«؟ والآن، ماذا عن الوصية نفسها » : قال الأب براون
كان الكولونيل فاحش الثراء، وكانت وصيته مهمة. لم يخبرنا تريل بالتغيير الذي »
أجراه الكولونيل في الوصية آنذاك، لكنني لم أسمع منذئذ إلا في صباح اليوم في واقع الأمر
أنَّ معظم التركة نُقِلَت من الابن إلى الابنة. لقد أخبرتك أنَّ دروس كان غاضبًا من صديقي
«. دونالد بسبب تبديده للوقت
يبدو أنَّ السؤال عن طريقة تنفيذ » : وهنا قال الأب براون بنبرةٍ تَنُم عن تفكيرٍ عميق
الجريمة قد طغى على السؤال عن مسألة الدافع وراء ارتكابها. وفي وقت وقوع الجريمة،
«. يبدو أنَّ الآنسة دروس كانت المستفيد الفوري المباشرمن موت أبيها
يا إلهي! يا لنبرة القسوة التي تتكلَّم بها! لا تقُل إنَّك » : صاح فاينس وهو يُحدِّق فيه
«… تُلمِّح إلى أنَّها
«؟ هل ستتزوج الطبيب فالنتين » : قاطعه براون متسائلًا
البعض يُعارض ذلك، لكنَّه رجلٌ محبوب ومحترم في الحيِّ، وهو » : أجابه صديقه
«. جراحٌ ماهر متفانٍ في عمله
جَرَّاحٌ مُتفانٍ جدٍّا لدرجة أنَّه كان يحمل معه أدواتٍ جراحية حين » : قال الأب براون
جاء لاحتساء الشاي مع الفتاة؛ إذ لا بد أنَّه استخدم مشرطًا أو شيئًا من هذا القبيل لفحص
«. الجُثَّة، ولا يبدو أنَّه عاد إلى منزله قط
«؟… أتقترح أنَّه ربما استخدم المشرط نفسه » : هَبَّ فاينس واقفًا وحَدَّق فيه متسائلًا
كل هذه الاقتراحات مجرد تخيُّلاتٍ إلى الآن. المشكلة » : هزَّ الأب براون رأسه، وقال
ليست في معرفة هوية القاتل ولا ماهية الأداة التي استخدمها، بل الطريقة التي ارتكب بها
جريمته. قد نجد العديد من الرجال المُشتبه فيهم بل والعديد من الأدوات المُحتمَلة، مثل
الدبابيس والمقصات والمشارط، ولكن كيف دخل القاتل الغرفة؟ بل كيف دخلها دبوسٌ
«؟ حتى
كان يُحدِّق إلى السقف متأملًا في أثناء كلامه، ولكن بينما كان يقول الكلمات الأخيرة،
لمعت عيناه لمعانًا ينُم عن انتباهٍ مفاجئ كما لو أنَّه رأى ذبابةً غريبة على السقف فجأة.
«؟ حسنًا، ماذا ستفعل حيال ذلك؟ لديك خبرة كبيرة، فبِمَ تنصحُ الآن » : سأله الشاب
يؤسفني القول إنني لا أستطيع أن أكون ذا نفع كبير في » : قال الأب براون مُتنهدًا
هذه القضية. فلا يُمكنني التوصل لكثيرٍ من الاقتراحات دون أن أرى مسرح الجريمة أو
الأشخاصالذين كانوا هناك وقت وقوعها. كُل ما يُمكن فعله الآن أن تواصل تحرِّياتك عند
مسرح الجريمة وحوله. أظنُّ أن صديقك الضابط السابق في الشرطة الهندية يتولَّى بعض
التحرِّيات التي كُنت ستُجريها عند مسرح الجريمة. يجب أن أفحصوأرى ما الذي توصَّل
إليه. اذهب إليه وانظر ما الذي توصَّل إليه بأسلوبه الهاوي في التحرِّي. قد تكون لديه
«. معلومات جديدة بالفعل
مع رحيل ضيفَيه، فاينس والكلب، أمسك الأب براون قلمه وعاد إلى عمله الذي جرت
التغيير » مقاطعته والمتمثل في التخطيط لسلسلة محاضراتٍ عن المنشور البابوي العام
كان الموضوع كبيرًا وكان على القَسِّ أن يُعيد صياغته أكثر من مرة؛ لذا كان على .« الثوري
القدر نفسه تقريبًا من الانهماك في كتابته بعد ذلك بيومَين حين جاء الكلب الأسود الكبير
مرةً أخرى إلى الغرفة بخطواتٍ واثبة راكضًا في جميع أرجائها بحماسٍ وانفعال. وقد كان
سيِّده فاينس، الذي دخل الغرفة بعده، يشاركه الانفعال نفسه ولكن مِن دون حماس.
وبدا أنَّه كان أقل سعادةً من كلبه، لأنَّ عينَيه الزرقاوَين كانتا جاحِظتَين، ووجهه المتلهف
بدا شاحبًا بعضالشيء.
لقد طلبت منِّي الذَّهاب لمعرفة ما كان يفعله هاري » : ثم قال فجأة وبلا أي مُقدِّمات
لَم يرُد عليه القَس، وواصل الشاب كلامه بنبرةٍ متوترة: «؟ دروس. هل تعرف ماذا فعل
«. سأخبرك بما فعله. لقد قتل نفسه »
هَمهَم الأب براون بكلماتٍ خافتة، ولم يكن ما يقوله يتضمَّن شيئًا عَمَليٍّا؛ أي لا شيء
متعلق بهذه القصة أو هذا العالم.
