسنتين الأخضرالقوي،
الذي يبدو أنه كان يُمكنهما تناوله في كل طقس وأي وقت. بدا المقهى فارغًا إلا من جندي
واحد يشرب القهوة على إحدى الطاولات، وعلى طاولة أخرى جلسرجلٌ كبيرُ البِنية يَحتسي
شرابًا صغيرًا، وقسٌّ لا يشرب شيئًا.
بالطبع يتعيَّن علينا مُساعدة أستاذنا بكل وسيلة مُمكنة، » : تنحنح موريس برن وقال
«… ولكن
قد تكون لديه أسباب وجيهة لعدم مقابلته » : ساد الصمت فجأة، ثم قال أرمانياك
«… الرجل بنفسه، لكن
وقبل أن يتمكَّن أيٌّ منهما من إكمال جملته، كان من الواضح أن ذلك الشخصالمزعج
قد طُرد من المنزل المقابل. اهتزَّت الشجيرات أسفل الممر وابتعدَت بعضُها عن بعض، حيث
كان الضيف غير المرحَّب به ينطلق خارجًا من بينها مثل قذيفة مدفع.
كان رجلًا قوي البنية يرتدي قبعةصغيرة ومائلة أشبه بقبعات التيرولين، وهو مظهر
دَلَّ دون شك على أن الرجل كان له علاقة ما بمنطقة تيرول بوجه عام. كانَت كتفا الرجل
كبيرتَين وعريضتَين، لكن ساقَيه كانتا رشيقتَين وتُوحيان بالنشاط في بنطاله القصير
وجواربه المحيكة. كان وجهه بُنيٍّا مثل الجوزة؛ وكانت له عينان بُنِّيتان شديدتا اللمعان
والاضطراب، وكان شعره الداكن مُمشَّطًا للخلف وثابتًا من الأمام وقصيرًا جدٍّا على جانبَي
رأسه، الذي بدا بذلك مربَّعًا وصلبًا؛ وكان لديه شارب أسود ضخم مثل قَرْنَي بقرة من
أبقار البيسون. وكان هذا الرأس الكبير يستقر على رقبةٍ أشبه برقبة ثور، ولكنها كانت
مُغطَّاة بوشاح كبير ملوَّن يلتفُّ حول أذنَي الرجل ويَنسدل من الأمام إلى داخل سترته
مثل صدرية فاخرة. كانت ألوان الوشاح باهتة جدٍّا؛ أحمر داكن، وذهبي عتيق، وأرجواني،
وربما كان مصنوعًا في الشرق. بشكلٍ عام، كان في هيئة الرجلشيء يُوحي بمسحة بربرية؛
فقد كان أقرب إلى إقطاعيٍّ مجَريٍّ من ضابطٍ فرنسي عادي. غير أنه كان من الواضح أن
فرنسيتَه هي لغته الأم، وكانت وطنيتُه الفرنسية تنطوي على اندفاعٍ جعلها تبدو سخيفة
بعضالشيء. كان أول ما فعله عندما اندفع خارجًا من المَمر هو أن صاح بصوت جهوري
كما لو كان يُنادي على مسيحيِّين في مكة. «؟ هل مِن رجالٍ فرنسيِّين هنا » : في الشارع
وقف أرمانياك وبرَن على الفور، ولكنَّهما كانا متأخرَين للغاية؛ إذ كان الرجال
يَركُضون بالفعل من زوايا الشوارع، وتجمَّعَ حشد صغير ولكنه كان شديد التجمهُر.
بدافعٍ من الغريزة الفرنسية السريعة التي كانت تَميل إلى سياسة الشارع، كان الرجل
ذو الشارب الأسود قد ركض بالفعل إلى إحدى زوايا المقهى، وقفز على إحدى الطاولات،
وأمسك بفرعٍ من فروع شجر الكستناء ليُثبِّت نفسه، وصاح مثلما كان كامي ديمولان
يَصيح يومًا ما وهو يُبعثِر أوراق البلوط وسط العامة.
أيها الفرنسيون، لا يسعني الحديث! ليساعدْني الرب؛ فلهذا » : صاح فيهم قائلًا
أخاطبكم! إنهم في برلماناتهم القَذرة يتعلمون الكلام، ويتعلمون الصمت أيضًا؛ صمتٌ
كصمت ذلك الجاسوسالمختبئ جُبنًا في المنزل المقابل! كان صامتًا عندما قرعتُ باب غرفة
نومه! كان صامتًا كصمتِه الآن رغم أنه يَسمع صوتي عبر هذا الشارع، ويَنتفِض حيث
يَجلس! أوه، يُمكن لصمتهم أن يكون بليغًا؛ أولئك السياسيين! ولكنَّ الوقت قد حان لنا نحن
الذين لا يُمكنهم الكلام لأن نتكلَّم. إنكم تتعرَّضون للخيانة لصالح البروسيِّين. تتعرَّضون
للخيانة في هذه اللحظة. تتعرضون للخيانة من ذلك الرجل. أنا جول دوبوسك، كولونيل
مدفعية بلفور. أمسكنا أمس بجاسوس ألماني في جبال الفوج، ووجدْنا معه ورقة؛ هذه
الورقة التي أحملها في يدي. أوه! لقد حاوَلوا كتمان الأمر؛ ولكني أخذتُها على الفور للرجل
الذي كتبها؛ إنه الرجل الذي في ذلك المنزل! إنها بخطِّ يده، وموقَّعة بأحرف اسمه الأوُلى.
