fatmahmza

شارك على مواقع التواصل

الدخلاء

 

لا يعرف ما ذنبه ليُلقى به بجانب الطريق يتجاهله المارة وقد أصبح عُرضةً للغبار والكلاب والمشرَّدين، لم يعلم أهو سُوس نخر في عظامه، أم بِطانة اهترأت من حوله، أم قماشه البالي أم هي رغبة في التغيير من هؤلاء الدخلاء، أحفاد صاحب البيت، الذين ملوا شكله ومكوثه الطويل في ذلك البيت العتيق، ما كان في يده شيء إلا أن استسلم للواقع المرير، هو الآن في الطريق عرضه لكل عابر سبيل، ها هو هناك رجل عجوز رَثُّ الثياب يحمل بقجته القذرة يُلقي بجسده كاملًا عليه ليستريح قبل أن يكمل عمله بالتسول، وآخر يستخدمه فيرفع قدمه ليضعها على مقدمته، يعقد رباط حذائه بعد أن حرَّر نفسه، وهذا طفل سئم القيد، فجاب الطرقات بحثًا عن حريته، تأمل الكرسي فوجد من قماشه البالي فائدة، فاقتطع جزءًا منه ليحكمها حول قدميه الحافيتين تحميه حصى الطريق وحرارة الشوارع والأرصفة، لم يقتصر دور الكرسي في الشارع على ذلك بل امتد ليطمع أحدهم من أصحاب المحالِّ المجاورة في إحدى عظامه البارزة، فلا يتردد في أخذها يسند بها أحد الأرفف الذي كان على وشك السقوط بداخل متجره.

تذكَّر الكرسي يوم أن جاءه صاحب البيت العتيق وزوجته الجميلة، في أحد متاجر الأثاث الشهيرة بوسط البلد، يريد شراء بعض الأثاث الراقي لتجهيز بيته الجميل على النيل، وأشارت السيدة الجميلة للكرسي، وأبدت رغبة في امتلاكه، لم يكن هذا الكرسي وحده مشتريات الرجل في ذلك اليوم، وإنما كان ضمن مجموعة راقية، من قطع الأثاث الثمينة التي اشتراها من المتجر الشهير، وقف صاحب المتجر يعرض الكرسي للرجل هادئ الصوت مألوف الوجه، يتفاخر التاجر بخشبة الزان ومُدهبه الراقي وقماشه المستورد من باريس، لم ينس الكرسي أول تعارف بينه وبين الرجل عندما اقترح عليه صاحب المتجر الجلوس ليشعر بفخامة الكرسي واتزانه وراحته، اشتم رائحة عطره، تلك الرائحة الهادئة، أحبها الكرسي، تبادل الرجل نفس المشاعر مع الكرسي الذي تمسك به ليس فقط لشعوره بالراحة عند الجلوس، وإنما شيء ما جعله يتمسك به ضمن مشترياته.

تذكَّر الكرسي أول يوم دخل فيه بيت الرجل على النيل، بيت أبيض تفوح منه رائحة الدهان الجديد، كان كل شيء جميل، استقبله أهل البيت من أسرة الرجل، زوجته وأطفاله الثلاثة استقبالًا مفعمًا بالسعادة والبهجة، دخل الكرسي مرفوعًا على الأذرع مغلفًا بورق فضي اللون، عبَر به العمال بحرص من باب البيت مخافة أن يُخدش، وضعوه ببطء في المكان الذي اختارته له السيدة الجميلة زوجة الرجل الهادئ، وكان مكانه هناك بالركن الخاص بالمكتبة أمام المدفأة، بجانب الشبَّاك المطل على النيل، بجانبه وضعت منضدة بقرص زجاجي مستدير فوقه فازة بها ورود متناسقة الألوان، يُسند قرص المنضدة الزجاجي على ساق مذهَّب يشكَّل علي هيئة طفلين بجناحين، يحملان الأقواس والأسهم، يمثلان كيوبيد إله الحب عند الرومان.

