fatmahmza

شارك على مواقع التواصل

أسند يده بحوض الاغتسال، ونظر بالمرآة، وأطال النظر حتى احمرَّ وجهه وكاد أن يجهش بالبكاء لولا أنقاطعه أحدُ العاملين بالقناة يقتحم عليه المكان ويَحرمه تفريغ ما بداخله من حزن. فوجئ العاملُ بالشيخ وحاول الحديث معه فجاء صوتُ الشيخ متحشرجًا مخنوقًا الأمر الذي أثار انتباه العامل ليسأله في قلق، عن حاله وإذا ما كان يحتاج مساعدة؟ شكره الشيخ وفور خروج العامل، انهمرت دموعه حتى بللت لِحيته، حاول استعادة نفسه قبل أن يخرج من دورة المياه، هدأ قليلًا، ثم غسل وجهه وجفَّفه بمنديل في جيبه وأعاد هندمة شعره ولبس نضارته السوداء، وذهب قاصدًا الخروج من مبنى القناة الفضائية بعد أن أنهى عمله بها ليستقلَّ سيارته البورش الفارهة.

ظهر الرجل في لباس التقوى يتقدم الصفوف يرفع جلبابه الأزهري في حرص خوفًا أن تلوثه الدماء حتى وصل لمقدمة المُصلِّين يتأهب لإلقاء خطبة الجمعة.

 جابر من الأزهريين الشباب الذي جاء تعيينُه من الأوقاف في أكبر مساجد المدينة وأهمها، لم يكن أفضل طلاب دفعته وإنما كانت له تلك الكاريزما التي تجعله يستطيع التواصل بسهولة مع أتباعه فاستطاع بلباقة وذكاء الصعود أكثر من درجة في وقت قصير، كانت لديه الشجاعة في التعامل مباشرة مع أساتذته في كلية أصول الدين، تخصص جابر في قسم العقيدة والفلسفة مما جعله يُتقن ترتيب الكلمات وفنون الردِّ والنقاش، كان دائم التواجد في حجرة الأساتذة بالكلية للنقاش في مسألة شرعية، أو للسؤال عن مسألة خلافية بين العلماء، فكان لديه القدرة على إشغال فكر الأساتذة في أمر فقهي لعدة أيام مما جعله دائم التواجد بدروبهم ونُصب أعينهم.

لم يأتِ تعيين جابر في ذلك الجامع الكبير محض صدفة، إنما جاء بتوصية من أحد أساتذته الكبار وله كلمة مسموعة في وزارة الأوقاف، وبعد أن أخذ ملفه موافقة أجهزة الدولة العليا.

ظل جابر لسنوات في مكانه يقيم الصلاة ويؤدي واجبه المحتَّم عليه دون أن يضايق الأجهزة الأمنية؛ فلا ينجرف وراء دعوات الشارع الثائرة ولا يُلقي بكلمات غاضبة في خطبة من قبيل تلك التي تجعلهم يضعون فوق اسمه الدائرة الحمراء، بل كان مسالمًا وأحيانًا ما كان يتودد للنظام، يحثُّ الناس على طاعة ولي الأمر في خطبة يوم الجمعة. شارك جابر صديقَ عمره الشيخ عبيد، المسكن بحي الحسين، دائمًا ما يلوم عليه الشيخ عبيد بُعده عن صوت الشارع وقضايا الأمة الإسلامية ونصرة القدس، تذكَّر يوم دخل عليه عبيد حجرة المدينة الجامعية وقد أخذ عَلقةَ موتٍ من رجال الأمن، والذي نجا منهم بأعجوبة في مظاهرة داخل أسوار الجامعة لنصرة القدس، وعندما سأله الشيخ عبيد:

- أين كنت؟

أجابه جابر:

- كنت في حجرة الأساتذة أتناقش معهم في حكم الخروج عن الحاكم

وبالرغم من مظهر الشيخ عبيد الدال على اشتراكه في المظاهرات وتعرضه للضرب سأله جابر:

- وأنت، ماذا حدث لك؟

أجابه:

- كنت أحاول الخروج على الحاكم.

وفي يوم وأثناء احتشاد الملايين في الميدان مطالبين بسقوط النظام أشار عليه الشيخ عبيد أن يذهب معه للميدان يشاركهم الثورة ويطالب بما يطالبُ به الثوار من نشر العدل والمساواة في المجتمع، تردد الشيخ جابر في البداية لكنه وبِحِسٍّ ذكيٍّ أدرك ما تسير نحوه البلاد وأحس ضعف أجهزة الدولة وأدرك أنها بداية سقوط النظام، فلِمَ لا؟ وذهب بالفعل للميدان مع صديقه الشيخ عبيد.

 يختلف الشيخ عبيد في صفاته عن جابر، فهو يميل للهدوء، يتملكه خجل، يتحلى بالبشاشة والسماحة ولديه مبادئ لا يَحيد عنها أبدًا، وصل الصديقان للميدان وكان هناك الشيخ صبحي السريع، لُقِّب بهذا الاسم ممن هم في ريعان الشباب، فكان له الفضل في إقبالهم على المسجد وسماع خطبة الجمعة- خطبة العشر دقائق- هكذا أطلق عليها الشباب، يُوجِز فيها الشيخ صبحي من القصص الدينية ما يحتاج الفتية سماعه ثم يبدأ الصلاة، ألقى عليه جابر التحية وَرَدَّ الشيخ صبحي بمثلها وسلم عليه بحرارة وسأله:

- كف حالك مع الله؟

أجابه جابر:

 - الحمد لله، أُقيم فروضي وأحفظ نفسي من المعاصي ولا أبخل بعلمي.

أثنى عليه الشيخ صبحي ورحل كل في اتجاهه.

حان أذان الظهر وسارع جابر ليَؤُمَّ المصلين، فكان حريص على دوره في الإمامة طوال أيام الثورة، وكان صوته الشجي ودعاؤه الصادح الذي يبعث الشجون في القلب سببًا كافيًا لتمسُّك الثوار به ليُطلقوا عليه لقب (إمام الثورة)، ولكنه وعند بَدء المعركة وفي كل مرة يُسرع ليخرج من الميدان مُتجهًا إلى مقهى يعهده، يجلس ليشرب القهوة حتى تهدأ الأمور في الميدان ثم يعود وقت الصلاة.

سقط النظام وظهرت شاشات القنوات الفضائية وبرامج التوك شو تعجُّ بحكايات الميدان ووجوه الشباب من الثوار، وظهر الشيخ الشاب ببدلة وجرافات بدلًا عن الجبة والقفطان، ورأس منمق لأول مرة لا تغطيه العمامة، تحدث بنفس اللباقة التي اعتادها؛ أشاد بالثورة وتكلم عن دورة فيها ومساندته للثوار.

تكررت اللقاءات التليفزيونية مع الشيخ وأصبح وجهه مألوفًا لدى العامة وبات الشارع يصدع بآرائه وتعليقاته على الأحداث وما يُدار بالبلد من تغيُّرات بل وتطور الأمر، فتم التعاقد مع الشيخ فى إحدى القنوات الفضائية ببرنامج يكون هو ضيفه يستمع له الناس أسبوعيًا.

