وقفَ اثنان من رسَّامي المناظر الطبيعية يتأملان منظرًا طبيعيٍّا، وقد كان أيضًا منظرًا
بحريٍّا، وكان كلاهما مبهورًا للغاية بالمنظر أمامه، رغم أن انطباعات كلٍّ منهما لم تكن
متماثلةً تمامًا؛ فبالنسبة إلى أحدهما، الذي كان فنانًا صاعدًا من لندن، كان المنظر جديدًا
وغريبًا أيضًا. أما الآخر، الذي كان فنانًا محليٍّا ولكن ذاعت شهرته خارج نطاق منطقته
بقليل، فقد كان المنظر مألوفًا بقدر أكبر، ولكنه ربما كان غريبًا بالنظر إلى ما كان يعلمه
عن المكان.
كان المنظر من حيث درجةُ اللون والتكوين، كما رآه هذان الرجلان، عبارةً عن مساحة
منبسطة من الرمال وفي خلفيتها مشهدٌ للغروب، كان المشهدُ كلُّه يقبع في خطوطٍ رفيعة
من الألوان الداكنة، كالأخضر الداكن والبرونز والبُني والرمادي المائل إلى السواد الذي لم
يكن كئيبًا فحسب، وإنما كان يثير شيئًا من الغموض يفوق اللون الأصفر الذهبي في
ذلك الوقت من الغَسق. ولم يكن يقطع هذه الخطوطَ المستوية سوى مبنًى طويل يمتد
من الحقول حتى رمال الشاطئ، في مشهدٍ جعل النباتاتِ الناميةَ حوله من الحشائش
والأعشاب المُوحِشة تبدو وكأنها تلتقي بالأعشاب البحرية، ولكن كان أبرز ملامحه أنَّ
الجزء العلوي منه كان غير منتظم كما لو كان خَرِبًا، ويتخلَّله الكثيرُ من النوافذ العريضة
والصدوع الكبيرة، ما جعله يبدو وكأنه هيكلٌ عظميٌّ مُعتِم على خلفية الضوءِ الآفِل خلفه،
في حين كان الجزءُ السفليُّ من المبنى بالكاد لا يحتوي على أي نوافذ على الإطلاق؛ إذ كانت
معظم فتحات النوافذ محجوبةً ومسدودةً بالطوب، وكان من الصعب رؤيةُ مَعالمها في ظُلمة
الغسق. ومع ذلك، كان هناك على الأقل نافذةٌ واحدة لا تزال كما هي؛ وكانت فيما يبدو هي
الأغرب من بين كلِّ النوافذ لأنَّه كان ثمة ضوءٌ ينبعث منها.
تساءَل الرجلُ اللندني الضخم البنية الذي كان يبدو عليه المظهر البوهيمي، وكان
شابٍّا يافعًا لكن كان له ذقن أحمر أشعثُ جعله يبدو أكثر تقدُّمًا في العمر، وكان تشيلسي
مَنْ عساه يستطيع العيشَ » : يُناديه بطريقةٍ غير رسميةٍ باسم هاري باين؛ تساءَل متعجبًا
«؟ في ذلك الهيكل القديم البالي
الأشباح، ربما. حسنًا؛ فالأشخاصالذين يعيشون هناك » : أجابه صديقه مارتن وود
«. هم في الواقع أقربُ إلى الأشباح
ربما كانت المفارقة أنَّ الفنان اللندني كان ريفيٍّا في اندهاشه وحَداثة خبرته، بينما
كان الفنان المحلي أكثرَ فطنةً وخبرة، وكان ينظر إليه باستمتاعٍ يجمع بين النضج والود.
وبالطبع كان الأخير أهدأ وذا هيئة مألوفة أكثر، وكان يرتدي ملابسَ أكثر دكانةً، وكان
حليق الذقن، ذا وجهٍ مربعٍ لا تظهر عليه المشاعر.