إنها تحوي تعليمات للعثور علىسرهذا المسحوق الصامت الجديد. اخترعه هيرش؛ وكتب
هيرش هذه الملاحظة عنه. هذه الملاحَظة مكتوبة باللغة الألمانية، ووجدْناها في جيب رجل
أخبِر الرجل أن التركيبة الخاصة بالمسحوق موجودة في ظرف رمادي في الدرج » . ألماني
الأول إلى يمين مكتب الوزير، في وزارة الحربية، بالحبر الأحمر. عليه أن يتوخَّى الحذر.
««. ب. ه
جلجلَ بجُمَل قصيرة كمسدَّس سريع الطلقات، لكن من الواضح أنه كان من ذلك
النوع من الرجال الذين إما أن يكونوا مجانين أو صادقين. كان الحشد من القوميِّين،
وكانوا يَصيحون متوعِّدين؛ مع قلَّة من المثقفين الذين لا يقلُّون غضبًا عنهم، بقيادة
أرمانياك وبرَن، ما جعل الأغلبية أكثر تطرُّفًا.
«؟ إذا كان هذاسرٍّا عسكريٍّا، فلماذا تصدَعُ به في عرضالشارع » : صاح برن قائلًا
سأخُبرُك بالسبب! ذهبتُ لهذا الرجل » : صرخ دوبوسك ليعلوَ صوته أصوات الحشد
بطريقة مباشِرة ومتحضِّرة؛ فلو كان لديه أي تفسير للأمر، لكان أخبرني به بكل ثِقة؛
ولكنَّه رفض أن يوضِّح. وأحالَني إلى غريبين يجلسان في المقهى، كما لو كان يُحيلني إلى
«! خادمَيه. طرَدَني من منزله، ولكني سأرجع إليه وشعب باريس من ورائي
بدا وكأن هتافًا هزَّ واجهة المنزل، وقُذِف حجَران، فحطَّم أحدهما نافذةً أعلى الشرفة.
دلف الكولونيل الغاضب مرةً أخرى إلى الممر، وسُمع يَصيح ويتوعد من الداخل. في كل
لحظة كان طوفان البشريزداد أكثر فأكثر، ويصعد على سور منزل الخائن ودَرَجه؛ وكان
من المؤكد أنهم سيقتحمون المكان كما اقتُحم الباستيل. عندئذ فُتحت النافذة الفرنسية
المكسورة وخرج الدكتور هيرش إلى الشرفة. للحظة، تحول الغضب إلى ضحك؛ إذ ظهرت
شخصية سخيفة في هذا المشهد. كانت رقبتُه الطويلة العارية وكتفاه المائلتان على شكل
زجاجة شمبانيا، لكن ذلك كان الشيء المبهج الوحيد فيه. كان معطفه معلقًا عليه كما لو
كان على خنزير، وكان شعره طويلًا وخفيفًا ولونه مثل لون الجزر، وكان على خدَّيه وذقنِه
لحية مُثيرة للغيظ محفوفة الأطراف بالكامل وتبدأ من موضع بعيد عن فمه. كان شديد
الشحوب ويَرتدي نظارة زرقاء.
كان حانقًا كعادته، ويتحدَّث حديث المتَّخذ قرارًا صارمًا، مما جعل الحشد يَلتزم
الصمت في منتصف جملته الثالثة.
شيئان فقط أقولهما لكم الآن: الأول لأعدائي، والثاني لأصدقائي. لأعدائي أقول: …»
صحيحٌ أنني لن أقابل السيد دوبوسك، على الرغم من اقتحامه لمنزلي ووقوفه خارج هذه
الغرفة التي أنا فيها الآن. وصحيحٌ أنَّني طلبت من رجلَين آخرَين مواجهته بدلًا مني.
وسأخُبرُكم بالسبب! ذلك لأنني لن أراه ويجب ألا أراه؛ لأنَّ من شأن رؤيتِه أن تكون فعلًا
مُخالفًا لكل قواعد الكرامة والشرف. قبل أن تُعلن براءتي مُنتصرًا أمام محكمة، ثمة تحكيم
آخر يَدينُ لي به هذا الرجل المحترم بصفتي رجلًا محترمًا وهو المبارزة، وفي إحالتي إياه إلى
«… مساعديَّ، أنا
كان أرمانياك وبرن يُلوِّحان بقبعتَيهما بقوة، وحتى أعداء الدكتور صفقوا عاليًا لهذا
التحدِّي غير المتوقَّع. مرة أخرى كانت بعضالجمل غير مسموعة، لكنَّهم تمكَّنوا من سماعه
إلى أصدقائي، إنني أفُضِّل دائمًا الأسلحة الفكرية الخالصة، ومن المؤكد أن » : وهو يقول
الإنسانية المتحضرة ستقتصرعليها دون غيرها، لكن حقيقتنا الأنفَس هي القوة المؤسسة
لنا المتمثِّلة في المادة والوراثة. كتبي ناجِحة ونظرياتي لا يُمكن دحضها؛ لكنِّي أعُاني في
السياسة من التحيُّز المادي في أغلب الأحيان بسبب فرنسيتي. لا يمكنني التحدُّث مثل
كليمنصو وديروليد؛ فكلماتهم كدوي مسدَّساتهم. يريد الفرنسيون رجلًا مبارزًا كما يُريد
الإنجليز رجلًا ذا روح رياضية. حسنًا، ها أنا أقدم لكم حججي: سأَدفع هذه الرشوة
«. البربرية، ثم أعود إلى المنطق لبقيَّة حياتي
ظهر على الفور رجلان في الحشد نفسِه لتقديم المساعدة للكولونيل دوبوسك، الذي
خرج الآن راضيًا. أحدهما كان الجندي العادي الذي كان يَحتسيالقهوة، الذي قال بعفوية:
أما الآخر فكان الرجل الكبير البِنية، الذي سعى «. سأنوب عنك يا سيدي. أنا دُوق فالوني »
صديقُه القسُّ ليُثنِّيه في البداية، ثم سار وحده مبتعدًا.
