استغلَّ باين على أكمل وجهٍ تلك الدعوة المُقدَّمة إليه من قريب العائلة القادم من
المستعمرات، الذي كان في حاجة إلى شخصٍ ليرفع من معنوياته. وخلال الأسابيع القليلة
التي تلَتْ ذلك، تسنَّى له رؤية الكثير من الأرجاء الداخلية القاتمة لمنزل عائلة دارناواي؛
على الرغم من أننا يمكننا القول إنه لم يُكرِّس نفسه كليةً لرفع معنوياته والترفيه عنه؛
فقد كانت كآبة السيدة أكثر رسوخًا وربما كانت في حاجة إلى مزيدٍ من رفع المعنويات؛ على
كلٍّ، أظهر باين استعدادًا جادٍّا لرفع معنوياتها. لم يكن باين معدوم الضمير رغم ذلك،
وقد أثار الوضعُ داخله شعورًا بالارتياب وعدم الارتياح. مرت الأسابيع ولم يكن بمقدور
أحدٍ أن يُحدِّد من سلوك الوافد الجديد من آل دارناواي ما إنْ كان يعتبر نفسه خطيبًا
بموجب الاتفاق القديم أم لا. كان يتجوَّل في الصالات القاتمة ويقف يُحدِّق بلا غاية في
اللوحة الكئيبة المشئومة. كانت ظلالُ ذلك المنزل الشبيه بالسجن قد بدأت تُطْبِق عليه، ولم
يتبقَّ من ثقته الأسترالية سوى القليل، ولكن لم يستطع باين أن يكتشف شيئًا بشأن الأمر
الذي كان أكثر ما يهمه. حاول أنْ يعهد إلى صديقه مارتن وود بما يخالج نفسه، بينما
كان يُعلِّق اللوحات، ولكنه لم يلقَ منه ما يريح باله كثيرًا.
«. يبدو لي أنك لا ينبغي أن تتودَّد إليها، بسبب تلك الخِطبة » : قال وود باقتضابٍ
بالطبع ينبغي ألَّا أتودَّدَ إليها إذا كانت هناك خِطبة، ولكن هل ثمة » : ردَّ صديقه
خِطبة بالفعل؟ إنني لم أنطق لها بكلمة؛ ولكنني رأيتُ منها ما يجعلني متأكدًا تمامًا من
أنها تعتقد أنه لا توجد خطبة، حتى ولو كانت تعتقد أنه ربما توجد خطبة، فهو لا يجزم
بوجود خطبة، ولا يُلمِّح حتى إلى احتمال حدوث خطبة لاحقًا. يبدو لي أنَّ هذا التردُّد غير
«. منصفٍ للجميع
لا سيَّما بالنسبة إليك، على ما أظن، ولكن إذا سألتني » : قال وود بشيءٍ من الفظاظة
«. رأيي، فسأخبرك بما أرى؛ إنني أرى أنه خائفٌ
«؟ خائفٌ من أن يُقابَل بالرفض » : سأله باين
لا؛ إنَّما هو خائفٌ من أن يُقبَل. لا تغضب مني؛ لا أقصد أنه خائفٌ من » : أجابه الآخر
«. السيدة. بل أقصد أنه خائفٌ من اللوحة
«! خائفٌ من اللوحة » : كرَّر باين
أقصدُ أنه خائفٌ من اللَّعنة. ألَا تذكر تلك الكلمات المسجوعة بشأن مصير » : قال وود
«. آل دارناواي الذي سيقع عليه وعليها
أجل، ولكن اسمعني، إن مصير آل دارناواي لا يمكن أن يعمل في كلا » : صاحَ باين
الاتجاهَين. أنت تقول لي في البداية إنني لا يُمكنني أن أتودَّد إليها بسبب ذلك الاتفاق العائلي،
ثم تقول إن الاتفاق لن يحدث حتمًا بسبب تلك اللَّعنة، ولكن إذا كانت اللعنة قادرةً على
إسقاط ذلك الاتفاق وإنهائه، فماذا عساه يُلزِمها بتطبيق هذا الاتفاق؟ إذا كان كلاهما
خائفًا من الزواج بالآخر؛ فلكلٍّ منهما مطلقُ الحرية في الزواج من أي شخصٍآخر، وعندئذٍ
تنتهي اللَّعنة. لماذا عليَّ أن أتكبَّد مراعاةَ شيءٍ لا يعتزمان هما مراعاته؟ أعتقدُ أنَّ وجهة
«. نظرك غير منطقية بالمرة
ثم أخذَ يَطرق على إطار لوحةٍ «. إنَّ الأمر برُمته معقَّدٌ بالطبع » : قاطعه وود قائلًا
زيتيةٍ مرسومةٍ على قماش الكنفا.
ثم فجأةً، ذاتصباح، كسرالوريثُصمته الطويل المُحيِّر، وقد فعلَ ذلك بطريقةٍ مثيرةٍ
للفضول، وبأسلوبٍصريحٍ بعضالشيء كعادته، لكن على نحوٍ أظهر قلقه للقيام بالشيءِ
الصائب. طلب المشورةصراحةً، ليس من هذا الشخصأو ذاك مثلما فعل باين، وإنَّما من
الجَمْع كله. وحين تحدَّث استحوذَ على مسامع رفاقه كما لو كان سياسيٍّا يخوضانتخاباتٍ
ولحُسن الحظ لم تكن السيدة ضمن الحضور، وقد شعر .« المكاشفة » عامة. أطلقَ على ذلك
باين برجفةٍ تسري في أوصاله حين فكَّر فيما كانت ستشعر به. كان ذلك الأستراليصريحًا
بدرجةٍ كبيرة؛ فرأى أنَّ الصوابَ هو أنْ يَنشُد المساعدة ويطلب معلوماتٍ، فدعا إلى عقد ما
يُشبِه مجلسًا عائليٍّا كشف خلاله عن كلِّ أوراقه. بل يمكن القول إنه ألقى بكل أوراقه ولم
يكشف عنها فقط، ذلك أنه فعل هذا بنبرةٍ يائسة نوعًا ما، كأنه رجل أنُهِك لأيامٍ وليالٍ طِوال
بفعل الضغط المتزايد عليه جراء مشكلةٍ ما. وخلال تلك الفترة القصيرة، غيَّرَته ظلالُ ذلك
المكان بنوافذه المنخفضة وأرصِفته المُتدنِّية الغارقة على نحوٍ مثير للفضول، وزادَ ذلك من
تشابهٍ معين تسلَّل إلى ذاكرتهم جميعًا.