أحب الكرسي الديكور الفرنسي واطمئن كونه في المكان الملائم لتصميمه الكلاسيكي الذي يرجع لحقبة قديمة، ارتكز على أرضية مغطاة بالباركيه أعطاه شعورًا بالفخامة والأصالة، أثاث راقٍ وألوان فاتحة زاهية مشرقة، كل ركن بالبيت مليء بالأنتيكات والتحف وقطع الأثاث الكلاسيكية الفخمة، علقت من أمامه مرآة كبيرة عكست له معظم نواحي البيت، تأمل بها سقفه العالي مليء بالنقوش والزخارف النادرة تتدلى منه النجفات النحاسية، زاد البيت سحرًا تلك الأبليكات المعلقة على الجدران ولوحات الجوبلان بألوان الطبيعة للعصور الملكية بفرنسا.

اهتز الكرسي في مكانه، بعد أن قامت عاصفة شديدة، هواء بارد وبرق ورعد وأمطار، حركت معها فروع الشجر من فوقه، ألقى بورقه الجاف عليه، سرعان ما عاد لذكرياته في البيت العتيق، تذكر يوم أن كانت السيدة الجميلة تجلس عليه بجانب المدفأة، وفي يدها فنجال من القهوة الساخنة، وعلى الزجاج تتساقط قطرات المطر، بدا عليها أنها حزينة تفكر في شيء ما لم يتداركه الكرسي، لكنه كان مستمتعًا وهو يتأمل عينيها الزرقاوين وأنفها الدقيق المدبب وشعرها الذهبي، يروقها أن ترفعه دائمًا لأعلى، كان يستلطفه ذوقها الرفيع فدائمًا ما ترتدي فساتين قصيرة بألوان ناعمة، لم تحِد أبدًا عن الرقي، حتى في اختيارها لقطع أثاث بيتها فكل ركن في البيت ينُمُّ عن ذوق رفيع، لكنه لاحظ أنها دائمًا ما تبدو حزينة.

كان الكرسي يشعر بقيمته لدى السيدة الجميلة، فهي تقدر وتهتم جيدًا بالقطع الثمينة في أثاث بيتها، فلا تسمح لأحد من أبنائها بالوقوف عليه بقدميه أو التأرجح به مخافة أن يتسخ قماشه، أو أن تكسر إحدى أرجله.

تذكَّر الكرسي يوم تواجد فيه بعض ضيوف السيدة، من صديقاتها وبناتهن لتناول فنجال من القهوة معها، وجلست إحدى بنات صاحبتها عليه، تتسلى وتستمتع بمشاهدة النيل، وقدمت لها السيدة كوبًا من العصير، إلا أنه وبعد دقائق قصيرة، وقع كوب العصير من يد الفتاة، وسرعان ما تشرَّبه قماش الكرسي، مما أثار انزعاج السيدة، ألقت بكلمات اللوم والعتاب على الفتاة وأشارت إلى قيمة الكرسي الثمينة وقماشه المستورد من باريس والذي بسببها قد اتسخ، جراء تشرُّبه كوب العصير. وعلى الرغم مما بدا على الصديقة من حرج وإبدائها أسفها من فعلة ابنتها، إلَّا أن انزعاج السيدة لم يتوقف مما أثار غضب الصديقة التي أخذت ابنتها وخرجت على الفور من البيت.

 لم تلتفت إليهم السيدة الجميلة بل نادت بصوت غاضب على الخادم وأصدرت أوامرها بتنظيف الكرسي مما أصابه. اشتد حزن الكرسي فور تذكرة تلك الواقعة، فها هو الآن مُلقى في الشارع متسخًا لا يبالي به أحد ولا يحزن عليه أحد.

تألم داخله وهو يتذكر يوم أن كان الابن الأصغر للسيدة الجميلة يلعب، يجري في حلقات دائرية من حوله، إلى أن تعثرت إحدى قدميه في السجادة الملقاة أسفل المنضدة المستديرة، فوقع وارتطم جبينه في إحدى أرجل الكرسي، وإذ بسيل من الدماء يتدفق من جبين الطفل، وعلى الفور أخذه والداه إلى المستشفى لخياطة الجرح وتعقيمه، لم ينس الكرسي تلك النظرة الغاضبة التي ألقاها الرجل الهادئ عليه، بعد عودته للبيت هو وابنه المصاب وزوجته، رمقه بنظرة لوم وعتاب لم ينسها أبدا.