ربما هي آثار الزمن، بطبيعة الحال، أو تواتُر الأزمنة ومن ثَمَّ » : ثم استطرد قائلًا
العائلات بمرور السنين. إنَّ آخر فردٍ من عائلة آل دارناواي العريقة يعيش في هذا المنزل،
وليس هناك من فقراء هذا العصرمَن هم في مثل فقرهم. إنهم حتى لا يستطيعون تحمُّل
تكاليف إصلاح الطابق العلوي من بنايتهم بما يجعله صالحًا للسكن؛ بل إنهم مضطرون
إلى العيش في الغرف السفلية الخَرِبة، كالخفافيش والبوم. ومع ذلك، لديهم صورٌ للعائلة
تعود إلى حروب الوردتَين وكذلك أول صورة زيتية في إنجلترا، وبعض هذه الصور بحالةٍ
جيدة جدٍّا؛ وهذا ما عرَفتُه بالمصادفة لأنهم طلبوا مشورتي المهنية من أجل صيانتها. وثمة
صورةٌ منها أخصُّها بالذكر، وهي إحدى الرسومات الأولى، ولكنها ذات حالة جيدة للغاية
«. حتى إنها تصيبك بالقُشَعْريرة
«. أعتقد أن المكان كلَّه يصيبك بالقُشَعريرة بمجرد النظر إليه » : أجاب باين
«. حسنًا، صَدقت، إنَّه كذلك » : قال الصديق
ثم سادَت فترةٌ من الصمت قطعَهاصوتُ حفيفٍ خافتٍ بين الحشائشبجوار الخندق
المائي جعلهم يَجفِلون بعصبيةٍ بسيطة، كانت منطقية بما فيه الكفاية؛ إذ رأوا جسمًا
مُعتِمًا يتحرك بسرعة عبر الشاطئ، فيبدو أشبهَ بطائرٍ فَزِع. بيد أنه كان مجرد رجل يسير
بسرعة وفي يده حقيبة سوداء، كان الرجل ذا وجهٍ شاحب طويل، وعينَين حادَّتَين رمقَ بهما
الفنانَ اللندنيَّ على نحوٍ غامضٍومرتابٍ بعضالشيء.
إنه الدكتور بارنيت ليس إلا. مساء الخير » : قال وود بنبرةٍ تنمُّ عن بعض الارتياح
«. أيُّها الطبيب. هل أنت ذاهبٌ إلى المنزل؟ أتمنى ألَّا يكون أحدهم مريضًا
الجميعُ دومًا مرضىفي مكان كهذا، ولكنَّ المرضيشتدُّ عليهم » : هَمهم الطبيبُ قائلًا
أحيانًا فلا يعرفون ما الأمر. إنَّ الجو العام في المكان فاسدٌ ومُسبِّبٌ للأمراض. وهذا أمرٌ لا
«. يُحسَد عليه الشابُّ الأسترالي
«؟ ومَنْ عساه يكون ذلك الشاب الأسترالي » : عاجله باين بسؤال فجأةً وبذهنٍ شارد
آه! ألم يُخبِرك صديقك عنه؟ أعتقد أنه في الغالب سيصل » : هَمهم الطبيبُ مرةً أخرى
اليوم. إنَّها قصةٌ رومانسيةٌ على الطريقة الميلودرامية القديمة؛ حيث يعود الوريثُ إلى قلعته
الخَرِبة قادمًا من المستعمرات، وتكتمل القصة باتفاقٍ عائليٍّ قديمٍ بأنْ يتزوج من السيدة
التي تشاهد العالم من بُرجها العاجي. أمورٌ غريبة بالية، أليس كذلك؟ لكنها أحيانًا ما
«. تحدث حقٍّا. ولقد حصل على القليل من المال، وهي النقطة المضيئة الوحيدة في هذا الشأن
«؟ وكيفترى الآنسةُ دارناواي الأمرَ، من بُرجها العاجي » : سأل مارتن وود بنبرةٍ جافة
ما تراه حيال كلِّ شيءٍ آخر في هذا الوقت؛ إنهم في ذلك المكان العتيق » : ردَّ الطبيبُ
المليء بالحشائش الذي يُعَدُّ وكرًا للخرافات لا يُعمِلون عقولهم، إنهم يحلمون وينساقون.
