hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

شهد الرجل أنه رأى الابنة خمس مرات أو ستٍّا خلال السنوات الستة. وكانت الأم وابنتها
تعيشان حياة ميسورة، حيث يُقال إنهما كانتا تمتلكان المال. سمع الرجل من الجيران أن
السيدة ليسبانيه كانت تكسب العيش بالعمل عرَّافةً، لكنه لم يصدق هذا. كما أنه لم يرَ أيَّ
شخصيدخل المنزل سوى السيدة العجوز وابنتها، وأحد الحمَّالين مرة أو مرتين، وطبيب
ثمانيَ مرات أو عشرًا.
كما أدلى العديد من الجيران بشهادات مشابهة. لم يأتِ ذكر أي شخص كان يتردَّد
على المنزل. لم يكن من المعروف إذا كان هناك أي أقارب أحياء للسيدة ليسبانيه وابنتها.
كانت مصاريع نوافذ المنزل الأمامية نادرًا ما تُفتَح، أما تلك التي في المؤخرة فكانت دائمًا
مغلقة فيما عدا مصراع النافذة الخلفية الكبرى في الطابق الرابع. كان المنزل بشكل عامٍّ في
حالة جيدة، وليس قديمًا جدٍّا.
يقول إيزيدور موزيت، شرطي دَرَك، إنه استُدعي إلى المنزل في حوالي الثالثة صباحًا،
ووجد نحو عشرين أو ثلاثين شخصًا عند بوابة المنزل يُحاولون الدُّخول. في النهاية نجحوا
في فتحِها بالقوة، باستخدام حربة، وليسعتلة. لم يواجهواصعوبة في فتحها بالقوة؛ بسبب
أنها كانت مزدوجة أو قابلة للطي، ولم تكن مثبتة بالمسامير من أعلى أو أسفل. استمرت
الصرخات حتى كُسِرت البوابة ثم توقفت فجأة. بدت الصرخات صادرة من شخص— أو
أشخاص— في حالة ألم شديد وكانت مرتفعة وطويلة وليست قصيرة وسريعة. قاد أحد
الشهود المجموعة لأعلى. بمجرد وصولهم لأول دور، سمعوا صوتَين منخرطَين في نزاعٍ
غاضب وصارخ؛ الأول كان صوتًا أجشَّ والآخر أكثر حدة، حيث كان صوتًا غريبًا للغاية.
أمكنه التعرف على بعضكلمات من الصوت الأول حيث كان لشخصفرنسي. ما كان أكيدًا
كان الصوت .« شيطان » و « مقدس » هو أنه ليس صوتَ امرأة. كما أمكنه تمييز كلمتي
الحاد لشخص أجنبي. لم يكن من الممكن التأكد إن كان صوتَ رجل أم امرأة. كما لم
يمكنه التعرف على ما قاله، لكنه يعتقد أنه كان يتحدث الإسبانية. وصف هذا الشاهد حالة
الغرفة والجثتَين كما وصفناهم أمس.
قال أحد الجيران، يُدعى هنري دوفال ويعملصائغ فضة، إنه كان أحد أفراد المجموعة
التي دخلت المنزل في المرة الأولى. تدعم شهادته شهادة موزيت بشكل عام. بمجرد دخول
المجموعة بالقوة، أعادوا إغلاق الباب لإبقاء حشود الناس في الخارج، والذين كانوا قد
تجمَّعوا بسرعة كبيرة رغم الوقت المتأخر. يعتقد الشاهد أن الصوت الحاد كان لشخص
إيطالي فقد كان متأكدًا من أنه ليس فرنسيٍّا. لم يستطع التأكُّد إن كان صوت رجل؛ فربما
كانصوت امرأة. لم يكن على معرفة جيدة بالإيطالية، ولم يستطع تمييز الكلمات لكنه كان
مقتنعًا من خلال طريقة الحديث بأن المتحدث كان إيطاليٍّا. كان الشاهد يعرف السيدة
ليسبانيه وابنتها وتحدث معهما بشكل متكرر، وكان متأكدًا أن الصوت الحاد لم يكن
صوت أيٍّ من المتوفاتَين.