«؟ إنَّك تُخيفني أحيانًا. هل … هل توقعتَ هذا » : قال فاينس
اعتقدت أنَّ ذلك ممكن؛ لذا طلبت منك الذَّهاب لرؤية ما كان » : أجابه الأب براون
«. يفعله، وتمنَّيتُ أن تلحقه قبل فوات الأوان
أنا الذي اكتشفت جثته. لقد كان ذلك أبشعَ وأغرب » : وهنا قال فاينس بصوتٍ أجش
منظرٍ رأيته طوال حياتي. ذهبت إلى تلك الحديقة القديمة مرة أخرى، وأدركت وجود
شيءٍ جديدٍ وغير طبيعي فيها بخلاف جريمة قتل الكولونيل. كانت الزهور الزرقاء الكثيفة
ما تزال تهتز بعُنفٍ على جانِبَي الممشى الأسود المؤدي إلى الكوخ الصيفي الرمادي القديم،
لكنَّها بدَت لي شياطين زرقاء ترقصأمام كهف مُعتِم في العالم السفلي. نظرت حولي، وبدا
أنَّ كل شيء في مكانه المعتاد، لكنني أحسست بشيءٍ غريبٍ في شكل السماء، ثم أدركت
ماهيته؛ دائمًا ما كانت صخرة الحظ ظاهرةً في الأفق خلف السياج النباتي وأمام البحر،
«. لكنني اكتشفت أنَّها اختفت تمامًا
رفع الأب براون رأسه وكان يُصغي إليه باهتمام.
كان الشكل العام يبدو كما لو أنَّ جبلًا قد خرج من منظرٍ طبيعي أو قمرًا سقط من »
السماء، مع أنني كنت أعرف بالطبع أنَّ أيَّ لمسةٍ في أي وقت كانت ستُسقِط تلك الصخرة.
ثُمَّ مَسَّني هاجسٌ ما وركضت على ممشى الحديقة بسرعة الريح، واخترقت ذلك السياج
النباتي كما لو كان بيت عنكبوت. لقد كان سياجًا رقيقًا في الواقع، لكنَّ تقليمه المتساويَ
جعله أشبهَ بجدار. ثم وجدت على الشاطئ الصخرة الساقطة من فوق قاعدتها، والمسكين
هاري دروس راقدًا تحتها كحُطام سفينة. كانت إحدى ذراعَيه مُلتفَّةً حولها ومحتضنةً
إيَّاها كما لو أنَّه تَعمَّد سحبها على نفسه. وعلى الرمال البنيَّة الشاسعة بجوارها، وبحروفٍ
«.« صخرة الحظ سَقَطت على الأحمق » : فوضوية كبيرة، كتب مُخربِشًا
وصية الكولونيل هي التي فعلَت ذلك. لقد رَهَن الشاب كل شيء » : قال الأب براون
بالاستفادة من غَضَبِ عمه على دونالد، لا سيما حين استدعاه عَمُّه في اليوم نفسه الذي
استدعى فيه المحامي، ورحَّب به بحفاوةٍ كبيرة. وكان يعلم أنَّ أمره قد انتهى لو لم يحصل
على الاستفادة التي كان يرجوها؛ إذ خَسروظيفته في الشرطة، وصار فقيرًا في مونت كارلو.
«. وها هو انتحر حين اكتشف أنَّه قتل عَمَّه سُدًى
مَهلًا، مهلًا! إنَّك تسرد ما حدث بسرعةٍ شديدة تُعجِزني » : صاح فاينس محدقًا فيه
«. عن فهم ما تقوله
بمناسبة الحديث عن الوصية، أريد أن أذكر » : واصل الأب براون كلامه بهدوء قائلًا
شيئًا قبل أن أنسىأو ننتقل إلى موضوعات أهم، أظن أنَّ هناك تفسيرًا بسيطًا يشرح كل ذلك
اللغَط بشأن اسم الطبيب. أتصوَّرُ أنني سمعت كلا الاسمَين في مكانٍ ما من قبل. فالطبيب
رجلٌ نبيل فرنسي حقٍّا يحمل لقب ماركيز دي فيلون، لكنَّه كذلك مؤيدٌ متعصب للنظام
الجمهوري؛ لذا تخلَّى عن لقبه النبيل، وعاد إلى استخدام لقبه العائلي المنسي، مثل المواطن
«. ركيتي الذي حيَّر أوروبا كُلَّها عشَرة أيام باسمه العادي بعد تخليه عن لقبه النبيل
«؟ عَمَّ تتحدث » : سأله الشاب في جمود
لا تهتم؛ ففي تسع مرات من أصل عشر، يكون تغيير اسم المرء فعلًا » : فقال له القَسُّ
خبيثًا، لكنَّه هذه المرة يُجسِّد لفتةً من التعصُّب الحميد. وهذا هو مقصد سخريته من أن
الأمريكيين ليس لديهم أسماء، أي ليس لديهم ألقاب. والآن في إنجلترا، لا يُطلَق على ماركيز
هارتنجتون السيد هارتنجتون أبدًا، ولكن في فرنسا يُطلَق على ماركيز دي فيلون السيد