كان الرجالُ الخمسة، ومن بينهم الطبيبُ، جالِسين حول طاولة؛ وكان باين يُفكِّر
بفتورٍ أن ما يرتديه من قماشالتويد الفاتح وشعره الأحمر هما الشيءُ الوحيد الذي له لون
في تلك الغرفة؛ ذلك أنَّ القَسَّوالخادم كانا يرتديان ملابسَسوداء، كما كان وود ودارناواي
يرتديان كالعادة بزَّاتٍ بلون رمادي داكن أقرب ما يكون إلى اللون الأسود. ربما كان هذا
التناقض هو ما قصده الشابُّ حين وصفه بأنه بشريٌّ. في تلك اللحظة تمَلمل الشابُّ في
كرسيِّه فجأةً وبدأ يتحدَّث. وبعدها بلحظةٍ عرَفَ الفنانُ المذهول أنه كان يتحدَّث عن أكثر
الأمور جَللًا في العالَم.
هل ثمة خطبٌ في ذلك الأمر؟ هذا هو ما ظللت أسأل نفسي بشأنه حتى » : كان يقول
كِدت أصُابُ بالجنون. لم أكن لأصُدِّق قط أن أفُكِّر في مثل هذه الأمور؛ ولكني أظل أفكر
في اللوحة والكلمات المسجوعة والمصادفات أو أيٍّا كان ما تُطلِقونه عليها، وتقشعرُّ أوصالي
من شدة الخوف. هل ثمة خطبٌ في ذلك الأمر؟ هل ثمة لعنةٌ تُصيب آل دارناواي، أم أنها
مجرد حادثةٍ غريبةٍ لعينة؟ هل من الصائبِ إتمامُ الزواج، أم أنني سأجلبُ بذلك مصيرًا
«؟ جَللًا وسوداويٍّا لا أعرف عنه شيئًا على نفسي وعلى شخصآخر
جالت عينه في وجوه كلِّ مَنْ هم جلوسٌعلى الطاولة واستقرَّت على وجه القسِّالهادئ،
الذي بدا كأنه يتحدَّث إليه. برَز الجانبُ العملي لدى باين الذي كان يُحاول أن يُخفيَه، واحتجَّ
على طرح مسألة الخرافات أمام المجلسالذي تُهيمن عليه تلك الخرافات بدرجة كبيرة. كان
يجلس بجوار سليل عائلة دارناواي واندفع في حديثه مقاطعًا حتى قبل أن يتمكَّن القس
من الرد.
في الواقع، تلك المصادفات تُثير الفضول، أعترفُ » : فقال وكأنه يفرضنبرةً من المرح
ثم توقف كمَن أصابتْه صاعقةٌ من السماء. ذلك أنَّ سليل عائلة «… بذلك، ولكنها بالطبع
دارناواي قد استدار بحدَّة نحوه لأنه قاطعَ الحديث، وبينما استدار، كان حاجبه الأيسر
مرفوعًا عن مستوى الحاجب الأيمن، وفي غمضة عينٍ بدا أنَّ الوجه المرسوم في اللوحة يُحدِّق
إليه فكان الشبه بينهما دقيقًا بدرجةٍ مُروِّعة. رأى الجميع ذلك؛ وارتسمت على وجوههم
ملامحُ الدهشة والذهول وكأن ضوءًا برَّاقًا ذهبَ بأبصارهم. وأطلق الخادم العجوز أنينًا
غائرًا ومكتومًا.
«. لا جدوى من ذلك، إننا بصددشيءٍ في غاية الفظاعة » : قال سليلُ العائلة بصوتٍ أجش
أجل، إننا بصدد شيءٍ فظيع؛ إنه أفظع شيءٍ » : صدَّق القس على كلامه بنبرةٍ خفيضة
«. أعرفه، واسمه الهُرَاء
«؟ ماذا قلت » : قال دارناواي ولا يزال مُثبِّتًا عينه نحوه
قلتُ إنَّه هُرَاء. لم أكن محدَّدًا في كلامي حتى هذه اللحظة؛ لأن » : كرَّر القسكلامه قائلًا
ذلك لم يكن من شأني؛ كنت أباشرفقط بعضالأعمال في الجوار وطلبَت الآنسة دارناواي
رؤيتي، ولكن بما أنك تسألني عن السبب بصفة شخصية وبصراحة، فمن السهل للغاية
أن أجيب. بالطبع ليس ثمة لعنةٌ تتعلق بآل دارناواي تمنعك من الزواج بأي امرأة لديك
سببٌ وجيه للزواج منها. ليس من المقدَّر للمرء أن يقع في أبسط الخطايا العَرضية، فضلًا
عن جرائم مثل الانتحار والقتل. لاشيءَ يمكن أن يجبرك على الإتيان بأفعالٍشريرة وخبيثة
رُغمًا عنك فقط لأنك تنتمي إلى عائلة دارناواي، تمامًا كما لا يمكن لأحدٍ أن يجبرني على
ربما يكون » : ثم أضاف منتشيًا «. ذلك لمجرد أنني أنتمي إلى عائلة براون. مصير آل براون
«. لمصير آل براون وقدرهم المحتوم وَقعٌ أفضل
وأنت من بين كلِّ الناستخبرني » : كرَّر الأسترالي مضمون كلام القَسِّ وهو يُحدِّق فيه
«. أن أفكر في الأمر بهذه الصورة
بل أقولُ لك أن تفكِّر في شيءٍ آخر، ماذا حدثَ لفن » : أجابه القس في نبرة مرحة
التصوير الفوتوغرافي الصاعد؟ كيف تتوافق معه هذه الكاميرا؟ أعرفُ أنَّ المكان مُعتِمٌ
كثيرًا في الطابق السفلي، ولكن يمكن بسهولة تحويلُ تلك الأقواس الجوفاء في الطابق
العلوي إلى استوديو تصوير فوتوغرافي من الطراز الأول. يمكن الاستعانةُ ببعض العُمَّال
«. لتجهيزها بسقفٍ زجاجيٍّ في غضون وقتٍ قصير للغاية
حقٍّا، أعتقدُ أنك ينبغي أن تكون آخِر مَن يعبث بتلك » : صاح مارتن وود محتجٍّا
الأقواس القوطية الجميلة، التي تُعَدُّ أفضل عملٍ قدَّمَته عقيدتك الدينية لهذا العالم. كنت
أعتقدُ أنك تُكِنُّ شعورًا ما تجاه هذا النوع من الفن، ولكنني لا أستطيعُ أن أفهم لِمَ أنت
«. متحمسٌ للغاية لفن التصوير الفوتوغرافي
إنني متحمسٌللغاية لضوءِ النهار، لا سيَّما في ذلك الشأن الكئيب؛ » : أجاب الأبُ براون
ويتميَّز التصوير الفوتوغرافي بأنَّه يعتمدُ على ضوء النهار. وإذا كنتَ لا تعرف أنني على