أما … أودينهايمر، صاحب مطعم، فتطوع للشهادة. استجوبه مترجم بسبب عدم
تحدثه للفرنسية. هو في الأساس من أمستردام. كان أودينهايمر مارٍّا بالمنزل أثناء صدور
الصرخات التي استمرت لمدة من الوقت ربما عشردقائق. كانتصرخات طويلة ومرتفعة،
شنيعة وفاجعة للغاية. كان أودينهايمر من المجموعة التي دخلت المبنى، وكان يؤيد شهادة
الرجل السابق في كل شيء فيما عدا أمرًا واحدًا؛ فقد كان متأكِّدًا أن الصوت الحاد كان
صوت رجل فرنسي. لم يمكنه التعرف على الكلمات المنطوقة حيث كانت سريعة وصاخبة
— وغير منتظمة — ونُطِقت بخوف وغضب واضحَين. كان الصوت خشِنًا، لم يكن حادٍّا
« مُقدس » بقدر ما كان خشنًا. لا يمكن وصفُه بالصوت الحاد. ردد الصوت الأجش كلمتَي
.« يا إلهي » ونطق مرة بكلمة « شيطان » و
ثمة شاهد آخر، يُدعى جول مينيو، يعمل مصرفيٍّا في شركة مينيو وولده في شارع
ديلوران، وهو الابن الأكبر لمينيو. كانت السيدة ليسبانيه تمتلك بعض الأملاك، وفتحت
حسابًا في البنك الذي كان يعمل به في ربيع عام … (قبل ثماني سنوات). كانت تودع مبالغ
صغيرة بشكلٍ متكرر. لم تودع أيَّ مبالغ حتى قبل موتها بثلاثة أيام، حيث سحبت بشكل
شخصيمبلغ ٤٠٠٠ فرنك. دُفِع المبلغ بالذهب، وذهب به موظف من البنك إلى المنزل.
يقول الشاهد أدولف لو بون، الذي يعمل موظفًا في مينيو وولده، إنه في اليوم الذي
نتحدث بصدده في حوالي الظهيرة اصطحب السيدة ليسبانيه إلى مسكنها، ومعه الأربعة
الآلاف فرنك مقسمة على حقيبتَين. عندما فُتِح باب المنزل، ظهرت الآنسة ليسبانيه وأخذت
حقيبة من يدِه بينما حملت السيدة العجوز الحقيبة الأخرى. انحنى الرجل محيِّيًا إياهما
ثم رحَل. لم يرَ أيَّ شخصفي الشارع في ذلك الوقت. كان شارعًا فرعيٍّا ومهجورًا للغاية.
يقول وليام بيرد، خيَّاط، إنه كان أحد أفراد المجموعة التي دخلت المنزل. كان وليام
إنجليزيٍّا ويعيش في باريس منذ عامين، وهو من أوائل من صعِدوا السلالم، كما سمع
الصوتَين المتنازعَين. كان الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي، أمكن وليام تمييز بعض الكلمات
بوضوح. كان هناك صوت « يا إلهي » و « مقدس » لكنه لا يتذكر أيٍّا منها الآن. سمع كلمتَي
في تلك اللحظة يبدو كما لو كان هناك العديد من الأشخاصالمتصارعين، حيث كان صوت
خدشوصراع. كان الصوت الحادُّ عاليًا جدٍّا، أعلى من الصوت الأجشِّ. كان وليام متأكدًا أن
الصَّوت ليس صوت رجل إنجليزي، بدا أنه صوت يتحدث الألمانية، ربما كان صوت امرأة.
وهو لا يفهم الألمانية.