اشتاق الكرسي لياليَ قضاها مع الرجل الهادئ في سلام فكان يفضله للجلوس عليه يرتدي بيجامة النوم من فوقها روب داكن اللون، يقرأ بعض الكتب التي دائمًا ما ينتهي بإلقائها على المنضدة أمامه ويتفرغ لاحتساء كوب القهوة والنظر للنيل، ثم يقوم من جلسته الطويلة حين يغلب عليه النعاس لينام استعدادًا لاستقبال يومٍ جديد في الصباح يبدأه بالجلوس على الكرسي يقرأ الجرائد اليومية ومن أمامه على المنضدة كوب من عصير البرتقال الطازج.

ظل البيت هادئًا يكبر الأطفال يومًا بعد يوم، ويمارس الرجل والسيدة أعمالهم اليومية في روتين حياتي كامل. ومازالت تلك النظرة الحزينة في عين السيدة الجميلة يلمحها الكرسي، ما كان يكسر الروتين إلا تلك الحفلات الراقصة للسيدة تدعو فيها كبار الحي من الرجال وهوانم المنطقة، لم تغِب عن ذاكرة الكرسي كلمات الترحاب من السيدة وتقبيل الايادي من الرجال لها تعبيرًا عن الرقي والمعرفة بالإتيكيت، تتبعها بعض الكلمات بالفرنسية تقديسًا للحياة الغربية التي عاشتها السيدة في باريس.

تذكَّر الكرسي إحدى الحفلات يوم أن جاء ذلك الشاب المهندم ذو النظرات الثاقبة، شعر بها الكرسي، وكانت تغزو روح السيدة الجميلة فتثقلها عبء الإحساس بالذنب ناحية الزوج المُحِبّ، كان الكرسي شاهدًا على كل شيء يدور في الخفاء، لمسات الأيدي الناعمة عند اللقاء والوداع، والنظرات الحانية المختلسة من الحين للآخر بين الرجل المهندم والسيدة الجميلة، والنظرة الحزينة، في عين السيدة عند الالتفات لزوجها.

 استمرَّ الوضع لسنوات، تذبل فيه السيدة الجميلة يومًا بعد يوم، حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه الرجل ولم يكن هادئًا، ألقى بمفاتيح سيارته بعنف على المنضدة المستديرة وركل الكرسي بقدمه فأزاحه من مكانه ليرتطم بالحائط. لم تعد معه السيدة في ذلك اليوم ولا الأطفال، بل عاد وحده.

شعر الكرسي حينها بشيء ما حزين حدث بالبيت، ومرت الأيام لا يرى فيها السيدة، وبات يلمح الرجل تعكس له المرآة صورته أثناء خروجه وعودته، وبات قليلًا ما يجلس عليه لينظر النيل أو يحتسي قهوته، وشعر شيئًا فشيئًا بالإهمال وسار يداهمه الشعور بالخوف من القادم ويغزوه ساعة بعد أخرى، وتأكدت مخاوفه عندما جاء ذلك السمين قصير القامة مستدير الرأس المليئة باللحم، لزيارة الرجل الهادئ في بيته، سابق السمين بالجلوس على الكرسي فما إن جلس حتى شعر الكرسي بآلام ضلوعه كاد أن يمزقها السمين، وبالرغم مما نما إلى ذهنه أن السمين شقيق الرجل الهادئ، إلَّا أنه لم يشعر بالراحة تجاهه، فهو لا يشبه الرجل في أي شيء، تحدث السمين عن السيدة الجميلة بكثير من الضيق، قال للرجل أنه حذره منها وأنها لم تكن يومًا له، وصفها بأنها سيدة متعجرفة تتكبر على أهله فلم تكن تزورهم أو ترحب باستضافتهم في بيتها، كما أن عائلتها المتواضعة لا تناسب عائلتهم ذات الأصول العريقة، وكونها لأم من أصول فرنسية جعلها لا تستطيع التأقلم مع عاداتهم وتقاليدهم الشرقية.

