الغموض
بقلم : عبده علي الفهد
Abdualialfahad@gmail.com
شخص غامض يسبح في النهر
أثناء تفقدها لشقتها، قالت في حوار مع ذاتها: الشيء الجميل في هذه الشقة، هي هذه البلكونة، إنها رائعة، و نسيمها مشبع ببخار الماء.
سأجلس على هذا المقعد، واستمتع بالنظر إلى النهر، كم هو جميل، زرقة الماء، تعكس لون السماء، تتخلله بعض الأسماك الصغيرة، و مجاميع من البط، تطفو على سطحه.
الساعة الآن العاشرة صباحاً، الأطفال في مدارسهم والعمال في أعمالهم، لا أحد و هذا سبب هدوء النهر، عدى هذا الشخص الذي يقف على حافة النهر، أنه يخلع ثيابه، بدأ يسبح، من أين أتى ؟ لم الحظ قادم من أي طريق، بمفرده سأنتظر أشاهد، هذا غريب أنه يقطع النهر ذهاباً و إياباً دون توقف.
ها هو غاص في عمق النهر، ماذا يحدث ؟ مضت خمس دقائق و لم يظهر، عشر دقائق، عشرين، أين ذهب، هل غرق؟. هل أصرخ، و لكن لمن؟، يا إلهي، أين اختفت ثيابه؟، لا أثر لها في الموضع الذي خلعها فيه، إن شكله يشبه زوجي مراد تماماً، لكن ما الذي سيأتي بمراد في وقت كهذا من العمل و هو لا يأتي إلا في نهاية عطلة الأسبوع لبعد المسافة و زحمة المواصلات و ليس لديه سيارة؟.
لقد حشرت نفسي بما لا يعنيني، الأفضل أن أدخل و أنسى ما حدث، سوف اتصل بمراد و أخبره بما حدث في النهر، لا، لا سيقول ما شأنك بذلك.
سأطوف في الشق، أجري عليها بعض الترتيبات: هذا المطبخ أفضل من السابق بكثير؛ أدراج و رفوف واسعة و نظيفة، تتسع لكل آواني الطهي. و تهوية شفط روائح الطبخ إلى الخارج، هذا جيد. كذلك هذا الصالون واسع، بكنبات مريحة، و شاشة تلفاز، و ثلاجة تبريد، أنه رائع، و ثلاث غرف بالإضافة لوجود حمامين أثنين، عكس ما كنا عليه، بالشقة الضيقة السابقة.
يعني عندما نفكر أن ننجب أولاد، لا توجد أي مشكلة، فلدينا متسع. سأعود إلى البلكونة، ربما تكن فرق الإنقاذ قد حضرت، لإخراج الغريق.
ماذا أرى، إنه يسبح و يتجه نحو ثيابه، ها هي في موضعها، أنه هو نفسه و ليس شخص آخر، هل كان طوال هذه المدة تحت الماء؟.
غير معقول!، بدأ يرتدي ثيابه، ليس لديه أي متعلقات، أنه يمشي باتجاه الحاجز الإسمنتي، كيف سيصعد و ليس فيه درج و لا سلالم، ماذا حدث؟. لقد دخل في الجدار و اختف، سأدلك عيناي بيدي كي أرى جيداً، لم يعد للشخص أثر، كيف دخل في هذه الخرسانة؟. لا يوجد فتحة فيها و فوقها مباني شاهقة، ربما هناك باب أو نفق، سأذهب غداً لأرى.
سأجلس لأشاهد المباراة، فقد أقترب موعد انطلاق التصفيات، رن الجرس، أهلاً، هل أتيتي بالجبن إلى جانب اللبن؟.
- نعم، ولكن سيرتفع الثمن.
- لا عليك، خذي.
- انتظري؟.
- ما أسمك؟.
- فردوس، و ينادوني دوسي، و أنتِ يا سيدتي ما أسمك؟.
- فريال.
أخبريني يا دوسي، هذا النهر، هل يقوم أحد في السباحة فيه؟.
- لا يا سيدتي، الحكومة منعت السباحة فيه لسبب لا أعلمه، و إن حدث و سبح فيه أحد تعاقبه بالحبس و الغرامة، لا تفكري في السباحة فيه.
- رافقتك السلامة، أذهبي.
هكذا بدأت فريال حياتها في الشقة الجديدة بعد أن تركة الشقة القديمة، بسبب ذلك القط الأسود الذي كان يظهر في المطبخ بين الحين والأخر بمنظرة المخيف، خصوصاً ليلاً؛ فقد كانت فريال تُحكم أغلاق المطبخ والنوافذ و لا تدع أي ثقب كي لا يدخل منه القط، و لكن دون جدوى، فبمجرد أن تفتح باب المطبخ، تشاهد هذا القط داخل المطبخ، فيخرج مسرعاً من الباب، و سبب لها رعب و قلق.
فبدأ مراد باليلتها،لبحث عن شقة، و بعد جهد وعناء، عثر على هذه الشقة، في موقع جميل، وعلى نهر و في الدور الثاني. إلا أنها بعيدة جداً، عن مقر عمله، تبعد مسافة أربعين كيلو متر .
فكان مراد يأتي إلى البيت الخميس ظهراً، و يذهب السبت صباحاً.
باتت فريال خيالها يسبح مع من كان على النهر يسبح، دارت في رأسها عدة أسئلة لم تجد لها إجابة.
استيقظت الصباح، نزلت السوق، أحضرت متطلبات المطبخ.