أعتقد أنها تتقبَّل الاتفاق العائلي المُبرَم والزوجَ القادِم من المستعمرات كجزءٍ من مصير
آل دارناواي المحتوم، كما تعلم. إنني أظنُّ حقٍّا أنه حتى إن اتضح أنه زنجيٌّ أحدبُ
ذو عينٍ واحدةٍ ولديه هوسٌبالقتل، فإنها سترى فحسب أن ذلك يُضفي لمسةً نهائيةً مميَّزة
«. ومتناغمة على منظر الغسق
إنَّك لا تُعطيصديقي اللندنيصورةً متفائلةً مشرقةً عن أصدقائي » : قال وودضاحكًا
في الريف. كنت أنوي أن آخذه هناك في زيارة؛ فلا يجدر بأي فنان أن يُفوِّت مشاهدةَ تلك
الرسومات الخاصة بآل دارناواي متى سنحَت له الفرصة، ولكن ربما من الأفضل أن أؤُجِّل
«. الأمر إذا كانوا في معمعة الغزو الأسترالي
أوه، بل اذهب لرؤيتهم، حُبٍّا بالله. إنَّ أيَّ شيءٍ يُدخِل » : قال الدكتور بارنيت بحرارة
البهجة على حياتهم الجافة سيجعل مهمتي أسهل كثيرًا. وسيتطلب الأمر عددًا كبيرًا من
الأقارب القادمين من المستعمرات، حسب اعتقادي، لإدخال البهجة وإنعاش الأمور؛ فكلما
«. زاد العدد زادت البهجة وعَمَّ المرح. تعالَ، سأصحبك إلى هناك بنفسي
وبينما كانوا يقتربون من المنزل، بدا معزولًا وكأنه جزيرة وسط خندق تملؤه مياه
راكدة كريهة عبروه من خلال جسرٍ فوقه. وعلى الجانب الآخر، ظهرت أرضيةٌ حجريةٌ
فسيحةٌ نوعًا ما تتخلَّلها صدوعٌ كبيرة، وتتناثر فيها حُزَم من الأعشاب والأشواك هنا
وهناك. بدا ذلك الرصيفُ الصخري كبيرًا وعاريًا في ضوءِ الغسق الرمادي، ولم يكن باين
يظنُّ أنَّ مثل هذا المكان المنزوي يمكن أن يضمَّ بين جنباته مثل هذا القدر الكبير من روح
البَرِّيَّة. وكان هذا الرصيفُ يبرز من جانبٍ واحد، كعتبة بابٍ عملاقة، وكان البابُ وراءه؛
إذ يؤدي إلى مَدخل مقنطر على الطراز التيودوري منخفضٍومفتوح، ولكنه مظلمٌ كما لو
كان كهفًا.
وحين قادهم الطبيبُ الرشيق إلى الداخل من دون أي رسمياتٍ شكلية، أصيبَ باين
بنوبة اكتئابٍ أخرى إنْ صحَّ التعبير. كان يتوقَّع أن يجد نفسه يصعد إلى برج خَرِب
تمامًا عبر سلالم متعرجة وضيقة للغاية؛ ولكنه اكتشف أن الدرجات الأولى التي خَطَا
عليها إلى داخل المنزل إنَّما هي في الواقع تهبط به للأسفل. نزلوا جميعًا عدَّة درجاتٍ قصيرة
ومُهشَّمة، فوصلوا إلى غرفٍكبيرة خافتة الإضاءة كانت لتبدو مثل الزنزانات المعتاد وجودها
أسفل مثل هذه القلاع، لولا الرسوماتُ القاتمة وأرفف الكتب المُغْبرَّة المتراصة. وكان يوجد
هنا وهناك شمعدانٌ قديم به شمعة مضيئة تُسلِّطُ الضوءَ على تفصيلةٍ عَرَضية مُغبرة
تُوحي بضربٍ من الأناقة البائدة؛ إلا أن الزائر لم يكن لينبهر بهذه الإضاءة الاصطناعية أو
ليحبط منها بقدر ما كان لينبهر أو يحبط بفِعل ذلك الشعاع الوحيد الشاحب من الضوء
الطبيعي. وبينما كان يمرُّ بالغرفة الطويلة رأى النافذة الوحيدة في ذلك الجدار — وهي
نافذةٌ بيضاويةٌ منخفضة تسترعي النظر يعود طرازها إلى أواخر القرن السابع عشر. لكنَّ
الغريبَ في الأمر أنها لم تكن تحظى بإطلالةٍ سماويةٍ مباشرة وإنَّما مجرد انعكاسٍللسماء؛
شعاع خافت من ضوء النهار ينعكس على صفحة مياه الخندق، تحت الظل المُتدلي للضفة.
جال بذاكرة باين شيءٌ بشأن السيدة شالوت، بطلة قصيدة الشاعر العظيم تنيسون، التي
لم ترَ العالم الخارجي قط إلا من خلال مرآة؛ فسيدةُ هذا القصر لم ترَ العالَمَ من خلال
مرآةٍ فحسب، ولكن رأتْه بصورةٍ مقلوبة أيضًا.