دي فيلون؛ لذا بدا أن الطبيب غيَّر اسمه. أما بخصوصالحديث الذي دار بينه وبين الآنسة
دروس عن قتل شخصٍما، فأتصوَّر أنَّ ذلك أيضًا كان يدور حول أحد التقاليد الفرنسية؛
إذ كان الطبيب يتحدث عن دعوة فلويد إلى مبارزة ثنائية بينهما، وكانت الفتاة تحاول
«. إقناعه بالعدول عن ذلك
«. آه، فهمتك. الآن فهمت ما كانت الآنسة دروس تعنيه » : صاح فاينس ببطء
«؟ وعَمَّ تتحدث أنت الآن » : سأله رفيقه مبتسمًا
حسنًا، أتحدث عنشيءٍ حَدَث لي قبل أن أكتشف جُثَّة صديقي المسكين » : قال الشاب
هذا، وما أنسانيه إلَّا وَقْع الكارثة على نَفسي. أظنُّ أنَّه من الصعب تذكُّر مَشهدٍ رومانسي
قليلًا حين يكون المرء قد شَهِد مأساةً للتو، ولكن بينما كنت أسير في الممرات المؤدية إلى منزل
الكولونيل القديم، التقيت ابنته وهي تتمشَّى مع الطبيب فالنتين. كانت ترتدي ثياب حِدادٍ
بالطبع، أمَّا هو، فدائمًا ما كان يرتدي ثيابًا سوداء كما لو كان ذاهبًا إلى جنازة، لكنني لا
أستطيع القول إنَّ قَسَمات وجهَيهما كانت جنائزية. لم يسبق لي أن رأيت شخصَين يبدوان
أكثر إشراقًا وابتهاجًا بوقارٍ منهما في تلك اللحظة. وقَد توقَّفا وألقيا التحيَّة عليَّ، ثم قالت لي
إنَّهما متزوجان ويعيشان في منزلٍصغير فيضواحي البلدة، حيث يواصل الطبيب ممارسة
مهنته. وقَد فاجأني ذلك إلى حدٍّ ما؛ لأنني كنت أعرف أنَّ وصية والدها العجوز نقلت إليها
ملكية أملاكه، ولمَّحتُ إلى ذلك بلُطفٍ قائلًا إننَّي كنت ذاهبًا إلى منزل والدها القديم، وإنني
أوه، لقد تخلَّينا عن كل ذلك؛ » : كنت أتوقع أن ألتقيَها هناك، لكنَّها اكتفَت بالضحك، وقالت
واكتشفتُ ببعض الاندهاش أنَّهما أصرَّا «. فزوجي لا يحب الوريثات ذوات الثروة الطائلة
بالفعل على إعادة مِلكية ممتلكات والدها إلى دونالد المسكين؛ لذا آمُل أن يكون قد أصيب
بصدمةٍ تجعله يستفيق، وأن يتعامل مع هذه الثروة بعقلانية. ويُمكن القول إنَّ طيش
دونالد لم يكن مشكلةً كبيرة لديه؛ إذ كان صغيرًا جدٍّا، ولم يكن والده على قَدرٍ كبير من
الحِكمة ليُدرِكَ ذلك. غير أنَّها قالت شيئًا متعلقًا بذلك لم أفهمه آنذاك، لكني متيقنٌ الآن
من أنَّها كانت تقصد ما قُلتَه لي منذ قليل. قالت بشيءٍ من الغطرسة المفاجئة المُبهِرة التي
كانت غيريةً تمامًا:
آمُل أنَّ ذلك سيُسكِت الأحمق ذا الشعر الأحمر عن إثارة مزيدٍ من البلبلة بشأن »
الوصية. هل يظنُّ أنَّ زوجي، الذي تخلَّى عن شارةٍ نبيلة وتاجٍ قَديمَين قِدَم الحروب
ثم «؟ الصليبية من أجل مبادئه، سيقتل رجلًا مُسِنٍّا في كوخٍ صيفي من أجل ميراثٍ كهذا
زوجي لا يقتل أي شخصإلَّا في إطار مهنته. بل إنَّه حتى لم » : ضحكت مرةً أخرى وقالت
«. والآنصرتُ أفهم ما كانت تقصده بالتأكيد «. يُسلِّط أصدقاءه على السكرتير
إنني أفهم جزءًا ممَّا كانت تقصده، بالطبع، ولكن ما الذي كانت » : قال الأب براون
«؟ تَعنيه بالضبط بالبلبلة التي يثيرها السكرتير بشأن الوصية
ليتك كُنتَ تعرف السكرتير عن كثب أيها الأب » : ابتسم فاينس وهو يُجيب قائلًا
براون. لعلَّك كنت ستسعَد برؤيته وهو يجعل كل شيءٍ يسير بسلاسة، على حد قوله. لقد
جعل الأوضاع سَلِسةً في البيت أثناء الحداد. وملأ الجنازة بحيويةٍ ونشاط جعلاها تُضاهي
أقوى حَدَثٍ رياضي. كان يتصرَّفُ بحيويةٍ لا يُمكن كبتها حالما يحدث أيُّشيء مُهم يثيره.