ظهر الشيخ على الشاشة في الميعاد المحدد، ينتظره عدد لا بأس به من المشاهدين، جلست أمامه مذيعة مُحجَّبة مشهورة تسأل وهو يجيب بحكمة وتعقُّل حتى جاءت فقرة أسئلة المشاهدين، الاتصال الأول:

المتصل:

- السلام عليكم يا شيخ، أنا شاب في الخامسة والعشرين من عمري لأسرة مسيحية؛ أب مصري وأم لبنانية اعتنقت الإسلام في سن التسعة عشر، وعندما أعلنت إسلامي قاطعني أهلي وتمَّ طردي من البيت، لي مدخر من المال فأنا أعمل منذ سن مبكر، رغم أني من أسرة ميسورة إلا أن أبي دفعني للعمل من الصِّغر، استطعت استرجاع مقهى كان أبي قد سحب ملكيته مني. تعسرت ماديًّا في البداية ولكن استطعت بعد ذلك عن طريق دخل المقهى، أشغل الأموال بفوائد ثلاثين في المائة، ربحت الكثير واشتريت مقهى آخر، يقول البعض أن ربح الأموال من الفوائد حرام، علمًا بأني لا أتعامل مع البنوك فما هو الصواب؟

جاء ردُّ الشيخ قاطعًا، قال:

-  قال تعالى: [يَمْحَقُ الله الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] وَاللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم. الفوائد في شرعنا رِبًا، جنبنا الله وإياكم ما يغضبه.

جاء صوت المتصل موضحًا:

- لكنني يا شيخ لا أتعامل مع البنوك.

- ما يدخل جيبك من فوائدَ مِن أي مصدر هي حرام، فهذه ليست تجارة فيها المكسب والخسارة، وإنما هي فوائد ثابتة بنسبة محددة، وهذا نوع من أنواع الربا فهي حرام، يرزقنا الله وإياكم.

 انقطع الاتصال، وتتساءل المذيعة:

- يعمل إيه يا شيخ إذا كان أهله مقاطعينه وهو لا يملك ما يكفيه للحياة.

- القليل بالحلال خير له.

- وماذا عن والديه؟

- قال تعالى: [... وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْروفًا]

جاء الاتصال الثاني، المذيعة:

- ألوو، اتفضل:

- يا شيخ، أنا رجل في العَقد الثالث من عمري متزوج وزوجتي تعمل وتخرج كل يوم للعمل بكامل زينتها وتحدثتُ معها ولكن دون استجابة منها، فماذا أفعل؟

- قال تعالى: {... وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...} أي أزواجهن، فالمرأة تتصنع لزوجها كيفما تشاء بما لا يكون بحضرة غيره، أما خروجها من البيت متبرجة يراها الأجانب حراام، وذنب تؤثم عليه.

- وما حكم الدين في عدم طاعتها لي؟

- لك القِوامة، وعليها الطاعة، فإن عصت فالجأ لحكم الله.

- وما هو حكم الله يا مولانا؟

- قال تعالى: {... وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا...] واجب عليك تقديم النصيحة لها وتوجيهها إلى الخير واصبر عليها، فإن لم تستقم فالهجر، فإن لم تستقم فتأديبها التأديبَ الخفيف الذي ما فيه جَرح ولا خطر؛ أي غير مُبرِّح حتى تستقيم.

خرجت المذيعة عن صمتها معترضة، قالت:

- يعني دا مش حرام؟ زوجي يخرج معايا وهو في كامل أناقته وأنا ابقى جنبه بدون زينتي، وكمان لو أردت التجمُّل أضِّربْ! ليه كده؟ دا ظلم للمرأة ومين يرضى بكده؟

تكمل بصوت مختنق غاضب:

-  أحيانًا تحت العين بيبقى في هالات سوداء محتاجة تدَّارى وساعات الست بتلاقي وجهها غير نضر محتاج ميك اب خفيف عند الخروج، إيه المانع؟

جاء رد الشيخ حادًا:

- هذا ليس بكلامي، وإنما هو حكم الله في كتابه الكريم.

قطع النقاش الاتصال الثالث:

- يا شيخ، أعمل في بنك وأتقاضَى مرتبًا على عملي به، وأنت قلت في الاتصال الأول: أن التعامل بالفائدة حرام، وأنا أتقاضى راتبي من البنك الذي تقوم أساس التعاملات فيه على الفائدة، فما هو حكم الدين في راتبي منه؟

- تتقاضى راتبك على مجهود تقوم به داخل البنك وهذا حلال، أما أن تعاملتَ مع البنك بفائدة كأنْ تأخذ قرضًا، أو تدخر فيه مالًا بفائدة ثابتة فهذا هو الحرام.

قالت المذيعة معترضة:

- يا مولانا، اهدى بس علينا كده واسمعني، أولًا: ادَّخار الأموال في البنوك هو اللي بيقوي اقتصاد البلد، الدولة تقوم بتمويل مشروعاتها عن طريق ادخار المواطنين أموالهم في البنوك. وأهي بدل ماهيَّ مركونة في البيوت تشتغل وتجيب ربح نستفيد منه والدولة تستفيد، تاني هام: هنحط فلوسنا فين يعني؟ هنرجع نحطها تحت البلاطة زي أيام جدودنا!

 

جاء رد الشيخ كالعادة، قاطعًا جازمًا:

-  الادخار من غير فائدة ليس فيه شيء أما أن يكون بفائدة ثابتة هذا هو الربا بعينه ولا يوجد به أيُّ خير للمدَّخِر ولا للبلد، بل هو خراب وإفلاس للطرفين فهي أموال حرام تخالف شريعة الله.

- يا مولانا، البنوك بتمول مشروعات والمشروعات بتجيب فلوس بيطلع منها الفايدة اللي يتفق عليها الطرفين، فإذا كان الطرفين موافقين وبرضاهم، إيه المانع؟

- التعاملات مع البنوك لا يوجد فيها مكسب وخسارة، فهي بذلك ليست تجارة؛ لأنه لا يشارك في الخسارة، الفائدة هنا ثابتة ولذلك هي حرام.

انتهى البرنامج بانتهاء الفقرة، ونزل تِتْر النهاية.

لَقَت الحلقة انتشارًا واسعًا في الشارع وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض لآراء الشيخ إلا أن الكل أجمع على احترام الشيخ جابر.

توجه جابر لمسكنه بالحي الشعبي ليجد الشيخ عبيد في انتظاره يقدم له التهاني على الحلقة الرائعة بالبرنامج والتي حازت على انتشار واسع فور انتهائها، أكمل الشيخ عبيد حديثه وأعرب عن قلقه فقال:

- لكن احذر يا صديقي.

تساءل جابر في اندهاش.

- مِمَّ احذر؟

- احذر من نفسك على نفسك، أن أشدَّ عداوة للإنسان على الإنسان هي النفس فهي أكثر عداءً له من الشيطان، أن الشيطان يحاول، ثم يَمَلُّ ويبتعد، أما النفس فلا تَكِلُّ ولا تَمَلُّ قال تعالى: {... أن النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ...} فكن يقظًا لا تغرك نفسُك، ولا تفرح بها فلا تنتصر عليك ولا تعطي للشيطان فرصةَ النَّيْل منك.