بعد استدعائهم، قال أربعة من الشهود الذين ذكروا أعلاه إن باب الغرفة التي وُجِدت
فيها جثة الآنسة ليسبانيه كان مغلقًا من الداخل عندما وصلت المجموعة إليها. كان كل
شيء في صمت تامٍّ ولا يوجد أنين أو ضوضاء من أيِّ نوع. لم يُرَ أي شخص بعد أن فُتِح
الباب بالقوة. كانت النوافذ، في كلا الغرفتَين الأمامية والخلفية، موصدة ومُحكمة الإغلاق من
الداخل. كان هناك باب بين الغرفتَين وكان مغلقًا لكنه لم يكن موصَدًا بالمفتاح. وكان الباب
المؤدِّي من الغرفة الأمامية إلى الممرِّ مغلقًا بمفتاح من الداخل. كان هناك غرفة صغيرة في
مقدمة المنزل في الدور الرابع في بداية الممرِّ، وكانت مفتوحة حيث كان الباب مفتوحًا بشكل
جزئي. كانت الغرفة مليئة بالأسَِرَّة القديمة والصناديق وما إلى ذلك والتي نُقِلَت وفُحِصت
بحرص. لم يكن هناك بوصة في أيِّ جزءٍ من المنزل لم تُفحَصجيدًا، واستُخدمت المكانس
الطويلة لفحصالمدخنة صعودًا وهبوطًا. المنزل مكونٌ من أربعة طوابق وبه عُلِّيَّات. وثمَّةَ
باب سحري في السقف مثبَّتًا بالمسامير جيدًا، ويبدو أنه لم يُفتَح منذ زمن طويل. تختلف
المدة الزمنية بين سماع الصوتَين المتنازعَين وكسرالباب حسب أقوال الشهود. البعضيقول
إنها كانت قصيرة كثلاث دقائق فقط، والبعضيقول إنها وصلت لخمس دقائق. كما فُتِح
الباب بصعوبة.
يقول ألفونزو جارثيو، الذي يعمل حانوتيٍّا، إنه يسكن في شارع مورج، وهو من
إسبانيا في الأساس. كان ألفونزو أحد أفراد المجموعة التي اقتحمت المنزل، لكنه لم يصعد
للأعلى. كان يشعر بالتوتر وكان قلقًا من عواقب الانفعال. سمع الصوتَين المتنازعَين؛ كان
الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي، ولم يستطع تمييز ما يقول، وكان الصوت الحادُّ لرجل
إنجليزي وكان متأكدًا من هذا. لا يفهم ألونزو اللغة الإنجليزية لكنه يميزها من طريقة
الحديث.
يقول ألبرتو مونتاني، صانع الحلوى، إنه كان ضمن أول من صعدوا السلالم، وقد »
سمع الصوتَين موضع النقاش. كان الصوت الأجشُّ لرجل فرنسي. ميَّز مونتاني بعض
الكلمات، وبدا المتحدث كما لو كان يعترض على شيء ما. لم يمكنه تمييز كلمات الصوت
الحاد؛ يظن أنهصوت شخصيتحدث الروسية. يدعم مونتاني الشهادة العامة. هو شخص
إيطالي، ولم يتحدث مع شخصروسيمن قبل.
شهد العديد من الشهود الذين اسْتُدعُوا بأن المداخن في جميع غرف الدور الرابع
كانت ضيقة جدٍّا بحيث يتعذر أن يمر منها جسد بشريٌّ. كانت المكانس عبارة عن فرش
أسطوانية يستخدمها منظفو المداخن. مُرِّرَت تلك المكانس صعودًا وهبوطًا في كل مداخن
المنزل. لا يوجد أي ممرٍّ خلفي يمكن الهبوط من خلاله أثناءصعود مجموعة البحث لسلالم
المنزل. كانت جثة الآنسة ليسبانيه محشورة بقوة لدرجة أن إنزالها احتاج إلى أربعة أو
خمسة أفراد لإنزالها.