لقد أخبرتك كيف اعتاد الإشراف على البستاني، عندما كان يعمل في الحديقة، وكيف أرشد
المحامي إلى بعض المعلومات القانونية. ولا حاجة إلى ذِكر أنَّه أرشَد أيضًا الجراح في أثناء
فَحصه الجُثة، ونظرًا إلى أنَّ هذا الجرَّاح كان الطبيب فالنتين، فيُمكنك أن تكون متيقنًا
من أنَّه اتَّهمه بما هو أسوأ من عدم إتقان مهنته؛ إذ كان يُصِرُّعلى أنَّ الطبيب هو القاتل،
وحين وصلَت الشرطة، كان مُبدِعًا فيسَرد وقائع الجريمة. يُمكنني القول إنَّه أصبح أعظم
المحقِّقين الهواة فورًا. لقد تفوَّق على الشرطة في التحقيق في مقتل الكولونيل دروسبخُيَلاء
وازدراء فِكرِيَّين هائلَين يتجاوزان تفوُّق شيرلوك هولمز علىشرطة سكوتلاند يارد. ألم أقُل
لك إنَّك كنت ستسعد برؤيته؟ كان يسير بخُطًا واسعة وبالٍ مشغول، ناثرًا خُصلات شَعرِه
الأحمر في الهواء، ومكتفيًا بإعطاء ردود مقتضبة توحي بنفاد صبره. ولا شكَّ أنَّ سلوكه في
هذه الأيام هو الذي جعل ابنة دروس منزعجة جدٍّا منه. وبالطبع كانت لديه نظرية حيال
الجريمة. إنَّها من نوعية النظريات التي تُدرَج في الكُتُب، وفلويد من نوعية الرجال الذين
يجب إدراج سيرة حياتهم ومعلوماتهم في كتاب. كان سيُصبِح أكثر تسليةً وأقل إزعاجًا لو
«. أدرَج نظرياته وسيرته في كتاب
«؟ ما تلك النظرية التي افترضها » : وهنا سأله الأب براون
أوه، لقد كانت مُفعمةً بالحيوية. كانت لتُصبح نظريةً » : أجاب فاينس بنبرةٍ حزينة
مجيدة لو كان بإمكانها أن تظل قائمةً عشر دقائق أخرى. لقد قال إنَّ الكولونيل كان
ما يزال على قيد الحياة حين وجدوه في الكوخ الصيفي، قبل أن يقتله الطبيب بالمشرط
«. الجراحي متظاهرًا بقطع ملابسه ليفحصالجرح
فهمت. أعتقد أنَّه كان مستلقيًا على وجهه على الأرضية الطينية كأنَّه » : فقال القَس
«. يَغُط في قيلولة
يا لروعة ما كان فلويد سيحصده بفضل نشاطه الكبير! » : فتابع فاينس كلامه قائلًا
أعتقد أنَّ نظريته العظيمة كانت ستُنشَر في الصحف بأي حال من الأحوال، وربما كان
سيدفع الطبيب إلى الاعتراف بفعلته، قبل أن يتلاشى كل ذلك كما لو أنَّه نُسِف بديناميت
بسبب اكتشاف تلك الجثة الراقدة تحتصخرة الحظ. وهذا ما نعود إليه الآن بعد كلشيء.
«. أظنُّ أنَّ الانتحار يُعَد بمثابة اعتراف، ولكن لن يعرف أحدٌ القصة كُلَّها
أعتقد أنني أعرف القصة » : ثم حَلَّت لحظة صمتٍ، قبل أن يقول الأب براون بتواضع
«. كُلَّها
ولكن مهلًا، كيف تعرفالقصة كُلَّها، أو ما الذي يجعلك متيقنًا » : صاح فاينسمُحدِّقًا
من أنَّها القصة الحقيقية؟ إنَّك تجلسهنا على بعد مائة ميل منهمكًا في كتابة خطبة دينية،
هل تقصد حقٍّا أنَّك تعرف ما حدث بالفعل؟ ولكن إذا كنت قد توصَّلت حقٍّا إلى اكتشاف
«؟ نهاية القصة، فمِن أين بدأتَها؟ وما الذي أوحى لك بأول خيطٍ نَسَجتَ به تفاصيلها
هَبَّ الأب براون واقفًا بانفعالٍ شديد غير معتاد، وكانت أولى الكلمات التي صاح بها
مُدوِّية كالانفجار.
الكلب! الكلب بالطبع! لقد كانت القصة كاملة بين يدَيك متجسدةً » : إذ صاح قائلًا
«. فيما فعله الكلب على الشاطئ، وكُنتَ ستُدركها لو لاحظت تصرُّفات الكلب كما ينبغي
لكنك أخبرتني من قبل بأنَّ مشاعري تجاه تصرُّفات » : اشتد تحديق فاينس. وقال
«. الكلب كانت كلها محضهراء، وأنَّ الكلب ليس له علاقة باكتشاف تفاصيل الجريمة
بل كانت له علاقةٌ قوية، كما كنت ستكتشف لو تعاملت مع الكلب » : قال الأب براون
«. على أنَّه مُجرَّد كلب، وليس إلهًا يحكم على أرواح البشر
سكت للحظة سكوتًا يوحي بشعوره بالحرج، قبل أن يُواصل بنبرةٍ اعتذارية مثيرة
الحقيقة أنني مغرمٌ للغاية بالكلاب. وقَد بدا لي، أنَّه في خِضَم كل هذه » : للشفقة نوعًا ما
الهالة اللامعة المحيطة بالمعتقدات الخرافية عن قدرات الكلاب، لم يكن أحدٌ يفُكِّر حقٍّا
في هذا الكلب المسكين على الإطلاق. لنبدأ بنقطةٍ بسيطة، وهي نُباحه في وجه المحامي أو
زمجرته في وجه السكرتير. لقد سألتَني كيف استطعتُ تخمين الأحداث على بعد مائة ميل،
ولكن للأمانة، يعود أغلب الفضل في ذلك إليك؛ لأنَّك وصفت هؤلاء الأشخاصَبدقةٍ شديدة
لدرجة أنَّني أصبحت أعرف أنواع شخصياتهم؛ فرجلٌ مثل تريل، الذي عادةً ما يكون
عابسَ الوجه ويبتسم فجأةً ويعبث بملابسه بتوتر لا سيما عند حلقه، شخصٌ عصبي
سريع الارتباك. ويُمكنني كذلك أن أؤكد أنَّ فلويد، السكرتير النشيط، شخصٌمتوترسريع
الارتباك أيضًا؛ لأنَّ أغلب هؤلاء الأمريكيين ذوي النشاط الزائد يكونون كذلك. وإلَّا لما جَرَح
أصابعه بالمقصوأسقطه من يده حين سمع صرخة جانيت دروس.