اقتربت الساعة من التاسعة والنصف، غادرت الشقة، في السلالم صادفت دوسي آتيه باللبن، فعادت معها إلى الشقة، أدخلتها. كانت دوسي مستعجلة، لتوزيع بقية اللبن للشقق الأخرى.
طلبت منها فريال الانتظار بإلحاح، حتى تحضر لها كوباً من الشاي.
أحضرت الشاي و فتحت البلكونة و قالت: تفضلي يا دوسي، نشرب الشاي في البلكونة، نستمتع بمنظر النهر!.
وافقت دوسي، جلست إلى جوارها، أخذت في ارتشاف كوب الشاي.
فقالت فريال : انظري يا دوسي، هدوء النهر(كانت فريال قد شاهدت الشخص، بعد أن خلع ثيابه و بدأ السباحة في النهر).
فقالت: ألم تخبريني يا دوسي، أن السباحة في هذا المكان من النهر، ممنوعة من الحكومة؟.
قالت: نعم ممنوع، و لا أحد يقوم بالسباحة هنا.
استغربت فريال فقالت: و هذا الذي تشاهدين الآن على النهر ماذا يكون؟.
قالت: إنها البط و بعض الطيور دائماً تعوم. أستأذنك يا سيدتي، شكراً على الشاي، نلتقي.
إنتظري!، سنخرج مع بعض.
خرجت فريال، و عند باب العمارة فارقتها دوسي، و دخلت العمارة المجاورة، بينما توجهت فريال، إلى شاطئ النهر المجاور، لترى المكان، الذي دخل فيه الشخص، بعد أن خرج من النهر.
وصلت، فاستقامة، ممسكة على قضبان كرونيش، مطل على النهر. فشاهدت الشخص لا يزال يعوم، فنظرت إلى المكان، الذي دخل فيه، فوجدته خرسانة، إسمنتية، صماء، ملساء، لا توجد فيها أي فتحة.
التفتت إلى بائع متجول، فاشترت بعض علك اللبان، أخذت تلوك فيها، و هي مستقيمة، في نفس المكان.
خرج السباح من الماء، أرتدى ثيابه، ثم مشى على استعجال.
لكنه لم يأتي إلى نفس المكان، بل توجه إلى خرسانة، أساس العمارة، التي تسكن فيها فريال، فدخل في الحائط.
أيقنت فريال أن ما تراه ليس بشر، و قررت أن تتخذ مزيد من الحذر.
و عند عودتها، اشترت قفل، أقفلت باب ألبلوكنة، وضعت لاصق عاكس على زجاج الشباك، حتى لا ترى النهر.
اجرت مكالمة هاتفية بمراد، أخبرها بأنه على ما يرام، و أنه سيأتي غداً الخميس.
في المساء شعرت بتوتر و قلق، قلبت قنوات التلفاز، حاولت حل بعض الألغاز في مجلة، و لكن دون جدوى، فقد سيطرت عليها الوساوس؛ من يكون هذا السباح؟، صاحب البذلة الزرقاء، و القميص الأبيض، و ربطة العنق الحمراء؟.
إن هذه البذلة، هي نفس البذلة التي يرتديها زوجي مراد.
فريال تستعين بجارتها جيهان
تذكرت جارتها جيهان، الذي تسكن مع بناتها الشقة المجاورة، بينما زوجها هاجر للاغتراب.
فاتصلت بها و طلبت منها أن تحضر مع بناتها، لتناول العشاء،
أجابت جيهان الدعوة، حضرت مع بناتها، مسرعة.
شعرت فريال عند حضورهن بالأمان،
فذهبت إلى المطبخ، مع جيهان، بينما بقين البنات، يشاهدن مسلسل.
أثناء طهي الطعام، تبادلت فريال مع جيهان الكلام، فأخبرتها بما يساورها من قلق، بسبب ما تراه على النهر؛ شخص غامض يسبح، ثم يختفي في خرسانة، أساس العمارة، التي تسكن فيها. و ما كانت تعانيه، في الشقة السابقة؛ من الظهور المتكرر للقط الأسود.
فأخبرتها جيهان، بأن لهذا الموضع من النهر، إرتباط بما حدث لجنود فرعون و هامان، عندما غرقوا، أثناء تعقبهم نبي الله موسى و قومه.
و أن هناك أخبار، تتناقلها الأجيال، مفادها: أن روح فرعون الشرير؛ تغوص في أعماق النهر، تبحث عن جنوده، و أنه يظهر لمن يراه دون سواه.
و البعض يقول: أن سيدنا يوسف عليه السلام، دُفن في قاع النهر؛ و أن أرواح إخوته، تحوم في النهر، تبحث عنه، لطلب سماحة، من الجرم الذي اقترفوه؛ بإلقائه في البئر، عندما كان طفلاً، والله أعلم .
سمعت فريال ما قالت جيهان، فأفلتت من يدها أدوات الطهي، فقد حصلت على جواب السؤال.
أيقنت فريال أن ما تراه، يسبح في النهر، ليس بشر، و قررت أن تتخذ مزيد من الحذر.
فطلبت منها جيهان، أن تخبرها عند مشاهدته، كي تحضر لرؤيته، وهو يسبح.
بعد تناول العشاء، أقترب موعد النوم، فطلبت فريال من جيهان، أن تبات معها، أو تبقي احدى بناتها، لتأنس وحدتها.