قطع الخادم كلام السمين عندما دخل لتقديم التحية، أمسك الرجل بطبق الحلويات الشرقية وأكل بنهم وهو يكمل حديثه غير مبالٍ بمشاعر الرجل الهادئ الذي يتألم لفراق السيدة الجميلة، تكلم السمين كثيرًا دون توقف، فكان يأكل ويتكلم في آنٍ واحد حتى أنه أسقط بعض من فتات طعامه على الكرسي مما زاد من شعور الكرسي بالاستياء منه، تمنى لو رأته السيدة فتلحق به عقابًا وافيًا على فعلته تلك، تطرق السمين في الحديث عن شخصيات وأناس لا يُعير الرجل اهتمامًا لهم، غاص في موضوعات كثيرة تباعًا وما أن ينتهي من أحدها فيضحك حتى يحمرَّ وجهه، أما الرجل بدا وكأنه لم يسمع شيئًا من ثرثرة أخيه، اختفت ابتسامته الهادئة وأصبحت ملامحه جامدة وبدا عليه الحزن. شعر الكرسي بضيق الرجل الهادئ الذي بدأ في فك زر قميصه العلوى.

خلا البيت لسنوات من اللعب وضحك الأطفال وشجارهم، وافتقد كلُّ شيءٍ به لمساتِ السيدة الجميلة، ذبل الورد في الفازة القابعة على المنضدة المستديرة، وأهمل الخدم تلميع قطع الأثاث الراقية، ولم تعد الستائر تفتح بأوامر من الرجل، فمنعت أشعة الشمس من الدخول، وتراكمت الأتربة على زجاج النافذة من الخارج، فأصبحت رؤية النيل من النافذة مشوشة غير واضحة، وبين لحظة وأخرى فقد الرجل هدوءه، فكان دائمًا ما ينهر الخدم لعدم إزاحتهم الغبار من فوق قطع الأثاث الثمينة، وأصبح لا ينظر للنيل ولا يجلس على الكرسي طويلًا، بل ظل يقضي معظم وقته، إما خارج البيت أو بداخل حجرة نومه .

مرت السنوات بطيئة، غزا الشيب جوانب شعر الرجل، وتغير لون قماش الكرسي فبهت قليلًا وفقد لمعان مذهبه، وذات يوم كان الرجل جالساً يقرأ جرائد الصباح، حين رنَّ جرس الباب، أقدم الخادم ببطء، بدا عليه الهَرَم، فتح الباب، تفاجأ بشابين يافعين وامرأة يتقدمون بأول البهو، وبجانبهم أطفالهم.

قام الرجل من مجلسه، بعد أن ألقى بالجريدة على المنضدة المستديرة، واتجه نحوهم يدقق النظر ويعود بالذاكرة للوراء، يستعيد ملامح صغاره، ها هم أبناؤه وقد كبرت أناملهم، وتغيرت ملامحهم، ولم تعد أجسادهم تلك الأجساد الصغيرة اللينة التي كانت عندما غادروا البيت منذ سنوات.

انتاب الكرسي شعور بالبهجة، انتظرها لسنوات منذ أن غادرت السيدة البيت، لمح بملامح الشابين الكثير من الشبه بالرجل الهادئ، أما المرأة فلم تأخذ من أبيها إلا القليل كما أنها لم ترِث عينَيْ أمها الزرقاوين بل كانت خليط بين الرجل والسيدة الجميلة، غمره شعور بالفرحة وهو يرى اندفاع الأبناء تجاه والدهم في لهفة، امطروه بالقبلات والأحضان وإلقاء كلمات الشوق والحنين، ملأت السعادة قلب الرجل وشاهد الكرسي البيت وقد عادت له الحياة من جديد، رفعت الستائر التي كانت تملأه بالظلمة، وأشرق البيت بشمس جديدة، وظهر النيل من النافذة بعد أن تم تلميعها وإزالة الأتربة المتراكمة عليها من الخارج.