والكلاب تكره الأشخاصالمتوترين العصبيين. لا أعرف ما إذا كانت هذه النوعية من
الأشخاصتجعل الكلاب عصبيةً أيضًا، أم أنَّ نزعة الكلب الحيوانية الراسخة فيه رغم كل
شيء تزرع فيه ميلًا بسيطًا إلى الاستئساد على الكائنات الأضعف منه، أم أنَّ غرور الكلب
(الهائل بالمناسبة) يُهان ببساطةٍ حين يشعر بأنَّه غير مرغوبٍ فيه، ولكن على أيَّة حال،
لا يوجد شيءٌ غامض في نباح نوكس المسكين أو زمجرته في وجه هؤلاء الأشخاص، سوى
أنَّه كرههم لأنَّهم خافوا منه. أعرف أنَّك ذكي للغاية، ولا يوجد أحدٌ ذو بصيرةٍ يسخر من
الذكاء، لكنني أتصوَّرُ أحيانًا، على سبيل المثال، أنَّك أذكى من أن تفهم الحيوانات. وفي بعض
الأحيان، تكون أذكى من أن تفهم الرجال، لا سيما حين يتصرفون ببساطةٍ كالحيوانات؛
فالحيوانات كائناتٌ بسيطة للغاية تعيش في عالم البديهيات. إليك هذا المثال: كلبٌ ينبح
على رجل، فيهرب الرجل من الكلب. هنا لا يبدو أنَّك بسيطٌ بما يكفي لترى الحقيقة؛ وهي
أنَّ الكلب نبح لأنَّه كَرِه الرجل، وأنَّ الرجل هَرب لأنَّه خاف من الكلب. لم يكن لديهما أي
دوافع أخرى، ولم يكنضروريٍّا أن يكون لديهما دوافع أخرى في الأساس، ولكن لا بُدَّ أنَّك
ارتأيت ألغازًا نفسية في هذا الموقف، وافترضت أنَّ الكلب كانت لديه بصيرةٌ فائقة، وأنَّه
تحلَّى بقُدرةٍ غامضة جعلته ينطق بلسان قاضٍ أدان هذا الرجل. ولا بُدَّ أنَّك افترضتَ أنَّ
الرجل هَرَب خوفًا من المشنقة وليس من الكلب، ولكن إذا فكَّرتَ مليٍّا في الأمر، فسيتبيَّنُ لك
أنَّ كل هذه الافتراضات العميقة القائمة على تحليلٍ نفسي مُستبعَدةٌ تمامًا؛ فلو كان الكلب
يستطيع حقٍّا أن يتعرف بوعيٍ تام على هوية قاتل سيده، ما كان ليقف في مكانه نابحًا على
هذا الشخصكما قد ينبح في وجه مُساعد قَسٍّ في حفلٍ للشاي، بل كان من المُرجَّح جدٍّا أن
ينقضَّعليه بشراسة. وعلى الجانب الآخر، هل تظُنُّ حقٍّا أنَّ رجُلًا انتُزعت الرحمة من قلبه
ليقتل صديق عمره ثم سار مبتسمًا في وجوه أفراد عائلة هذا الصديق القديم، تحت أعيُن
ابنته وطبيب التشريح، سينحني شعورًا بتأنيب الضمير لمجرد أنَّ كلبًا نبح عليه؟ ربما كان
سيشعر بمفارقةٍ مأساوية في هذا النباح، وربما كان هذا النباح سيهز روحه، كأيِّ حادث
تافه مأساوي آخر بالنسبة له، لكنَّه ما كان ليركض بجنون بطول حديقةٍ للهروب من
الشاهد الوحيد الذي يعرف تمامًا أنه غير قادر على التحدث. فالناس يُصابون بذعرٍ كهذا
حين يخافون من أنياب حيوانٍ مفترس، وليس من مفارقةٍ مأساوية. إنَّ الأمر برمته كان
أبسط من أن تفهمه.