باتت جيهان إلى جانب فريال، فحكت لها؛ قصص و روايات، للجن والجنيات العاشقات، و كيف يُكتب على من بُلي، بأسواء خاتمة؛ من مس، و جنان، وعلل الأبدان.
فزاد توتر فريال، فكانت قاب قوسين من الجنان.
بعد تناول طعام الفطار، و مع اقتراب الساعة العاشرة، طلبت جيهان من فريال؛ أن تفتح البلكونة، فهي مشتاقة لرؤية الروح الفرعونية.
جلست جيهان محدقة؛ تنتظر لحظة ظهور السباح، و لكنها لم تشاهده.
نادت فريال و طلبت منها الحضور، لترى ما إذا كان موجود على النهر؟.
حضرت فقالت: ها هو بالقرب من القارب، لقد غاص تحت القارب، آلا ترينه؟.
قالت جيهان: كلا!، أنا لم أراه.
زاد يقين فريال؛ أن ما تراه، يسبح في النهر، ليس بشر، و قررت أن تتخذ مزيد من الحذر.
ذهبت جيهان، فأحضرت بناتها الثلاث، لمشاهدة النهر، لم تخبرهن بأمر السباح.
- قُلن النهر جميل، و القارب والبط عليه، و أسماك الوزف، لو كان العوم فيه مسموح، لنزلنا فيه نغوص.
تبادلت فريال و جيهان النظرات، رآين أنه من الأنسب عدم إخبار البنات.
قالت جيهان: إنما تشاهدينه يافريال!، يسبح في النهر؛ إنما هو شبح، يظهرلك انت فقط، دون أن يراه احداََ، سواك!، ثم ذهبت جيهان، وبناتها.
في الظهر، حضر مراد حسب المعتاد، فقضى مع فريال ليلتان، من أجمل الليالي. لم تخبره بما جرى، فقد خشيت أن يتهمها بالجنون، ففضلت الاستمرار في الكتمان.
أستمر مراد في عمله فني لحام، بدخل يكفيه، و يدخر جزء منه.
تجاهلت فريال وجود البلكونة، فلم تعد تعنيها، بعد أن أقفلتها، بل تجاهلت وجود النهر برمته.
و ذات يوم، أتت اليها جيهان، فطلبت منها فتح البلكونة، فقالت فريال: مفتاحها ضاع، و لم نعد نحتاج اليها.
فسألتها: هل ما زلت ترى ذلك الشخص في النهر؟.
قالت: لم يعد يهمني ذلك، و قد تركت النظر للنهر بالمرة.
قالت: أن البنات قد سبقنني إلى سطح العمارة، فأتيت لأخذك كي نصعد، نشاهد المسابقة.
-مسابقة ماذا يا جيهان؟.
-مسابقة رياضة القوارب؛ ستنطلق العاشرة في النهر.
أقنعتها بالصعود، صعدت معها، كانت أغلب نساء العمارة، قد صعدن إلى السطح.
بدأت فعاليات السباق؛ بتواجد قوارب الإشارة الصفراء، على جانبي النهر. تعمدت فريال البقاء في الجانب الأخر، لسطح العمارة، كي لا تنظر إلى النهر، إلا عند مرور قوارب السباق.
و عند سماعها التصفيق والصياح، أطلت على النهر، فكان الرياضيين على القوارب، في سباق مع الزمن، من يسبق الأخر، كي يحرز المركز الأول.
بدأت فريال بالإستمتاع، تفاعلت، اقتربت القوارب، من محاذاة الموضع الذي يخلع فيه الشخص ثيابه، و ينزل النهر.
فجأة، لمحت فريال هذا الشخص، في نفس المكان، و بنفس الملابس، و قد خلع ثيابه مستعجل، و نزل يسبح في النهر؛ سبح بموازاة القوارب، فتمنت فريال أن يصدمه قارب من القوارب.
ركزت نظرها عليه.
بحثت جيهان عن فريال: فاتت و وقفت إلى جانبها، و همست في إذنها: هل ظهر ذلك الشخص؟.
قالت: نعم، انظري ها هو بين القاربين المتقدمين !، يا إلهي !، إن القارب عبر على جسده و لم يتأثر!.
قالت جيهان: لم أراه البته!.
أخرجت فريال كاميرا فيديو رقمية، و قامت بتصوير السباق، و كانت تصوب الكاميرا نحو الموضع الذي يتواجد فيه، الشخص الذي يسبح في النهر، وضبطت الكيمرا، على أعلى رقم تكبير، و تقريب.
غاب المتسابقون عن الأنظار، فعادت فريال إلى الشقة مستعجلة، فقامت باستعراض ما صورته، فلم تجد لهذا الشخص أي أثر في المقطع، رغم وضوح التصوير، فتجاهلت الأمر و لم تعيره اهتمام.
شعرت فريال بملل و فراغ، فعرضت على مراد، أن يسمح لها بالنزول، و البحث عن عمل، و بعد جهد وافق على مضض؛ فهي ليست بحاجة للعمل، طالما كل شيء لديها موفر.
طافت فريال، على المحلات؛ عثرت على عمل في محل خياطة، عملت عدة أيام، ثم تركت العمل فيه، بعد أن لاحظة؛ إتيان بعض مرتاديه من الشباب، أمور مخلة بالآداب.
امرأة غامضة في حمامات النساء
عاد الفراغ، والملل، لفريال؛ فبحثت عن عمل من جديد، فعثرت على عمل، لدى سيدة فاضلة، في حمامات سُخنة، خاصة بالنساء، قريبة من العمارة، التي فيها شقتها.
