hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

ما غنَّته السيرينات، أو الاسم الذي اتخذه أخيل لنفسه عندما اختبأ بين النساء؛
هذه الأسئلة رغم كونها محيرة، فإنها ليستْ بعيدةً عن التَّخمين.
سير توماس براون
إن السمات العقلية التي يُنظَر لها على أنها تحليليةٌ نادرًا ما تتعرَّض إلى التحليل في حد
ذاتها؛ فنحن نُقَدِّر ما تؤدِّي إليه فقط، ونحن ننظر لها، بين أمور أخرى، من حيث إنها
تمثِّل لمالكها دائمًا، عندما يمتلِكُها بشكلٍ زائد، مصدرًا لأقصىمُتعةٍ مُفعَمة بالحيَويَّة. وكما
يتفاخر الرجل القوي بقدرته الجسدية مستمتعًا بالتمارين حين يدفع عضَلاته للعمل، فإن
المحلِّل يستمتع بالنشاط الفكري لحلِّ المشكلات. إنه يستمد المُتعة من الانشغال حتى بأقل
الأمور أهمية التي تدفع موهبتَه للعمل. إنه مغرَم بالأحاجي والألغاز والرموز؛ عارضًا في
كل حلٍّ يقدمه قدرًا من الفطنة والذكاء يبدو لإدراك عامة الناسخارقًا للطَّبيعة. وفي الواقع
تمتلك النتائجُ التي يتوصل إليها باستخدام جوهر وروح المنهجية المظهرَ الكامل للحدس.
من المحتمل أن دراسة الرياضيات تقوي بشكل كبير من مَلَكة حلِّ المشكلات، خاصةً
عن طريق أكبر فروعها الذي سُمِّي—ظلمًا وبناءً على عملياته الرَّجعية فحسب—بالتحليل،
كما لو كان هو الأفضل بلا منازع؛ غير أن الحساب يختلف عن التحليل. على سبيل المثال،
فإن لاعب الشطرنج يقوم بأحدهما دون بذل مجهود في الآخر؛ ومن ثَمَّ فإن لعبة الشطرنج
يُساء فهمها بشكل كبير بسبب آثارها على العقل. أنا هنا لا أكتب أطروحة علمية، بل أمهد
لقصَّة عجيبةٍ نوعًا ما عن طريق ملاحظات عشوائية بشكل كبير؛ لذا سأستغل الفرصة
للتأكيد أن القوى الكبرى للتفكير التأملي منوط بها قطعًا وبشكل أكبر فائدة، لعبة الداما
البسيطة بدلًا من التسلية المعقَّدة للشطرنج. في هذه الأخيرة، حيث يكون لقطع اللعب
حركات مختلفة وغريبة، بقيم متنوعة ومختلفة، يُخلَط بين ما هو معقَّد فقط (وهو خطأ
ليس بنادر الحدوث) وما هو عميق. هنا يأتي دور شحذ الانتباه بشكل كبير؛ فإذا ضعف
الانتباه للحظة، يُرتكب سهو يؤدي لخسارة أو هزيمة. الحركات الممكنة ليست متنوعة
فقط بل معقَّدة، وتتضاعف فُرص حدوث مثل هذا السهو، وفي تسع حالات من عشر،
يفوز اللاعب الأكثر تركيزًا وليس الأكثر ذكاءً. على النقيض، في لعبة الداما، حيث الحركات
محدَّدة وقليلة التنوع، فإن احتمالات السهو قليلة، ويبقى الانتباه غير مكرَّس بالكامل
مقارنة بالشطرنج، ويكون أي تقدم يُحرزه الطرفان من نصيب الأكثر ذكاءً. لنتحدث
بصورة أقل تجريدًا، دعونا نفترض أن قطع لعبة الداما قد تقلصت ليصبح عددها أربعًا
فقط مما، بالطبع، لن يدع مجالًا للسهو. من الواضح أن الفوز هنا يمكن تحقيقه (وهنا
يتساوى اللاعبان بشكل تامٍّ) فقط عن طريق حركة مختارة بعناية، ويكون هذا نتيجة
لبذل جهد كبير في التفكير. في حالة عدم وجود المصادر المعتادة يضع المحلِّل نفسَه في
موضع خصمه ويتوحد معه، ويرى — وهذا يحدث بشكل متكرر — بنظرةٍ واحدةٍ الطرقَ
والأساليب الفردية (التي أحيانًا ما تكون بسيطة على نحو مضحك) التي ربما توقعه في
الخطأ، أو تدفعه للقيام بحساب خاطئ.