أخذ الشيخ جابر كلام صديقه بعين الاعتبار ودخل حجرته ليستريح من عناء يوم طويل. استمرت الحلقات واللقاءات واكتسب جابر محبة الشارع واهتمام رواد التواصل الاجتماعي ودُعِي إلى مؤتمر ديني يناقش فيه أمورًا فيها خلاف بين العلماء وسأله أحد الصحفيين:

-  ما رأي الشيخ في العِلمانية؟ وهل الإسلام يتعارض مع الفكر العلماني؟ وهل الشخص العلماني كافر من وجهه نظركم؟

- العلمانية فِكْرٌ، أما الإسلام فهو دين ولا يجوز مقارنة ما هو أدنى بما هو أعلى، فالدين الإسلامي دين سماوي أنزله الخالق سبحانه وتعالى على نبينا محمد ﷺ ليس لنا فيه إلا أن نقول ما يُرضي الله، أما الفكر العلماني فهو فكر إنساني وضعه العقل البشري يمكن فيه القول بالانتقاد والرفض أو القبول، ومن هنا لا نستطيع أن نضع العلمانية مع الإسلام في كفتين متوازيتين ونقول بوجود تعارض بينهما ،وحتى لا نُضيع الوقت في هرتلات فارغة علينا توضيح المقصود بالعلمانية بأنها: فِكر للدولة وليس الأشخاص، فيأتي تعريف العلمانية: بأن تكون الدولة على مسافة واحدة من كل الأشخاص دون تفرقة تبعًا للدين أو اللون أو الجنس، ومن هنا نقول: أن هناك شخصًا مسلمًا يعيش في دولة علمانية ومسيحي في دولة علمانية وآخر بوذي أو يهودي أو حتى مُلحد في دولة علمانية، هنا الدولة تتعامل مع الكل سواء دون تفرقة، ما يجوزُ يجوزُ للكل وما لا يجوز لا يجوز على الكل، أما الأشخاص فكلٌّ على حسب عقيدته يمارسها بحرية في نفس الدولة، وإن وفَّينا الإسلام حقه فنقول: أن الدين الإسلامي جاء ليعم السلام والمساواة والحرية بين كل أفراد الشعب، فلا يوجد تفرقة في الإسلام على أساس الدين أو اللون أو الجنس، وقد حفظ الإسلام حقوق أهل الكتاب ووصَّى النبي ﷺ على مراعاتهم، فقالﷺ(من آذى ذميًا فأنا خِصْمه ومن كنت خِصْمه، خَصَمته يوم القيامة) وضمن لهم الحرية والرخاء، والاستقرار والأمن ومعاملتهم كما يُعامِل المسلمين في المنطقة.

تابع الصحفي:

- على أي أساس تقول: أن الإسلام جاء ليضمن الحرية للجميع وقد أباح الرِّقَّ بل وأباح للرجل أن يجامع أَمَته سواء أَكان له زوجة أو زوجات أم لم يكن متزوجًا؟

- الإسلام لم يُشرِّع الرق بل وضع تشريعاتٍ للتعامل مع هذه الظاهرة لتجفيف منابعها، وجاءت الآيات تراعي ظروف المجتمع آنذاك فكان الأمر بالرحمة والرفق حتى في العقوبة، وجاء هذا المنحى التشريعي في التعامل مع ظاهرة الرق هو المُعتبر في حال انتكست البشرية وعادت لتشريع الرق من جديد، وهذا غير مستبعد مع حضارة مادية لا يحكمها سوى قانون المنفعة المادية، فيرجع العمل باتجاهين؛ التعامل الواقعي مع الرق بتطبيق أحكامه، والدفع باتجاه إلغائه وتجفيف منابعه، ومن هنا نستطيع القول بأن الإسلام قد رفض العبودية والتمييز فاعتبر القرآن الحرية هي الأصل في الإنسان بل جاء الإسلام ليضمن لهؤلاء حقوقهم فهو دين جاء لسلامة البشرية وتطبيق المساواة والعدل والحرية وهذا ما يطالب به العلمانيون في بلادهم، فأي تعارض في ذلك مع الدين الإسلامي؟

احتدّ النقاش وقام أحد الجالسين قاصدًا احراج الشيخ، قال:

- يا شيخ، كيف تقول: أن الدين الإسلامي الأصل فيه المساواة وقد جعل للرجل كلَّ شيء؛ فقد أعطى له القِوامة على المرأة مهما كانت درجاتها العلمية بل وأوصى بضربها أن لم تُطع زوجها كما أوصى بالضرب للطفل على تركه للصلاة والقتل للمرتد، أليس في كل هذه الأحكام تقييد وتسخير؟

- القِوامة هنا لها مفهوم يجب توضيحه أولًا، فهي ليست متعةً للرجل وإنما هي تكليف وإلزام، فالمولود يُولد ذكرًا أو أنثى، يظل الذكر ذكرًا حتى وإن بلغ، لا يُطلق عليه لفظُ رجلٍ إلا بعد أن يطبق ما ألزمه الله به من تكليف برعاية بيته وإعالة أسرته ومراعاة النساء من أهل بيته، ومِن هنا وجبتِ الطاعة من الزوجة له؛ أي أن لفظ رجل يأتي متأخرًا بعد جواب التكليف المكلَّف به، وتنفيذ أحكام القِوامة التي أمره الله بها، وبشكل اكثر توضيحًا، نقول إن الوصف بكلمة رجل ليست لكل الذكور ولكن لمن يلتزم بما أوجبه الإسلام عليه وألزمه به ناحية أهل بيته من النساء فتكون الطاعة واجبة عليهن له، وإن كان الإسلام قد شرَع الضربَ حين المعصية فهو أيضًا أوصى بعدة خطوات قبل الضرب للتعامل مع الحالات الشاذة فالمرأة العاصية أمر بالنصح والإرشاد والصبر عليها ثم الهجر وآخر شيء الضرب، والضرب هنا المقصود به: الضرب غير المبرح، وأما الطفل فجاء بتعليمه الصلاة من سن سبع سنوات والضرب عند العاشرة، ضربًا تأديبيًا غيرَ مبرحٍ.

 

المتسائِل:

-  يا شيخ، هذا فيه إهانة وتقييد للحرية.

علا صوت الشيخ، وقال في عصبية:

- الحرية ليست معناها العصيان، والدين واضحةٌ أحكامه، فإذا أعرض البعض عنها وَجَبَ تهذيبه إلى أن يعود لصوابه.

بدأت همهمة خفيفة في القاعة وأعرب البعض عن قلقه، وقف أحد الحضور يقول في تهكُّم:

- في الدول العلمانية يستطيع الأشخاص التعبير عن اختلافاتهم، أين نحن من تلك الدول؟ في مجتمعاتنا الاختلاف جريمة تصل عقوبتها حد القتل.

- لكل مجتمع قيمه وقواعده وعاداته وتقاليده المُتعارَف عليها بين أفراده، ومجتمعنا مثله مثل أي مجتمع له قواعده وأعرافه ومعتقداته، فإذا شَذَّ الشخص عن المتعارف عليه ومثَّل اختلافه تهديدًا للمجتمع يُعَدُّ من قبيل المعصية ولا حرية له في ممارسة اختلافه، خاصة إذا كان يعارض ويخالف معتقدنا الديني، حتى الدول التي تدَّعي الحرية الكاملة حريةُ أفرادها مقيدةٌ بالقوانين والقواعد المنظِّمة للحياة بداخلها وعلى الأفراد الالتزام بها وإلا تعرضوا للعقاب، فحريتك تأتي بعد التزامك بقواعد وقوانين المجتمع الذي تعيش فيه.

المتسائِل:

- هناك حالات تقبَّلتْها المجتمعات بالخارج وتعايشتْ معها وهي مخالفة للطبيعة وعلى الرغم من ذلك دافعت عنها وطالبوا بحقوقهم وأعطت الدول لأصحابها حقوقًا ومزايا، أما هنا في مجتمعاتنا المُغلقة ما زالت تلك الاختلافات تعد جرائم يحرِّمها الدين وتجرِّمها الدولة.

جاء رد الشيخ مُحتدًّا، وقد تملكه الغضب:

- كل ما يخالف الطبيعة فهو حرام، هذا شيء غير قابل للنقاش.

 المتسائل في عصبية:

- يا شيخ، هناك فجوة كبيرة بيننا وبين هؤلاء؛ من تطلقون عليهم أنهم كفرة، هناك العدل والمساواة، هناك الحرية، هناك أستطيع أن أجهر باختلافي أما هنا فلا وإلا تعرَّضتُ للتنكيل والإهانة، الناس في بلاد المسلمين مُقيدون بأحكام مر عليها 1400 عام لا تناسب العصر وتقدُّمه، وهذا وراء ما نحن فيه من تخلف.