كان العمل فيها مقسم على نوبتين، الأولى: تبدأ من العاشرة صباحاً ، إلى الثانية ظهراً. و الثانية: تبدأ من الخامسة عصراً، إلى التاسعة مساءا.
فكان دوام فريال، الفترة المسائية، يقتصر على الجلوس على مقعد، و أمامها درج، في مدخل الحمامات، تقوم باستلام الرسوم، و تدوين الحسابات، و مراقبة النساء، الداخلات والخارجات.
بينما تتولى منظفة إخرى: تنظيف و كنس الحمامات. كان عمل مريح ليس فيه عناء.
أحست فريال بسعادة، أستعاد جسمها حيويته، و نشاطه؛ بعد أن اختلطت مع النساء صغار، وكبار، من مختلف الأعمار. تبادلهن الابتسامات، وتشاركهن الضحكات؛ فأغلب النساء، اللواتي يرتدن الحمامات، يكن شغوفات، مرحات.
في الأسبوع الثاني من العمل، في يوم "الاثنين " بالتحديد، اقتربت الساعة من التاسعة مساء، فأقترب موعد إغلاق المحل، نادت على المنظفة، فكنسة و شطبت، و على باب الحمامات تنحت، منتظرة فريال، تغلق درج الحساب، و بعد أن تخرج تقوم بإغلاق الباب.
في هذه الأثناء، لمحت فريال في قاعت الحمامات؛ إمرأة، ترتدي ثياب زرقاء، خلعت ثيابها، ثم دخلت تستحم ، فنادتها فريال قائلة: يا ست أستحمي بعجل، سنغلق المحل.
ثم نادت المنظفة: لماذا سمحتي لها بالدخول؟.
لم تجيب المنظفة، ربما لم تسمع كونها على عتبة الباب من الخارج.
خرجت المرأة من الحمام، و ارتدت ثيابها، على مرأء من فريال، ثم مشت نحو الحائط، و ليس نحو الباب. ظنت فريال، أنها نست بعض متعلقاتها في الحمام، فانتظرت عودتها، و لكنها لم تعود!. نادت و كررت، لم يجيبها أحد.
أمرت المنظفة بالدخول إلى الحمامات لإخراجها، فدخلة و بحثت في كل أرجاء الحمامات، فلم تعثر على أحد، أغلقت فريال الدرج، و دخلت. ففتشت الحمامات بدقة، فلم تعثر على أحد. فاستغربت!، ثم أغلقت الحمامات، و سلّمت المحصول، و إلى شقتها عادت.
باتت ليلتها، مهمومة مغمومة، فهي لم تلاحظ المرأة، لحظة دخولها، و لا لحظة خروجها، و إنما شاهدتها أثناء خلع و ارتداء ثيابها.
حاورة فريال ذاتها فقالت: شخص غامض يسبح في النهر، و امرأة غامضة، تستحم، في حمامات النساء!، هذا هو الغموض بذاته.
كتمت الأمر، و حاولت كتمانه حتى عن نفسها.
استمرت في عملها، مرحة مسرورة، وذات ليلة، وقبل أن تقوم بإغلاق المحل، شاهدة تلك المرأة بذاتها؛ وهي تخلع ثيابها، وتدخل الحمام، قالت في نفسها: إنها نفس اللحظة والتوقيت واليوم نفسه، "الإثنين" ونفس الملابس الزرقاء.
فانتظرت لحظة ارتدائها الثياب، فتقدمه إلى جوارها، فرأت فيها، ما ليس له وجود، عند نظيراتها من النسا؛ طول غير مألوف، في أصابع اليدين والساعدين، ونحافة بالغة في الساقين، وانبعاج وزرقة في العينين كأنها قعر سماء.
استمرت في ارتداء ثيابها، وكأنها لم ترها أو تحس بوجودها، أتمت فمشت نحو الحائط، فدخلت فيه واختفت.
أحست فريال برعب شديد، تسمرة واقفة كالخشبة. فنادت عليها المنظفة: يا ستي لماذا أنت واقفة؟ عن ماذا تبحثين؟.
لم ترد، فاقتربت منها فلمستها، ففزعت كأنها صحت من منام.
- ماذا بك؟.
- لا شيء، شعرت بدوار في رأسي وقد زال، الآن أنا بخير.
كتمت الأمر عن المنظفة، فأغلقت المحل، وسلمت الحصة، وعادت إلى الشقة.
فخلت بنفسها وقالت: ماهذا البلاء: في شقتي القديمة، قط اسود غامض، يظهر، ويختفي!. وفي شقتي الجديدة؛ أشاهد من بلكونتها المطلة؛ شخص غامض يسبح في النهر، ثم يختفي في خرسانة العمارة، وهذه!، امرأة غامضة، تظهر تستحم، في حمامات، النساء، ثم تختفي في الحائط!.
سوف اتصل بجيهان، اخبرها بما شاهدت!. وقبل أن تضغط على زر الهاتف، ترددة، ثم امتدة على السرير، وقامت برسم خطة للمرة القادمة؛ قامت بتدوين أسماء النساء اللاتي يدخلن الحمام، ومن خرجت أشارت أمام اسمها خروجا، وفي نفس التوقيت ظهرت هذه المرأة.