عُرِفت لعبة الهويست منذ زمن طويل بأثرها على ما يسمَّى القوة الحسابية؛ ومن
المعروفأن أصحاب أفضل العقول يستمتعون بها بلا حدود بشكل واضح، بينما يتحاشون
الشطرنج كلعبة تافهة. ولا شك في أنه لا يوجدشيء في الطبيعة نفسها يرهق مَلَكَة التحليل
بشكل كبير. ربما لا يتعدَّى أفضل لاعب شطرنج في العالم المسيحي كونَه أفضلَ لاعب في
الشطرنج فقط، لكنَّ الكفاءة في لعب الهويست تدلُّ على القُدرة على تحقيق النجاح في مهام
أكثر أهمية تتصارع فيها العقول معًا. وأقصد بكلمة الكفاءة هنا الكمالَ في اللعبة الذي
يتضمَّن إدراك كل الأسباب التي يمكنها منح التفوق الشرعي. هذه الأسباب ليست متنوعة
فقط، بل متعددة الأشكال، وتكمن عادة في خبايا التفكير التي يتعذر فهمها بواسطة
الفهم المعتاد. المراقبة عن كثب تعني التذكر بوضوح، وإلى هذا الحد، فإن لاعب الشطرنج
صاحب التركيز سيُبلي بلاءً حسنًا في لعب الهويست، في حين أن قواعد هويل (القائمة في حد
ذاتها على آليات اللعبة) مفهومة بشكل شامل وكافٍ؛ لذا فإن امتلاك ذاكرة قوية واتباع
القواعد هما نقطتان يُنظَر لهما عامةً بوصفهما جوهرَ اللعب الجيد. لكن مهارة المحلل
تكمُن في أمورٍ تتخطَّى القواعد البحتة؛ فالمحلل يجمع في صمت مجموعة من الملاحظات
والاستنتاجات، وربما يفعل رفقاؤه هذا كذلك، لكن الفرق في المعلومات التي حصل عليها
لا يكمن بشكل كبير في صحة الاستنتاجات بقدر ما يكمن في جودة الملاحظات. تكمن
المعرفة الضرورية فيما يُلاحَظ. لا يقيِّد لاعبنا نفسه مطلقًا، ولا يرفض— بسبب أن اللعبة
هي هدفه — أيَّ استنتاجات من أشياء خارج نطاق اللعبة. يفحصاللاعب سيماءشريكه
مقارنًا إياها بحرصٍ بسيماء كل خصم من خصومه. ويأخذ في اعتباره أسلوب ترتيب
البطاقات في كل يد، وغالبًا ما يُحصي الأوراقَ الرابحة والأوراق الرئيسية ورقة ورقة من
خلال نظرات حامليها لها. يلاحظ كل تغيُّر في ملامح الوجه مع تقدم اللعب جامعًا قدرًا من
الأفكار بسبب التغيرات في تعبيرات اليقين أو المفاجأة أو النصرأو الغمِّ التي تعلو الوجوه،
ويستطيع الحُكْم من طريقة التحضير لخدعةٍ ما إذا كان الشخص الذي ينفِّذها يمكنه
القيام بأخرى من خلال أوراق اللعِب. يدرك ما يُلعَب من خلال التمويه والطريقة التي
تُرمَى بها الورقة على الطاولة؛ كلمة عابرة أو غير مقصودة؛ الإسقاط أو الدوران العارض
لورقة؛ وما يصاحب هذا من توتر أو لا مبالاة فيما يخص التَّغطية أو الإخفاء وإحصاء
الخِدع بترتيب أعدادها؛ والإحراج أو التردد أو اللهفة أو الخوف، كل هذا يضيف لإدراكه
الحدسي الظاهر دلالات إلى الحالة الواقعية الراهنة. وبعد لعب دورتين أو ثلاث، يكون
اللاعب قد أدرك بشكل كامل محتويات كل يد؛ ومن ذلك الحين فصاعدًا يلقي بأوراقه على
الطاولة بهدف محدد بدقة مطلقة، كما لو كان باقي الحاضرين قد كشفوا بطاقاتهم.