عَبَّر الشيخ عن رفضه وأخذ النقاش منحرفًا حادًا، مما زاد من غيرة الشيخ على الدين وسخطه على المتسائل وعلا صوته، قال في عصبية بالغة:

- الجهر بالمعصية ليس حرية، وإنما هو جريمة وجب عليها العقاب.

توترت القاعة وعَلَتِ الأصوات وبدأ المنظِّمون في تهدئة الحضور وتكملة باقي فقرات المؤتمر. تتساقط الأسئلة على الشيخ كالسَّيْل وهو يجيب في حزم حتى سأله أحدهم:

- ما قولك في شعب مغلوب على أمره لا يستطيع تغيير ما بنفسه حتى يغير الله ما به؟

- حباهم الله بعقول وأدواتٍ وأسبابًا يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يريدون من جلْب خير أو دفْع شر، وهم بهذا لا يخرجون عن مشيئته كما قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أن يَسْتَقِيم * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أن يَشَاء الله رَبُّ الْعَالَمِين}. يومًا ما مرَّ حكيمٌ بِعَرْبجيٍّ يُمسك سوطًا ويضرب به حصانه بشدة ويستسلم له الحصان في ذل وانكسار قال الحكيم للحصان: لو أنك تعلم ما بك من قوة ما رضيت الذل والهوان، لو تعلم الشعوب ما بها من قوة ما رضيت الذل من حكامها، والآن وبعد أن قام الشعب بثورته العظيمة وعلم بقوته وقد تغيرت الموازين، وترك الناس ما كانوا قد أَلِفوه لسنوات من ضعف وصمت، ولكن الخوف من العودة للوراء يطاردنا، فعلينا اليقظة الدائمة وعدم الوقوع في فخ الاستسلام الذي يعتقد البعض أنه السلام، فالعار كل العار على شعب آثر الصمت ورضي بالظلم والقهر وتعايشوا معه وألِفوه على أنه هو الأصل، فهذا وإن دل فيدل على خزي وضعف، عار على من ارتضى الظلم على غيره بحجة أنه لم يَنَلْ منه، عارٌ على مَن شاهد قهر أخيه دون أن يُوقفه، عار على من اعتقد أن في صمته السلام، يوجد من بين هؤلاء من رفض، لكنه وجد في الصمت أمانًا له ولأسرته، ومنهم من لم يستطع السُّكات لكنه يخسر حياته كاملة فيصبح مهددًا مطاردًا دائمًا، وينتهي به الحال أما هاربًا خارج البلاد أو في السجون يُلاقي العذاب، ولكن وإن نظرنا من بعيد نَرَ شعاعًا مضيئًا في آخر الطريق، فالتغيير حتمًا سيأتي، أن لم يأتِ اليوم سيأتي غدًا مع تتابع الأجيال وتطور العقول، حتمًا ستتغير الأوضاع للأفضل حتمًا سترفض الأجيالُ القادمة فكرة القبول بالمفروض عليهم، ولن تقبل إلا بما تفرضه هي على أنظمتها، يومًا ما ستنعم الشعوب بحياة كاملة دون خوف من سوط يسلخ جلودهم.

انتهى المؤتمر وقد خرج الشيخ عمَّا يُرضي الأجهزة الأمنية التي كانت متابعة لكل شئ يدور به.

مرت الأيام وتتوالى الأحداث، وتثير آراء الشيخ الشارع وأروقة المثقفين وما زال لديه القدرة على إشغال فكر أساتذته لعدة أيام بمسائل خلافية، وأثناء ما كان الشيخ متوجهًا إلى شقته قابَل في طريقه الشيخ صبحي السريع الذى لم يلتقه منذ أن كان في الميدان أيام الثورة، سلم عليه الشيخ صبحي بحرارة وهنَّأه على المؤتمر الذي ذاع صيته وانتشرت تداعياته عبر القنوات الفضائية وأحاديث المثقفين والعامة، وسأله:

- كيف حالك مع الله؟

أجابه:

- الحمد لله؛ أقيم فروضي وأحفظ نفسي وأبلِّغ علمي ولا أخاف في الله لومة لائم.

افترق الصديقان واتجه جابر لشقته يقضي الليلة أمام شاشات القنوات الفضائية يطَّلع على تداعيات المؤتمر ومناقشة وما دار به، ليُفاجَأ بغضب كبير من المثقفين والحُقوقيين الداعين للحرية، وانتقاد لاذع لآراء الشيخ بالمؤتمر، أغلق التلفاز ليتابع مواقع التواصل الاجتماعي فيجد خلافات كبيرة بين الشباب فيما ورد في المؤتمر؛ خناقات وسِباب ألقتِ الضوءَ على ما يعاني منه المجتمع من تشتُّت وجهل وتضاد في الفكر، أغلق الشيخ مواقع التواصل وولج لفراشه يحاول أن يُغمض عينيه لينام قليلًا قبل صلاة الفجر.

وفي اليوم التالي توجه الشيخ للاستوديو لحضور الحلقة الأسبوعية من برنامجه الديني ليُفاجَأ بشيخ صديق سيحضر معه الحلقة.

لم يكن يعرف الشيخ جابر الشيخ الصديق عن قرب، ولكن كان يراه من وراء الشاشة في برنامجه الأسبوعي على القناة الفضائية الذي يُديره بنفسه ويأخذ طابع برامج التوك شو.

رحبت المذيعة بالشيخين وبدأت في توجيه الأسئلة، ويجيبها الشيخُ جابر بردود قطعية مُدعَّمة بالآيات والأحاديث حتى جاء السؤال عن الخمر وأجاب جابر:

- حرَّمها الله بالتدريج، رِفقًا بالمسلمين في بادئ الأمر؛ لأنهم كانوا مُولعين بها فمنعهم عنها عندما يأتي وقت الصلاة، ثم بعد ذلك حرَّمها تمامًا، فهي حرام حاملُها وشاربُها وساقيها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}، وبذلك تمَّ تحريمها تحريمًا باتًّا فشُربُها حرام وبيعها حرام.

المذيعة:

- ماذا تقول في دخول الخمور وتقنينها في البلاد المسلمة؟

- إثم كبير، فعلى الدول المسلمة منع ما حرمه الله وعدم السماح بدخوله للبلاد.

هنا خرج الشيخ الصديق عن صمته معترضًا:

- إزَّاي يا شيخ جابر تحرم دخول الخمور، وتُؤثِّم على الدولة تقنينها وعندك في بلادك المسلمة مَن هم غير مسلمين وشريعتهم تبيح لهم الخمر؟

- هذا ما أمرنا به ديننا، ولا أخالف ديني لإرضاء أحد.

 - ومَنْ ولَّاك على رقاب العباد حتى تمنع عنهم وتُبيح؟ قال الله تعالى لرسوله ﷺ: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر.

 - أراني لم أَتسلَّط على أحد، ولكن أحمي شريعتي؛ فأنا هنا أعتبر نفسي حامي الشريعة من العبث.

- أيوة، هنرجع بقى لكهنة المعبد، يا أخي كيف؟ يقول الله: [وأطيعوا أولي الأمر منكم].

تقطع المذيعة الحوار القائم والذي كاد أن يتحول لشد بين الشيخين، موجهة السؤال لجابر:

- يعني لو الحاكم أراد فتواك في الخمر، بماذا ستجيبه؟

- سوف أقول له: إنها حرام.

في غيظ، رد عليه الشيخ الصديق:

- إذًا أنت تريد تغيير نظام الدولة وتفرض رأيك على الحاكم وتخالف قانون الدولة! الدولة التي أنت على أرضها.

- لم أقل أني أريد تغيير نظام الدولة! قلت بالنص أن كل ما يخالف الشريعة فهو حرام.