ولكن حين نتطرَّق إلى ما فعله الكلب عند شاطئ البحر، نرى أنَّه كان أشد إثارة
للاهتمام. وبناءً على سردك للأحداث هناك، كان أكثر إثارة للحيرة. لم أفهم فِقرة خروج
الكلب من البحر فجأة دون إعادة العصا؛ إذ يبدو لي أنَّ ذلك ليس من دأب الكلاب. فإذا
كان نوكس مستاءً جدٍّا منشيءٍ آخر آنذاك، فربما كان سيَرفُضتمامًا الذَّهاب وراء العصا
لإعادتها. وكانت أنفه ستقوده على الأرجح نحو الاتجاه الذي يشكُّ أنَّ حادثًا مؤذيًا قد وقع
فيه، ولكن حالما ينهمك الكلب في ملاحقة شيءٍ ما، مثل حجرٍ أو عصًا أو أرنب، فمن واقع
تَجارِبي أنَّه لن يتوقف عن ذلك لأيِّ سببٍ إلَّا حين يتلقى أمرًا حاسمًا للغاية من سيِّده، بل
حتى ذلك قد لا يوقفه في بعضالأحيان؛ لذا لا يُمكنني تصوُّر أنَّه استدار فجأة وخرج من
«. البحر لأنَّ مِزاجه تعكَّر
«. لكنه استدار وعاد بدون العصا بالفعل » : فأصرَّفاينس قائلًا
لقد عاد بدون العصا لأوجَهِ سببٍ في الدُّنيا؛ لقد عاد لأنه لم يستطع » : رد الأب براون
العثور عليها. وأطلق نُباحًا أشبه بالعويل لأنَّه لم يستطع العثور عليها. فهذه هي نوعية
الأشياء التي تنتحب الكلاب لأجلها بالفعل. والكلب كائنٌ يعشق التكرار إلى حدٍّ بشع.
ويُمكن القول إنَّه يهتم اهتمامًا شديدًا بالتكرار الدقيق لتفاصيل لعبةٍ يلعبها كاهتمام طفلٍ
بالتكرار الدقيق لتفاصيل حكايةٍ خرافية يسمعها. وفي هذه الحالة، حدث خطأ فٌي اللعبة
التي يلعبها؛ لذا عاد ليتشكَّى بشدة ممَّا فعلته العصا؛ إذ لم يحدثشيءٌ كهذا من قبل، ولم
«. يسبق لكلبٍ بارز مميز مثله التعرُّضلهذه المُعاملة من عصًا قديمة مهترئة
«؟ عجبًا! ما الذي فعلته العصا » : سأله فاينس
«. لقد غرقت » : قال الأب براون
لم ينبس فاينس ببِنت شَفةٍ، لكنَّه استمر في التحديق، قبل أن يواصل القَسُّ كلامه
لقد غرقت لأنَّها لم تكن عصًا عادية في الواقع، بل قضيبًا من الصُّلب مكسوٍّا » : قائلًا
بالخيزران وله طرَفٌ حادٌّ مُدبَّب. بعبارةٍ أخرى، كانت عصًا بداخلها سيف. لا أظنُّ أنَّ ثَمة
قاتلًا قد يتخلَّصمن سلاحٍ مُلطَّخ بالدماء بطريقةٍ غريبةٍ كهذه — لكنَّها طبيعية في الوقت
«! نفسِه — بإلقائه في البحر لكلب ريتريفر
لقد بدأت أفهم ما تقصده، ولكن حتى لو كان استخدم عصًا » : وهنا قال فاينس
«. بداخلها سيف، فلا أستطيع تصوُّر الكيفية التي استخدمها بها
لقد تفتَّق ذهني عن أول تخمين بشأن طريقة ارتكاب الجريمة » : قال الأب براون
حالما قُلتَ كلمة كوخٍ صيفي. ثم طرأ على بالي تخمينٌ آخر حين قُلتَ إنَّ دروس كان يرتدي
معطفًا أبيض. ونظرًا إلى أنَّ الجميع كان يبحث عن خنجرٍ قصير، لم تَخطُر على بال أحدٍ
الطريقة التي ارتُكِبَت بها الجريمة، ولكن إذا سَلَّمنا بأنَّه قُتل بنصلٍ طويل كنصل سيف
«. مدبَّب، تُصبح الطريقة التي خمَّنتها ممكنة
كان الأب براون مائلًا برأسه إلى الخلف وناظرًا إلى السقف، وبدا كشخصٍ يعود إلى
أفكاره الأولى.
إنَّ كُلَّ هذا الكلام عن قصصٍ بوليسية مثل لغز الغرفة الصفراء، وعن رجلٍ وُجِد »
ميتًا في غرفة مغلقة لا يمكن لأحدٍ دخولها، لا ينطبق على القضية الحاليَّة؛ لأنَّها وقعَت في
كوخٍصيفي. فحين نتحدث عن غرفةٍصفراء، أو أي غرفة أخرى، فإننا نعنيضمنيٍّا وجود
جُدرانٍ متجانسة لا يمكن اختراقها، لكنَّ الكوخ الصيفي لا يُبنى هكذا، بل غالبًا ما يُبنى،
كما كان في هذه الحالة، بأعواد وقطع خشبية متراصٍّ بعضها بالقرب من بعض، لكنَّها
منفصلة بفتحاتٍ طولية ضيِّقة بينها. ويبدو أنَّ إحدى هذه الفتحات كانت موجودةً خلف
ظَهر دروس وهو جالسٌ على كرسيِّه أمام الجدار، ولكن مثلما كانت الغرفة كوخًا صيفيٍّا،
كان الكرسيمصنوعًا من أغصان الخيزران، التي تُمثِّل شبكةً من الفتحات والثغرات أيضًا.
وأخيرًا، كان الكوخ الصيفي قريبًا من السياج النباتي، وقد أخبرتني للتو بأنَّه كان في
واقع الأمر سياجًا رقيقًا؛ لذا يمكن لرجلٍ واقف خارجه أن يرى بسهولة، وسط شبكةٍ من
الأغصان والفروع وأعواد الخيزران، نقطةً بيضاء من معطف الكولونيل واضحةً كالدائرة
البيضاء وسط لوحة الرماية.