استعداد لأنْ أَدُكَّ كلَّ الأقواسالقوطية في العالَم دكٍّا لأجل أنْ أحافظ على سلامة عقل إنسانٍ
«. واحدٍ فقط، فأنت لا تعلم الكثير عن عقيدتي الدينية بقدر ما تظن
انتفضَ الشابُّ الأسترالي واقفًا على قدمَيه وكأنه قد بُعِث إلى الحياة من جديد، وقال:
يا إلهي! هذا هو القولُ الصائب، رغم أنني لم أتوقع قط أن أسمعه من جانبك. أتعرف »
«. أيُّها السيد المحترم، سأفعل شيئًا يثبت لك أنني لم أفقد رباطة جأشيفي النهاية
كان الخادمُ العجوز لا يزال ينظرُ إليه بانتباهٍ ورجفة، كما لو أنه يشعر أنَّ ثمة مبالغةً
«؟ أوه، ماذا ستفعل الآن » : في استخفاف الشاب بالأمر وصاحَ
«. سأصوِّر اللوحة المرسومة » : قال دارناواي
ولم يَكد يمرُّ أسبوعٌ بعد ذلك حتى عادت عاصفة المأساة تلوحُ في الأفق، فأفَلَتْ شمسُ
المنطق وسلامة العقل التي كان القسُّ يَنشُدها دون جدوى، وغرقَ القصرُ مرةً أخرى في
ظلام مصير آل دارناواي المحتوم. كان إعداد الاستوديو الجديد وتجهيزه أمرًا سهلًا للغاية؛
فقد كان يبدو من الداخل كأي استوديو آخر، كان خاويًا تمامًا اللَّهم إلا من ضوء النهار
الذي كان يملأ أرجاءه. كان مَنْ يأتي من الغرف المظلمة الكئيبة في الطابق السفلي يشعر
عادةً بأنه يدخل إلى غرفةٍ تعجُّ بالفن الحديث، لا تحمل أيَّ ملامح واضحة شأنها شأن
المستقبل. ونزولًا على اقتراح وود، الذي كان يعرف القلعة جيدًا والذي تجاوز تذمره الأول
بشأن النواحي الجمالية، ظلت هناك في الطابق العلوي الخَرِب غرفةٌصغيرةٌ لم تُمَسَّجَرَى
تحويلها بسهولةٍ إلى غرفة مظلمة، كان يدخلها دارناواي بعد خروجه من ضوء النهار
الأبيض ويتحسَّس طريقه فيها على بصيص الأشعة القرمزية لمصباحٍ أحمر. قال وود
ضاحكًا إنَّ المصباح الأحمر سوَّى الخلاف بينه وبين فكرة تخريب الممتلكات؛ إذ كان ذلك
الظلامُ الدامسُ يُحاكي في طابعه الشاعري الحالِم كهفَ المُشتغِل بالكيمياء القديمة.
كان دارناواي قد استيقظ فجرًا في اليوم الذي قرَّر أنْ يُصوِّر فيه تلك اللوحة الغامضة،
وطلبَ أنْ تُحمَل اللوحة من غرفة المكتبة عبر السُّلَّم اللولبي الوحيد الذي يربط بينالطابقَين.
عدَّلَ دارناواي وضعيتها في ضوء النهار الأبيض الساطع على حامل لوحاتٍ، وثبَّت حامل
الكاميرا الثلاثي القوائم أمامها. قال إنه كان يتوق بشدة لأنْ يُرسل صورة من تلك اللوحة
إلى شخصٍ متخصص في جمع التحف الفنية القديمة كان قد كتبَ عن التحف الأثرية
الموجودة في المنزل؛ ولكن كان الآخرون يَعلمون أنَّ هذا مجرد عُذرٍ يُغطِّي به على أمورٍ
أعمق؛ فقد كان الأمرُ على أقل تقدير نِزالًا بين دارناواي وشكوكه، إنْ لم يكن نزالًا روحيٍّا
بالمعنى الحرفي بينه وبين تلك اللوحة الملعونة. كان يريد أنْ يجعل ضوءَ النهار المُوظَّفَ
في التصوير الفوتوغرافي يواجه تلك اللوحة الزيتية الكئيبة التي هي لوحةٌ رائعة بالطبع،
وأنْ يرى ما إنْ كان سطوعُ شمس الفن الجديد سيطغى على ظلال الفن القديم ويطرد
أشباحه.
ربما كان ذلك هو السببَ وراء تفضيله تَولِّيَ الأمر بنفسه، حتى ولو كانت بعض
التفاصيل ستستغرق وقتًا أطول وتنطوي على تأخير أكثر من المعتاد. على أية حالٍ، منعَ
دارناواي مَنْ حاولوا زيارة الاستوديو خلال يوم التجرِبة، وكانوا قلةً، وقد وجدوا أنه في
حالةٍ شديدة من التركيز والتدقيق يُخيِّم عليها جوٌّ من العزلة والغموض. كان الخادمُ قد
أحضرَله وجبة؛ لأن دارناواي رفضَ أن ينزل لتناول الطعام، ثم عاد الرجلُ العجوز بعد
عدة ساعاتٍ ليجد أنه قد تناول وجبته نوعًا ما كالمعتاد؛ ولكنه حين أتى لأخذها لم يتلقَّ منه
أيَّ كلمة شكر سوى غمغمةٍ مُبهَمة من جانبه. صَعِدَ باين إليه ذات مرةٍ ليرى كيف كان
يُبلي، ولكنه نزل مرةً أخرى حين وجد أنَّ هذا المصوِّر الفوتوغرافي لم يكن راغبًا في الحديث.
رمى الأبُ براون إلى الغاية نفسِها ولكن بطريقة غير متطفلة؛ ذلك أنه أخذَ خطابًا كان
الرجلُ الذي يُعتزَم إرسال الصورة إليه قد بعثه إلى دارناواي، لكنه ترك الخطاب على طاولة
صغيرة بجانبه، وأيٍّا كان ما شعرَ به حيال ذلك المنزل الزجاجي الرائع الذي يضج بضوء
النهار الساطع والتفاني لأجل هواية ما، ذلك العالَم الذي شاركَ هو نفسُه فيصنعه بطريقةٍ
ما، فقد احتفظَ بالأمر لنفسه ثم نزلَ إلى الطابق السفلي. كان لديه سببٌ يجعله سرعان ما
يتذكَّر قريبًا جدٍّا أنه آخِر شخصٍنزلَ عبر السُّلَّم المهجور الذي يربط بين الطابقَين، تاركًا
خلفه رجلًا وحيدًا وغرفةً شاغرة. كان الآخرون يقفون في غرفة الاستقبال التي تُؤدِّي إلى
المكتبة، تحت ساعةٍ كبيرةٍ من خشب الآبُنُوس الأسود التي كانت تبدو كتابوتٍ ضخم.