يجب عدم الخلط بين قوة التحليل وتوفُّر البراعة؛ لأنه في الوقت الذي يكون فيه
المحلل بالضرورة حاذقًا، فإن الحاذق غالبًا ما يكون غير قادر على التحليل بشكل لافتٍ
للنظر. غالبًا ما كانت قوة الاستنتاج أو التجميع — التي يظهر من خلالها عادةً مدى
العبقرية، والتي نسبها علماء فِراسة الدماغ (وأعتقد أن هذا خطأ) لعضو منفصل من
الجسد مفترضِين أنها مَلَكَة فطرية — تظهر لدى أولئك الذين يقترب فكرهم من البلاهة
والحُمق بشكل أو بآخر، بحيث جذبت الانتباه العام بين الكُتَّاب عن السلوكيات الأخلاقية.
هناك بالتأكيد فارق بين البراعة والقدرة التحليلية أكبر بكثير من الفارق بين الوهم والخيال،
لكنهما متشابهان بشكل تامٍّ. وفي الواقع، سنجد أن البارع دائمًا كثير الأوهام، وصاحب
الخيال الحقيقي لا يكون إلا تحليليٍّا.
ستتكشَّف القصة التالية للقارئ في ضوء ما سبق من افتراضات.
أثناء إقامتي في باريس خلال ربيع عام … ١٨ م وجزء من صيفه، تعرَّفت على السيد
سي أوجست دوبان. كان ذلك الشاب من عائلة شهيرةٍ ولامعة، لكن أدَّت مجموعة من
الأحداث المؤسفة إلى تحوله إلى درجة من الفقر استسلمت لها قوة شخصيته، وتوقف عن
الخروج إلى العالم أو الاهتمام باستعادَة ثروته. ومن لطف دائنيه تبقَّى لديه جزء صغير
من إرثه، واعتمادًا على الدخل القادم من هذا الإرث استطاع، بتدبير صارم، الحصول على
ضروريات الحياة دون شغل باله بالرفاهيات الزائدة. بالطبع كانت الكتب هي وسليةَ
الرفاهية الوحيدة في حياته، ولم يكن الحصول عليها في باريس أمرًا صعبًا.
كان لقاؤنا الأول في مكتبة مجهولة في شارع مونمارتر، حيث تصادَفأن جَمَعَنا بَحْثُنا
معًا عن نفس الكِتاب النادر جدٍّا والاستثنائيِّ جدٍّا. التَقينا بعد ذلك مرةً تلوَ الأخرى. كنت
مهتمٍّا جدٍّا بتاريخِ عائلتِه الصغيرة، الذي سرَده لي بالتَّفصيل بكلِّصراحة يتميز بها أي
فرنسيحينما تكون ذاتُه هي محورَ الحديث. كذلك كنتُ مذهولًا من المدى الواسع لقراءته،
وقبل كل شيء، شعرت بروحي تشتعل داخلي بسببِ حَماسه الشديد وخصوبةِ خياله
وحيويته. ببحثي وقتذاك في باريس عن الأشياء التي أريدُها شعرت بأن صحبة مثل هذا
الرجل ستكون كَنزًا لا يقدَّر بثمَن، وكشفت له عن هذا الشعور بكُلِّصَراحة. في نهاية الأمر
توصَّلنا إلى أنه يجِب علينا الإقامة معًا أثناء فترة بقائي في باريس، وبما أنَّ ظروفي المعيشية
كانت أقل إحراجًا من ظروفه، سُمِح لي بأن أكون مسئولًا — بأسلوب يناسب الكآبة الغريبة
لحد ما التي تُميِّز مزاجنا المشترك — عن استئجار وتأثيث قصرقديم وغريب المنظر على
وشك التداعي في منطقة مهجورة ومنعزلة من حي فوبورج سان جيرمان، هُجِر منذ زمن
طويل بسبب خُرافات لم نبحَث فيها.