يقول بول دوما، طبيب، إنه استُدعِي لفحص الجثتَين عند الفجر. كانت الجثتان
موضوعتَين على غطاء هيكل السرير في الغرفة التي وُجِدت فيها الآنسة ليسبانيه. كانت
جثة الفتاة يعلوها الكثير من الرضوضوالكشوط. كان حشرالجثة في المدخنة مسئولًا بما
فيه الكفاية عن هذا المظهر. كان حلقها تعلوه السحجات الشديدة، وكانت هناك عدة خدوش
عميقة تحت الذقن مباشرة بجانب مجموعة من البقع الزرقاء التي كان من الواضح أنها
موضع ضغط أصابع. كان الوجه حائل اللون بشكل مخيف، والعينان بارزتَين. واللسان
مقضومًا بشكل جزئي على طوله. واكتُشِفَت رَضَّة ضخمة أسفل البطن أنتجها كما يبدو
الضغط بالركبة. في رأي السيد دوما، خُنِقَت الآنسة ليسبانيه حتى الموت بواسطة شخص
أو أشخاصمجهولين. أما جثة الأم فكانت مشوهة بشكل مروِّع؛ كل عظام الذراع اليمنى
والساق اليمنى مهشمة تقريبًا، وعظمة الساق اليسرى مقسمة إلى شظيات صغيرة، وكذلك
ضلوع الجانب الأيسر. كان الجسد بالكامل مليئًا بالرضوض، ولونه متغيرًا بشدة. لم تكن
هناك طريقة ممكنة لمعرفة كيفية حدوث الإصابات؛ مضرب خشبي ثقيل أو قضيب حديدي
عريض أو كرسي … أي سلاح ثقيل وضخم وغير حاد يمكنه إحداث مثل هذه الإصابات
إذا استخدمه شخص قويٌّ جدٍّا. لا يمكن أن تتسبب أي امرأة في إحداث هذه الإصابات
بأي سلاح. كان رأسالمتوفاة، كما رأى الشهود، منفصلًا تمامًا عن الجسد ومهشمًا بشكل
كبير. ومن الواضح أن الحلق قُطِع بآلة حادَّة جدٍّا، ربما بموسىحلاقة.
استُدعِيَ ألكسندر إيتيان، جرَّاح، بصحبة السيد دوما لفحص الجثتَين، وقد دعم
شهادة دوما وآراءه.
لم يُتَوَصَّل لأيِّشيء آخر ذي أهمية رغم فحصشهادة المزيد من الأفراد. كانت جريمة
قتل غامضة للغاية وتفاصيلها في غاية التعقيد، ولم تُرتَكَب جرائم مثلها من قبل في باريس؛
إذا كانت هذه جريمة قتل من الأساس. كانت الشرطة في حالة ارتباك شديد؛ فحَدَثٌ بهذه
«. الطبيعة كان غير معتاد. ورغم ذلك، لم يكن هناك أثر لأيِّ دليل واضح
قالت النسخة المسائية من الصحيفة: إن القدر الأكبر من الإثارة استمر في حي سان
روش، وإنه أعيد فحصالمبنى المقصود بحرص، وأجُريت فحوصجديدة لشهاداتالشهود،
لكن لم يؤدِّ أيٌّ من هذا إلى أيِّ جديد. غير أن الملحق ذكر أنه قُبضعلى أدولف لو بون وأوُدع
السجن رغم أنه لم يظهر أي ما يدينه بخلاف الحقائق التي ذكرت بالتفصيل سابقًا.
بدا دوبان مهتمٍّا بشكل خاصبتطورات هذه القضية، أو على الأقل هذا ما استنتجته
من أسلوبه عندما لم يصدر أيَّ تعليقات. لكن بعد إعلان القبضعلى لو بون، سألني عن
رأيي فيما يخصجريمتَي القتل.
لم يسعني إلا الاتفاق مع كل من في باريس على أن هاتَين الجريمتَينسرٌّغامضغير
قابل للحلِّ. لم أرَ أيَّ وسيلة يمكن بها تعقُّب القاتل.
يجب علينا عدم الحكم على وسيلة ارتكاب الجريمة بهذا الفحص » : قال دوبان
السطحيِّ. وشرطة باريس، التي يُشَاد بذكائها، لا تتمتَّع بما هو أكثر من هذا؛ فهم لا
يمتلكون أيَّ منهجية في إجراءاتهم بخلاف المنهج اللحظي. إنهم يستعرضون عددًا كبيرًا
من الإجراءات لكنها، في أغلب الأحوال، لا تكون مناسبة للأهداف المطروحة، كما لو كنَّا
سنعلم ما في عقل السيد جوردان الذي يطلب روب الحمام ليسمع الموسيقى بشكل أفضل.