- إذًا أنت لا تعترف بدستور دولتك!

- أعترف به، لكن ليس فيما يخالف الشرع.

- نحن نعيش على أرض هذه الدولة يربطنا ميثاق واحد وهو الدستور، فإلى أي قانون تحتكم الدستور أم الشريعة؟

- أُعلي شريعة ديني طبعًا وأي قانون يُخالفها لا أعترف به.

- الدستور هو ما يحكمنا ويجب تقديمه على الشريعة، أنت بذلك ترفض الاحتكام للدستور وتفرض رأيك على الحاكم.

- لا أفرض رأيي، ولكن إذا أراد النصيحة أعطيها له، يعمل بها أو لا شيء لا أتدخَّل فيه.

- دولتك لها رئيس وقانون، أَتُخالف القانون؟

إذا كان يخالف الشرع.

- إذًا أنت تريد الخروج على الحاكم أنت تريد قلب نظام الحكم.

أجابه الشيخ وقد بدأ في فقد صبره:

- أنا لا أريد شيئًا، ولكن أقول ما يرضي الله فقط.

 انسحب الشيخ جابر من اللقاء على الهواء مباشرة، وذهب تاركًا الاستديو وهو منفعل.

اتجه لمسكنه بحي الحسين، دخل غرفته يخلع العِمَّة والجُبَّة والقُفطان، استلقى على فراشه وأغمض عينيه يحاول النوم حين دق جرس الباب تعجب الشيخ! فمن ذا الذي يدق عليه باب شقته في هذه الساعة المتأخرة؟ أيمكن أن يكون الشيخ عبيد قد عاد من القرية فهو في زيارة للأهل منذ عدة أيام؟ وإن كان هو لِمَ لا يستخدم مفتاحه بدلًا من أن يُقلقه؟ فتح الشيخ الباب في حذر ليُفاجَأ أمامه بوجه فائق الجمال، ذي شفاة غليظة وعينين واسعتين، وملابس تفضح أكثر مما تستر، امرأة في كامل أنوثتها تسند بيدها على الدرفة المغلقة من باب الشقة تقف باعوجاج وتتلوى، لَمْ يأذن لها الشيخ بالدخول، ولكنه كان في حالة من الدهشة جعلته لا يقاوم، زَجَّت به المرأة للداخل فتراجع للخلف وأغلقت هي الباب وإذ بها تنقضُّ عليه، لم يَعِ الشيخ ما يحدث ولم يتجاوب معها في البداية ولم يستطع المواجهة فأغلق عينيه، ليُلقي بنفسه داخل إعصار قوي لا يستطيع الإفلات منه، تملكه الإعصار يعلو به ويهبط وما زال الشيخ مُغمِضًا عينيه ينتظر أن تهدأ العاصفة، تأتيه خيالات القرية التي عاش فيها طفولته وصباه وصوت أبيه يلقي عليه قيم القرية والأخلاق وأمة تربت على كتفه وتمسح بيدها أعلى رأسه، يأتيه صورة الكُتَّاب وسيدنا والأطفال وهو بينهم يتلو القرآن، يمسك بلوحه الخشبي والريشة يغمزها في الحبر، كل ذلك يقع في طريق الإعصار الذي يضرب بشدة فيلقي بهم بعيدًا، تتشوش الصورة ويفتح الشيخ عينيه فلا يستطيع المواجهة يغمضهما ثانية ليرى صباه هو وصديقه الشيخ عبيد بالمعهد الديني بقريته، تأتيه خيالاتٌ من حياته أمام عينيه يرى نفسه بالعمامة والجُبَّة والقُفطان أمام جامعة الأزهر وبجانبه الشيخ عبيد يرى الشيوخ وأساتذته والأرفف محمَّلة بكتب الفقه والشريعة ومراجع تعاليم الدين التي تعترض طريق الإعصار فيعصف بكل شيء وتتناثر الكتب في الفضاء ويُلقَى بها بعيدًا عن مساره، وينال الإعصار من الشيخ، فيأخذه بقبضته حتى أصبح في مركزة يدور به يعلو ويهبط ينجرف يمينًا وشمالًا يرتطم بالأشياء فيدمرها إلى أن ألقى بالشيخ بعيدًا فارتطم جسده بالأرض، فتح الشيخ عينيه، أحس برعشة وارتجف جسده بشدة وتصبب عرقًا ثم فقد الوعي.

أفاق الشيخ ليجد نفسه بفراشه وأمامه الشيخ عبيد يحمد الله على سلامته، قال إنه عندما جاء من القرية في تلك الليلة، منذ ثلاثة أيام، وجده مُلقَى في الصالة على الأرض يرتجف بشدة ويتصبب عرقًا وفي حالة إعياء شديدة، أخذه لفراشه وداواه حتى زالت الحُمَّى، سأله الشيخ عبيد عن ذلك الإعصار الذي كان يتحدث عنه في تخاريف مرضه، انتبه جابر وخاف أن يكون قد تحدث بأكثر من ذلك وهو محموم لا يعي، إلا أنه بدا على الشيخ عبيد أنه لا يعرف شيئًا، قال:

- أعلم أن المؤتمر لم يمرَّ بسلام والهجوم عليك كان شرسًا مما جعلك لا تتحمل ومرضت، قلقت عليك في هذه الليلة، انتظرت بزوغ الفجر وأخذت أول قطار من البلدة للقاهرة لأجدك مُلقى على الأرض في حالة إعياء.

استمرت الهجمة على الشيخ في القنوات الداعمة لأجهزة الدولة حتى جاء ميعاد البرنامج الأسبوعي وعندما دخل الشيخ الأستوديو فوجئ بشخص يسلم عليه ويريد التحدث معه قبل الحلقة وعرَّف نفسه بأنه: أحد رجال الدولة المخلصين.

عشر دقائق كانت كافية لإيصال ما تريده الأجهزة الأمنية من الشيخ، بدأها الرجل بالحديث عن الصعاب والتحديات التي تواجه الدولة في تلك المرحلة الانتقالية وأوصى بتهدئة الرأي العام وعدم الخوض في أمور قد تثير الشعب على الدولة ونظامها، أنهى الرجل كلامه ببعض التلميحات فأشعل سيجارًا وأسند ظهره للوراء قليلًا، وقال:

- إن كانت الأجهزة تُخطئ أحيانًا فذلك وارد وأدينا بنصلح.

ونفخ سيجارة في وجه الشيخ واستطرد قائلًا:

- مافيش حد فينا معصوم من الخطأ يا مولانا والَّا إيه؟

اكتفى الشيخ بالإيماءة برأسه وتذكر ما حدث ليلة المؤتمر والمرأة على باب شقته، وكانت عيناه تنظران للأرض أسفًا على نفسه، وقد فطن المقصود.

بدأت فقرات البرنامج، الفقرة الأولى وحديث الشيخ تفتتحها المذيعة بسؤال:

- يا مولانا، في الآونة الأخيرة كرَّس المسلمون جميع أوقاتهم وأفعالهم لما ينفع في اليوم الآخر مما جعلهم ينعزلون عن العالم ولم يشاركوا فيما فيه من نفع للبشرية فأصبح العالم الإسلامي في عزلة عن العلم والبحث والتكنولوجيا، فما رأيك؟ وكيف ندفعهم للمساهمة فيما فيه نفع للمجتمع؟

قال الشيخ بعد الاستعاذة من الشيطان والتسمية بالله:

-الإسلام دين دنيا وآخرة، فجاء لينظم الحياة بأكملها وقد جمع بين حق الله وحق العبد وبين أمر الدنيا وأمر الآخرة، وادِّعاء أن الإسلام جاء بالرهبانية ادِّعاء باطل بل أن الرهبانية دين النصارى الباطل...