في أول المساء، قُدِّم عشاء خفيف في الجزء الخلفي من مقهى شارلمان. على الرغم
من أن المقهى لم يكن له سور زجاجي أو مُذهَّب، كان الزبائن جميعهم تقريبًا يجلسون
أسفل سقف هش وغير منتظم من أوراق الشجر؛ حيث تُحيط أشجار الزينة السميكة
للغاية بالطاولات وتتخلَّلها وتُظلِّلها مضفيةً إظلامًا وسحرًا كما لبستان صغير. على إحدى
الطاولات في المنتصَف جلس قسٌّ قصير وبدين في عزلة تامة، وانكبَّ على كومة من المُقبلات
من السمك الصغير بأقصىدرجات الاستمتاع. كانت حياته اليومية شديدة الرتابة، وكان
لديه تذوُّق خاصٌّللمُتع المفاجئة والمنعزلة؛ فقد كان ذوَّاقة ولكن باعتدال. لم يَرفع عينيه
عن طبقه، حيث كان الفلفل الأحمر والليمون والخبز البُني والزبد وغيرها من المكونات
مرتَّبة حوله بأناقة، حتى سقط ظل طويل على الطاولة، وجلس صديقُه فلامبو أمامه. كان
فلامبو حزينًا.
أخشىأنني يجب أن أترك هذه القضية؛ فأنا أؤيد تمامًا الجنود الفرنسيِّين » : قال بتأثُّر
أمثال دوبوسك، وأعُارض بشدة الملحدين الفرنسيين أمثال هيرش؛ ولكن يبدو لي في هذه
القضية أننا قد ارتكبْنا خطأً. فكَّرت أنا والدوق أيضًا في التحقيق في التهمة، ويجب أن أقول
«. إنَّني سعيد لأننا فعلنا ذلك
«؟ هل الورقة مزوَّرة إذن » : فسأله القس
هذا هو الغريب في الأمر؛ فالخط يُشبه تمامًا خط هيرش، ولا يُمكن لأحد » : ردَّ فلامبو
أن ينتبه لوجود أي خطأ في الأمر، ولكن هيرش ليس من كتبها؛ لأنه لو كان وطنيٍّا فرنسيٍّا
لما كتبها؛ لأنَّها تُعطي معلومات لألمانيا. ولو كان جاسوسًا ألمانيٍّا لما كتبها أيضًا؛ لأنها لا
«. تُعطي معلومات لألمانيا
«؟ أتعني أن المعلومات غير صحيحة » : سأله الأب براون
نعم، غير صحيحة، وخاصة لو افترضْنا أن الدكتور هيرش أراد أن » : أجابه الآخر
يُوصِّل معلومةصحيحة عن المكان الذي يُخبِّئ فيه تركيبتَه السرية في مكتب الجهة الرسمية
المعنية في بلده. بموافقة هيرشوالسلطات، سُمح لي وللدوق بتفتيشالدرج السرِّي في وزارة
الحربية حيث تركيبة هيرشالسرية. كنا نحن الوحيدَين العالمَين بالأمر، ناهيك عن المُخترِع
نفسه ووزير الحربية، ولكن الوزير سمح بالأمر كي يُجنِّب هيرش القتال. بعد ذلك، لا
«. يُمكننا حقٍّا دعم دوبوسك إذا كان ادعاؤه متوهَّمًا
«؟ وهل هو كذلك » : تساءل الأب براون
إنه كذلك؛ إنه تزييف أحمق من شخصٍلا يعرف شيئًا عن المخبأ » : رد صاحبه أسِفًا
الحقيقي؛ إذ يدَّعي أن الورقة موجودة في الخزانة على يمين مكتب الوزير، ولكنَّ الحقيقة
أن الخزانة ذات الدرج السرِّي تقع إلى يسار المكتب. كما يدَّعي أن الظرف الرمادي يحتوي
على وثيقة طويلة مكتوبة بالحبر الأحمر، ولكنَّها ليست مكتوبة بالحبر الأحمر، بل بحبرٍ
أسود عادي. من المنافي للمنطق بوضوح أن نقول إن هيرشيُمكن أن يكون قد أخطأ بشأن
ورقة لم يكن أحد يعرف بوجودها سواه؛ أو أنه يُمكن أن يكون قد حاول مساعدة لصٍّ
أجنبي بتوجيهه إلى الدرج الخطأ. أعتقد أنه علينا التراجُع عن هذا الاتهام والاعتذار للرجل
«. العجوز ذي الشعر الجزَري اللون
هل أنت متأكِّد » : بدا أن الأب براون يُفكِّر، ورفع شوكته ببعضالسمك الصغير، وسأله
«؟ من أن الظرف الرمادي كان في الخزانة اليُسرى
«… نعم، الظرف الرمادي، في الواقع كان ظرفًا أبيض، كان » : رد فلامبو
وضع الأب براون السمكة الفضِّية الصغيرة والشوكة وحدَّق في صاحبه، ثم سأل
«؟ ماذا » : بصوت مُغاير
«؟ حسنًا، ماذا » : كرَّر فلامبو وهو يأكل بنهم
«. لم يكن رماديٍّا، لقد أرعبتَني يا فلامبو » : قال القس
«؟ بحقِّك، ماذا أرعبك »
يُرعبني أن يكون الظرف أبيض إذا كان من المفترض أن يكون » : قال الآخر بجدية
رماديٍّا! تمهَّل، فقد يكون رماديٍّا بالفعل؛ ولكن إن كان أبيض، فسيُصبح الأمر برمَّته أسود.