فاطلعت فريال على السجل، فوجدت جميع النساء اللاتي دخلن، قد تم التأشير أمام أسمائهن خروجا، ولم يبق داخل الحمامات أحد، فنادت على المنظفة: هل بقي داخل الحمامات أحد؟.
قالت: لا يوجد أحد.
كانت فريال تشاهد المرآة. بينما المنظفة لا تراها.
عرفت فريال أن هذه المرأة ، ليست من جنس البشر، وأنها تظهر لها دون غيرها، ولها ارتباط بالشخص الغامض، الذي يسبح في النهر، فقررت عدم التعرض لها أو الكلام عنها.
فريال تستعين بعجوز لتفسير الغموض
وأثناء عودتها، مرت على امرأة؛ عجوز مسنة عمرها قد تجاوز المئة، وقد اعتادت أن تمر عليها، في الذهاب والإياب، فتطلع على احتياجاتها، بغرض كسب الأجر والثواب.
طلبت منها أن تصحبها إلى الشقة كي تأنسها من الوحشة. لم تمانع العجوز، فذهبت معها. فأكرمتها وأجلستها على الكنبة، واستمعت إليها بإنصات عما حدث ويحدث في الأزقة والشوارع والحارات والمحلات. ثم قالت: وأنت يا ابنتى أين تعملين؟ فأخبرتها بأنها تعمل في الحمامات المجاورة لدكانها.
فقالت: اعلمي يا ابنتي فريال؛ أنه توجد امرأة صالحة تظهر في الحمامات، وأنها لا تظهر إلا على الصالحين. وأن من رآها حلت عليه البركة إلى يوم الدين. وإن من كانت تراها ولم تكتم، يقوم ملاك الحمامات بتغييرها من عملها كي لا تتشوه سمعة الحمامات، فيعزف الناس عن ارتيادها.
ويُقال فيما يُقال من أخبار تناقلتها الأجيال: أن روح آسية (زوجة فرعون) تأتي كل يوم اثنين فتغتسل من ذنب فرعون في تلك الحمامات. وأن آسية استقامت واقفة في نفس المكان الذي بنيت عليه الحمامات، وكانت تدافع عن موسى وقومه وتظلل فرعون وجنوده وتقول: لم يمر موسى وقومه من هذا الطريق (تريد أن تدفع جنود فرعون بعيدًا عن إلحاق الأذى بموسى وقومه).
شعرت فريال ببعض الطمأنينة بعد سماع هذا الحديث. استمرت فريال بالعمل، فكانت لا تغلق المحل يوم الاثنين إلا بعد أن ترى تلك المرأة تغادر الحمام عبر الجدار. تضاعف دخل الحمامات بعد أن تضاعف عدد مرتاديها من النساء، فتضاعف أجر فريال، فاشترت سيارة وعرضت على مراد استخدامها في ذهابه وإيابه بسبب طول مشواره فأبى، واشترى سيارة خاصة به.
تحسنت ظروفهم المادية، فتشاورا فيما بينهما، فاستقر رأيهما على أن وقت الإنجاب قد حان.
المرأة الغامضة تعطي فريال مشط ذهب
في إحدى النوبات، بينما كانت فريال تستعد لإغلاق الحمامات بعد أن رأت المرأة ترتدي الثياب وهي تنظر إليها، أشارة إلى فريال أن تأتي إليها. فنهضت من على الدرج واقتربت منها، يعتريها خوف شديد، فوقفت على بعد خطوات. فقالت: تفضلي. ومدت يدها إليها وفيها مشط شعر: خذي هذا المشط، احتفظي به، حتى إذا وقعت في ضائقة أو محنة، ما عليك إلا أن تمشطي فيه شعرك، فتفرج ضائقتك وتزول محنتك وينجلي كربك. واحذري أن يقع بيد غيرك.
أخذت المشط ووضعته في حقيبتها، ثم رفعت رأسها فلم تجد المرأة أمامها. كتمت سرها وعادت إلى شقتها، ونظرت إلى المشط فوجدته مشطًا صغيرًا ذهبيًا فيه خمس أسنان فقط، مقوسًا كالخنجر بلون أصفر. فأخفته بين الثياب في قعر الدولاب.
في الصباح، فتحت الدولاب: يا إلهي ما الذي أرى! لقد أصبحت جميع ثيابي زرقاء عدا فردة الحذاء، حتى حقيبة الكتف ومناديل الكف. ارتدت أحد الفساتين وذهبت للعمل، فكانت في قمة الجمال والروعة، فانهالت عليها أسئلة النساء: بكم؟ من أين؟ دلينا على العنوان؟ احتارت فريال وبحثت عن جواب، فقالت: إنه هدية أتت بها صديقة من دولة أجنبية.
في نهاية الدوام، ظهرت المرأة في الحمام ونظرت إلى فريال فتبسمت. لقد كان ما ترتديه فريال هو نسخة طبق الأصل من فستانها.
فريال ترقص مع الشخص الغامض في حفل زفاف
أتت المنظفة وبيدها دعوة أعطتها لفريال، قرأت المكتوب، وإذا بها دعوة من صاحبة المحل، تدعو فيها فريال لحضور حفلة خطوبة ابنتها ريتاج على رجل الأعمال برهان، الساعة العاشرة مساء الاثنين في كبرى الأعراس. كانت المرأة لا تزال واقفة في باحة الحمامات، فأشارت بيدها لفريال بعدم إجابة الدعوة ثم اختفت. فهمت فريال الإشارة، لكنها أضمرت في صدرها الذهاب والمخالفة.