يبدو الأمرُ كما لو أنَّ منزل آل دارناواي يتداعى بالمعنى » : قال وود بصوتٍ خفيض
الحرفي والمجازي للكلمة، كما لو أنه يغرقُ ببطءٍ في مستنقعٍ أو في بحرٍ من الرمال المتحركة،
«. حتى يغمره البحر وكأنه سطح أخضر
وحتى الدكتور بارنيت، بكلِّ ما كان يتسمُ به من ثباتٍ ورِباطة جأشٍ، جفل بعض
الشيء من الصمت الذي دنا به الشخصُ الذي أتى ليستقبلهم؛ ففي الواقع، كان الصمتُ
يُخيِّم على أرجاء الغرفة تمامًا حتى إنهم جفلوا جميعًا عندما أدركوا أنَّ الغرفة لم تكن
خالية؛ إذ كان فيها ثلاثة أشخاص حين دخلوها؛ ثلاثة أشخاص غير واضحي الملامح
يقفون بلا حَراك في الغرفة المظلمة، وكانوا جميعًا يرتدون ثيابًا سوداء، ويبدون كالظلال
الداكنة. وفيما اقتربَ الشخصُ الأول من الضوء الرمادي الخافت المُنبعث من النافذة، بدا
وجهه رماديَّ اللون كلونِ الشعر المحيط بوجنتَيه. كان ذلك الشخصُ هو العجوز فاين،
الخادم، الذي يقوم مقام الأب منذ فترة طويلة منذ وفاة الوالِد الغريب الأطوار، آخر لوردات
عائلة دارناواي. وكان ليبدو أكثر وسامة لو لم يكن له أسنان، إلا إنه كانت لديه سِنٌّ
واحدة تظهر بين الحين والآخر فتُضفي عليه مظهرًا شريرًا إلى حدٍّ ما. استقبل الرجلُ
الطبيبَ وصديقَيه بلطفٍ ورافقهما إلى حيث كان يجلسُ الشخصان الآخران ذوا الملابس
السوداء. بدا أحدهما من وجهة نظر باين وكأنه يُضفي على القلعة لمسةً أخرى من العراقة
الكئيبة الملائمة لأجواء القلعة وذلك لحقيقة كونه قَسٍّا كاثوليكيٍّا، ربما خرج من جوفمخبأ
للقساوسة في الأيام الكئيبة الغابِرة. تخيَّله باين وهو يُرتِّل الصلوات أو يُسبِّح بمسبحته
أو يَطرق الأجراسَ أو يفعل أمورًا مُبهمَة تبعثُ على الكآبة في هذا المكان المُوحِش. أما الآن،
فربما يُفترَض أنه يُقدِّم للسيدة سُلوانًا دينيٍّا؛ ولكن بالكاد كان ما يُفترض تقديمه من
سلوان مجديًا أو يُضفي شيئًا من البهجة على أية حال. أما بالنسبة إلى البقية، فلم يكن
القَسُّ شخصيٍّا ذا أهمية تُذكَر، بملامحه البسيطة ووجهه الذي يخلو من أية تعابير؛ أما
السيدة فقد كانت مسألةً أخرى تمامًا. كان وجهها بعيدًا كل البُعد عن البساطة أو انعدام
الأهمية؛ فقد برزَت في ظلام ثوبها وشعرها بشحوبٍ يكاد يثير الفزعَ في النفوس، لكنها
كانت ذاتَ جمالٍ يُفزَع له المرء حين يُدرِك أنه جمالٌ حيٌّ. نظرَ باين إليها قدر ما مكَّنَته
جُرأتُه؛ وكان يتمنَّى لو أنه يستطيع أنْ ينظر إليها مُدةً أطول ما دام حيٍّا.
تبادل وود مع صديقَيه تلك العبارات المُهذَّبة الدمثة بقدر ما يسمح له الأمر ليُمهِّد
لغرضه بإعادة النظر في تلك اللوحات المرسومة. اعتذر عن زيارتهم التي جاءت في اليوم
الذي كان يعلم أنه يومٌ تعتزم فيه الأسرة الترحيب بأحد أفرادها؛ ولكن سرعان ما أيقن
أنَّ الأسرة قد تنفَّست الصُّعَداء إلى حدٍّ ما بقدوم زائرين إليها وذلك كمصدر إلهاءٍ لهم أو
ربما ليكسروا حاجزَ صدمتهم؛ ومن ثمَّ، لم يتردد ليصطحب باين عبر غرفة الاستقبال
الرئيسية وصولًا إلى المكتبة، حيث كانت اللوحات مُعلَّقة؛ إذ كانت هناك لوحةٌ كان يعتزم
أن يَعرضها هي على وجه الخصوص على صديقه، ليس فقط لأنها صورةٌ مميَّزة ولكن
لكونها لغزًا مُحيِّرًا. صحبهم القسُّ الضئيلُ الجسم؛ وكان يبدو وكأنه يعرف معلوماتٍ عن
اللوحات القديمة بقدر معرفته عن الصلوات القديمة.