لو علم الناس من حولنا بروتين حياتنا اليومي لكانوا نعتونا بالمجنونَين، لكن ربما
مجنونَان لا يضرَّان أحدًا. كانت عزلة كلينا أمرًا مثاليٍّا. لم نستقبل أيَّ زوار. بالطبع حافظنا
على موقع عزلتنا سرٍّا عن زملائي السابقين، كما كانت قد مرت سنوات طويلة على معرفة
دوبان بأحد في باريس. كنَّا نُوجَد فقط داخل أنفسنا.
كان صديقي يمتلك ولعًا غريبًا (بماذا يمكنني تسميته غير ذلك؟) بالليل لذاته؛
وانغمست في هذا السلوك الغريب، كسلوكياته الغريبة الأخرى، رويدًا رويدًا تاركًا نفسي
رهن نزواته الجامحة باستسلام تامٍّ. كان الظلام المقدَّس لا يسكن المنزل دائمًا، لكننا كنَّا
قادرَين على صُنعه. في مطلع الفجر من الصباح كنَّا نغلق مصاريع المنزل البالية ونشعل
شمعتَين رفيعتَين ذواتَي رائحة قوية، حيث لم تكونا تصدرانِ سوى أشعة خافتة ومثيرة
للرهبة. بمساعدة هاتَين الشمعتَين شغلنا روحَينا بعالم الأحلام؛ بالقراءة أو الكتابة أو
الحديث معًا حتى تنبِّهنا الساعة إلى حلول الظلام الحقيقي. بعد ذلك نتجول في الطرقات
وقد تأبطت ذراعه مستمرَّين في مناقشة موضوعات النهار، أو نجول في كل مكان حتى
ساعةٍ متأخرة باحثَين — وسط الأضواء المبهرة والظلال للمدينة المزدحمة — عن المتعة
العقلية اللانهائية التي يمكننا الحصول عليها بالملاحظة الصَّامتة لما يدور حولنا.
في مثل تلك الأوقات لم أستطع منعَ نفسيمن ملاحظة قدرة تحليلية عجيبة لدى دوبان
(رغم أنني كنت متوقعًا امتلاكَه لها بسبب مثاليَّته الشديدة) والإعجاب بها. كما بدا كذلك
أنه يستمتع بممارسة هذا بكلِّ لهفة — إن لم يكن من خلال عرضتلك القدرة على وجه
الدقَّة — ولم يتردَّد في الاعتراف بالاستمتاع المستمد بالتالي من هذا. كان يُسِرُّ لي بتباهيه،
مصدرًاضحكةً خافتةً، أنَّ مكنوناتصدور معظم الرجال بالنسبة له تبدو مكشوفة. وكان
عادةً ما يتبع هذه التأكيدات بإثباتات مباشرة ومذهلة جدٍّا عن معرفته الشخصية جدٍّا بما
يُخفيه صدري. كان تصرفه في هذه الحالات يتميَّز بالتجرد والبرود، وكانت عيناه خاليتَين
من أي تعبير، بينما يتحوَّلصوته، والذي عادة ما يكون عميقًا، إلىصوت حادٍّ يبدو كما لو
كان غاضبًا لولا التعمد والوضوح التامُّ للنطق. بملاحظته في هذه الحالات المزاجية، غالبًا
ما كنت أجيل فكري بفلسفة الثنائية القديمة، وتسلَّيت بتخيل وجود نسخة مزدوجة من
دوبان، المبدع وحلَّال المشكلات.