«. على كل حال؛ فالدكتور كان يستخدم بعضًا من الكبريت القديم
لكنِّي أقول لك إنه لا يُمكن أن يكون قد كتب ورقة كهذه! فما فيها » : صرخ فلامبو
منافٍ تمامًا للحقائق؛ وبصرف النظر عن كون الدكتور هيرش بريئًا أو مُذنبًا، فهو يَعرف
«. الحقائق جيدًا
الرجل الذي كتب هذه الورقة كان يَعرف كل شيء عن » : قال صديقه القسُّ برزانة
الحقائق؛ فلا يُمكنه أن يحرفها هكذا إلا إذا كان يعلمها. يجب عليك أن تعرف قدرًا كبيرًا
«. من الحقائق كي تعرف كيف تُخطئ في كل شأن؛ مثل الشيطان
«؟… هل تعني »
أعني أن مَن يكذب من المحتمَل أن يكون في حديثه بعض » : قال صديقه متيقنًا
الحقيقة؛ لنفترضأن أحدًا أرسلك للبحث عن منزل بباب أخضروستارة زرقاء، وبحديقة
أمامية ولكن ليس بحديقة خلفية، وبه كلب وليس قطة، وحيث يَشرب أهله القهوة وليس
الشاي. إن لم تجد بيتًا كهذا، فستقول إن الأمر برمته مختلَق، ولكني أقول لك لا؛ فإن
وجدتَ بيتًا بابه أزرق وستائره خضراء، وله حديقة خلفية لكن ليس له حديقة أمامية،
وحيث تَنتشِر القطط ولا تَظهر الكلاب إلا نادرًا، وحيث يَشربون الشاي كثيرًا والقهوة
ممنوعة؛ فاعلم حينئذٍ أنك وجدت المنزل. لا بدَّ أن الرجل يعلم المنزل جيدًا كي يتمكَّن من
«. أن يكون غير دقيق في وصفه بدقَّة
«؟ ولكن ماذا يعني ذلك » : سأل صديقه الجالس أمامه
لا يُمكنني التفكير في شيء؛ لا أفهم أمر هيرش هذا على الإطلاق. ما دام » : قال براون
الأمر يَقتصرعلى كون الظرف في الدرج الأيسَروليس الأيمن، وعلى حبرٍ أحمر بدلًا من حبرٍ
أسود، فأعتقد أنه لا بد من أن المزوِّر أحمق كما قلت، ولكن لدينا هنا ثالثة الأثافي، التي
تحسم الأمر. الأمر مُنتهٍ؛ فلا يُمكن ألا يكون أي من اتجاه الدرج ولون الحبر ولون الظرف
«. صحيحًا بالصدفة، لا يُمكن أن يكون هذا خطأً عارضًا. لا يُمكن
«؟ فماذا كان الأمر إذن؟ أكان خيانة » : فسأل فلامبو وهو يُكمل طعامه
لا أعلم ذلك أيضًا؛ الشيء الوحيد الذي يُمكنُني » : أجاب براون وعلى وجهِه نظرةٌ حائرة
التفكير فيه … حسنًا، لم أفهم قط قضية دريفوستلك. يُمكنني دائمًا فهم الأدلة الأخلاقية
أسهل من غيرها من الأدلة. أتبع عيني الشخص وصوته، كما تَعلم، وما إذا كانت عائلته
تبدو سعيدة، والأمور التي يَختارها ويتجنَّبها. حسنًا، حيَّرتْني قضية دريفوس، ولكن
ليس بسبب أمور مروِّعة تقودُني لطريقين مختلفَين؛ فأنا أعلم (على الرغم من أنه ليس من
التحضُّرأن أقول ذلك) أن الطبيعة البشرية حتى وإن كان الشخصفي أعلى المراتب ما زالت
قادرة على أن تُنتجَ لنا أمثال سينسيأو بورجيا، بل إنَّ ما حيَّرني هو إخلاصكلا الطرفَين.
لا أعني الأحزاب السياسية؛ فأتباعها غالبًا ما يكونونشرفاء، وعادةً ما يتمُّ خداعهم، ولكنِّي
أعني الأشخاصالفاعِلين. أعني المتآمِرين، إن كانوا متآمِرين. أعني الخونة، إن كانوا خونة.