 انقطع البث وتوقف البرنامج لدقائق تتحدث فيها المذيعة مع الشيخ برفق تسمع ما يُمْلَى عليها من داخل حجرة التحكم، وتحثُّ الشيخ على الابتعاد عن مهاجمة الأديان الأخرى حرصًا منها على إتمام الحلقة دون مشاكل.

عاد البرنامج للشاشة وبدأت فقرة أسئلة المشاهدين؛ الاتصال الأول:

- يا سيدنا، أنا امرأة أبلغ من العمر أربعين عامًا، متزوجة وأعمل في مكان مرموق لم أكن أرتدي الحجاب لكني ارتديته منذ وقت قريب فقد بلغت من العمر منتصفه وأخاف أن أقابل الله بدونه، ولكن بحكم عملي الذي يحتِّم عليَّ الاهتمام بمظهري، آخذ زينتي عند الخروج للعمل، وقيل لي أن هذا لا يتناسب مع ارتدائي للحجاب فما حكم الدين وماذا أفعل؟

 بشيء من المهادنة، جاوبها الشيخ:

-  إن الأصل في المرأة التجمل، فالتتجملي.

ابتسمت المذيعة، قالت:

- شيخنا انهاردة راضي عن الستات، الاتصال الثاني:

- يا مولانا، أنا شاب في مقتبل الحياة، أخذت قرضًا من البنك لأبدأ مشروعًا صغيرًا، يتراكم عليَّ فوائد شهرية لا أستطيع دفعها، ولا أشعر بربح مشروعي فأنا دائمًا متعسر، هل ذلك غضب من الله بسبب القرض؟

- ما ذنب القرض؟! هذا ذنبك أنت، أنت من لم تستطع إدارة مشروعك؟

شعر الشيخ بالتوتر، أزاح عنه عرق جبينه بمنديل في يده، لاحظت المذيعة توعكه وعرضت عليه الخروج لفاصل فاستجاب، توقف البرنامج لدقائق تطلب المذيعة كوبَ من الماء للشيخ الذي اعتذر بعدها عن إكمال الحلقة.

 اعتذرت المذيعة للمشاهدين وأعلنت عن توعك الشيخ صحيًّا وأنهت الحلقة قبل ميعادها.

 لم يتوقف جرس المحمول عن الرن ولكن جابر امتنع فلم يرد على أيٍّ من الاتصالات الواردة تسأل عن صحته. حثه الشيخ عبيد على الرد على الناس ولكنه رفض، حاول الشيخ عبيد معرفة ما حلَّ بصديقه لكنه أبى أن يتحدث مع أحد، ظل جابر في شقته لا يخرج منها ولا يقابل أحدًا بها حتى جاءه ذلك الرجل الذي قابلة في الأستديو منذ عدة أيام وعرَّف نفسه حينها بأنه: أحد رجال الدولة المخلصين، لم يكن الشيخ عبيد بالشقة حينها، دخل الرجل وجلس دون أن يأذن له جابر، قال أنه جاء ليسأل عن صحته فمنذ أن كان في الأستديو ذلك اليوم وشعر بتوعك لم يخرج ولم يرد على المحمول مما اضطره للمجيء بنفسه للسؤال عليه، قال الرجل:

- كيف حالك يا مولانا؟

- بخير.

- تمام كويس، واحنا عايزينك بخير دايمًا.

أنتم! من أنتم؟

- نحن رجال الدولة المخلصون الحريصون على سلامتها وأمنها، ألم أعرفك بنفسي من قبل؟

- ماذا تريدون؟

- نريدك معنا.

كشافات وإضاءة عالية واختبارات للصوت، ديكور فخم يقف الشيخ في منتصفه مرتديًا بدلة وجرافات وشعره منمق لأعلى ينظر للكاميرا، يقدم برنامجه الجديد الذي يديره بنفسه ويأخذ طابع برامج التوك شو.

صفق الجمهور الذي اُختير بعناية لحضور الحلقة وبدأ الشيخ جابر حديثه بالصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم، ثم قال:

- سأروي لكم قصة قصيرة لعل فيها عبرة لكم؛ في يوم من الأيام جاء أحد العامة لحكيمٍ في قصره يشكو من التعاسة، ولكي يعلِّمه الحكيم معنى السعادة أعطاه ملعقة بها نقطة زيت وقال له:

- اذهب وَطُفْ بهذه الملعقة حول سور القصر وارجع لي دون أن تسقط منك نقطة الزيت بداخل الملعقة.

أخذ الرجل الملعقة وطاف حول سور القصر بكل حرص ورجع للحكيم والزيت ما زال في الملعقة، سأله الحكيم:

- هل رأيت الزهور بجمال ألوانها حول سور القصر؟

قال الرجل:

- لا.

سأله:

- هل سمعت زقزقة العصافير فوق الشجر؟

قال الرجل

- لا.

- ولم تَرَ الفراشات تطير، ولم تشاهد الأولاد يلعبون، ولم تَرَ الحديقة الغنَّاء بالخارج؟

قال الرجل:

- لا.

سأله الحكيم:

- لماذا؟

قال، لأنني لم أرفع عيني عن ملعقة الزيت خشيةَ أن يسقط مني فلم أَرَ شيئًا مما حولي.

قال الحكيم:

- إذًا، اذهب وَطُفْ حول السور بملعقة الزيت، ولكن هذه المرة شاهد كل ما أخبرتك عنه وعُدْ لي ثانيةً.

ذهب الرجل وطاف حول السور وشاهد كلَّ هذا الجمال ثم عاد للحكيم الذي سأله:

- ماذا رأيت؟

انطلق الرجل يحكي عمَّا رأى في سعادة وانبهار؛ قال:

- رأيت الحديقة الغناء بالخارج وألوان الزهور وفراشات تطير وسمعت زقزقة العصافير والأولاد يلعبون.

نظر الحكيم للملعقة فلم يجد نقطة الزيت فسأله:

- وأين الزيت؟

قال الرجل:

- سقط مني في الطريق، حين كنت أستمتع بما أراه به.

ابتسم الحكيم وقال:

- هذا هو سر السعادة يا بني، فنحن لا نرى الكثيرَ من نعم الله حولنا؛ لأننا نشغل أنفسنا بهمومنا وصغائر ما في نفوسنا، نقطة الزيت تلك هي الهَمُّ الذي يشغلك عن رؤية النعم من حولك، السعادة يا بني هي أن ترى النعم وتسعد بها وتنسى ما أَلَمَّ بك من هموم فيسقط الهم في الطريق.

قال الشيخ بعد أن أنهى حكايته:

- هكذا الكثير منا الآن لا يرى النعم حوله ويركز فقط على صغائر الأمور وينفخ فيها ليجعل منها بالونًا كبيرًا قد تنفجر في وجهه، ألا يكفي أنك تعيش في دولة مستقرة لا حروب بها؟ ألا يكفي أنك تعيش على أرض بلادك لست لاجئًا في بلد أخرى كغيرنا من الشعوب التي دُمِّرت بلادهم؟ أقول لكل مَن سوَّلت له نفسه تدميرَ هذه البلد: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد. ستظل هذه البلد آمنة كما ذُكرت في القرآن الكريم مهما حاول العابثون العبث بها.

خرج فاصل، تناول به جابر مشروب ساخن وأعاد الماكير تنميق شعر رأسه، ثم عاد البرنامج بفقرة أسئلة المشاهدين.