«؟ كيف كان دارناواي يُبلي، حين صَعِدتَ آخر مرةٍ » : سأل باين بعد برهةٍ قصيرة
لا تقل إنني أعُاني اضطرابًا » : وضعَ القس يده على جبهته وقال بابتسامةٍ حزينة
نفسيٍّا، ولكن أعتقد أنني مذهول تمامًا من ضوء النهار في تلك الغرفة، ولم أستطع أن أرى
الأشياء بوضوح. وللأمانة، شعرتُ للحظةٍ أنَّ ثمة شيئًا غريبًا بشأن دارناواي وهو يقفُ
«. أمام تلك اللوحة
«. أوه، إنَّها رِجله العَرجاء، نعرفُ ذلك » : قال بارنيت من فوره
أتعلم، لا أعتقدُ أننا نعرفُ كلَّ شيءٍ أو أيَّ » : قال باين فجأةً، ولكنه أخفضَ صوته
«؟ شيءٍ عنها. ما خطبُ رجله؟ ما خطبُ رِجل سَلَفِه
ثمة شيءٌ عن ذلك في الكتاب الذي كنتُ أقرؤه هناك، في أرشيف العائلة. » : قال وود
ودخَلَ إلى غرفة المكتبة المجاورة. «. سأحُضره إليكم
لا بدَّ أنَّ السيد باين لديه سببٌ خاصيدفعه إلى السؤال » : قال الأبُ براون بنبرةٍ هادئة
«. عن هذا
ربما سأفشي الأمر مرةً وإلى الأبد. ففي » : قال باين، ولكن بصوتٍ أكثر انخفاضًا
النهاية، هناك تفسيرٌ منطقي لذلك. ربما يكون رجلٌ من أي مكانٍ وتنكَّر ليبدوَ تمامًا كما
«… في اللوحة. ماذا نعرفُ عن دارناواي؟ إنه يتصرَّف بطريقةٍ غريبة
كان الآخرون يُحدِّقون فيه بشيءٍ من ذهول؛ لكن بدا على القس الهدوءُ بينما كان
يسمعُ ذلك.
لا أظنُّ أنَّ اللوحة القديمة قد جرى تصويرها من قبل؛ ولذا فهو يريد أن » : قال
«. يُصوِّرها. لا أظنُّ أنَّ ثمة ما هو غريبٌ حيال ذلك
إذ كان قد عاد لتوه «. في الواقع، لا عجبَ في ذلك على الإطلاق » : قال وود مُبتسمًا
والكتاب في يده. وبينما كان يتحدَّث، تحرَّك عقرب الساعة السوداء الكبيرة خلفه وسُمِعَ
دويُّ الدقات في أرجاء الغرفة مُعلِنًا تمامَ السابعة. ومع الدقة الأخيرة، ارتطمشيءٌ بأرضية
الغرفة العلوية اهتزت له جنباتُ المنزل كلِّه وكأنه كان صاعقةً من السماء؛ وكان الأبُ
براون قد صعدَ درجتَين بالفعل على السُّلَّم المُلتوي قبل أن يتوقَّف الصوت.
«. يا إلهي! إنَّه وحده في الأعلى » : صاحَ باين على نحوٍ لا إرادي
أجل، يُفترَض أنْ » : قال الأبُ براون من دون أن يستدير، وقد توارى في أعلى السُّلَّم
«. نجده وحده
وحين أفاقَ بقيتهم من وقْع الصدمة التي أصابتهم بالشلل وهُرِعوا على السُّلَّم الحجري
ودخلوا إلى غرفة الاستوديو الجديدة، وجدوه وحده فعلًا. وجدوه ملقًى وسط حُطام كاميرته
المرتفعة، وكانت أرجل الحامِل الطويلة المتفرعة تقف عند ثلاث زوايا مختلفة؛ وقد وقعَ
دارناواي عليها وكانت هناك ساقٌ سوداء واحدة مستلقيةٌ على الأرضتصنع زاويةً رابعة
على طول الأرضية. بدَت تلك الكومة السوداء للحظة وكأنها واقعةٌ فيشرَك عنكبوتٍ ضخم
مخيف. وفي لحظة وبعد أن تلمَّسوه أدرَكوا أنه قد فارقَ الحياة. ووحدها اللوحة هي التي
ظلت في مكانها على حامِل اللوحات دون أن تُمَسَّ، وقد يُخيَّل للمرءِ أنَّ العينَين المُبتسمتَيْن
كانتا بارزتَيْن في مكانهما.
وبعد ساعةٍ من مساعدة الأب براون في تهدئة جو الارتباك الذي ساد المنزل الذي شهدَ
الحادثة، التقى بالخادم وهو يُغمغم بصورةٍ آلية تكاد تشبه الساعة التي دقَّت مُعلِنةً عن
حلول تلك الساعة المشئومة. وقد عرَفَ الأبُ براون تقريبًا الكلمات التي كان يُغمغم بها
الخادمُ دون أن يسمعها:
في السليل السابع أعودُ،
وفي السابعة أغادر.
وفيما كان الأبُ براون على وشك أن يقول له شيئًا ليُهدِّئه، بدا الرجلُ العجوز وكأنه
ينتبه فجأةً وقد تصلَّبَ جسده من شدَّة الغضب؛ وتحوَّلت غمغمته إلى صيحةٍ مخيفة.
أنت! أنت وضوء النهار الذي اقترحته! ربما ستقول الآن إنَّه لا يوجد ما » : صاحَ قائلًا
«. يُسمَّى بمصير آل دارناواي المحتوم
ثم أضافَ بعد أن توقَّف «. رأيي في هذا الصدد لا يتغيَّر » : قال الأبُ براون بلطفٍ
آمُلُ أنْ تنظر في آخر أمنيةٍ لسليل دارناواي المسكين، وأنْ تُرسل الصورة إلى مَنْ » : برهةً
«. كان سيرسلها إليه
الصورة! ما جدوى ذلك؟ في الواقع، الأمرُ مثيرٌ للفضول » : صاحَ الطبيبُ بنبرةٍ حادة
كثيرًا، ولكن ما مِن صورةٍ هناك. يبدو أنه لم يلتقط تلك الصورة في نهاية المطاف، بعد أن
«. ظلَّ يعبث طوال اليوم
إذن التقِطوها أنتم بأنفسكم. كان دارناواي المسكين » : استدار الأبُ براون بحِدَّةٍ وقال
«. مُحِقٍّا تمامًا، من المهم جدٍّا التقاط هذه الصورة
وفيما كان الزائرون، وهم الطبيبُ والقس والفنانان، يسيرون بعيدًا عن المنزل في
مسيرةٍ كئيبة مُتشِحةٍ بالسواد على الرمال البُنيَّة والصفراء، كان الصمتُ يُخيِّم عليهم
جميعًا في البداية، كما لو أنهم مصعوقون. وكان هناك حتمًا ما يُشبه هزيمًا من الرعد
في سماءٍ صافية على إثر ما تحقق عن الخرافة المَنسيَّة في الوقت ذاتِه الذي نَسُوا هم فيه
تلك الخرافة؛ حين ساد الحديث عن العقلانية والتسويغ المنطقي وملأ عقلَ القس والطبيب
تمامًا كما ملأ المُصوِّر الفوتوغرافي غرف الطابق العلوي بضوءِ النهار. ربما كانوا يتبعون
أسلوبًا عقلانيٍّا حسبما كانوا يريدون؛ بيد أنَّ ذلك الوريثَ السابع قد عاد في ضوء النهار
الساطع، وفي ضوء النهار ذاته في تمام السابعة أوُدِيَ بحياته.