دعونا لا نفترضمما قلته للتَّوِّ أنني أسرد تفاصيل أيِّ أمر غامض، أو أكتب أيَّ عمل
رومانسيٍّ. ما وصفته عن هذا الفرنسيكان مجرد نتيجة ذكاء هائج، أو مريض، ربما. لكنَّ
مثالًا عن طبيعة ملاحظاته في الفترات التي نتحدث عنها سيوصل الفكرة بأفضل طريقةٍ
ممكنة.
ذات ليلة كنَّا نتجول في طريق ترابي طويل في مُحيط القصرالملكي. لم يتفوَّه كلانا
بأي كلمة لمدة ربع ساعة على الأقل بسبب انشغالنا — كما يظهر علينا — بالتفكير. وفجأة،
قال دوبان:
إنه شخص ضئيل الحجم، هذا حقيقي، وسيكون مفيدًا بشكل أكبر في مسرح »
«. المنوعات
ولم ألاحظْ في البداية — بسبب استغراقي «. لا شكَّ في هذا » : رددت على نحو عفويٍّ
في التفكير — الطريقة غير المعتادة التي اقتحم بها دوبان أفكاري. وبعد لحظة استجمعت
ذاتي وأصبح ذهولي شديدًا.
دوبان، هذا يفوق قُدرتي على الفهم. لا أتردَّد في القول بأني مندهش » : قلت له بجدية
ويمكنني بالكاد الوثوق في حواسي. كيف أمكنك بأي حال أن تعرف أنني كنتُ أفكر في
ثم توقفت عن الكلام؛ لأتأكد دون أدنى شكٍّ من مقدار معرفته ما كنتُ أفكر فيه. «؟…
تفكر في شانتيلي. لماذا توقَّفت؟ كنتَ تقول لنفسك إن جسمه الضئيل لا يناسب » : ردَّ
«. المسرح التراجيدي
كان هذا بالضبط ما أفكر فيه. كان شانتيلي إسكافيٍّا سابقًا يعمل في شارع سان دوني،
ثم فُتِن بالمسرح وحاول أداء دور زيركسيس في مسرحية كريبيون التراجيدية، وتعرَّض
للسخرية والهجاء الشديدَين على مجهوداته.
أخبرني بحقِّ السماء عن الطريقة — إن كانت ثمة طريقة — التي » : تعجبت قائلًا
في الحقيقة، كنتُ أشعر بالخوف «. مكنَّتك من سبر أغوار روحي فيما يخص هذا الأمر
بشكل يفوق قدرتي على التعبير.
بائع الفاكهة الذي جعلك تدرك أن طول مصلح نعال الأحذية لا يجعله » : ردَّ صديقي
«. مناسبًا للقيام بدور زيركسيس والأدوار الأخرى من هذا النوع
«. بائع الفاكهة! هذا عجيب! أنا لا أعرف أيَّ بائع فاكهة »
«. الرجل الذي صادفتَه أثناء دخولنا الشارع، ربما من خمس عشرة دقيقة مضت »
تذكَّرت بالفعل أن بائعًا للفاكهة يحمل سلَّةً كبيرةً من التفاح فوق رأسه كان على
وشك أن يسقطني دون قصد، عندما كنا نعبر طريق … إلى الشارع العام الذي كنا نقف
فيه، لكني لم أستطع بأي حال فهم ما علاقة هذا بشانتيلي.