النتائج التي يتوصلون إليها تكون مفاجئة عادة، لكنهم يصلون إليها في أغلب الأحوال بقدر
بسيط من النشاط والاجتهاد. عندما لا تجدي هذه السمات، فإن خططهم تفشل. على سبيل
المثال كان فيدوك رجلًا مثابرًا ذا قدرة جيدة على التخمين، لكن دون فكر مثقف، كان يقع
في الخطأ بشكل مستمر بسبب الحدَّة الشديدة لبحثه. كان يعيق رؤيته بالتركيز الشديد
على الهدف. ربما يرى نقطة أو اثنتَين بوضوح استثنائي، لكن أثناء هذا يفقد بالضرورة
رؤيته للمسألة ككل؛ لذا فإنه ثمة شيء ما يسمى بالمبالغة في التعمق. الحقيقة لا تتميز
دائمًا بالعمق. في الواقع، وفيما يخصالمعرفة الأكثر أهمية، فإني أعتقد أنها تكون ظاهرية
بشكل ثابت. يكمن العمق في الطرق التي نبحث بها عنها وليست في المكان الذي تقع فيه،
أساليب هذا النوع من الأخطاء ومصادره مجسدة جيدًا في التأمل في الأجرام السماوية؛
فالنظر للنجم بشكل عابر، بشكل مائل وغير مباشر، وبتوجيه الجزء الخارجي من القرنية
تجاهه (وهو الجزء الأكثر عرضة للآثار الضعيفة للضوء من الجزء الداخلي) يؤدِّي لرؤيته
بوضوح، وتقدير بريقه بأفضل شكل ممكن، وهو بريق يصبح باهتًا بشكل يتناسب مع
مقدار توجيه رؤيتنا كاملة تجاهه. في الحقيقة، إن قدرًا أكبر من أشعة الشمس يقع على
العين في الوضع الأخير، لكن في الأول، هناك قدرة أكثر دقة على الإدراك. باستخدام التفكير
العميق الذي لا داعي له، فنحن نربك ونوهن الفكر، ومن المحتمل أن يؤدي التمعن في كوكب
الزهرة بشكل مستمر أو مركز أو مباشرللغاية إلى اختفائه من السماء.
أما بالنسبة لهاتَين الجريمتَين، فدعنا نقم ببعض الفحوصات الخاصة بنا قبل أن
في رأيي أمرًا « تسلية » كان استخدام كلمة «. نكوِّن رأيًا يخصهما. سيمدنا التحقيق بالتسلية
هذا إلى جانب أن لو بون أسدى لي خدمة ذات يوم أدين » : غريبًا لكني لم أعلِّق. أكمل دوبان
له بها. سنذهب ونرى المكان بأنفسنا. أنا أعرف ج… مأمور الشرطة، ولن نواجه صعوبة
«. في الحصول على الإذن الضروري
حصلنا على الإذن، وانطلقنا فورًا إلى شارع مورج، كان أحدَ الشوارع العامَّة البائسة
الواقعة بين شارعي ريشيليوه وسان روش. وصلنا الشارع في وقت متأخر من الظهيرة
وكان الحيُّ يقع على مسافة بعيدة من الحيِّ الذي كنا نسكن فيه. وجدنا المنزل فورًا
حيث كان العديد من الأشخاص لا يزالون يُحدِّقون في مصاريع النوافذ المغلقة في فضول
دون هدف محدد من الجانب الآخر من الطريق. كان منزلًا باريسيٍّا عاديٍّا ذا بوابة، وكان
هناك كوخ مراقبة لامع على أحد جانبَيها به نافذة ذات لوح متحرك مما يوحي بأنه مأوى
للبواب. قبل دخول المنزل مشينا في الشارع ثم انعطفنا داخل زقاق لننعطف مرة أخرى
ونمر بالجُزء الخلفي من المبنى؛ بينما كان دوبان في الوقت نفسِه يفحصالحيَّ بالكامل،
وكذلك المنزل، بانتباه دقيق للتفاصيل لم أرَ له هدفًا محتملًا.
بإعادة تتبع خطواتنا، رجعنا إلى مقدمة المنزل ودقَقْنا الجرسوأظهرنا أوراق اعتمادنا
ليسمح لنا ممثلو الشرطة بالدخول. صعدنا السلالم إلى حيث الغرفة التي عُثِر فيها على
جثة الآنسة ليسبانيه وحيث ما زالت الجثتان مستلقيتَين. كانت حالة الفوضى في الغرفة
لم تتغير كما هي العادة. لم أرَ شيئًا خلاف ما ذُكِر في جريدة المحاكم. كان دوبان يدقِّق
فحص كل شيء ولم يستثنِ جثتَي الضحيتَين. ثم ذهبنا إلى الغرف الأخرى وإلى الساحة
حيث كانشرطي يرافقنا خلال كل هذا. انشغلنا بالفحصحتى حلَّ الظلام لنعلن رحيلنا.