«. أخشى أنَّ الجميعَ الآن سيُصدِّقون خرافة آل دارناواي » : قال مارتن وود
أعرفُ شخصًا لن يصدِّقها. لماذا أصُدِّقُ الخرافاتِ لمجرد أنَّ » : قال الطبيبُ بنبرةٍ حادة
«؟ أحدهم انتحر
«؟ أتعتقدُ أنَّ السيد دارناواي المسكين قد انتحر » : سَأَله القسُّ
«. أنا واثقٌ من أنه انتحر » : أجابه الطبيبُ
«. من الممكن ذلك » : وافقه الآخر قائلًا
لقد كان وحده تمامًا في تلك الغرفة العلوية، وكان لديه خِزانةُ أدويةٍ كاملة مليئة »
«. بالسموم في الغرفة المظلمة. بالإضافة إلى أنَّ هذا هو المعهود من آل دارناواي فِعله
«؟ ألا ترى أنَّ ثمة خطبًا ما في تحقيق لعنة آل دارناواي »
لا. أنا أوُمن بلعنةٍ واحدة في تلك العائلة، وهي لعنةُ قانون تلك الأسرة. » : قال الطبيبُ
لقد قلت لكم إنها صفاتٌ متأصلة بحُكم الوراثة، وإنَّهم جميعًا أنصافُ مجانين. إنك إذا ما
آثرت الجمودَ وتزوجتَ وأنجبت في مستنقع أسرتك بهذه الطريقة، فإنك ستتدهور لا محالة
شئت أم أبيت. إنَّ قوانين الوراثة لا يمكن التلاعب بها، ولا يمكن نكران الحقائق العلمية.
إنَّ عقول آل دارناواي تتداعى، تمامًا كما تتداعى منازلهم القديمة الخَرِبة بفِعل البحر
وملوحة الهواء. لقد انتحر، هذا مؤكَّد؛ وأكادُ أجزم أنَّ البقية الباقية منهم سيفعلون جميعًا
«. الأمرَ نفسه. ربما هذا هو أفضلُ ما يمكنهم القيام به
وبينما كان رجلُ العِلم يتحدَّث، قفز وجهُ ابنة آل دارناواي إلى ذاكرة باين على حين
غِرة وفي وضوحٍ مفزع، ذلك الوجه المأساوي الشاحِب في مقابل السواد اللُّجي المُبهَم، ولكنه
كان جمالًا أخاذًا في حد ذاته ويفوق حَدَّ الجمال البشري. فتحَ فمه لكي يتحدَّث، ولكنه
وَجَدَ الكلمات تذوب على شفَتَيه.
«؟ حسنًا، ولكن هل تؤمن بالخرافات في نهاية المطاف » : قال الأبُ براون للطبيب
«. ماذا تقصد بقولك أوُمن بالخرافات؟ إنني أوُمن بالانتحار كضرورةٍ علمية »
حسنًا، لا أرى فارقًا في الاختيار ما بين الخرافات العلمية والخرافات » : أجابه القس
السحرية الأخرى. يبدو أنَّ كلَيهما ينتهي بإصابة الأشخاص بالشلل، فلا يستطيعون
تحريك أرجلهم أو أيديهم أو إنقاذ أنفسهم أو أرواحهم. لقد قالت الكلمات المسجوعة إنَّ
مصير آل دارناواي أنهم يُقتَلون، ويقول الكتابُ العلمي إنَّ مصير آل دارناواي أنْ يقتلوا
«. أنفسهم. يبدو أنهم مُستعبَدون في كلتا الحالتَين
ولكنني كنت أعتقد أنك تؤمن بوجهات النظر المنطقية لهذه » : قال الدكتور بارنيت
«؟ الأمور، ألا تؤمن بما يُسمَّى بالوراثة
قلت إنني أوُمن بضوءِ النهار، ولن أختار بين » : أجابه القس بنبرةٍ واضحة ومرتفعة
نفَقَين من الخرافات الخفية ينتهي كلٌّ منهما إلى الظلام. ودليلُ كلامي هو أنكم جميعًا لا
«. تعرفون ما حَدَثَ بالفعل في ذلك المنزل
«؟ أتقصد بشأن الانتحار » : سأله باين
قال الأبُ براون وقد دوَّىصوته بطريقةٍ ما في أرجاء الشاطئ رغم أنه لم يرفعصوته
أقصدُ بشأن جريمة القتل. لقد كانت جريمةَ قتلٍ؛ ولكنها جريمةُ قتل للإرادة، » : إلا قليلًا
«. التي جعلها الرَّبُّ حُرَّة
لم يعرفباين قطُّ ما قاله الرجل الآخر في تلك اللحظة ردٍّا على هذا؛ ذلك أنَّ الكلمة كان
لها تأثيرٌ غريبٌ عليه؛ فقد دوَّت في أذنه وكأنها نفخة في بوق فجعلته يتوقَّف في مكانه. وَقَفَ
ساكنًا وسط الشاطئ الرملي المُهمَل وجعل الآخرين يتجاوزونه في سيرهم بحيث صاروا
هم أمامه؛ وشعر بالدم يتدفق في كل أوردته وبقُشَعريرةٍ تسري في جسده انتصبَ لها
شعرُ رأسه، ومع ذلك شعر بمذاقٍ غريبٍ وجديدٍ من السعادة. كانت هذه الحالة الشعورية
سريعةً جدٍّا ومعقدةً للغاية بحيث لم يستطع أن يفهمها، وقد خلُصَمنها إلى أنه عاجزٌ عن
تحليلها؛ لكنه أمرٌ أشعره بالارتياح. وبعد أن ظلَّ واقفًا بلا حَراك للحظةٍ، استدار وعاودَ
السير ببطءٍ على الرمال نحو منزل آل دارناواي.