كان الكرسي مستمتع بحديث الرجل وأبناءه، أي مواضيع تلك التي يتناولونها، لا يهم، المهم أن الصوت عاد للبيت بعد أن عم به الصمت طويلاً، تكلم الأب والأبناء كثيراً، حكوا عن السنوات التي عاشوها بالخارج مع أمهم بعد أن تم انفصالها عن أبيهم، تحدثوا عن الغربة ووحشتها، افتقادهم للبلد والأصدقاء والبيت الجميل الذي ما زال على حاله ما عدا بعض التغييرات التي أتي بها الزمان على أثاثه، كما أنه بدا أصغر قليلًا مما كان عليه في صغرهم، لفت نظر الأبناء تلك الصورة المرسومة بالزيت على الجدار للسيدة الجميلة ولم تكن موجودة من قبل، تكلم الأبناء عن أمهم بشيء من التأثر، قالوا انهم افتقدوها بعد أن رحلت عن عالمهم في باريس ودفنوها هناك، فكانت تعشق باريس وتجيد التحدث باللغة الفرنسية، أبدى الأبناء سعادتهم وأفرجوا عن قرارهم الذي اتخذوه قبل مجيئهم بنيتهم البقاء بالبيت العتيق وعدم العودة لفرنسا، سعد الأب كثيرًا بذلك القرار الذي أعاد إليه الحياة التي افتقدها منذ سنوات.

قرر الأبناء إلحاق أطفالهم في مدارس دولية يتعلمون بها أكثر من لغة وينتسبون لنظام أجنبي في التعليم يلائم العصر والتقدم العلمي، حكوا عن أزواجهم فقال الابن الأصغر أن زوجته سوف تأتي إليه في القاهرة بعد أن تصفِّي أعمالهما وممتلكاتهما بفرنسا، وهي عربية من أصل فلسطيني، وتريد العودة، فهي مهتمة بقضية بلدها وبقائها في القاهرة يقربها أكثر من الأحداث.

قالت الابنة أن زوجها وهو مصري مهاجر، يسافر دائمًا لظروف عمله ولا يأتيها في السنة إلا مرتين أو ثلاث على الأكثر يقضي معهم بضعة أيام ويسافر معظم العام، قالت إنها اتفقت معه على قرارها بالعودة لمصر على أن يقضي زيارته لها وللأولاد في بيت أبيها بالقاهرة، أما الولد الأكبر فأفصح عن مشكلات بينه وبين زوجته الفرنسية الأصل، ويستعدون للانفصال، وتركت له الأبناء، فهو لا يستطيع التخلِّي عنهم ولا يريد أن يكرر مأساة والده، على أن يدعوها خلال إجازة الصيف لتقضي مع الأبناء بعض الأسابيع.

لم يتخيل الكرسي أن تلك القرارات ستعود عليه بالتعاسة والشقاء وستُلقي به في النهاية خارج البيت الذي أحبه ومكث فيه لسنوات طوال، فلم يحُز على نفس مشاعر الحب التي لقيها من الرجل الهادئ والسيدة الجميلة من قبل الأبناء والأحفاد، هؤلاء الدخلاء، الذين أتوا من الخارج يتكلمون بلغة لا يفهمها ولا تبالي أمهاتهم وآباؤهم بقفزهم على الكرسي وجره والتأرجح عليه، مرت السنوات والكرسي كل يوم في تدهور مستمر، يضاهي تدهور صحة الرجل الهادئ الذي بات يمشي ببطء شديد حتى يصل للكرسي يستعين به متفاديًا السقوط ولا يعلم من يستعين بالآخر، الكرسي الذي فقد اتزانه بسبب خلخلة أحد أرجله أم هو الرجل الذي لا تستطيع قدماه حمله لمسافة لا تكاد تكون طويلة هي تلك المسافة من حجرة نومه إلى الكرسي بجانب المدفأة.