سأفسِّرلك حتى يمكنك » : لم تكن هناك أي ذرة غشٍّأو احتيال بشأن دوبان، الذي قال
إدراك الأمر بكل وضوح. سنعيد أولًا تتبع مسار أفكارك وتأمُّلاتك من لحظة حديثي معك،
حتى مقابلتك لبائع الفاكهة الذي نقصده. الروابط الأكبر للسلسلة تسير على هذا النحو:
شانتيلي ثم كوكبة أوريون ثم الدكتور نيكولسثم الفيلسوف إبيقور ثم علم قَطْع الحجارة
«. ثم حجارة الشارع ثم بائع الفاكهة
قليلون هم مَن لم يسلُّوا أنفسهم، في فترة ما من حياتهم، بإعادة تتبع الخطوات التي
توصَّلت عقولهم بواسطتها إلى استنتاجات بعَينها. غالبًا ما يكون الانشغال بهذا مليئًا بما
يثير الاهتمام، ويندهشمَن يحاول القيام بهذا لأوَّل مرة بالمسافة اللامتناهية وعدم الترابط
بين نقطة البداية والهدَف؛ لذا كان يمكنهم تخيل مدى اندهاشي عندما سمعت ما قاله
صديقي الفرنسي للتَّو ولم أستطع إلا الاعتراف بحقيقة ما قاله. استمر قائلًا:
إذا كنتُ أتذكُّر جيدًا فقد كنَّا نتحدث عن الخيول قبل مغادرة شارع … مباشرة. »
كان هذا آخر موضوع ناقشناه. وأثناء عبورنا للشارع دفعك بائع فاكهة يحمل سلة تفاح
كبيرة فوق رأسه، وكان يجتازنا بسرعة، لتقع فوق كومة من أحجار الرصف مجتمعة في
مكان ما زال فيه الطريق قيد الإصلاح. دست بقدمك إحدى تلك القطع المتفرقة وانزلقتَ،
والتوى كاحلك بشكل طفيف مما جعلك تبدو غاضبًا أو متجهمًا، وتمتمت ببعضالكلمات
واستدرتَ لتنظر لكومة الصخور، ثم أكملتَ المشيفي صمت. لم أكن منتبهًا بشكل كامل لما
تقوم به، لكن الملاحظة أصبحت بالنسبة لي شيئًاضروريٍّا في الفترة الأخيرة.
أبقيت عينَيك مثبَّتتَين على الأرض ناظرًا بتعبير غاضب إلى الحفر والتجاويف في
الرصيف (لذا عرفت أنك ما زلت تفكِّر في الأحجار) حتى وصلنا لزقاق صغير يسمَّى
لامارتين كان مرصوفًا، كتجربة، بقطع قرميد متداخلة ومبرشمة بإحكام. هنا أشرق وجهك
وأدركت من حركة شفاهك أنك بلا شكٍّ تمتمت بكلمة علم قَطْع الحجارة، وهو مصطلح
يُسْتَخدم بشكل متكلف لوصف هذا النوع من الأرصفة. كنتُ أدرك أنه لا يمكنك التفوه
بالكلمة دون التفكير في الذرات والجسيمات؛ ومن ثَمَّ التفكير في نظريات إبيقور، وبما أنني
ذكرت لك — حيث لم يمرَّ وقت طويل منذ أن ناقشنا هذا الأمر — كيف أنَّ علم نشأة
الكون الحديث — رغم عدم ملاحظة هذا بشكل كبير — أثبت صحة التخمينات الغامضة
لذلك النبيل الإغريقي بشكل لافت للنظر، شعرت أنه لا يمكنك ألا تنظر للأعلى تجاه السديم
العظيم في كوكبة نجوم أوريون، وتوقعت يقينًا أنك ستفعل هذا. نظرتَ لأعلى وكنت متأكدًا
أنني تتبعت أفكارك بشكلصحيح. لكن ومن خلال النقد الشديد لشانتيلي الذي ظهر أمس
في جريدة ذا ميوزيه الساخرة والذي أشار بتلميحات مشينة إلى تغيير الإسكافي لاسمه بعد
العمل في المسرح، استُخدِمَت جملة لاتينية تناقشنا بشأنها وهي:
Perdidit antiquum litera sonum.