صحيحٌ أنَّك لم تُوضِّح لي معالم المكان الجغرافية بما يكفي، لكنني استطعت تخمينها
قدر الإمكان وفق المعلومات التي أطلعتَني عليها. لقد قُلتَ إنَّ صخرة الحظ لم تكن شاهقةَ
الارتفاع في واقع الأمر، لكنَّك ذكرتَ أيضًا أنَّها كانت تُهيمِن على أفُق الحديقة كقمة جبل.
وهذا يعني أنَّها كانت قريبة جدٍّا من طرف الحديقة، مع أنَّك تمشَّيت طويلًا حتى وصلت
إليها. كذلك، من المستبعد أنَّ صرخة الآنسة دروس كانت عاليةً جدٍّا لدرجة أنَّ تسمعها
على بُعدِ نصف ميل؛ إذ أطلقَتصرخةً عَفوية عادية، لكنَّك سمعتها وأنت في الشاطئ. ومن
بين التفاصيل الأخرى المثيرة للاهتمام التي أخبرتني بها، دعني أذُكِّرْكَ بأنَّك قُلت إنَّ هاري
«. دروس تأخَّر عنكما ببعضالخطوات لإشعال غليونه أسفل السياج النباتي
تقصدُ أنَّه سحَب نصل سيفه هناك وغرسه في النقطة » : ارتجف فاينس قليلًا، وقال
البيضاء عبر السياج النباتي، ولكن من المؤكد أنَّ ذلك التصرُّف كان صُدفةً غريبة وخيارًا
مفاجئًا للغاية. وفوق ذلك، لم يكن متيقنًا من أنَّ الرجل العجوز قد أوصىبنقل ثروته إليه،
نضحَت أسارير الأب براون بالحيوية، وقال متحدثًا عن هاري كما لو كان يعرفه
إنَّك تُسيء فَهم شخصيته؛ فهو شخصية غريبة لكنَّها ليست مجهولة. ولو » : طوال حياته
كان يعرف حقٍّا أنَّ الثروة ستنتقل إليه، أعتقد جِدِّيٍّا أنَّه ما كان سيرتكب جريمته، لأنَّه كان
«. سيرى مدى حقارتها
«؟ ولكن أليس ذلك مُنافيًا للمنطق إلى حدٍّ ما » : سأله فاينس
كان هاري رجلًا مُقامرًا، وسيئ السُّمعة بسبب إقدامه على المخاطر » : قال الأب براون
واستباق الأوامر. ربما كان يفعل ذلك لغرضٍ خبيثٍ نوعًا ما؛ لأنَّ كل شرطة إمبراطورية
أشبه بالشرطة السرية الروسية ممَّا نُريد أن نعتقد، لكنَّه تجاوز القواعد وخسر وظيفته.
والآن، صار الإغراء الوحيد الذي يجتذب رجلًا كهذا هو فعل شيءٍ جنوني بدقةٍ متناهية؛
لأنَّ المُخاطرة ستكون رائعة عند تأمُّل تفاصيلها بعد الإقدام عليها. كان يريد أن يقول
لا أحد سواي كان بإمكانه اغتنام هذه الفرصة أو رؤية أنه كان يجب » : حين يتذكَّر فعلته
اغتنامها آنذاك وإلا فستضيع. يا له من تخمين جامحٍ رائع ذلك الذي خَطر على بالي حين
رَبطتُ بين كل هذه الأحداث المتفرقة؛ دونالد مغضوبٌ عليه، وقد جرى استدعاء المحامي،
واستدعائي أنا وهربرت في الوقت نفسه، ثم الحفاوة التي استقبلني وصافحني بها الرجل
المُسِن. يمكن لأي شخصٍأن يقول إنَّ إقدامي على هذه المخاطرة كان فعلًا جنونيٍّا، ولكن
هكذا تُصنَع الثروات؛ فهي تُصنَع بيد رجلٍ يتحلَّى بقدرٍ كافٍ من الجنون يمنحه قليلًا من
باختصار، إنَّه غرور التخمين، وهوسالعظمة لدى الأشخاصالمُقامرين؛ إذ كلما «. البصيرة
ازدادت عناصرالمصادفة تنافرًا، كان القرار فوريٍّا، وزاد احتمالُ انتزاعِ الفرصة؛ لذا حين
قادته المصادفة البحتة إلى رؤية النقطة البيضاء وثغرة السياج النباتي الضئيلتين، انتشى
كأنَّه رأى أجمل امرأة في العالم. ومن المستحيل لشخصٍ ذكي بما يكفي يرى مثل هذا
المزيج من المصادفات أن يكون جبانًا إلى حدٍّ يُثنيه عن استغلالها! هكذا يوسوسالشيطان
للشخص المقامر، لكنَّ الشيطان نفسه ما كان ليُحرِّضذلك الرجل التعيس على قتل عمه
المُسِن، الذي دائمًا ما كان يتوقع أن يرث ثروته، بطريقةٍ رتيبة مدروسة؛ لأنَّ الشيطان كان
«. سيراها جريمةً عادية للغاية بالنسبة له
سكت بُرهةً، قبل أن يواصل كلامه بنبرةٍ هادئة واثقة.