أعني الرجال الذين لا بدَّ من أنهم على علمٍ بالحقيقة. حتى الآن يستمر دريفوسعلى موقفه
كرجل يعرف أنه مظلوم، وحتى الآن أيضًا يستمر رجال الدولة والجنود الفرنسيُّون على
موقفهم كما لو كانوا لا يعلمون أنه رجل مظلوم، وإنما ببساطةٍ رجل مُذنِب. لا أعني أنهم
أحسنوا التصرف، بل أعنى أنهم تصرفوا كما لو كانوا واثقين فيما يفعلون. لا يُمكنني
«. وصف هذه الأمور، ولكني أعلم ما أعنيه
«؟ ليتَني كنت كذلك، ولكن ما علاقة ذلك بهيرش العجوز » : قال صديقه
لنفترضأن شخصًا موضع ثقةشرع في إعطاء الأعداء معلومات » : واصل القسحديثه
لأنها كانت معلومات مزيَّفة؛ ولنفترضأنه كان مع ذلك يُدافع عن بلده بتضليل الأجانب؛
ولنفترض أن ذلك أوقع به في دوائر الجواسيس، وأنه اقترض بعض المال، وأنه تورط
في بعض الأمور؛ ولنفترض أنه أبقى على موقفه المتناقض بطريقة مبهمَة بعدم إخباره
الجواسيس الأجانب بالحقيقة مطلقًا، ولكنه أتاح لهم الفرصة أكثر فأكثر لتخمينها؛ فإن
لم أساعد الأعداء؛ » : الجانب الأفضل في شخصيته (أو ما تبقى منه) سيظل يقول لنفسه
ولكن » : أما الجانب الأكثر وضاعةً في شخصيته فسيقول «. فقد قلت إنها في الدرج الأيمن
أعتقد أن ذلك «. لا بد أن لديهم من الذكاء ما يُمكنهم من معرفة أن ذلك يعني الدرج الأيسر
«. مُمكن من الناحية النفسية؛ في عصرٍمستنير، كما تعلم
قد يكون ذلك مُمكنًا من الناحية النفسية، وهو ما من شأنه أن يفسِّر » : ردَّ فلامبو
بالتأكيد ثقة دريفوس في أنه مظلوم وثِقة من يَدينونه في أنه مُذنب، ولكنه لا يُمكن أن
يكون كذلك من الناحية التاريخية؛ لأن وثيقة دريفوس (إن كانت وثيقته بالفعل) كانت
«. صحيحة حرفيٍّا
«. لم أكن أفكِّر في دريفوس » : قال الأب براون
كان الصمت قد ساد حولهما مع فراغ الطاولات من الزبائن، وكان الوقت قد تأخَّر،
غير أن ضوء الشمس كان لا يزال باقيًا على كل شيء كما لو كان قد تعثَّر في الأشجار
وعلَق بها. في هذا السكون بدَّل فلامبو مقعده بحدة، مُصدِرًاضوضاء مفاجئة وذاتصدًى،
حسنًا، إن لم يكن هيرش » : وألقى بمرفقه فوق زاوية المقعد. وقال بصوتٍ أجشَّ نوعًا ما
«… أكثر من واحد من المُتاجِرين الجُبناء بالخيانة
يجب ألَّا نقسوَ عليهم؛ فالخطأ ليس خطأهم وحدهم، وإنما » : قال الأب براون برفْق
ليست لديهم أي فطرة. أعنى تلك الأشياء التي تجعل امرأة تَرفُض الرقص مع رجل أو
«. التي تجعل رجلًا يُحوِّل أمواله من استثمار لآخر؛ فقد تعلموا أن كلشيء نسبي
على أي حال، إنه لا يَختلف كثيرًا عن الفاعل الأصلي الذي » : صاح فلامبو مُنزعِجًا
أبحث عنه؛ وعليَّ أن أمضيفي الأمر. قد يكون العجوز دوبوسك مجنونًا بعضالشيء، ولكنه
«. وطني بشكل أو بآخر على كل حال
تابع الأب براون تناوله للسَّمك الصغير.
شيء ما في الطريقة اللامبالية التي فعل بها ذلك جعل عينَي فلامبو السوداوَين
ما خطبُك؟ دوبوسك على حقٍّ إذن. » : الغاضبتَين تجولان في وجهصاحبه مرة أخرى، وسأله
«؟ ألا تشكُّ فيه
يا صديقي، إنني » : قال القسُّ الصغيرُ البِنيةِ وهو يضع سكينه وشوكته في يأسٍ فاتر
أشكُّ في كل شيء. وبكل شيء؛ أعني ما حدَث اليوم. أشك في القصة كلها، على الرغم من
أنها حدثَت أمام عيني. أشكُّ في كل مشهد رأته عيناي منذ الصباح. ثمَّة شيء في هذا الأمر
يَختلف كثيرًا عن الألغاز البوليسية العادية التي يكون فيها أحد الأطراف كاذبًا بشكل أو
بآخر والطرف الآخَر صادقًا بشكلٍ أو بآخر. الرجلان هنا … حسنًا! لقد أخبرتُك بالنظرية
«. الوحيدة التي يُمكنني التفكير فيها والتي يُمكن أن تُقنع أي أحد، ولكنَّها لا تُقنعني
ولا تُقنعني أنا » : رد فلامبو عابسًا بينما واصلَ الآخَر تناوله للسمك بتقبُّل تامٍّ للواقع
أيضًا؛ فإذا كان كل ما تقترحه هو فكرة أن الرسالة بها تناقُضات، فإنني أسُمي ذلك ذكاءً
«؟ منقطع النظير، ولكن … حسنًا، ماذا تُسمِّيه
أسُميه ضعفًا، ضعفًا منقطع النظير، ولكن هذا هو الشيء » : قال القس على الفور
الغريب في الأمر برمَّته. إنها كذبة ككذبات تلامذة المدارس. ولا يوجد سوى ثلاثة احتمالات؛
كلام دوبوسك وكلام هيرش وتخيُّلي الشخصي. فإما أن يكون قد كتب هذه الورقة ضابط
فرنسي ليقضيَ على مسئولٍ فرنسيٍ؛ وإما أن يكون المسئول الفرنسي قد كتبها لمساعدة
الضباط الألمان؛ وإما أن يكون المسئول الفرنسي قد كتبها لتضليل الضباط الألمان. حسنٌ
جدٍّا. ما تتوقَّعه في ورقةسرِّية كهذه تُتداوَل بين مثل هؤلاء الأشخاص، مسئولين وضباطًا،
أن تكون مختلفةً اختلافًا كبيرًا عن ذلك. تتوقَّع أن يكون بها شفرة ربما، أو اختصارات
بالتأكيد، أو أن يكون بها، بتأكيد تام، مصطلحات علمية ومهنية دقيقة، ولكن محتوى هذه
في المغارة الأرجوانية ستجد الصندوق » : الورقة ساذج للغاية كمجلات الجريمة الرخيصة
«. تبدو وكأنها … وكأنها كان المقصود أن يُفهم المستهدف منها على الفور «. الذهبي
قبل أن يتمكَّنا من استيعاب الأمر، مشى إلى طاولتِهما مُندفِعًا شخصٌ قصير يَرتدي
زيٍّا عسكريٍّا فرنسيٍّا وجلس بشيء من الاندفاع.