«. تغيُّر النطق بتغيير الحرف الأول » : والتي تعني
أخبرتك أن هذا يتعلق بكوكبة أوريون، والتي كانت تُكتَب فيما مضىيوريون، ومن
خلال تبادل بعض النكات اللاذعة المرتبطة بهذا التفسير، كنتُ أدرك أنك لن تستطيع
نسيانها؛ لذا كان من الواضح أنك لن تخفق في الربط بين أوريون وشانتيلي. أدركتُ ربطك
بينهما عندما رأيت كُنْه الابتسامة التي تراقصَت على شفتَيك. فكَّرتَ في مأساة الإسكافي
المسكين. حتى ذلك الحين، كانت هناك انحناءة في مشيتك، لكني الآن أراك منتصبًا بشكل
كامل في مشيتك. تأكدت حينها أنك فكرت في جسم شانتيلي الضئيل. عند تلك النقطة،
قاطعت تدفق أفكارك لأشير إلى أنه في الواقع كان شخصًا ضئيلًا جدٍّا، وأنه — شانتيلي —
«. يناسب مسرح المنوعات بشكل أكبر
« مجلة المحاكم » لم يمرَّ وقت طويل بعد هذا الحديث حتى كنا نطالع نسخة المساء من
عندما لفت هذا المقال انتباهنا، حيث كان يقول:
جريمتان غريبتان. في حوالي الساعة الثالثة من هذا الصباح، استيقظ سكان حي »
سان روشعلى سلسلة من الصرخات المروِّعة الصادرة على ما يبدو من الدور الرابع في أحد
بيوت شارع مورج والمعروف بأنه لا يسكنه سوى السيدة ليسبانيه وابنتها الآنسة كاميل.
بعد مرور بعض الوقت ومحاولة فاشلة لدخول المنزل، كُسِرت البوابة باستخدام عتلة
ودخل ثمانية أو عشرة من الجيران يصحبهم شرطيان. كانت الصرخات قد توقفت، لكن
أثناء صعود الجيران أول مجموعة من السلالم، سُمِعت أصوات خشنة منخرطة في نزاع
محتدِم وبدا أنها آتية من الجزء الأعلى من المنزل. بوصول الجيران للدور الثاني من المنزل،
توقفت هذه الأصوات أيضًا وساد هدوء تامٌّ. تفرق أفراد المجموعة واندفعوا من غرفة إلى
أخرى. عند وصولهم إلى الغرفة الخلفية الكبيرة في الدور الرابع (والتي كان بابها مغلقًا
بالمفتاح من الداخل لكنه فُتِح عنوة)، وجدوا مشهدًا صعق جميع الحاضرين بالذهول أكثر
من الرعب.
كانت الشقة في أسوأ فوضىممكنة؛ الأثاث مكسور ومتناثر في جميع الاتجاهات. كان
هناك هيكل سرير وحيد ونُزِع منه الفراش ورُمِي في منتصف الغرفة. فوق أحد الكراسي،
كانت هناك موسىملطخة بالدماء. وفوق الموقد، كان هناك كذلك خصلتان أو ثلاث طويلة
وسميكة من شعر بشري رمادي ملطخ بالدماء، ويبدو أنها نُزِعت من الجذور. على الأرضية،
كانت هناك أربع عملات ذهبية، وقرط من حجر التوباز الكريم، وثلاث ملاعق فضية كبيرة،
وثلاث أخرى صغيرة من مَعْدِن خليط من القصدير والإثمد ذي لون أبيض، وحقيبتان
تحويان حوالي أربعة آلاف فرنك ذهبي. كان من الواضح أن أدراج إحدى المناضد، التي
كانت تقففي أحد أركان الغرفة، قد نُهِبت رغم أنه كان لا يزال بداخلها الكثير من المتعلقات.
اكتُشفت خزانة حديدية صغيرة تحت الفراش(وليس تحت هيكل السرير). كانت مفتوحة
وما زال المفتاح في بابها. كانت فارغة إلا من بعض الخطابات القديمة وأوراق أخرى غير
ذات أهمية كبيرة.
