fatmahmza

شارك على مواقع التواصل

ألا أُونا ألا دُو ألا تِري، ألف مبروك أستاذ محمد، كل التهاني لك المتجر أصبح ملك لك.

كم أنا سعيد بتلك اللحظة، كيف كنت منذ سنوات مضت؟ لم أتخيل حينها أني سوف أكون مالكًا لمحل المأكولات الذي كنت أعمل به مجرد سائق دليفري. وعلى قدر سعادتي إلا أن هناك شيء ينتقص منها، أشعر أن عمري سرق مني دون أن أكوِّن أسرة وأطفالًا كما كنت أتمنى، طالت سنوات غربتي وبدأ الشيب يطرق رأسي. لا بأس يكفي أني أمتلك هذا المكان الآن لا بُدَّ أنها هي تلك الكلمات التي كتبتها لي المرأة على ورقة خمسة الجنيهات، أتذكَّر كيف كانت مطوية، يومها ذهبت لتوصيل وجبة لها كانت قد طلبتها بالتليفون، وقفت على الباب أنتظر أن تأتيني بثمن الوجبة لأرحل، وقفت كثيرًا حتى مللت. خرجتْ هي وأعطتني ثمن الوجبة وبقشيش خمسة جنيهات مطوية بشكل غريب وضعتها في جيبي ولم أفتحها إلا في المساء بعدما انتهيت من عملي وذهبت للمنزل.

جلست أجمع ما حصلت عليه من بقشيش في ذلك اليوم، نظرت إلى الخمسة جنيهات، شغفتُ لفك طياتها ولم أجد بداخلها إلا بعض الكلمات مكتوبة عليها بخط عريض تقول:

" يومًا ما سوف تكون أنت صاحب المكان الذي تعمل به"

آه لو أجد تلك المرأة الآن، أتذكر أنها كانت قريبة من هنا لكني لا يمكنني تحديد العمارة على وجه الدقة، ولم أهتم وقتها فلم أصدق تلك الكلمات ولكني احتفظت بالخمسة جنيهات في محفظتي لعل النبوءة تتحقق يومًا ما وها هي فعلًا قد تحققت. لن أستسلم سوف أبحث عن تلك المرأة صاحبة النبوءة حتى لو اضطرني الأمر لأنْ أدق أبواب كل شقق المنطقة.

كان ذلك منذ عدة سنوات عندما أشار لي مديري بالعلم بأن عقدي قد أوشك على الانتهاء وقد لا يجدد لي مرة أخرى، حينها كنت على مشارف الخمسين من العمر والمكان أصبح لا يصلح لمن هم مثلي، فالعمل في فندق مشهور يتطلب سنًا صغيرًا. أنهيت عملي وعدت إلى شقتي، نظرت في مرآتي، فرأيت بعض الشعيرات البيضاء التي تخللت جانب رأسي.

جلست أفكر ماذا بعد أن أفقد عملي؟ فليس لدي دخل يكفيني لبقية عمري، مدخراتي لن تصمد إلا سنوات قليلة ولن أجد بعدها ما يسترني، ماذا بعد أن يلتهم الشيب رأسي وتضعف قواي؟ لم يرزقني الله بالأبناء لا يوجد من يعينني في شيخوختي، ماذا أفعل؟

ما هي إلا دقائق وأمسكت بجهازي المحمول، طلبت ثلاثة طلبات من ثلاثة أماكن مختلفة، أحضرت ثلاث ورقات مالية بعملة خمسة جنيهات، كتبت على كلٍّ منها كلمات لها شكل النبوءة وطبَّقت الورقات في شكل هرمي ليكون لمن أعطيها له شغف فتحها وقراءة ما بها. جاء الشخص الأول وكان ممرضًا، يعمل في الصيدلية بأول الشارع، طلبت حقنة فيتامين لم أكن بحاجة إليها وأعطيته الخمسة جنيهات الأولى مكتوبًا عليها:

"يومًا ما سوف تكون أنت الطبيب الصيدلي بتلك الصيدلية التي تعمل بها".

 أما الثاني فكان سائق دليفري، تركته بالخارج فترة حتى ملَّ الوقوف ثم خرجت وأعطيته ثمن الوجبة والخمسة جنيهات مطوية مكتوبًا عليها:

" يومًا ما سوف تكون أنت صاحب ذلك المكان الذي تعمل به".