إنني فخورٌ لرؤيتي هذه اللوحة. أعتقدُ أنها من أعمال هولباين. وإنْ لم » : قال وود
تكن من أعماله فمن المؤكَّد أن شخصًا في نفس عصره كان يضاهي في موهبته الفَذَّة موهبة
«. هولباين
كانت اللوحة تُجسِّد الطابعَ الواقعي لتلك الفترة بأسلوبٍ صادق ونابضٍ بالحياة،
حيث تُصوِّر رجلًا يرتدي ملابس سوداءَ مُزيَّنة بالذهب والفرو، ذا وجهٍ صارم، مُكتمِل
التفاصيل، يميل إلى الشحوب، وعينَين مُنتبهتَيْن.
إنَّه لمن المُؤسِف حقٍّا أنَّ مثل هذا الطراز الفني توقَّف عند تلك المرحلة » : صاحَ وود
الانتقالية ولم تقم له قائمة أبدًا. ألا تعتقد أنَّ اللوحة واقعية بما يكفي لأن تبدوَ حقيقية؟ ألا
تعتقد أن الوجه يُجسِّد ما هو أكثر من ذلك، لا سيَّما أنه يبرز من إطار أكثر جمودًا لأشياء
أقلَّ واقعيةً؟ والعينان تبدوان أكثرَ واقعيةً حتى من الوجه. أقسمُ أنَّ العينَين حقيقيتان
بدرجةٍ كبيرة للغاية مقارنةً بالوجه! إنَّ الأمر ليبدو كما لو أن تلك المُقلتَيْن الماكرتَيْن
«. المُتأهبتَيْن تبرُزان من قناعٍ شاحبٍ كبير
أعتقدُ أنَّ الجمود يمتد ليشمل الجسم نفسه إلى حدٍّ ما؛ فالفنانون لم يُتقِنوا » : قال باين
الرسمَ التشريحي الفني حتى انتهاء حقبة القرون الوسطى، على الأقل في الشَّمال. وتلك
«. القدم اليسرى تبدو لي غيرَ متناغمة بدرجةٍ كبيرة مع اللوحة
لست متأكِّدًا جدٍّا من ذلك. فأولئك الفنانون الذين امتهنوا الرسم » : ردَّ وود في هدوءٍ
حين بدأت حقبة الواقعية وقبل أن تُطبَّق الأساليب الواقعية على نحو مُغالًى فيه كانوا في
الأغلب أكثرَ واقعيةً مما نظن؛ فقد أضافوا التفاصيل الحقيقية المتعلقة بفن رسم الأشخاص
(فن البورتريه) إلى أشياء كان يُعتقَد أنها مجرد أشياءَ تقليدية. لعلك تزعم أنَّ حاجِبَي هذا
الرجل أو تجويف عينَيه مائلان قليلًا أو غير متوازنَين؛ ولكني واثقٌ أنك لو كنت تعرفه
لاكتشفت أنَّ أحد حاجبَيه كان حقٍّا أعلى من الآخر. ولا مجالَ للشك في أنه كان بهشيءٌ من
«. عَرَجٍ أو ما شابه، وأنَّ ساقه المتوارية قد رُسِمت عوجاءَ عن عمدٍ
إنه يبدو لي كشيطانٍ عجوز! لا شك أنَّ حضرة القَس المُوقَّر » : اندفعَ باين فجأةً قائلًا
«. سيعذرني على ألفاظي
إنني أوُمِن بوجود الشيطان، شكرًا لك. بل إنه من » : قال القَس بتعبيرات وجهٍ مُبهَمة
«. اللافت للنظر بما يكفي أنَّ ثَمة أسطورةً تقول إنَّ الشيطانَ أعرج
لا أظنك تقصد أنَّه هو الشيطان نفسُه؛ مَن عساه يكون ذلك » : قال باين معترضًا
«؟ الرجل بحق الشيطان
إنه اللورد دارناواي تحت حُكم المَلكيْن هنري السابع وهنري الثامن، لكن » : ردَّ رفيقه
هناك أساطيرَ مثيرة للفضول حول هذا الرجل أيضًا؛ وإحدى هذه الأساطير مشار إليها في
ذلك النقش الموجود حول الإطار، وقد أسُهِبَت في عددٍ من الملاحظات التي تركها أحدهم في
«. كتاب وجدته هنا. وكلاهما يُثير فضول المرء ويحدوه لقراءته
انحنى باين للأمام، واشرأبَّ برأسه لتتبُّع النقوشِ القديمة على طول الإطار. وبغضِّ
النظر عن الحروف القديمة وتهجئتها، كانت فيما يبدو كلماتٍ مسجوعةً على نحوٍ ما:
في السليلِ السابعِ أعودُ،
وفي السابعةِ أغادرُ،
لن يُوقِفَني أحدٌ حينها،
وويلٌ لها مَنْ تملكُ فؤادي.