كبَر الأحفاد ولم يعد يروق لهم البيت، وباتت ألسنتهم لا تنطق إلا بالانتقاد لكل ركن به، قالوا إنه أصبح قديمًا وكل شيء به يحتاج للتجديد، فدهان الجدران باهتًا والباركيه الذي يغطي الأرض قديم مليء بالخدوش والحفر، لم تعجبهم تلك النقوش النباتية على جدران الحمامات والمطبخ فلم تعد تواكب الموضة، يشير الأحفاد بضيق دائم لأثاث البيت الكلاسيكي الثقيل الذي يزحم المكان، رأوا أن تلك القطع لا بُدَّ من استبدالها بقطع مودرن عملية، تكلموا عن ذلك الكرسي بشع المظهر، بعد أن اهترأ قماشه وظهرت بطانته وفقد لمعان مذهبه وبات يحرجهم أمام زملائهم ذوي المستوى العالي خريجي المدارس الدولية، أشاروا إلى أن الجلوس عليه أصبح غير مريح وذلك المسمار بأحد أرجله يمزق ملابسهم في كل مرة يجلسون عليه، كان الأحفاد في جدل دائم مع الجد الذي لا يبالي انتقاداتهم، ويتمسك بأثاث بيته العتيق فهم في نظره ما زالوا صغارًا لا يعرفون قيمة تلك القطع الثمينة، انتقاها بعناية هو وجدتهم عند امتلاكهما البيت، لم يقتنع الجد بقطع الأثاث المودرن ولم يوافق أبدًا على استبدال قطع بيته الكلاسيكية الثمينة بتلك القطع ذات الشكل السخيف الممسوخ، كما وصفها، فما إن يبدأ الأحفاد بالحديث عن التغيير حتى يقف الجد ويعلو صوته مدافعًا عن بيته مستاءً من تلك القطع المسماة بالمودرن، هاجمها وكأنها عدو يحاول احتلال بيته، نوه عن افتقادها للفن فلا نقوش بها ولا تعبر عن أي عراقة ولا أصل، أشار الجد بيده المرتعشة إلى الصالون لويس الأبيسون المذهب، أثنى عليه قال انه بالرغم من قدمه إلا أنه أنتيك ذو قيمة لا يعلمها هم، وصفهم بالمتأمركين فارغي العقول حديثي السن، ثم رفع عينه ليمتد نظره للتابلوه الجوبلان، روميو وجوليت، المعلَّق على الجدار، حكى عن المزاد الذي أقيم بأحد القصور الفخمة في باريس، حين قام بشراء التابلوه عندما كان هو وجدتهم في باريس في أول زواجهم، وتلك المنضدة المستديرة المنحوت ساقها على شكل طفلين بجناحين يحملان أقواسًا وأسهمًا يمثلان كيوبيد إله الحب عند الرومان، أشار إلى البومبيه المزين بالنحاس ومن فوقه قطعة الرخام عليها يوضع براويز راقية بها صور لأبنائه وللسيدة الجميلة، مرسوم على درفة بألوان الزيت التي لم يتغير لونها حتى الآن، تنظر للرسومات لتجد الطبيعة؛ حدائق فرنسا الغنَّاء ومجموعة من العازفات بشكل بديع وألوان زاهية للشجر والسماء تتوه فيها بعينيك وتنسى الدنيا والأيام، والكونسول بجانب العامود المنحوت على شكل طاووس، كان العجوز يحكي بصوته المرتجف فتتناثر الكلمات منه في الهواء نغمات حزينة، كل قطعة بالبيت لها حكاية وتاريخ لدى العجوز ولم يكن لها أي قيمة لدى الأحفاد، راحوا يقلبون أعينهم ويعوجون شفاههم في تململ من كلام الجد الذي حاول أن يخبئ انفعاله لكنه بدا جليًّا في صوته المتهدج ودمعة عينيه، لم ينس أن يتكلم عن الكرسي وكيف التقاه في المتجر بوسط البلد، وفرحة أبنائه به عند شرائه، نوه أنه كان اختيار جدتهم. انتهى النقاش بأنْ حسم الآباء الجدل بين الجد والأحفاد، اتفقوا على إزاحة الكرسي بجانب أحد الأركان بعيدًا عن الأنظار.