 أما الثالث، هو ابن حارس العقار، الغلام الذي لم يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا وقتها طلبت منه بعض البقالة وأعطيته الخمسة جنيهات مكتوبًا عليها:

"يومًا ما سوف تكون أنت مالك تلك البقالة التي تأتيني منها ببقالتي الشهرية".

لا أعرف أكانت مجرد كلمات على ورقة النقود أم تعويذة تحقق لمن يقرؤها ما هو مكتوب بها، الآن وقد هَرِمت ولم أعد أملك ما يؤويني ولكني ملكت شيئًا أهم من ذلك؛ ملكت التحكم في أحلام هؤلاء، جعلتهم يعملون لسنوات يتحدون الصعاب لأهنأ أنا، يهرولون في الحياة لأنعم بها، كان لا بُدَّ من أن أجد أحد يعمل من أجلي وإلا متُّ جوعًا ومرضًا. أجلس في بيتي الآن يأتيني دوائي شهريًّا بالمجان من الصيدلية بأول الشارع بعد أن أصبح الممرض دكتورًا يعمل بها، فقد علمت أنه درس ثانوية عامة وحصل على مجموع كبير ودخل كلية الصيدلة وأصبح دكتورًا في نفس الصيدلية التي كان يعمل بها ممرضًا وهو الآن يشارك صاحبها بها، أما الغلام ابن حارس العقار، وكأنَّ شيطانًا تلبسه ذلك الأخرق، رأيته يعمل ليل نهار بالبناية بلا توقف كآلة، بل وبجانب ذلك عمِل سمسارًا واتفق مع بوابين العمارات المجاورة ليأتي لهم بالزبائن لتسكين الشقق الفارغة، أصبح لديه سيارة أجرة، يأتي بزبائنه الخليجيين من المطار وكثيرًا ما كان يقع شجار بينه وبين بوابين البنايات المجاورة على أموال السمسرة فكان يطمع بها، وأصبح له شقة يؤجرها مفروشة ولم يكتفِ بذلك بل عرض على صاحب البقالة مبلغًا كبيرًا لشراء بقالته ولكنه رفض، وفي ليلة سوداء استيقظنا على حريق هائل بالبقالة دمرها بالكامل.

لم يسلم الفتى، لحقته الاتهامات بأنه هو الفاعل، وخاصة بعد عرضه على صاحب البقالة، بأن يدفع له في إعادة تجهيزها على أن يشاركه فيها، وافق صاحبها على مضض.

يرسل إليَّ الصبي بقالتي شهريًّا دون أن يطالبني بثمنها.

أسمع جرس الباب، من الذي يأتي في ذلك الوقت؟ ليس هذا ميعاد الصيدلي ولا البقال، من يكون الطارق إذًا؟

ـ السلام عليكم سيدتي، أتتذكرينني؟ أتيتك هنا منذ عدة سنوات وكنت حينها سائق دليفري، أعطيتني خمسة جنيهات كتبت عليها نبوءة وقد تحققت بالفعل، ولكِ مني وجباتك اليومية دون أي مقابل مادي.

ـ انتظرتك، وكنت أعرف أنك سوف تأتي، أين كنت كل تلك السنوات؟

ـ بعد أن قرأت نبوءتك لم أصدق ما بها، عملت لعدة أشهر في محل المأكولات، ثم تركته وذهبت للعمل بالنقاشة في شركة مقاولات عقارية، فأنا في الأصل خريج فنون جميلة وأجيد شغل النقاشة والرسم على الجدران، تعاقدت معي الشركة على العمل بمشروع لها في إحدى دول الخليج، سافرت وبقيت هناك لعدة سنوات، وها أنا قد عدت محملًا بالأموال. انتظرت حتى إعلان صاحب محل المأكولات عن بيعه وذهبت للمزاد، حصلت عليه بمبلغ مبالغ فيه لكن لا يهم، المهم أنني أصبحت صاحب المكان بالفعل، وها أنا أمامك الآن أحمل لك الجميل وأريد مكافأتك على نبوءتك لي.

ـ لم تكن نبوءة، بل هي تعويذة تحمل لمن يقرؤها ما بها من خير، وعليَّ أن أحذرك فإن لم تستمر بوعدك لي في إرسال الوجبات سوف تنقلب عليك التعويذة وتفقد محل المأكولات وتعود كما كنت سائق دليفري.

***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.