لم يكن هناك أي آثار تشير إلى السيدة ليسبانيه، لكن لوحظ وجود كمية غير معتادة
من السناج في المستوقد مما أدَّى إلى البحث داخل المدخنة — وما سيلي من الفظيعسرده —
ليخرجوا منها جثة الابنة التي اتجه رأسها للأسفل، والتي كانت قد دُفِعت بالقوة لأعلى
داخل الفتحة الضيقة للمدخنة لمسافة كبيرة. كانت الجثة دافئة تمامًا، وبعد فحصها، لوحظ
وجود العديد من السحجات التي حدثت بلا شكٍّ بسبب العنف الذي دُفِعت بواسطته لأعلى
داخل المدخنة والذي بُذِل لتحريرها منها. كان يعلو الوجه العديد من الخدوش البالغة،
بينما كانت هناك رضوضداكنة على الرقبة وآثار عميقة لأظافر، كما لو كانت المتوفاة قد
خُنِقت حتى الموت.
بعد فحص شامل لكل جزء من المنزل، لكن دون اكتشاف المزيد، اتجهت مجموعة
الجيران إلى فناء صغير مرصوف في خلفية المنزل حيث كانت تقبع جثة السيدة العجوز،
وقد قطع حلقها بالكامل حتى إن محاولة رفع جثتها قد أدت إلى سقوط رأسها. كان الرأس
والجسد قد مُثِّلَ بهما على نحو مخيف، حتى إن الأول كان لا يحتفظُ إلا بأقل القليل من
المظهر البشري.
«. ونعتقدُ أنه حتى الآن لا يوجَد أدنى دليلٍ لحلِّ هذا اللغز المرعب
أما صحف اليوم التالي فقد حوت التفاصيل الإضافية التالية:
مأساة شارع مورج. استُجوب العديد من الأشخاصفيما يتعلق بهذا الشأن المروِّع »
لم تكن كلمة شأن قد اكتسبت بعد في فرنسا نفس ) « والاستثنائي لأقصى درجةٍ ممكنة
لكن لم يُتَوَصَّل لأيِّ شيء يكشف » : القدر الكبير من الأهمية الذي لدينا). تضيف الصحف
.« غموضهذا الأمر. نسرد فيما يلي كل ما كشفته الشهادات الأساسية
تقول بولين دوبورج، التي تعمل غسَّالة ملابس، إنها كانت تعرف المتوفَّاتَين لمدة ثلاث
سنوات، حيث كانت تغسل لهما الملابس خلال هذه المدة. كانت العلاقة بين المرأة وابنتها
تبدو على ما يرام حيث كانتا حنونتَين جدٍّا إحداهما تُجاه الأخرى. كما كانتا تدفعان لها
بسخاء. لم تستطع دوبورج التحدث بشأن أسلوب معيشتهما أو مواردهما المالية. كانت
تعتقد أن السيدة ليسبانيه تكسب عيشها من التنبؤ بالمستقبل، وشاعَ أنها تدخر بعض
المال. لم تكن دوبورج ترى أي أشخاصفي المنزل عندما كانت تُستَدعى لغسل الملابس أو
أخذها للمنزل، كما أنها متأكدة أنه لا يوجد خادمة لدى المرأتَين. لم يبدُ أن هناك أيَّ أثاث
في أيِّ جزء من المبنى إلا في الدور الرابع.
أما بيير مورو، تاجر التبغ، فيقول إنه اعتاد بيع كميات صغيرة من التبغ والنشوق
للسيدة ليسبانيه طيلة أربع سنوات تقريبًا. وُلِد مورو في الحي وعاش دائمًا فيه. كانت
المتوفاتان تعيشان في المنزل الذي وُجِدت فيه الجثتان لأكثر من ست سنوات. كان يشغل
المنزل فيما مضىتاجر مجوهرات يؤجر الغرف العليا لأشخاصعديدين بأجر قليل. كانت
السيدة ليسبانيه صاحبة المنزل وكانت غاضبة بسبب سوء استغلال الرجل له وانتقلت
للعيش فيه بنفسها رافضة تأجير أي قسم منه. كانت السيدة العجوز ذات سلوك طفولي
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.