اشترت هدية ثمينة، وعند الحضور، كان قد سبقها معظم المدعوين. فكانت القاعة شبه ممتلئة، وأنوار الزينة تومض. وعند دخولها، سطعت الأضواء وتركزت حول فريال، يمينها ويسارها، فحدقت صوبها أعين الحاضرين، فظهرت فريدة، مميزة، غريبة. عم الصمت على القاعة، فتقدمت نحو العرسان، مرتدية فستانها الأزرق شديد اللمعان، فقبلت ريتاج بحرارة وسلمتها هدية مختارة، وتفضلت على برهان بشبه ابتسامة، ثم استدارت وعلى أحد الكراسي قعدت، فدوت القاعة بتصفيق.
تناول الحضور الشراب، واشتغلت الموسيقى، وبدأ الحاضرون بالتوافد إلى مكان الرقص. وجدت فريال نفسها على الطاولة بمفردها، فهي أتت الفرح لوحدها، لم تأت بحبيبها كالباقيات. شعرت ببعض الخجل من نظرات البعض، فلمحت على مدخل القاعة رجلًا داخلًا بمفرده واقترب. يا إلهي! إنه الشخص الغامض الذي يسبح في النهر. لا، لا يمكن شبهه. خالجت فريال الأفكار.
تقدم وصافح العرسان وقدم هديتين وباقتي ورد، ثم عاد وجلس على نفس الطاولة مقابل فريال. نظرت إليه فريال بذهول؛ فهو يرتدي نفس البذلة الزرقاء وربطة العنق الحمراء. إن لون ما يرتديه هو نفس لون ما ارتديه! سيظن الحاضرون إنه حبيبي، أنا فعلًا في موقف محرج.
حضرت والدة ريتاج وبيدها كأسان من الشراب. فقالت: أخيرًا حضر حبيبك يا فريال! انعدم لدى فريال الجواب. استقام وأشار بيده إلى القاعة وقال: هل تسمحين يا فريال؟ وبدون شعور وقفت، فأمسك بيدي وطوق كتفي باليد الأخرى، وإلى القاعة وصلنا. بدأنا الرقص، نظر الجميع إلينا بانبهار، وضعت رأسي على كتفه كي أخفي وجهي عن نظرات الآخرين.
همس في إذني: لماذا أنتِ بمفردك؟ أين حبيبك؟ رديت: زوجي بالعمل ولم تأتيه دعوة، وأنت أين حبيبتك؟ قال: لا حبيبة لي بعينها، كل النساء تعشقني. أحسست أن جسده خاوي؛ فلا نبض فيه، وليس له وزن يُذكر؛ فقد داس على قدمي، فلم أحس بقدمه إلا كورقة سقطت من على شجرة.
اشتد الرقص والصخب، فانسحبت من بين ذراعيه وجلست على الطاولة. فوقف وسط الحفل وأخرج من جيبه ثلاث رزم فلوس ونثرها على رؤوس الحاضرين، الذين تهافتوا لالتقاطها، هاتفين: تسلم يا باشا. عاد وجلس على الطاولة أمامي، فقال: خذي هذه الرزمة لكِ، لأنك لم تلتقطي ما وقع حولك.
شكرًا، لست بحاجة إليها. فنهضت وغادرت الحفل قبل نهايته.
لحقتني أم ريتاج إلى نهاية الممر: لماذا تتركين الحفل؟ هل أغضبك أحد؟ قلت لها: نعم، تضايقت من تصرفات الرجل صاحب الرزم.
- أليس هو زوجك يا فريال؟
- لا، أنا لا أعرفه إلا هذا المساء، وأنا كذلك لا أعرفه، ولم أرسل له دعوة، ربما برهان دعاه، سأسأله عنه.
عادت والدة ريتاج إلى الحفل، وتحركت أنا بسيارتي نحو شقتي. رن الهاتف، إنها أم ريتاج.
- نعم.
- عدت فلم أجد ذلك الرجل على الطاولة ولا بين الحاضرين، سألت برهان إن كان يعرفه؟ قال: لا، ولم يكن ضمن المدعوين.
استغربت واستمريت في السير، كان الوقت منتصف الليل. أخذت تقاطع يمين نحو الشارع الذي فيه العمارة التي شقتي فيها، فظهر من ظل الإنارة فجأة؛ ذات الشخص قطع الخط مسرعًا، دُست على بريك الفرامل دون جدوى، فدهسته ولم أتوقف إلا بعد عدة أمتار. ركنت السيارة على الرصيف فنزلت مرعوبة، واتجهت نحو مكان الحادث كي أرى ما حل به (كانت قد ركنت خلفي مباشرة سيارة نزل سائقها).
قال وهو غاضب: كيف تقفين وسط الخط فجأة؟ كنت ستسببين بحادث! قلت: هل صدمته أنت أيضًا؟ أين هو؟ وسرت إلى الخط وبحثت عن الشخص فلم أجد له أثر.