«. تبدو تلك الكلماتُ مُخيفةً بطريقةٍ ما، ولكن ربما لأني لا أفهم منها شيئًا » : قال باين
إنَّها تصبح مخيفة أكثر حين تفهم معناها. والكلام الذي » : قال وود بنبرةٍ خفيضة
كتب في وقتٍ لاحق، في الكتاب الذي وجدته، يقول كيف أنَّ ذلك الرجل قتل نفسه عن قصدٍ
بطريقة تسبَّبَت في إعدام زوجته اعتقادًا بأنها هي مَنْ قتلتْه. وهناك ملحوظةٌ أخرى تُخلِّد
مأساةً وقعت في وقتٍ لاحق، وهي أنَّه في الجيل السابع بعد ذلك—تحت حُكم الملك جورج—
قتلَ شخصٌ آخر من آل دارناواي نفسه بعد أن وضع لزوجته السُّمَّ في النبيذ على نحوٍ
مدروس. ويُقال إنَّ حادثتَي الانتحار كِلتَيهما وقعتا في تمام الساعة السابعة مساءً. أعتقدُ
أنَّ الاستنتاج الذي يمكن أن نستنبطه من ذلك هو أنَّ ذلك الشخص يعود حقٍّا مع كلِّ
وريثٍ سابع وأنَّه يجعل الأمور بشعة، كما تقول الكلمات المسجوعة، لكلِّ امرأةٍ بُلِيَت بقدرٍ
«. من الحُمق يكفي لأن تتزوج منه
استنادًا إلى تلك الحُجة، ستكون الأمور مزعجةً نوعًا ما بالنسبة إلى » : أجابَ باين
«. الوريث السابع التالي
«. الوريثُ التالي هو الوريثُ السابع » : وخفَضوود صوتَه أكثر بينما قال
رفعَ هاري باين صدره العريضوكتفَيه فجأةً كما لو كان يُلقي عنهما حِملًا ثقيلًا.
ما هذا الجنون الذي نتحدَّث بشأنه؟ أعتقدُ أننا جميعًا رجالٌ مثقَّفون » : وصاحَ قائلًا
ونعيشُ في حقبةٍ مستنيرة. لم أظنَّ قط قبل أن أدخل هذا المكان الذي تقشعر له الأبدان
«. أنني سأتحدَّث عن مثل هذه الأمور إلا بهدف السخرية منها
أنت مُحقٌّ؛ فلو أنك عشت في هذا القصرالمتواري عن الأنظار لفترة طويلة » : قال وود
بما يكفي لشَعَرْت بإحساسٍ مختلفٍ حيال الأشياء. لقد بدأت أشعر بفضولٍ كبير تجاه
هذه اللوحة؛ إذ تعاملت معها كثيرًا من حيث صيانتُها وتعليقها. يبدو لي أحيانًا أنَّ الوجه
المرسوم أكثرُ حيوية من الوجوه الفاقِدة للحياة لِمَن يعيشون هنا، كما أنَّ اللوحة تبدو
لي وكأنها تعويذةٌ أو مغناطيسٌ جاذبٌ؛ إنَّها تتحكم في أجواء المكان هنا وتُوجِّه أقدار
«. الأشخاصِومصائرَ الأشياء. أعتقد أنَّك ستقول إنَّ هذه مجرد أوهام وتخيُّلات
«؟ ما هذه الجَلَبة » : صاحَ باين فجأةً
أَحَدُّوا جميعًا السَّمْعَ، ولم يَبدُ أنَّ ثَمة أيَّ صوتٍ سوى صوتِ هدير المياه الخافت في
البحر البعيد؛ ثم بدَءوا جميعًا يشعرون وكأنَّ شيئًا يختلط بهذا الصوت، كما لو أنه صوتُ
إنسانٍ ينادي عبر هدير الأمواج، في البداية كان خافتًا، ولكنه ظلَّ يقترب أكثر وأكثر. وفي
لحظةٍ صاروا جميعًا مُتيقِّنين أن ثَمة مَنْ يَصيح بالخارج في ظُلمة الغَسق.