لديَّ أخبار غير عادية، لقد أتيت للتوِّ من عند الكولونيل. إنه يَحزم » : قال دوق فالوني
«. حقائبه لمغادَرة البلاد، ويطلب منا أن نعتذر نيابة عنه في الميدان
«؟ ماذا؟ نعتذر » : صاح فلامبو غير مصدِّق بفزع شديد
نعم، في التو واللحظة، أمام الجميع، بينما الأمر لا يزال على » : قال الدوق بفظاظة
«. أشده. وعلينا أنا وأنتما أن نفعل ذلك بينما يغادر البلاد
ولكن ما الذي يُمكِن أن يَعنيه هذا؟ لا يُمكن أن يكون » : صاح فلامبو في غضب مبرَّر
«! خائفًا من ذلك التافه هيرش! تبٍّا! لا يُمكن أن يخاف أحد من هيرش
أظن أن في الأمر مَكيدة ما! مكيدة من نوعية مكائد اليهود » : رد فالوني بحدَّة
«… والماسونيِّين؛ فالمقصود هو إعلاء صيت هيرش
كان وجه الأب براون عاديٍّا، ولكنه كان مسرورًا على نحو يُثير الفضول؛ فمِن شأنه
أن يشع بالجهل وبالمعرفة كذلك، ولكن كان يبقى دائمًا شعاع واحد عندما يسقط قناع
الجهل ويفرض قناع الحكمة نفسه؛ وقد عرف فلامبو، الذي يعرف صاحبه، أن صاحبه
قد فهم الأمر فجأة. لم يقل براون شيئًا، ولكنه أنهى طبق السمك.
«؟ أين رأيت الكولونيل المبجل آخر مرة » : سأل فلامبو منفعلًا
كان يتجوَّل في فندق سان لوي بالقرب من الإليزيه، حيث ذهبْنا معه بالسيارة. أؤكِّد »
«. لكما أنه يَحزم حقائبه
«؟ هل تعتقد أنه ما يزال هناك » : سأله فلامبو وهو ينظر عابسًا إلى الطاولة
«… لا أعتقد أنه قد رحَل بعد؛ فهو يَحزم حقائبه للسفر في رحلة طويلة » : رد الدوق
بل لرحلة » : لكنه انتصب واقفًا فجأة وقال «. لا» : قال الأب براون ببساطة شديدة
قصيرة جدٍّا. لرحلة من أقصرالرحلات في الواقع، ولكن ربما ما يزال أمامنا الوقت لنلحق
«. به إذا استقلَلنا سيارة أجرة إلى هناك
لم يَنبسْ ببنت شفة حتى مرت سيارة الأجرة بناصية فندق سان لوي حيث خرجوا
منها، وقاد المجموعة إلى ممرٍّ جانبي كان يكتنفه بالفعل ظلٌّ دامسٌ مع تزايُد الغسَق. مرة
واحدة، عندما سأل الدوق بانزعاجٍ عما إذا كان هيرش مرتكبًا للخيانة أم لا، أجاب بذهنٍ
ثم أضاف إضافةً تكاد لا «. لا؛ فجريمته الوحيدة هي الطموح، مثل قيصر » : شارد قليلًا
«. إنه يعيش حياةً وحيدة جدٍّا؛ إذ كان عليه أن يفعل كلشيء لنفسه » : تتَّسق والسؤال
حسنًا، إن كان طموحًا، فلا بد من أنه يَشعر بالرضا الآن؛ » : قال فلامبو ببعضالمرارة
«. فستهتف له باريس كلها بما أن الكولونيل اللعين فرَّ هاربًا
لا ترفع صوتك عاليًا جدٍّا؛ فالكولونيل اللعين أمامنا » : قال الأب براون خافضًا صوته
«. مباشَرةً
جفل الاثنان الآخران وتراجَعا إلى ظلِّ الجدار؛ إذ كان يُمكن بالفعل رؤية هيئة متَّهمهم
الهارب القوي البنية وهو يمشي مجرجرًا قدميه في ضوء الشفق أمامهما، حاملًا حقيبة في
كل يد. بدا شكله إلى حدٍّ كبير كما رأياه أول مرة، باستثناء أنه كان قد غيَّر بنطال تسلُّق
الجبال القصير الزاهي ببنطال تقليدي. كان من الواضح أنه كان بالفعل يهرب من الفندق.