لحقني السائق وقال: عما تبحثين؟ قلت: شخص صدمته في هذا المكان، يلبس بدلة زرقاء. نظر إلي... ثم أخرج الهاتف واتصل بالشرطة... فقال: هناء، سيارة تقودها امرأة واقفة في التقاطع، تدعي أنها صدمت شخصًا بينما لم نرَ أحدًا في الشارع، هي بمفردها ويبدو أنها فقدت صوابها... صرخت في وجهه وقلت: ماذا فعلت؟ رد: عملت الذي عليّ والباقي عليهم... لا تغادري المكان، رقمك معاهم... فذهب... وبقيت محتارة…
تذكرت المشط... بسرعة ركبت السيارة واتجهت إلى الشقة، أدخلت السيارة القراش وصعدت. وفي منتصف الدرج، سمعت صوت سيارة النجدة... دخلت وفتحت دولاب الثياب، أخذت المشط بسرعة، ومشطت شعري فانكسر أحد أسنان المشط. فرن جرس الباب، فتحت فإذا بشرطي يقف وبيديه حقيبتي، فقال: تفضلي، هذه الحقيبة وقعت من سيارتك أثناء مرورك في التقاطع. كان وصلنا بلاغ بوقوع حادث، فتبين أنها حقيبتك التي وقعت على الخط، ولم نجد أي شخص مصدوم.
أخذت الحقيبة وأنا متصلبة لم أقو على الرد بأي كلمة، واكتفيت بهز رأسي تعبيرًا عن شكري. ما هذا الذي جرى لي؟ جلست على الكنبة مرهقة مستغرقة الخيال، والمشط بيدي. قمت فأعدته إلى موضعه في الدولاب بين الثياب. لقد كان هو الذي أخرجني من مأزقي.
ثم نزلت إلى المراب أتفقد السيارة، فوجدت الحقيبة بداخلها. ما هذا؟ أيعقل ما يحصل؟ ربما أتوني بحقيبة ليست حقيبتي.
السباح الغامض يشارك فريال الفراش
أخذت الحقيبة وأغلقت السيارة وصعدت أول درج. رن الهاتف، إنه مراد. سألني: هل عدت من الحفل؟ قلت: نعم. فقال: الحمد لله، تصبحين على خير.
- وأنت من أهل الخير.
فتحت باب الشقة، فشاهدت مراد يجلس على الكنبة في الصالون، دوخت فوقعت على الأرض مغشيًا علي.
مع أذان الفجر صحوت، وجدت نفسي ممددة على سريري متجردة من ثيابي. شعرت أني عدت من عالم آخر غير عالمي. بحركة بطيئة اتجهت نحو مفتاح النور فضغطته، ولعت الغرفة. كنت أشعر بتعب وثقل في الحركة، خجلت من وضعي الذي أنا فيه، فاقتربت من السرير وارتديت ملابسي الموضوعة عليه.
ناديت: يا مراد، هل أنت في الحمام؟ وجدت باب الشقة مقفلًا، لم أجد أي أثر لمراد يدل على تواجده. أخذت الهاتف واتصلت على مراد عدة مرات، ولكنه لم يرد. دخلت الحمام واستحميت لعلي استفيق، استعدت بعض نشاطي وبحثت عن الحقيبة الأخرى فلم أجدها.
مع الساعة الثامنة رن الهاتف، أجبت، إنه مراد:
- لماذا اتصلتِ وقت الفجر؟
قلت: أنا مخاصماك يا مراد، كيف تأتي منتصف الليل وتذهب قبل الفجر دون أن تيقظني أعطيك فطورك، ما الذي جرى لك؟
قال: سلامة عقلك، ماذا تقولين؟ أنا لم أتِ إليك، هل أنت بخير؟
فتداركت الموقف وقلت: كان ذلك حلمًا حلمته... وكتمت الأمر.
في يوم الجمعة ذهبنا نزهة إلى الأهرامات حسب رغبة مراد بسيارته والتقطنا صورًا أمام التماثيل. دخل مراد الهرم الأكبر وبقيت أنا في الخارج، بعد دقائق خرج مراد فمشيت خلفه، فتخطى منتزه الألعاب واقترب من الخلاء ولم يلتفت. وقفت وقلت: إلى أين أنت ذاهب؟ فلم يرد. فتلاشى فجأة واختفى، ارتعبت وعدت إلى الخلف، فإذا بمراد يقف على باب الهرم يتلفت باحثًا عني. قبضت على ذراعه وطلبت منه العودة. أوصلني إلى باب العمارة وذهب لزيارة بعض أقربائه.
عودة القط الأسود واستخدام المشط
دخلت الشقة فوجدت القط الأسود متربعا على السرير.
قلت في سري: ها نحن بدأنا من جديد، القط الأسود يطاردني في شقتي الجديدة، وسباح النهر الغامض يلاحقني ويشاركني فراشي، والمرأة الغامضة تلازمني عملي. لم أعد أحتمل! أشباح تعوم، وأشباح تستحم، وقط ينط. لا، لا، لابد أن أصارح مراد، حتى لو قال عليّ مجنونة، فالجنون أهون عليّ مما أنا فيه. لقد أصبح جسدي مباحًا تضاجعه الأشباح. لا، لا، لن أستمر، الموت أهون وأراح.
حدقت بعيني في عيني القط الأسود الرابض على السرير، تذكرت المشط. فتقدمت وفتحت دولاب الثياب وأخذت المشط فمشطت شعري فوقعت سن من أسنان المشط على الأرض بعد أن انكسر، فصاح القط ووقف على قدميه فتحول إلى دخان أبيض ما لبث أن تلاشى واختفى.مرت ثلاثة أشهر على حملي وأنا مستمرة بعملي، امتنعت عن قيادة سيارتي بعد حادث الصدام الوهمي. وفي إحدى الليالي عدت من العمل فدخلت المطبخ لتحضير وجبة العشاء، خرجت من المطبخ فتفاجأت بمراد يجلس في الصالون. رن الجرس فتحت فإذا بجيهان تطلب بعض السكر، عدت إلى المطبخ فأحضرت سكر وأعطيتها وأغلقت الباب. التفت إلى الصالون فلم أجد مرادًا، دخلت غرفة النوم فوجدته مستلقيًا على السرير. رن الجوال وظهر على الشاشة اتصال من مراد، ضغطت على زر مشغول. فتحت الدولاب بسرعة، أخذت المشط والتفت إليه ومشطت شعري، مباشرة انكسر سن المشط، فصاح بعد أن صعقه برق فاختفى.