الاتصال الأول:

- يا سيدنا، أنا أسكن في منطقة مُهدَّدة بالإزالة لاعتراضها أحد مشروعات الدولة الكبرى، عرضت الحكومة علينا تعويضًا لا يسمح لي بشراء مسكن ملائم، أو أن يُفرَض عليَّ السكن بعيدًا عن المدينة، وذلك يسبب لي عناء شديد، فبُعد السكن يرهقني كثيرًا ويرهق أبنائي الذين هم في مدارس وجامعات حكومية بقلب القاهرة، فليس بمقدوري أن الحقهم بمدارس وجامعات خاصة، كما أن عملي بالقرب من منطقتي الحالية والانتقال لسكن بعيد يرهقني جسديٍا وماديا فأنا على قد حالي و...

قاطعة جابر يطلب منه العجلة في طرح السؤال، باديًا تململًا:

- ما هو سؤالك؟

- لقد سمعت عن عمارة الزمالك التي تضررت جراء تنفيذ خط مترو بجانبها وشاهدت غضب الإعلام بسبب تأزُّم سكانها، وعلمت بما قامت به الدولة نحوهم من دفع تعويضات مناسبة تمكنهم العيش في مكان مماثل لمسكنهم بالزمالك حتى لا تتضرر معنوياتهم إلى أن تقوم الدولة بترميم ما أفسده الحفر بالمبنى، المساواة في الظلم عدل يا سيدنا، أين ما اتفقنا عليه أيام الثورة؟ لقد كنت من هؤلاء الذين ناموا بجنازير الدبابات ثمانية عشر يومًا أملًا في تحقيق العدل والمساواة، أريد أن ينظر الإعلام إلينا بعين الاهتمام، وتنظر الدولة لنا بعين الرحمة، تلك التي نظرت بها للأثرياء من سكان عمارة الزمالك.

جاء رد جابر منمقًا ملائمًا لحلته الجديدة، قال:

- دعنا نتفق أن المساواة ليست هي العدل؛ فإذا نظرنا لشخصين جائعين أحدهما لم يأكل منذ يومين والآخر أكل وجباته بانتظام وينقصه فقط وجبة العشاء وقدمنا الطعام بكميات محددة وساوينا بينهما في الكميات وانتظرنا حتى فرغت الأطباق لنجد أن الأول ما زال جائعًا، أما الثاني فشبع فهل هذا عدل؟ فإن حاولنا إرضاء الشخص الأول بأن ضاعفنا له كمية الطعام ووجدنا أنه ما زال جائعًا، فإنَّ قدمنا له المزيد سيصاب بالتخمة ويمرض ونكون بذلك أضررناه بغير قصد منا، خَلَقنا الله طبقات وقُدرات وكل حسب قدراته يُرزق، الدولة أدرى منَّا في فَهم وتحديد ما يحتاجه مواطنوها فتحدد كمية الاهتمام والرعاية الخاصة بكل مواطن والتي تراها مناسبة له- يتابع الشيخ- ما يمكن يا أخي سكان الزمالك يتأثروا نفسيًّا بما يمثل خطرًا شديدًا عليهم لو لم تضعهم الدولة في نفس مستواهم الذي هم به بالزمالك حتى ترميم مسكنهم، يمكن ذكرياتهم في ذلك المكان تؤثر عليهم بالسلب إذا انتقلوا لمكان أقل، أليس من الممكن أن تتأثر مراكزهم الاجتماعية وأعمالهم بما يمثل خطرًا داهمًا عليهم بل وعلى اقتصاد الدولة كلها؟ يمكن أنت ربنا ادّاك القدرة تستحمل الشقا وحرمهم من هذه القدرة على التحمل، شُفت بقى أنت متحامل عليهم ازَّاي؟

أغلق الخط دون أن ينول المتصل فرصة للرد، ويكمل الشيخ حديثه للمتابعين: أرأيتم؟!هذا هو ما أحدثكم بشأنه من أول الحلقة، فحين تنظرُ للشيء في يد غيرك يجلب عليك التعاسةَ ويجعلك دائمًا ناقمًا على عيشتك غير راضٍ بما قسمه ربك لك، انظر للنعم التي أنعم الله بها عليك وبلاش تقول اشمعنى دا معاه حته زيادة عني، ما يمكن يا أخي ربنا معوضه عن شيء ما ينقصه في صحته أو في أولاده أو شيء ما غير محمود تعرض له في حياته، أنت ما تعرفش ربنا اخد منه ايه وادهولك...

توالت الاتصالات وتكررت الحلقات والشيخ لا يقول إلا ما يُمْلَى عليه وبات نجمًا من نجوم الفضائيات، وانزاح عنه الشباب مرة تلو أخرى، بعد أن بعُد بأرائه عن الشارع ومالت مواقفه واعوجَّ حديثه، وفَقَدَ احترام رواد التواصل، وانتشرت النكت والسخرية منه حتى أصبح تجاهله هو أكثر ما يتمناه.

كان صوت داخله يناجيه، يعاتبه ويواسيه:

- انهض يا جابر، لست أنت السبب فيما آلت إليه الأمور بالبلاد فأنت انسان ضعيف لا تفعل إلا ما يُطلَب منك...

- ولكني أداة في أيدي هؤلاء الطغاة سوف يحاسبني الله كما سيحاسبهم.

- أنت تفعل هذا إنقاذًا لنفسك منهم، الله يعلم كل شيء، أنت لم تفعل شيئًا فلستَ أنتَ من قتل الشباب في المظاهرات، ولا أنت من ألقى بجثثهم بجانب صناديق القمامة، ولا أنت من قُمت بإحراقهم في الميدان، لست أنت من هدم الثورة، بل هم هؤلاء الأغبياء، هم من أداروا ظهورهم للحق بحثًا عن مصالحهم الشخصية، انهض يا جابر لا تَلُمْ نفسك ولا تكترث لشيء سوى نفسك فالكل جبان الآن، كل شيء سيصبح على ما يرام، الله سيصلح كل شيء.

وشيئًا فشيئًا انساق الشيخ وراء المصالح والأموال وبات حديثه أقرب للافتراءات والهذيان، حتى حاد عن الحقيقة برمتها، وأصبح له مسكن خاص في حي من الأحياء الراقية وسيارة فارهة وملابس ثمينة. وفي أحد الأيام وكان الشيخ على علاقة ما زالت طيبة بعض الشيء بالشيخ عبيد، صديق العمر، وكان مازال عند آرائه الثورية، ولم يَحِدْ عن أهداف الثورة في عيش وحرية وعدالة اجتماعية، ودار نقاشٌ طويلٌ بينه وبين جابر في مكالمة هاتفية لم تخلُ من العتاب، استنكر فيها جابر اتصال الشيخ صديقه بالثوار، وخاصة هؤلاء المنتمين للجماعات الإسلامية، أخذًا عليهم بعض الأمور، قال أنهم يَحيدون عن مذهب الأزهر الوسطي ويشوهون صورة الإسلام بالداخل والخارج ولا يريدون إلا النيل بالدولة وكسرها ويسعون للسلطة، فقال:

-  اسمع يا أخي، والله إني لأرى الآن أننا كنا على خطأ في مساندة هؤلاء.

أنصت الشيخ عبيد لكلام جابر، ثم عاب عليه ما يقوله في برنامجه اليومي من افتراءات على الثورة والثوار بادي اندهاشًا من كَمِّ التغيير الذي حدث لشخصيته المسالمة فكان يبتعد عن أي مشكلات، عتب عليه اندفاعه في إلقاء الاتهامات على الفصيل الإسلامي، وتحميلهم كل ما بالبلد من مشاكل وأزمات، وقال:

- يا صديقي، إني لأراك قد حِدتَ عن الطريق الصحيح وأرى نفسك وقد انتصرتْ عليك والشيطانُ وقد قارب على تحقيق مبتغاه، وإني والله لأربَأ بك أن تقع في المحظور، ذلك إن كنت ما زلت لم تقع فيه بالفعل.

 انتهت المكالمة، وقام الشيخ عبيد يستعد لنزول مظاهرات دَعَا لها أحد المعارضين من الخارج لتكملة ما بدؤوه في الثورة.