أثناء رجوعنا للمنزل، دخل رفيقي للحظات مكتب إحدى الصحف اليومية.
قلتُ من قبل إن أهواء رفيقي ونزواته كانت متعددة ومتنوعة؛ وكنتُ أتقبَّلها أيٍّا كانت.
كان مزاجه الحالي متركِّزًا على قصرالمحادثة على موضوع جريمة القتل حتى ظهر اليوم
التالي. ثم سألني فجأة إذا لاحظتُ أيَّشيء غريب في مسرح الجريمة الوحشية.
كان هناك شيء بخصوص تركيزه على كلمة غريب أثار القُشَعْريرة في جسدي دون
لا، لا يوجد أي شيء غريب. على الأقل، لا يوجد أكثر مما رأينا أنه ذُكِر في » : سبب. قلتُ
«. الجريدة
أخشى أن الجريدة لم تتطرق للرعب غير المعتاد الخاص بهذا الأمر؛ لكن تجاهَلِ »
الآراء الفارغة الواردة بها. يبدو لي أن هذا السر الغامض وراء الجريمتَين يُعتبر غير قابل
للحلِّ لنفسالسبب الذي يجب أن يجعلنا ننظر لحله كأمر سهل؛ وأقصد هنا غرابة سماته.
الشرطة مرتبكة بسبب غياب الدافع، ليس وراء الجريمة نفسها، بل وراء الوحشية التي
ارتُكِبَت بها. كما أنها محتارة كذلك بسبب الاستحالة الظاهرية في التوفيق بين الصوتَين
المتنازعَين، بالإضافة إلى حقيقة أنه لم يُكتَشَف أي شخص في الأعلى سوى جثة الآنسة
ليسبانيه، وأنه لم يوجد هناك أي وسيلة للخروج دون ملاحظة المجموعة الصاعدة للسلالم.
كانت الفوضىالمروِّعة للغرفة وحشر الجثة وتوجيه الرأس لأسفل داخل المدخنة والتمثيل
المخيف بجثة السيدة العجوز؛ كل هذه الاعتبارات، بالإضافة إلى ما ذكرته للتَّو، وأخرى
لا أحتاج لذكرها، كانت كافية لشلِّ قوى الشرطة عن طريق الإرباك الكامل لذكاء عملاء
الحكومة، والذي يُشَاد به. لقد وقعوا في الخطأ الشديد والشائع المتمثل في الخلط بين ما هو
غير معتاد وما هو غامض. لكن المنطق يتحسس طريقه أثناء بحثه عن الحقيقة بواسطة
هذه الانحرافات عما هو معتاد. وفي مثل التحقيقات التي نحن بصدد واحد منها، يجب ألا
في «؟ ماذا حدث لم يحدث من قبل » بقدر طرح السؤال «؟ ماذا حدث » يُطرَح كثيرًا السؤال
الواقع، إن الوسيلة التي سأتوصل بها، أو توصلت بها، لحلِّ هذا السرِّ الغامض يكمن في
«. النسبة المباشرة لاستحالة حلِّه ظاهريٍّا في نظر الشرطة
حدَّقت في محدِّثي باندهاش صامت.
أنا الآن في انتظار وصول شخصلا بد » : استمر قائلًا موجِّهًا نظره تجاه باب شقتنا
أنه كان متورطًا بنسبة ما في الجريمتَين رغم أنه ليس مرتكبها. من المحتمل أنه بريء من
ارتكاب أسوأ جزء في الجريمتَين. آمل أن أكون مصيبًا في افتراضيلأنني سأبني عليه توقعي
لقراءة اللغز بالكامل. أبحث عن هذا الرجل في هذه الغرفة كل لحظة. قد لا يصل حقٍّا
ولكن هناك احتمالًا أن يأتي. في حالة وصوله، سيكون من الضروري احتجازه. ها هي
«. المسدسات وكلانا يعرف كيف يستخدمها إذا ما دعت الحاجة لهذا
تناولت المسدسات مدركًا بصعوبة ما أفعل أو ما أعتقد أنني سمعته، في الوقت الذي
استمر فيه دوبان في الحديث كما لو كان يحدث نفسه. تحدثت سابقًا عن أسلوبه المتجرِّد في
مثل هذه الأوقات. كان حديثه موجهًا إليَّ لكن صوته، ورغم أنه لم يكن مرتفعًا، كان يمتلك
حدَّة كما لو كان يتحدث إلى شخصعلى مسافة بعيدة. أما عيناه، اللتان كانتا خاليتَين من
أيِّ تعبير، فقد كانتا موجهتَين إلى الحائط.