لم أعد المشط إلى موضعه بل وضعته في الحقيبة، فعاد لون كل فستان إلى سابق عهده. في اليوم التالي فتحت البلكونة ونظرت إلى النهر فلم أجد الشخص الذي كان يسبح.
اقترب موعد ولادة فريال، حضرت والدتها فأقامت معها، أنجبت بنتًا أسمتها آسية. بعد الولادة بفترة أتت إليها صاحبة الحمامات فأخبرتها بحدوث بعض الإشكالات في العمل بسبب وجود جثة إحدى الفتيات في مرحاض أحد الحمامات، وأقنعتها بالعودة للعمل وإيداع ابنتها في دار الحضانة.
انتهت الشرطة من التحقيقات وتبين أن صاحبة الجثة هي إحدى المنظفات، وبعد التشريح تبين أن سبب الوفاة بسبب صعقة كهربائية لم يتضح مصدرها.
المرأة الغامضة تعيد المشط المسروق إلى فريال
تم إعادة فتح الحمامات واستمرت فريال في العمل. فظهرت المرأة في ساحة الحمامات مساء الاثنين وأشارت بيدها إلى فريال بالحضور، فاقتربت منها ورأت المشط مكسور الأسنان في يدها وقالت: كيف وصل إليك وهو في حقيبتي؟
فحكت لها قصة المنظفة بأنها سرقت المشط من حقيبتها أثناء زيارتها لها عند الولادة وكانت قد عرضته على أحد صاغة الذهب ونوت بيعه، فكان جزاؤها إزهاق روحها واستعادة المشط منها. خديه، منذ هذه اللحظة صار ملكك بالمناصفة مع آسية. مدت يدها فأخذته وأرادت شكرها ولكنها اختفت.
فريال تبيع المشط وتشتري الحمامات
تذكرت فريال زيارة المنظفة لها وتركيز نظراتها على موضع حقيبتها. وأثناء عودتها عرضت المشط على محل مجوهرات وطلبت فحصه، فانذهل الصائغ وقال: هذا غير معقول، إنه من الذهب الخالص وثمنه باهظ، وعليه نقش تمثال أبو الهول، يشير إلى العهد الفرعوني. من أين وكيف حصلت عليه؟
أخذت فريال المشط وانصرفت مسرعة، ومشت طريقًا متخفية خوفًا من تعرضها للسرقة.
كانت فريال تزور آسية كل خميس وجمعة برفقة مراد، وبعد أن اطمئنت عليها قادت سيارتها في كل مشاويرها.
عندما ظهرت المرأة في باحة الحمامات، تقدمت فريال نحوها مسرعة وقالت: انتظري من فضلك، أخبريني عن قصة القط الذي كان يعترضني والشخص الذي ظهر على سريري وعلى النهر يسبح؟
قالت: القط هو ذلك الطفل الذي أزهقتِ حياته بمجرد ولادتك له وادعيت أنه ولد ميت، والشخص الذي رأيته يسبح وبات معك على السرير، هو الطالب الجامعي الذي هام بك وأظهرتِ له حبك وعندما تقدم لخطبتك أهنته في منزلك وغيرت رأيك وتنكرتِ لكل وعودك، فصُدم وحزن وفي أحد الأيام ألقى بنفسه في النهر وانتحر.
وعندما نلتِ قسطًا من الرعب وأظهرتِ توبتك وحسن نيتك وكتمتِ أمري، خلصتك مما تعانين، فمنحتك مشطي الفرعوني.
ابتسمت فريال وقالت: ممكن أبيع المشط وأستفيد من ثمنه؟ قالت: نعم، هو لك ولآسية.
- ولكن من أنت؟
اختفت دون أن تجيبها.
أغلقت فريال الحمام وذهبت لتسليم المحصول، فوجدت صاحبة المحل في أسوأ حال، استحكم فيها مرض الرجفان، فأخبرت فريال بعزمها بيع المحل لحاجتها للمال لكي تسافر إلى الخارج للعلاج، وأن عليها القيام بالبحث عن مشتري.
كانت فريال قد أحست بحب وتعليق بالمحل فحزن عليها تركه وفراقه. فقالت: وبكم تريدين بيعه؟ حددت لها الثمن، فتذكرت المشط ذو الثمن الباهظ، فطلبت من مراد أن يرافقها وعرضت المشط على أكبر المحلات، ففاق ثمنه ثمن الحمامات بكثير، فاشترت الحمامات باسمها وباسم آسية.
ومنذ ذلك الوقت لم تعد تظهر عليها المرأة في ساحة الحمامات، فعاشت مع آسية عيشة راضية، بعد أن درت عليها الحمامات ربحًا وفيرًا، فاشترت أرضًا وبنت عليها عمارة ودارًا لرعاية الأيتام، وتمنت من الله حسن الختام.
النهاية."