لم يتخيل الكرسي أن يأتي عليه يوم ويكون أفضل الحال هو إبعاده عن المشهد، تذكر يوم أن كان محلَّ فخرٍ لأهل البيت قبل ذلك اليوم بسنوات عدة، كان الضيوف يفضلون الجلوس عليه للراحة والاستمتاع بمنظر النيل ولكونه بقرب المدفأة في الشتاء، لم يغب عن ذاكرته مشاهد الصالونات الأدبية التي كان يقيمها الرجل الهادئ ببيته، تعقد تلك الأمسيات بالصالون المرافق للمكتبة والمدفأة يتصدر الكرسي المشهد، يجلس عليه الرجل صاحب البيت يدير من عليه صالونه الأدبي، اشتاق الكرسي ليوم شاهد فيه الكثير من المثقفين والقراء وأصحاب الرأي والفكر وصانعي القرار بالبلد.

صارت غصة بداخله عندما هاجمت ذاكرته صور ذلك اليوم، يوم أن جاء هؤلاء الدخلاء من الخارج، أحفاد الرجل وأصدقاؤهم، وكان للرجل حفيدة تشبه جدتها، عينيها الزرقاوين وأنفها الدقيق وشعرها الذهبي، إلا أنه لم يكن ملمومًا مرفوعًا لأعلى كما كانت تصنعه جدتها، كان متروكًا يتهدل على كتفيها بسريالية متعرجة خصلاته يحاكي الطبيعة بتمردها.

ظل يشعر الكرسي بالألم كلما مر بذاكرته مشاهد تلك الأيام السوداء التي كان يأتي فيها هؤلاء الدخلاء دائمًا ما يُزعجون الجد العجوز بصوتهم العالي وضحكاتهم المستفزة وكلامهم عن التغيير والتطوير والإشارة إلى أن العالم بالخارج أصبح أكثر مرونة من هذا العالم القديم الذي يعيشون فيه وما زال متمسكًا بتقاليد عتيقة لا تواكب العصر، طالما انزعج الجد من اشكالهم واستعمالهم بعنف أثاث بيته وكأنهم يتعمدون تدميره، يتعجب شكل شعورهم التي لا تصفف أبدًا وكأنهم في عصور الإنسان البدائي، حيث لم يتعرف الإنسان على المشط لتصفيف الشعر أو مقص لتهذيبه.

وكان ما زال الكرسي يقوم بتفريغ غيظه فيعمل ذلك المسمار في أحد أرجله على تمزيق سروال كل من يجلس عليه، إلا أنهم لا يبالون فالسروال في الأصل ممزق وتلك هي الموضة.

ظل الجد متمسكًا بأثاث بيته الدافئ العريق، حتى جاءت تلك الحادثة التي حسمت الجدل. عندما حاولت الفتاة زرقاء العينين، التي تشبه جدتها، الجلوس على الكرسي، كُسِرت إحدى أرجله وسقطت الفتاة، مما أدى إلى جرح ساقها بشدة بسبب مسمار بارز. نزفت كثيرًا، وقرر الأبناء على الفور التخلص من الكرسي فقد أصبح غير آمن وبشع المنظر. لم يستطع الجد الدفاع عنه بعد تلك الواقعة المؤلمة، وصمت وهو يشاهد الأحفاد يرفعونه ويتجهون به خارج البيت ليلقوه على قارعة الطريق.لم يكن ذلك أول تخلٍّ من أحباء الكرسي، تخلَّت عنه السيدة الجميلة قبل ذلك بسنوات حينما حملت حقيبتها الكبيرة، وذهبت بالأبناء خارج البيت ولم تُلق حتى نظرة وداع أخيرة على الكرسي، تركته يواجه مصيره بمفرده فأصبح عرضة لأمزجة الدخلاء وتغيير الأذواق وتقلبات الأيام، إلى أن صار به الحال هنا على قارعة الطريق، يحمل معه ذكريات البيت العتيق، ويشتاق مكانه الدافئ أمام المدفأة، بجانب النافذة المطلة على النيل.

***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.