استدارَ باين نحو النافذة المنخفضة خلفه وانحنى برأسه لينظر خارجها. ولم تكن
بالنافذة التي يستطيع أحدٌ أنْ يرى من خلالها سوى الخندق وانعكاسِ الضفة والسماء
على مياهه، ولكن هذه الصورة الذهنية المعكوسة لم تكن هي التي رآها من قبل؛ فقد
كان ثمة انعكاسٌ لِظلَّيْن مُعتِمَيْن لقدَمَي ورِجلَيْ شخصٍيقفُ على الضفة. ومن تلك الكُوَّة
ذات مجال الرؤية المحدود لم يستطيعوا رؤيةشيء سوى تلكما الرِّجلَين وخلفهما انعكاسٌ
لصورة الغروب الشاحب المائل إلى الأزرق الرمادي، ولكن حقيقة أنَّ الرأس كان غيرَ مرئيٍّ
لهم كما لو أنه يعانق عَنان السماء قد جعلت الصوت الذي تبعَ ذلك المشهد مُفزِعًا بطريقةٍ
ما؛ كان الصوتُ لرجلٍ يصيح بشيءٍ لم يتمكَّنوا من سماعه أو تمييزه جيدًا. كان باين ينظر
باهتمامٍ عبر النافذة الصغيرة وقد ارتسمت على وجهه علاماتُ الاندهاش، ثم قال بنبرةٍ
مختلفةٍ بعضَالشيء:
«! يا لها من وقفةٍ غريبة تلك التي يقفُها »
لا، لا. غالبًا ما تبدو الأشياءُ بهذا المظهر الغريب في حال » : همسَ إليه وود مُهدِّئًا
«. انعكاسها. إنَّ حركة الأمواج على صفحة المياه هي ما تجعلك تظن ذلك
«؟ يظن ماذا » : سألَ القس باقتضابٍ
«. أنَّ قدمه اليُسرى بها عَرَج » : قال وود
رأى باين النافذة البيضاوية كما لو أنَّها مرآة سحرية عجيبة؛ وبدا له أنَّها تحملصورًا
أخرى غامضة للموت والهلاك. وكان ثمة شيءٌ آخر بجوار ذلك الشخص لم يفهمه؛ فقد
كانت هناك ثلاث أرجل أكثر نحافةً تبدو وكأنها خطوط سوداء في ضوء الغروب، كما لو
كانت أرجُلَ عنكبوتٍ أو طائرٍ مفترس يقف بجوار هذا الشخصالغريب. ثم طافت بذهنه
فكرةٌ أقل غرابة، وهي أنَّ هذه الأرجل هي لحامِل ثلاثيِّ القوائم كالذي يخصُّ مشعوذًا
وثنيٍّا؛ وفي اللحظة التالية، اختفى ذلك الشيءُ واختفَت كذلك رِجْلا الشخص الغريب من
المشهد.
واستدارَ باين لتلتقيَ عيناه بالوجه الشاحب للعجوز فاين، الخادم، وفمه مفتوحٌ تبرز
لقد أتى. وصلت السفينة » : منه تلك السِّنُّ الوحيدة، وكأنه يودُّ أن يتفوَّه بشيءٍ. قال العجوز
«. من أستراليا هذا الصباح
وعندما خرجوا من المكتبة عائدين إلى غرفة الاستقبال الرئيسية، سمعوا وقع خطوات
الوافِد الجديد وهو يهبط درجات المَدْخل، وخلفه أمتعة خفيفة مختلفة. وحين رأى باين
إحداها،ضحكضحكةً تنمُّ عن ارتياحٍ. لم يكن الحامل الثلاثي القوائم إلا أرجُلًا قابلة للطيِّ
لكاميرا محمولة، يَسهُل تجميعُها وفكها؛ ويبدو حتى الآن أنَّ الرجل الذي يحملها طبيعيٍّا
ومتماسكًا. كان يرتدي ملابسَ داكنة مُهمَلة كملابس قضاءِ العطلات؛ فكان قميصُه خفيفًا
رماديَّ اللون، وكان وَقْعُ نعلَيه يُدوِّي على نحوصارم في تلك الغرف الساكنة. وعندما تقدَّم
الرجلُ لتحية معارفه الجُدد بدا في خطوتهشيءٌ أشبه قليلًا بالعَرَج، لكن باين ورفاقه كانوا
ينظرون إلى وجهه، ولم يستطيعوا أن يُشيحوا ببصرهم عنه.
من المؤكَّد أنه شعر أثناء استقبالهم له بشيءٍ غريب وغير مريح، لكنهم كانوا يعرفون
تمامًا أنه لم يكن يدرك ما هو. كانت السيدة التي قد خُطِبَت له بطريقةٍ ما جميلةً حقٍّا
بالقدر الكافي لأن ينجذبَ لها؛ إلا أنَّها كانت تثير في نفسه الخوف لا شكَّ. قدَّم له الخادم
فروضالطاعة كتلك التي يُؤدِّيها الخَدَمُ للسادة الإقطاعيين، لكنه كان يُعامله وكأنه شبحٌ.