كان الزقاق الذي اتَّبعوه فيه واحدًا من تلك الأزقَّة الخلفية، التي تبدو أنها في خلفية
الأشياء، وتبدو وكأنها على الجانب الخطأ من المشهد المسرحي. يمتدُّ جدار عديم اللون على
طول أحد جانبَيه، وتقطعه على مسافاتٍ أبواب باهتة الألوان وملطَّخة بالأوساخ، وكلها
مغلَقة بإحكام ولا معالم تُميِّزها باستثناء خربشات طباشير لبعض أطفال الشوارع.
ظهرت قمم الأشجار، التي كان معظمها من الأشجار الدائمة الخضرة الباعثة على الكآبة،
بين الحين والآخَر أعلى الجزء العلوي من الجدار، ووراءها كان يُمكن رؤية خلفية بعض
الشرفات الطويلة لمنازل باريسية عالية وسط اللونَين الرمادي والأرجواني للغسق، قريبة
نسبيٍّا حقٍّا، ولكنها كانت تبدو على نحو ما بعيدة المنال، كسلسلة من الجبال الرخامية.
على الجانب الآخر من الزقاق امتدَّ سورٌ مُذهَّب عالٍ لحديقة كئيبة.
أتعلم، ثمة شيء بشأن هذا » : كان فلامبو ينظر حوله بطريقة غريبة نوعًا ما، وقال
«… المكان
«! انتبها! لقد اختفى الرجل. تبخَّر، كجني لعين » : صرَخ الدوق بحدة
«. لدَيه مفتاح، ولم يذهب إلا إلى أحد أبواب الحديقة تلك » : قالصديقهما القسُّمُفسِّرًا
وفي أثناء حديثه سمعوا أحد الأبواب الخشبية الباهتة اللون يُغلق مرة أخرى مع صوت
طقطقة مزلاج أمامهم.
مشىفلامبو إلى الباب الذي أغُْلِق تقريبًا في وجهه، ووقف أمامه للحظة وهو يعضُّعلى
شاربه الأسود في فضول فائق. ثم ألقى بذراعيه الطويلتين وأرجح نفسه عاليًا مثل القرد
ووقف فوق الجدار، وكانت بِنيَتُه الضخمة قاتمة في السماء الأرجوانية، مثل قمم الأشجار
المظلمة.
إن هروب دوبوسك أكثر إحكامًا مما ظننا، ولكنَّني » : نظر الدوق إلى القس، وقال
«. أعتقد أنه يهرب من فرنسا
«. إنه يهرب من كل مكان » : أجاب الأب براون قائلًا
«؟ هل تقصد الانتحار » : لمعت عينا فالوني ولكن انخف صوته، وتساءل
«. لن تعثر عليه » : رد الآخر
أصدر فلامبو على الجدار بالأعلى صوتًا يشبه الصراخ، وبالفرنسية قال متعجبًا:
يا إلهي! عرفت الآن هذا المكان! عجبًا! إنه الجهة الخلفية للشارع الذي يسكن فيه العجوز »
هيرش. كنت أعتقد أنه يمكنني معرفة منزل من خلفيته كما يُمكنني معرفه الرجال من
«. ظهورهم
لقد ذهب دوبوسك إلى هناك! عجبًا! سيَلتقيان في » : صاح الدوق ضاربًا على فخذه
وبحيوية فرنسية مباغتة قفز عاليًا على الجدار بجوار فلامبو وجلسهناك يتملكه «! النهاية
اليقين وهو يؤرجح ساقيه بحماس. بقي القسوحده في الأسفل، متكئًا على الجدار، وموليًا
ظهره لمسرح الأحداث بالكامل، وأخذ يجول بناظريه بحزن في سياج الحديقة والأشجار
المتلألئة بحمرة الشفق.
كانت للدوق، رغم حماسه، غرائز الأرستقراطيين، وأراد أن يُحدق في المنزل بدلًا من
أن يختلس النظر إليه؛ لكن فلامبو، الذي كانت له غرائز اللصوص (والمحقِّقين)، كان قد
تأرجح من الجدار إلى فرع شجرة متفرقة الأغصان يُمكنه من عليه الزحف مقتربًا جدٍّا من
النافذة المضاءة الوحيدة في الجزء الخلفي من المنزل المظلم الطويل. كانت ستارة حمراء قد
انسدلت على الضوء، ولكنها كانت مسحوبة بتعرُّج، محدثةً بذلك فراغًا في أحد جانبَيها،
وبالمخاطرة بمد رقبته عبر الفرع، الذي بدا غير آمن كغصن صغير، تمكن فلامبو من رؤية
الكولونيل دوبوسك يجول في غرفة نوم فاخرة ومضاءة بأنوار صاخبة، ولكن عندما اقترب
فلامبو أكثر من المنزل سمع صوت زميلَيه عبر الجدار، وكرَّر كلامهما بصوت خفيض.