عَبَرَ الخندق بخطواتٍ كاد الجسرُ يهتزُّ لها، ونزلَ السُّلَّم واجتازَ الغرف الطويلة
بخطواتٍ رنَّانة مُدوِّية إلى أنْ وصل إلى حيث كانت أديليد دارناواي تجلس وتلفُّها هالةٌ من
ضوء النافذة البيضاوية الخافت، كما لو كانت قديسة مَنسيَّة تُرِكَت في أرضالموت. رفعت
نظرها، وقد ارتسمت على وجهها نظرةُ تعجبٍ زادته بهاءً.
«؟ ما الأمرُ، لماذا عُدت » : قالت
لقد جئتُ لأجل الجمال النائم. إنَّ هذا المنزل العتيق » : قال بنبرةٍ تكاد تنمُّ عن ضحكةٍ
قد خَلَدَ إلى النوم منذ أمدٍ بعيد، كما قال الطبيب؛ ولكن من السخيف أن تتظاهري أنكِ
امرأة عجوز. اخرجي إلى النور واستمعي لصوت الحقيقة. لقد جئتُكِ بكلمة؛ إنَّها كلمةٌ
«. فظيعة، ولكنها ستكسر عنك تعويذة أَسْرك
لم تفهم كلمةً مما قاله، لكنَّ شيئًا ما دفعها للنهوض والسماح له ليسير بها عبر
القاعة الطويلة فصعدا الدرَج وخرجا تحت سماءِ الليل. امتدت أطلالُ حديقةٍ خَرِبة مُهمَلة
باتجاه البحر، وكان هناك نافورةٌ قديمة على شكل ترايتون، ابن إله البحر عند الإغريق،
كانت خضراء من أثر الصدأ، تبدو متأهبةً دون حَراك، ولم تكن النافورة تضخ شيئًا
من ذلك القرن الجاف في الحوض الفارغ. كان كثيرًا ما يرى ذلك الهيكل الخَرِب في
ظلمة السماء ليلًا أثناء مروره به، وبدا له ذلكضربًا من الحظ العسر بأكثرَ من طريقة.
لا شكَّ أنه لن يمر وقتٌ طويل حتى تمتلئ تلك الأجران الجوفاء، لكنها ستمتلئ بمياه البحر
الخضراء المالحة، وستموت الزهور غرقًا مختنقةً بين الأعشاب البحرية. وقد قال لنفسه إنَّ
ابنة آل دارناواي ربما ستتزوج بالفعل، ولكنها ستُزَف إلى الموت وإلى مصير أصمَّ لا يرحم
كالبحر، ولكنه كان يضع يده الآن على تمثال ترايتون البرونزي، التي بدَت كما لو كانت يدَ
رجلٍ عملاق، وهزَّه كما لو كان وثنًا أو إلهًاشريرًا لتلك الحديقة يريد أن يُحطِّمه.
«؟ ماذا تعني؟ ما هي تلك الكلمة التي ستُحرِّرنا » : سألته في ثباتٍ
الكلمة هي جريمة قتل، والحرية التي ستجلبها لنا هذه الكلمة هي حرية نضرة » : قال
كزهور الربيع. لا؛ لست أقصد أنني قتلت أحدًا، ولكن حقيقة أنَّ ثمة شخصًا ربما قُتِل
هي في حد ذاتها أخبارٌ رائعة، بعد كلِّ تلك الكوابيس التي كنتِ تعيشين فيها. ألَا تفهمين؟
في أحلامكِ التي ترينها كل شيءٍ حدث لكِ كان منبعه من داخلكِ؛ إنَّ مصير آل دارناواي
مُختزنٌ في نفوس أفراد الأسرة؛ لقد كشفَ ذلك الحُلم عن نفسه وكأنه زهرةٌ مريعة. ولم
يكن هناك من مفرٍّ منه حتى ولو كان بالمصادفة السعيدة؛ كان الأمرُ كلُّه محتومًا؛ سواءٌ
فاين وقصصزوجته العجوز، أم بارنيت وما يقوله عن عِلم الوراثة المستحدث، لكن ذلك
الرجل الذي ماتَ لم يكن ضحيةَ لعنةٍ سحرية أو جنون متوارث. لقد قُتِل؛ وبالنسبة إلينا
فإنَّ جريمة القتل هذه مجرد حادثة؛ أجل، فليرقد في سلام، لكنها حادثةٌ سعيدة. إنه شعاعُ
«. نور يُبدِّد الظلمة؛ لأنه ينبعث من الخارج
أجل، أعتقدُ أنني أفهمك. قد يكون حديثُك كالمجانين، لكنني » : ابتسمت فجأةً وقالت
«؟ أفهمك. ولكن مَنْ قتله
لا أعلم، لكن الأب براون يعلم. وكما قال الأبُ براون، فهي على الأقل » : أجابَ في هدوءٍ
«. جريمة قتل ارتُكِبَت بإرادةٍ حرةٍ كرياح البحر هذه
الأبُ براون شخصيةٌ رائعة. كان هو الشخصَ الوحيد » : قالت بعد أن سكتت برهةً
«… الذي أبهجَ حياتي بكلِّ طريقةٍ حتى
واندفع في حركةٍ متهورة؛ إذ مالَ نحوها ودفع ذلك الوحش «؟ حتى ماذا » : سألها باين
البرونزي بعيدًا حتى بدا وكأنه يهتز على قاعدته.
«. حسنًا، حتى جئت أنت » : قالت وقد علَت وجهَها الابتسامةُ مجددًا
وهكذا استيقظ القصرُالنائم، ولم يَرِد وصفٌ لمراحل استيقاظه في أي جزءٍ من هذه
القصة، رغم أنَّ كثيرًا من تلك المراحل قد وقعَت أحداثها قبل أن يُسدل ذلك الليلُ سدوله
على الشاطئ. وبينما كان هاري باين يسير عائدًا إلى المنزل، على تلك الرمال الداكنة التي
كثيرًا ما سار عليها في حالاتٍ مزاجية مختلفة، كان في قمةٍ من السعادة التي يمكن أن
يشعرَ بها أي إنسان، وكانت أحداث الموت والبعث داخله في أوجها. ولم يكن يواجه أيَّ
صعوبةٍ في تخيُّل ذلك المكان مرة أخرى وقد نمَت به الأزهار وتمثال ترايتون البرونزي
يلمع كإله ذهبي برَّاق، والنافورة يتدفق منها الماء أو النبيذ، لكن كل هذه المظاهر السعيدة
ولكنها لا زالت كلمةً لم يفهمها ،« جريمة قتل » والبراقة تجلَّت أمامه بفِعل كلمة واحدة
فهمًا تامٍّا. لقد صدَّق الكلمة وأخذها على مَحْمَل الثقة، لكنه لم يكن أحمق؛ فقد كان واحدًا
مِمَّنْ يستشعرون صوت الحقيقة ويُميِّزونه.