نظر إليه القس وعلى وجهه ملامح من الصعب فهمُها؛ ومن ثَمَّ فربما أصابته ببعض
الاضطراب. ثم جالت بخاطر باين مفارقةٌ أخرى، أقربُ إلى المفارقات الإغريقية. كان قد
تخيَّل ذلك الغريب على أنه شيطان، ولكنه رأى أنه كان أسوأ من ذلك؛ فقد رأى أنه يسير
نحو قدَرٍ محتوم وهو فاقِد الوعي. بدا له الرجل وكأنه يسير باتجاه جريمة ببراءة أوديب
السافِرة. كان الرجل قد اقتربَ من قصرالعائلة بروح منتعشة ذات بصيرةٍ عمياء ووضع
كاميرته ليُصوِّر أول مشهدٍ له فيه؛ وحتى الكاميرا كانت تُشبه الحاملَ الثلاثيَّ القوائم
لعرَّافةٍ مأسوية.
وحين كان على وشك أن يُغادر تفاجَأ باين بشيءٍ أظهرَ أنَّ ذلك الأسترالي كان لا يَعي
بالفعل ما يدور حوله؛ فقد قال بنبرةٍ خفيضة:
«. لا تُغادر … أو عُدْسريعًا. أنت تبدو كبشريٍّ، وهذا المكان يكاد يُصيبني بالذُّعر »
وحين خرجَ باين من تلك الحجرات التي تبدو وكأنها مدفونة تحت الأرضإلى نسيم
الليل ورائحة البحر، شعر وكأنه خرجَ من عالَم أحلام سفلي اختلطت فيه الأحداثُ ببعضها
على نحوٍ مخيف وغير واقعي.
كان وصولُ قريبِ العائلة الغريبِ هذا غيرَ مريح، كما كان غيرَ مُقنِع. واضطربَ لمدى
التشابه الكبير بين وجه ذلك الغريب والوجه المرسوم في اللوحة كما لو أنه رأى وحشًا ذا
رأسَين. غير أنَّ ذلك كلَّه لم يكن كابوسًا، وربما أيضًا ذلك الوجه الذي رآه بوضوحٍ بالغ.
وبينما كانا يسيران على الرمال السوداء المتعرجة على شاطئ البحر القاتم، سألَ باين
هل قلت إنَّ ذلك الشابَّ هو خطيبُ الآنسة دارناواي بموجب اتفاقٍ عائلي » : الطبيبَ قائلًا
«. أوشيءٍ من هذا القبيل؟ يبدو الأمرُ كأنه قصة روائية
بل قصةٌ تاريخية. خَلَد آل دارناواي جميعًا إلى النوم قبل عدة » : أجابه الدكتور بارنيت
قرون، حين انتهت في واقع الأمر كلُّ الأحداث حتى إننا لم نعد نقرأ عنها إلا في القصص
الرومانسية. أجل، أعتقد أن ثمة تقليدًا عائليٍّا يتزوج بموجبه ابنُ العم وابنة العم من الجيل
الثاني أو الثالث حين يكونان في مرحلةٍ عمريةٍ معينة؛ وذلك من أجلضمِّ الممتلكات. ويجدر
بي أن أقول إنه تقليدٌ سخيفٌ لعين، وإذا ما ظلوا يتزوجون بهذه الطريقة، فربما يُفسِّر
«. ذلك استنادًا إلى مبادئ الوراثة كَمَّ السوء والقبح الذي وصلوا إليه
أخشى أني لا أستطيع أن أقول إنهم جميعًا » : قال باين بصوتٍ مخنوقٍ بعض الشيء
«. قد أصبحوا في وضع سيئ
حسنًا، لا يبدو ذلك الشابُّ في وضعٍ سيئٍ بالطبع، على الرغم من أنَّ » : أجابه الطبيب
«. به عرجًا بالتأكيد
الشاب! حسنًا، إذا كنت تعتقد أن » : صاحَ باين وقد انتابه غضبٌ مفاجئٌ غير مبرَّر
«. تلك السيدة الشابة تبدو سيئة، فأعتقد أنك أنت مَنْ تعاني ذوقًا فاسدًا
أعتقدُ أنني أعرفُ » : عبسَوجهُ الطبيبِ وارتسمت عليه ملامحُ السخرية وخاطبه بحدَّة
«. عن هذا الأمر أكثر مما تعرف
أكمَلا سيرهما في صمتٍ، وكلٌّ منهما يشعر بأنه كان وقحًا على نحوٍ غير منطقي مع
الآخر، وأنَّ كلٍّا منهما قد تعامَل مع الآخر بفظاظةٍ غير مبرَّرة؛ وبعد أن انفصلا حَظِي باين
بوقتٍ منفردًا مع نفسه للتفكير مليٍّا في الأمر؛ إذ كانصديقه قد ظلَّ في القصرلينجز بعض
الأعمال بشأن اللوحات