«! نعم، سيَلتقيان الآن في النهاية »
لن يلتقيا أبدًا. هيرشكان مُحِقٍّا عندما قال إنه في مثل هذه القضايا » : قال الأب براون
لا بد ألا يتلاقى المتَّهمون. هل قرأت القصة النفسية الغريبة لهنري جيمس عن شخصَين
كانا على الدوام لا يَنجحان في مقابلة أحدهما الآخر عن غير قصد حتى بدأ كل منهما
بالشعور بالخوف الشديد من الآخر وأخَذا يَعتقدان أن هذا قدرهما؟ الوضع في قضيتنا
«. يشبه ذلك، ولكن على نحوٍ أكثر غرابة
لديهما أشخاص في باريس سيُعالِجونهما من هذه الخيالات » : قال فالوني بحقد
المرضية، وسيستمتعان أيما استمتاع بلقاء بعضهما الآخر إذا قبضنا عليهما وأرغمناهما
«. على القتال
ولكنهما لن يتلاقيا حتى يوم الدينونة؛ حين يُمسك الرب القدير بصولجان » : قال القس
ساحات القتال، وينفخ القديس الملاك ميخائيل في البوق لتتلاقى السيوف؛ حتى حينئذ،
«. إذا وقف أحدهما مستعدٍّا، فلن يأتي الآخر
أوه، ما الذي تَعنيه كل هذه الغيبيات؟ لماذا بحق الرب » : صاح دوق فالوني منزعجًا
«؟ لا يلتقيان مثل بقية الناس
إن كلٍّا منهما نقيض الآخر؛ إنهما » : قال الأب براون بابتسامة تتسم بالغرابة
«. متعارضان؛ يُبطل كل منهما الآخر، إن جاز التعبير
استمر في التحديق في الأشجار التي كانت تزداد إظلامًا في الجهة المقابلة، لكن فالوني
أدار رأسه بحدة في تعجب مكبوت من فلامبو؛ إذ كان ذلك المحقِّق، بينما كان ينظر إلى
الغرفة المضاءة، قد رأى الكولونيل للتو، بعد خطوة أو خطوتين، يشرع في خلع معطفه.
ظن فلامبو في البداية أن هذا كان يبدو حقٍّا وكأنه عِراك؛ ولكنه سرعان ما تخلَّى عن هذه
الفكرة لصالح أخرى. فمظهَر صلابة صدر دوبوسك وكتفَيه وشكلهم المربَّع كان قطعة
بطانة قوية خلَعها مع معطفه. وكان في قميصه وبنطاله رجلًا نحيفًا نسبيٍّا، سار عبر غرفة
النوم إلى الحمام دون غرضعدائي سوى لتنظيف نفسه. انحنى على حوض، وجفَّف يديه
المبللتَين ووجهه بمنشفة، واستدار مرةً أخرى ليَسقط الضوء القوي على وجهه. اختفى لون
بشرته البُني، وشاربه الأسود الكبير؛ فقد كان حليقًا تمامًا وشديد الشحوب. لم يبقَ من
الكولونيلشيء سوى عينَيه البنيتَين اللامعتَين اللتَين تُشبهان عينَي الصقر. أسفل الجدار،
كان الأب براون منغمسًا في تأمله العميق، كما لو كان يُناجي نفسه.
الأمر برمَّته هو كما كنت أقول لفلامبو. هذان النقيضان لن يَجتمعا. فالأمر لا يستقيم »
بهما معًا، ولن يَتقاتلا. إذا كان اللون أبيضوليس أسمر، وكان صلبًا وليس مائعًا، وهكذا
إلى آخر الصفات، فثمة خطأ يا سيدي، يُوجد خطأ ما. أحد هذَين الرجلين أبيض البشرة
والآخر أسمر. أحدهما بَدين والآخر نحيف. أحدهما قوي والآخر ضعيف. أحدهما لديه
شارب وليس لديه لحية حتى إنك لا يُمكنك رؤية فمه؛ والآخر له لحية وليس له شارب فلا
يُمكنك أن ترى ذقنه. أحدهما شعره حليق تمامًا، ويضع وشاحًا يُخبئ به عنقه؛ والآخر
يرتدي قميصًا قصير الياقة، ولكن له شعر طويل يكسو رأسه. الأمر كله مُتقَن ومرتَّب
يا سيدي، وثمة شيء خطأ. الأشياء المتضادة تمامًا لا يُمكنها أن تتصارع. كلما خرج
«… أحدهما اختفى الآخر، مثل وجه وقناع، ومثل قفل ومفتاح
كان فلامبو يختلس النظر إلى المنزل بوجه شاحب كورقة. كان مَن في الغرفة يقف
وظهره له، ولكن كانت أمامه مرآة، وكان قد وضع على وجهه إطارًا من الشعر الأحمر
المُتدلي بشكل غير منتظم من رأسه والملتصق حول فكَّيه وذقنه بينما فمه الساخر غير
مُغطٍّى بالشعر. بدا وجهه الأبيضفي الزجاج على تلك الحالة كوجه يهوذا ضاحكًا ببشاعة
وتتعالى حوله نيران الجحيم. تشنَّجَ فلامبو حين رأى عينَي الرجل الكستنائيتَين الشرستَين
تتراقَصان، ثم غطاهما الرجل بنظارة زرقاء؛ ثم ارتدى معطفًا أسود، واختفى جسده
صوب مقدِّمة المنزل. بعد بضع لحظات، أعلن تصفيق الجماهير الهادر القادم من الشارع
في الجهة الأخرى أن الدكتور هيرش قد ظهر مرة أخرى في الشرفة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.