ثبت بالدليل بشكل قاطع أن الصوتَين المتنازعَين اللذين سمعهما من صعدوا » : قال
المنزل لم يصدرا من المرأتَين، وهذا يريحنا من الشكِّ الخاصِّبما إذا كانت السيدة العجوز
قد قتلت الفتاة أولًا ثم انتحرت. أتحدث عن هذه النقطة بشكل أساسي من أجل المنهج؛
لأن قوة السيدة ليسبانيه الجسدية غير مكافئة على الإطلاق للقوة المطلوبة لدفع جثة ابنتها
داخل المدخنة حيث وُجِدت؛ كما أن طبيعة الجروح على جسدها هي تستبعد تمامًا فكرة
الأذى الذاتي؛ لذا فإن جريمة القتل ارتكبها طرف ثالث، وكانت الأصوات الخاصة بهذا
الطرف هي ما سمعها الناس في حالة نزاع. دعنا لا نلتفت الآن إلى الشهادة الكاملة التي
تخص هذه الأصوات، بل لما هو غريب بشأن هذه الشهادات. هل لاحظت أي شيء غريب
«؟ بشأنها
لاحظت أنه في الوقت الذي وافق فيه كل الشهود على افتراضأن الصوت الأجش كان
لرجل فرنسي، كان هناك الكثير من الخلاف فيما يخصالصوت الحاد، أو كما سماه أحد
الأشخاصالصوت الخشن.
هذا هو الدليل نفسه، لكن الأمر لا يتعلق بغرابة الدليل. أنت لم تلاحظ » : قال دوبان
شيئًا خارجًا عن المعتاد. مع ذلك كان هناك ما يُمكن ملاحظته. كما تلاحظ فإن الشهود
اتفقوا بشكل كامل بشأن الصوت الأجش، وكانوا مجمعين على هذا. أما بالنسبة للصوت
الحاد، فإن ما هو غريب ليس أنهم اختلفوا بشأنه، بل إنه في الوقت الذي حاول فيه إيطالي
وإنجليزي وهولندي وإسباني وفرنسي وصفه، فإن كلٍّا منهم وصفه بأنه صوت أجنبي.
كل واحد منهم كان متأكدًا أن الصوت لا ينتمي لشخصمن بلده، ولم يشبِّهه بصوت فرد
من أي دولة يلم بلغتها. فالفرنسي افترض أنه صوت إسباني وربما ميَّز بعض الكلمات
التي يعرفها من اللغة الإسبانية. أما الهولندي فيؤكد أنه كان صوت رجل فرنسي، لكننا
نجد أنه من المذكور أنه لا يفهم الفرنسية لذا تم استجوابه بواسطة مترجم. أما الإنجليزي
فيظن أنه صوت رجل ألماني وهو لا يفهم الألمانية. أما الشاهد الإسباني فمتأكد أن الصوت
ينتمي لرجل إنجليزي لكنه يحكم على هذا بشكل كامل من خلال طريقة الحديث لأنه لا
يمتلك أي معرفة بالإنجليزية. ويؤمن الإيطالي بأنه صوت رجل روسي لكنه لم يتحدث مع
روسيمن قبلُ. علاوة على ذلك، هناك فرنسي آخر يختلف مع الفرنسي الأول وواثق من أن
الصوت يخصُّإيطاليٍّا، لكن وبسبب كونه غير ملم بالإيطالية، فإنه، مثل الإسباني، مقتنع
من خلال طريقة الحديث أنه شخص إيطالي. الآن، لا بد أن ذلك الصوت كان غير معتاد
بشكل غريب حتى تصدر بشأنه مثل هذه الشهادات، حتى إن طريقة الحديث جعلت أفرادًا
من أكبر خمس دول في أوروبا لا يستطيعون تمييز أي أمر مألوف بشأنه! ستقول لي إنه
ربما كان صوت شخصآسيوي أو أفريقي. باريس لا تعج بالآسيويين أو الأفريقيين، لكن