والآن، فلتحاول استحضار المشهد، كما رأيته بعينَيك تمامًا. بينما كان هاري يقف »
هناك مُشوَّشالبال بالتفكير في فرصته الشيطانية، نظر إلى الأعلى ورأى ذلك الشكل الغريب
الذي ربما كان انعكاسًا لروحه المتداعية؛ تلك الصخرة الضخمة المتوازنة بالكاد فوقصخرةٍ
أخرى كهرمٍ مرتكز على قمته، وتذكر أنَّها كانت تُسمَّى صخرة الحظ. هل يمكنك تخمين
كيف لرجُلٍ مثله في هذه اللحظة أن يقرأ إشارة كهذه؟ أعتقدُ أنَّ ذلك دَفَعه إلى ارتكاب
الجريمة، بل إلى اتخاذ الحيطة والحذر أيضًا. فمَن يريد بلوغَ قمة برجٍ، يجب ألا يخشى
تداعيَ ذلك البرج من تحته. على أي حال، غرسنصل سيفه، ثم كانت الصعوبة التالية التي
واجهَته هي التخلُّصمن دليل إدانته؛ فالعثور على عصًا بداخلها سيف بحوزته، ولا سيما
إن كانت مُلطَّخة بالدماء، كان ليُصبِح دليلًا قاتلًا في التفتيش الذي كان سيعقب اكتشاف
الجريمة بلا شك. ولو تركه في أيِّ مكان، كان سيُعثَر عليه ويقود الشرطةَ إليه على الأرجح.
وحتى لو رماه في البحر، فربما كان هذا التصرُّف سيُلاحَظ ويُعتَبر مثيرًا للشك، إلَّا إذا تفتَّق
ذهنه عن طريقةٍ أكثر طبيعيةً للتخلص من دليل إدانته. وكما تعلم، توصَّل بالفعل إلى
طريقة طبيعية، بل ذكية جدٍّا أيضًا. فلأنَّه كان الشخص الوحيد الذي لديه ساعةٌ بينكم،
قال لكما إنَّ الوقت لم يَحِن بعدُ للعودة إلى المنزل، وظَلَّ يتمشَّى مسافة أبعد قليلًا، وبدأ
لعبة رمي العصي للكلب الريتريفر، ولكن لا شَكَّ أنَّ عينَيه استكشفتا جميع أرجاء ذلك
«! الشاطئ المقفر خلسةً قبل أن تقعا على الكلب
أومأ فاينس، وهو يُحدِّق بتمعُّن في فضاء الغرفة. ويبدو أنَّه شَرَد بفكره مرَّةً أخرى
إلى جزءٍ أقل أهميةً في القصة.
«. من الغريب أنَّ الكلب شارَك في القصة بالفعل رغم كلشيء » : وقال
كان بإمكان الكلب أن يُخبِرك بالقصة كُلِّها تقريبًا، لو كان يستطيع » : قال القَسُّ
التكلُّم. كل ما ضايقني أنَّكسردت قصته نيابةً عنه لأنَّه لا يستطيع التكلُّم، وجعلته ينطق
بلسان البَشَر والملائكة. وهذا جزءٌ من شيء صِرتُ ألاحظه بازدياد في العالم الحديث؛ إذ
يظهر في جميع أنواع شائعات الصُّحفوالكلمات الجذَّابة الرنَّانة في المحادثات؛ لذا فهوشيء
اعتباطي غير موثوق. لقد أصبح الناس يُصدِّقون العديد من مثل هذه الادِّعاءات المختلفة
دون التحقُّق منها. وهذا يُغرِق كل عقلانيتك ونزعتك الشكوكية الفِطرية، إذ يجرف كل
ثم وقف فجأة، بينما كان وجهه عابسًا بعض «. ذلك كمياه البحر، تحت اسم الخُرافة
إن أول آثار عدم الإيمان بالربِّ » : الشيء، وواصل كلامه كما لو كان يُناجي نفسه، قائلًا
أنَّك تفقد بصيرتك الفطرية السليمة، وتعجز عن رؤية الأشياء على حقيقتها. فأيُّ شيء
يتحدث عنه أي شخص، ويدَّعي أنَّه على قَدرٍ كبير من الحقيقة، ينتشر بين الناس بلا
نهايةٍ كصورة ذهنية واسعة في كابوس. وهكذا يُصدِّق الناس أنَّ الكلب نذير، والقط كائنٌ
غامض، والخنزير جالبٌ للحظ، والخنفساء جعران مُقدَّس، ويستحضرون كل الحيوانات
الواردة في الأديان المؤمنة بتعدُّد الآلهة من مصر والهند القديمة، كالكلب أنوبيس واللبؤة
باخت العظيمة ذات العينَين الخضراوَين وجميع ثيران باشان المُقدَّسة التي تُصدِر خُوارًا
عاليًا، ويعودون إلى البهائم المؤلَّهة التي كانت تُعبَد في قديم الزمان، ويتضرعون إلى الفيلة
والثعابين والتماسيح، وكل ذلك لأنَّكم ترتعبون من ثلاث كلمات:
«.« لقد خُلق [يسوع] بشرًا »
وهنا نهض الشاب شاعرًا بقليلٍ من الإحراج، كما لو أنَّه سمِع مناجاةً بين القَسِّ
ونفسه بالصُّدفة. ثم نادى على الكلب وغادر الغرفة بوداعٍ مقتضب لكنَّه مُبتهج. غير أنَّه
اضطُرَّ إلى مناداة الكلب مرَّتَين؛ لأنَّ الكلب ظلَّ في الغرفة بلا حراكٍ لوهلةٍ، مُحدِّقًا في الأب
براون كما كان الذئب يُحدِّق في القديس فرانسيس