كان قد مرَّ أكثر من شهرٍ حين عادَ باين إلى منزله في لندن ليحضر موعدًا مع الأب
براون، وكان قد أخذ الصورة الفوتوغرافية المطلوبة معه. كانت علاقته العاطفية قد أينعت،
وكانت تتكيَّف تحت وطأة تلك المأساة؛ ومن ثمَّ كانت وطأة المأساة نفسها خفيفةً عليه؛
لكن كان من الصعب أن يراها إلا كفاجعةٍ عائلية. وقد كان منشغلًا كثيرًا وبوجوهٍ عدَّة،
ولم يتمكَّن من تصوير اللوحة المرسومة بشريط ماغنسيوم مشتعل إلا بعد أن عاد منزل
آل دارناواي لممارسة روتينه الصارم، وأعُيدت اللوحة إلى مكانها في المكتبة. وقبل أن يرسلها
إلى خبير التحفالأثرية كما كان مُخطَّطًا منذ البداية، أحضرالصورة الفوتوغرافية إلى القَسِّ
الذي طلبَ رؤيتها وألحَّ في طلبه.
لا يمكنني أن أفهم موقفك حيال كلِّ ما حدث أيُّها الأبُ براون، فأنت تتصرَّف » : قال
«. وكأنك قد حَللت المشكلة بالفعل بطريقتك الخاصة
لم أحُلَّ ولو حتى جزءًا ضئيلًا منها، لا بد وأنني » : هزَّ القس رأسه في حزنٍ وأجابه
غبيٌّ، ولكنني عالقٌ نوعًا ما؛ عالقٌ عند أكثر نقطة عملية في هذه الحادثة. الأمرُ كلُّه غريبٌ؛
«؟ إنه بسيطٌ للغاية حتى نقطةٍ معينة، ثم … دعني ألُقي نظرةً على تلك الصورة، أتسمح لي
وأمسكَ بالصورة وقرَّبها للحظةٍ من عينَيه بينما ضيَّقهما لأنه كان يُعاني من قِصر
«؟ هل معك عدسة مُكبِّرة » : النظر، ثم قال
أخرجَ باين عدسةً مُكبِّرة ونظر من خلالها القَس باهتمام لبرهةٍ من الوقت ثم قال:
تاريخ البابا » انظر إلى عنوان ذلك الكتاب على حافة رف الكتب بجوار الإطار؛ إنه يقول »
والآن، أتساءَل …أجل، بقلم جورج؛ والكتاب الذي فوقه من أيسلندا تقريبًا. يا إلهي! .« جون
يا لها من طريقةٍ غريبة لاكتشاف الأمر! يا لي من أبله مُغفل لأنني لم ألُاحظ الأمر حين
«! كنت هناك
«؟ ولكن ما هو الذي اكتشفته » : سأله باين بنفاد صبرٍ
القرينة الأخيرة، ولن أكون عالقًا بعد الآن. أجل؛ أعتقد أنني أعرف » : قال الأب براون
«. الآن كيف وقعَت أحداث تلك القصة البائسة من الألف إلى الياء
«؟ ولكن لماذا » : أصرَّالآخر في حديثه
لماذا؟! لأن مكتبة آل دارناواي كانت تحوي كتبًا عن البابا » : قال القس وهو يبتسم
« عقيدة فريدريك الدينية » جون وعن أيسلندا، فضلًا عن ذكر كتابٍ آخر رأيته وبداية عنوانه
ثم تلاشت ابتسامته بعد أن لاحظ أن الآخر «. وهو عنوانٌ ليس من الصعب للغاية تكملتُه
في الواقع، هذه النقطة الأخيرة، وعلى الرغم من » : منزعجٌ من كلامه، وقال بنبرةٍ أكثر جِدية
أنها القرينة الأخيرة، فهي لا تُعَد النقطة الأساسية في هذه المسألة. كان ثمة أشياءُ أخرى
أكثر إثارةً للفضول من ذلك في هذه المسألة. كانت أحدها دليلًا لافتًا للنظر. دعني أبدأ
حديثي بشيءٍ قد يفاجئك. لم يمت دارناواي بحلول الساعة السابعة ذلك المساء. كان ميتًا
«. بالفعل طوال اليوم
تبدو متواضعة للغاية لا تَفي بالغرض، بما « يفاجئك » إنَّ كلمة » : قال باين مغمغمًا
«. أننا، أنا وأنت، رأيناه وهو يتجوَّل بعدها
لا، لم نفعل، أعتقدُ أنَّ كِلَينا رآه، أو اعتقد كلانا أنه رآه، » : قال الأبُ براون في هدوءٍ
مهتمٍّا كثيرًا بضبط بؤرة كاميرته. ألم يكن رأسه تحت ذلك الرداء الأسود حين مررت من
الغرفة؟ كان ذلك الحال أيضًا حين صعدت أنا له؛ ولهذا شعرتُ بأنَّ ثمة شيئًا غريبًا بشأن
الغرفة أو وضعية جسده. لم يكن الأمر أنَّ قدمه عرجاء، إنَّما الفكرة أنها لم تكن عرجاء.
كان يرتدي نفس طراز الملابس الداكنة؛ ولكن إذا رأيت ما تعتقد أنه رجلٌ يقف بنفس
«. الطريقة التي يقف بها رجل آخر، فسترى أن وضعيته غريبة ومصطنعة
«؟ أتعني حقٍّا أنه كان رجلًا مجهولًا » : صاحَ باين وكأنه يرتجف
كان هذا هو القاتل، كان قد قتل دارناواي بالفعل في وضح النهار » : قال الأبُ براون
ووارى الجثة وتوارى هو في الغرفة المظلمة، وهي مكانٌ ممتاز للاختفاء عن الأنظار؛ لأنه
لا أحدَ يدخلها في الغالب، وإنْ دخلها فلن يرى أيشيءٍ بوضوح، ولكنه ترك الجثة تتداعى
«. عندما دقَّت الساعة السابعة، بالطبع، حتى يُفسَّر الأمر كلُّه وكأنه من صنيع اللَّعنة
ولكنني لا أفهم، لِمَ لم يقتله عند حلول السابعة، بدلًا من أن يتكبَّد عناء » : قال باين
«؟ إخفاء جثة لمدة أربع عشرة ساعة
دعني أسألك سؤالًا آخر، لماذا لم تُلتقَط أيصورة؟ لأنَّ القاتل حرَصَعلى » : قال القس
أن يقتله عند استيقاظه وقبل أن يتمكَّن من التقاط الصورة. كان من الضروري بالنسبة
«. إلى القاتل ألَّا تصلَ تلك الصورة الفوتوغرافية إلى خبير التحف الأثرية
ألَا ترى كَمْ » : سادَ الصمتُ فجأةً للحظة، واستطرد القس في حديثه بنبرةٍ منخفضة
هو بسيط؟ لماذا؟ أنت نفسُك رأيتَ جانبًا من الاحتمال الوارد، ولكن الأمر أبسط حتى مما
تخيَّلت. لقد قلت إنه يمكن أن يُزيِّف رجلٌ شخصيته ليُشبِه رجلًا آخر في صورةٍ قديمة.