 بقى جابر بعد مكالمة الشيخ عبيد جالسًا في مكانة لدقائق يضع رأسه بين كفَّيه ناظرًا للأرض حتى رنَّ هاتفه يُظهر اسم مُعِدِّ برنامجه يُبلغه اسم الشيخ ضيف الحلقة، وانتبه لأن بقي من الوقت ما يسمح له بالظهور على الهواء في كامل أناقته.

هندم ذقنه وأخذ دشًا دافئًا وارتدى بدلته الأنيقة والجَرَافات، وساعة يده الغالية وتأهب للنزول، استقلَّ عربته البورش، لم ينس أن يضع نضَّارته السوداء على عينيه، وذهب في طريقه للقناة الفضائية.

وعند صعوده سلم القناة قابل الشيخ صبحي السريع أثناء خروجه منها، وكان ضيفًا لأحد البرامج الدينية بها، لم يمدَّ الشيخ صبحي يده بالسلام، بل ألقى التحية شفاهية بدون روح، وسأله:

 - كيف حالك مع الله؟

تلعثم جابر فلم يجد إجابة لسؤاله، انتظر قليلًا، ثم تركه ودخل القناة.

بدأ جابر برنامجه اليومي بالآية الكريمة:

}مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَديه رَقِيبٌ عَتِيد{

ثم انتبه لما يُملَى عليه من أحد رجال الدولة العميقة المتواجد دائمًا بداخل حجرة الصوت بالأستديو، تكلم جابر في مقدمة برنامجه عن هؤلاء العابثين بالبلاد ولا يريدون لها الاستقرار، تكلم عن ذلك المناضل الذي أتى من الخارج يهدف لتنفيذ أجندة خارجية يُملي علينا قرارات الخارج، عاب في شكله وطريقة كلامه التي تأتي بتكرار بعض الأحرف بما فيها من تهتهة لا تمكنه من الكلام بشكل صحيح تكلم عن هؤلاء أصحاب الذقون الذين يريدون أن يحكموا بحدود الله الأمر الذي قال أنه لا يرفضه وإنما يرى صعوبةً في تنفيذ أحكامه اليوم، استنفر الشيخ ترويج هؤلاء لفكرة الخلافة الإسلامية ، قال أنهم بذلك يُريدون إرجاع البلاد إلى العصور الوسطى، هاجم ذلك المعارض الذي هو بالخارج يدعو الشباب للخروج عن الحاكم ، وأخيرًا دعا للوطن بصلاح الحال والأحوال.

انتهى جابر من مقدمته وأعلن عن ضيفه مُرَحِّبًا به وهو شيخ من أساتذته المسنود من النظام وله دور كبير في إلقاء الفتاوى المثيرة للجدل التي تخدم النظام وتُلهي الشارع وتشغل الرأي العام.

وبعد حديث رأه المتابعون، أجوف مائع من الضيف يدعمه جابر بابتسامة باهتة يهز رأسه بالموافقة على كل ما يقول جاءت فقرة أسئلة المشاهدين، الاتصال الأول:

- أنا في السادسة والعشرين من عمري خلقني الله بجسد أنثوي خارجي، وعندما بلغت الحلم، لم أشعر بنفسي بداخل ذلك الجسد الغريب عني، ففكرت أن أخضع لعملية تحويل جنسي وأقول إنها عملية تحويل ليست تصحيحًا، فكل هرموناتي كانت منضبطة لا خلل فيها، ولكني ومع ذلك لم أشعر بنفسي في الصورة التي صورني فيها الله، وأحسست بروحي تائهة بداخل جسد لا أشعر أنه لي.

انتاب الحضور والعاملين بالاستوديو حالة صمت، حين كان الشاب يُكمل كلامه:

- خضعت لعملية تحويل جنسي بالخارج وعدت لأكمل حياتي في بلدي وسط أهلي. عانيت كثيرًا في بادئ الأمر فلم يتقبلني أحد منهم، وشعرت بالغربة أكثر من ذي قبل.

بكى الشاب بحرقة وهو يقول:

- أنا مختلف ولا أستطيع العيش في مجتمع لا يتقبلني، أعلم أني أخطأت، ولكن ما الحل الآن؟ أشعر بتناقض كبير بداخلي فلا أستطيع ممارسة حياتي الطبيعية في مجتمع لا يتقبل اختلافي، أفكر في لحظة موتي، وأتساءل دائمًا هل سيترحَّم عليَّ أحدٌ؟ الكل ينفر مني حتى مَن كانوا قريبين وأشعر بغربتي بداخلي ولا أجد لها حلَّا.

انقطع الاتصال، وبدأ الشيخ جابر الحديث، قال:

- يا أخي، لقد تحدَّيت الله في صنعه وتريد أن تشعر بالراحة كيف؟ ما قمت به هو مخالف لطبيعتك التي خلقك الله عليها، قلت أنك تشعر بغربتك بداخلك؛ لأنك لست في جسدك الطبيعي وكان من الأفضل بما أن التحاليل الطبية أثبتت أن هرموناتك سليمة كان عليك أن تكتفي بذلك وتعود لبلادك وتعالج نفسك من أوهامك، فالطب النفسي قادر على معالجة مثل تلك العقبات النفسية، لكن أن تقرر تغيير خلقتك هذا هو سبب ما أنت فيه الآن من عذاب، استغفر ربك وارجع إليه، لعله يغفر لك.

وأثناء الحلقة جاء خبر عاجل؛ ينعي الخبر اثنين أحدهما شاب والآخر شيخ أزهري مات برصاصة في الرأس أثناء فضِّ الشرطة لمظاهرة ضد النظام، تحشرج الكلام في حلق جابر واختنق صوته عندما أُعلن عن اسم الشيخ القتيل وكان هو الشيخ عبيد، نزلت صورته على الشاشة الكبيرة بالأستديو. كادت عين جابر تذرف الدموع التي منعها فتحجرت بمقلتيه عندما سأله الشيخ الضيف:

- هل تعرفه؟

أجابه جابر:

- لا، لم يكن لي علاقة به قط.

أكمل جابر الحَلَقة وفي حلْقة مرارة، وعيناه ترصد تداعيات الحدث بالشاشة، راح يلقيَ اللوم على أصحاب تلك الدعوات الشيطانية، قال أنها تهدف لخراب البلد وتسببت في مقتل هؤلاء الأبرياء الذين سألت دماؤهم في الشوارع نتيجة لدعوات هؤلاء أعداء الوطن، ختم كلامه بالحث على طاعة ولي الأمر ودعَّم قوله بالآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. نزل تتر النهاية وتوجه جابر إلى دورة المياه، وقف ينظر بالمرآة مسندًا يده بحوض الاغتسال وأطال النظر حتى احمرَّ وجهه وكاد أن يجهش بالبكاء لولا أنقاطعه أحدُ العاملين بالقناة يقتحم عليه المكان ويَحرمه تفريغ ما بداخله من حزن. فوجئ العاملُ بالشيخ وحاول الحديث معه فجاء صوتُ الشيخ متحشرجًا مخنوقًا الأمر الذي أثار انتباه العامل ليسأله في قلق عن حاله وإذا ما كان يحتاج مساعدة؟ شكره الشيخ وفور خروج العامل، انهمرت دموعه حتى بللت لِحيته، حاول استعادة نفسه قبل أن يخرج من دورة المياه، هدأ قليلًا، ثم غسل وجهه وجفَّفه بمنديل في جيبه وأعاد هندمة شعره ولبس نضارته السوداء، وذهب قاصدًا الخروج من مبنى القناة الفضائية بعد أن أنهى عمله بها ليستقلَّ سيارته البورش الفارهة.

***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.