ومن الأسهل بالتأكيد تزييف صورةٍ بحيث تشبه رجلًا؛ ومن ثمَّ، فإنه بصريح العبارة لا
يوجد ما يُسمَّى بلعنة آل دارناواي، هذا حقيقيٌّ. ولا وجودَ لأي لوحةٍ قديمة، وكذلك لا
وجود لأي أسجوعةٍ قديمة؛ ولا وجود لأسطورة الرجل الذي تسبَّب في إعدام زوجته، ولكن
كان هناك رجلٌ خبيثٌ شديدُ الدهاء على استعدادٍ لأن يتسبَّب في مقتل أحدهم كي يسرق
«. منه زوجته الموعودة
أعتقدُ الآن » : وفجأةً، ابتسم القس لباين ابتسامةً حزينة، كما لو كان يُطمئِنه وقال
أنك ترى كلامي يرمي إليك، ولكنك لم تكن أنت الوحيد الذي دخلَ ذلك المنزل لأسبابٍ
عاطفية. أنت تعرف الرجل، أو تظن أنك تعرفه، ولكن كان ثمة الكثير من الجوانب الخفية
في شخصية ذلك الرجل المدعو مارتن وود، فهو فنانٌ وخبيرٌ بالتحف الأثرية، ولم يكن أيُّ
أحدٍ من معارفه الفنية ليُخمِّن هذا بشأنه. تذكَّر أنه طُلِبَ منه الحضور لتقييم اللوحات
وأرشفتها؛ في سلة مهملاتٍ أرستقراطية من ذلك النوع الذي يُقصَد منه في الواقع إخبار
آل دارناواي بما يمتلكونه من كنوز فنية. لم يكن آل دارناواي ليُفاجَئوا بظهور أشياءَ لم
يُلاحِظوها من قبل. كان عليه أن يُؤدِّي مهمته بطريقةٍ احترافية، وهذا ما حدث؛ ربما كان
مُحقٍّا حين قال إنه لو لم يكن هولباين هو مَنْ رسم تلك اللوحة فلا بدَّ أنه شخصٌ آخر
«. يتمتع بموهبة فَذَّة تُضاهي موهبته
إنني مذهولٌ حقٍّا، ولكن ثمة أمورًا كثيرة لا أفهمها. كيف عرَفَ شكل » : قال باين
«. سليل آل دارناواي؟ كيف قتله في الواقع؟ يبدو الأطباءُ الآن في حيرة من أمرهم
لقد رأيت صورةً فوتوغرافية لذلك الأسترالي مع السيدة كان قد بعثَ بها » : قال القس
قبل وصوله، وثمة طرقٌ كثيرة يمكنه بها معرفة الكثير حين تعرَّف على الوريث الجديد.
ربما لا نعرف هذه التفاصيل؛ ولكنها ليست بمعضلة. تذكَّر أنه كان يساعد في الغرفة
المظلمة؛ يبدو لي أنَّ تلك الغرفة هي المكان المثالي، لنقل — مثلًا — لكي يطعن الرجل
بنَصلٍ مسموم، حيث السُّمُّ موجود وفي المتناول. لا؛ أقولُ إنَّ هذه الأمور ليست بمعضلة،
لكنَّ المعضلة التي أعاقتني هي كيف كان وود في مكانَين مختلفَين في الوقت نفسِه. كيف
يمكنه أن يأخذ الجثة من الغرفة المظلمة ويضعها في مكانها أمام الكاميرا بحيث تقع في
غضون ثوانٍ معدودة، من دون النزول على السُّلَّم، بينما كان في غرفة المكتبة يبحث عن
كتاب؟ وكنت مغفلًا لأنني لم أنظر إلى الكتب التي كانت في المكتبة؛ ولكنني رأيتُ في هذه
الصورة فقط — بمحضالصدفة التي لا أستحقها — تلك الحقيقةَ البسيطة بشأن كتابٍ
«. عن البابا جون
لقد احتفظتَ بأفضل قطع الأحُْجية حتى النهاية. ما علاقة البابا » : قال باين متجهمًا
«؟ جون بهذا الأمر بحق السماء
لا تنسَالكتابَ الذي عنوانهشيءٌ من أيسلندا، أو العقيدة الدينية لشخص » : قال القس
ما يُدعى فريدريك، لكن لا يبقى سوى أن أسأل أيُّ نوعٍ من الرجال كان اللورد دارناواي
«. الراحل
«؟ آهٍ، أحقٍّا » : علَّق باين بتثاقلٍ قائلًا
أعتقدُ أنه كان مثقفًا ومرحًا وغريبَ الأطوار نوعًا ما؛ فأما كونه » : استطرد الأبُ براون
مثقفًا، فقد عرف أنه لا وجودَ لشخص يُدعى البابا جون. وأما كونه مرحًا، فقد فكر على
أو شيءٍ آخر لم يكن له وجود. وإني لأجرؤ على وضع « ثعابين أيسلندا » الأرجح في عنوان
الذي ليس له وجودٌ أيضًا. والآن، ألا ،« العقيدة الدينية لفريدريك الأعظم » العنوان الثالث
ترى أنَّ هذه العناوين قد تكون هي العناوينَ التي تُوضَع على مغلفات كتبٍ ليس لها
«؟ وجود؛ أو بكلماتٍ أخرى على خِزانة كتبٍ لم تكن خِزانة كتبٍ في الواقع
«… أها! أدرك ما ترمي إليه الآن. كان هناك سُلَّمٌ خفي » : صاحَ باين
يؤدي إلى الغرفة التي اختارها وود بنفسه لكي تكون » : قال القس وهو يُومئ برأسه
هي الغرفةَ المظلمة. أنا آسفٌ. لم يسعني أنْ أفهم الأمر. إنَّ المسألة بسيطةٌ وغبية على نحو
مريع، بنفس قدر غبائي في تلك المسألة البسيطة. ولكننا كنا مشوشين ومشغولين بحكايةٍ
قديمةٍ وعتيقة لأرستقراطيةٍ بائدة، وقصرٍ عائلي متداعٍ؛ ولم يكن بالأمر البديهي الوارد
أن نأمل التمكُّن من الهرب باستخدام ممرٍّ سري. لقد كان مخبأً سريٍّا قديمًا للقساوسة؛
«. وأستحقُّ أنْ أوُضَع