— ودون إنكار الاستنتاج — سأوجه انتباهك الآن إلى ثلاث نقاط فحسب؛ أولًا الصوت الذي
سمَّاه الشهود بصوت أجش بدلًا من حاد، يقول اثنان من الشهود إنه كان سريعًا وغير
«. منتظم، ولم يذكر الشهود سماع أي كلمات — أو أصوات تشبه الكلام — يمكن تمييزها
لا أدري أي انطباع تركته حتى الآن على تفكيرك، لكني لا أتردَّد في قول » : استمر دوبان
إن أي استنتاجات صحيحة حتى من هذا الجزء من الشهادات الخاصبالصوتَين الأجش
والحاد هي في حد ذاتها كافيةٌ لتوليد شكٍّ يجب أن يؤدي لتقدم شامل في التحقيق بشأن
غموضالجريمة. أقول استنتاجات صحيحة، لكنني لم أعبر عما أقصده تمامًا. كنتُ أقصد
التلميح إلى الاستنتاجات الوحيدة المناسبة، وأن الشكَّ يأتي لا محالة كنتيجة وحيدة. لكني
لمَّا أقل بعدُ ما هو وجه الشكِّ. أتمنى ألا تنسىأنه بالنسبة لي كان الشك إلزاميٍّا بشكل كافٍ
لإعطائي شكلًا محددًا، أو اتجاهًا بعينه لتحقيقاتي في الغرفة التي وقعت فيها الجريمة.
دعنا الآن ننتقل بخيالنا إلى تلك الغرفة. ما الذي سنبحث عنه أولًا؟ وسيلة هروب
القتلة. لن نبالغ لو قلنا: إن كلينا لا يؤمن بالأحداث الخارقة للطبيعة؛ فالأشباح لم تقتل
السيدة ليسبانيه وابنتها. مرتكبو الجريمة من لحم ودم وهربوا كما يهرب البشر. كيف
إذن؟ لحسن الحظ، لا يوجد إلا أسلوب استنتاج منطقي واحد حتى الآن، ويجب أن يقودنا
هذا الأسلوب لقرار حاسم. دعنا نحقق في وسائل الهروب واحدة واحدة. من الواضح أن
القتلة كانوا في الغرفة التي وُجِدت فيها الآنسة ليسبانيه، أو على الأقل في الغرفة المجاورة
عندما صعدت المجموعة السلالم. وهكذا يجب البحث عن مخارج في هاتين الغرفتين فقط.
فتشت الشرطة جميع الأرضيات والأسطح والحوائط في كل اتجاه. لم يغفلوا عن أي منافذ
سرية. لكن لعدم ثقتي في فحصهم، بحثت بشكل شخصي. لم يكن هناك كذلك أي منافذ
سرية. كان كلا البابين المؤدِّيَين من الغرفتَين إلى الممر مغلقَين بإحكام وكانت المفاتيح
بالداخل. دعنا نتجه إلى المداخن. على الرغم من أن هذه المداخن كانت ذات عرض معتاد
بنحو ثماني أو عشر أقدام فوق الموقد، فإنها لا تستوعب على طولها جسد قطة كبيرة؛ لذا
فإن استحالة الدخول على الإطلاق بالوسائل التي ذُكِرت للتَّوِّ تجعلنا لا نملك إلا النوافذ.
لم يكن يمكن الهروب من نوافذ الغرفة في مقدمة المنزل دون ملاحظة الحشد في الشارع.
لا بد أن القتلة هربوا إذن من خلال الغرفة الخلفية. الآن، وقد توصلنا لهذا بشكل واضح
لا لبس فيه، يجب علينا، كمنطقيين، عدم رفضه بسبب الاستحالة الظاهرية لحدوثه. ما
بقي أمامنا هو إثبات أن هذه الاستحالة الظاهرية في الواقع ليست مستحيلًا.
هناك نافذتان في الغرفة؛ إحداهما واضحة بالكامل ولا يعيق الأثاث الوصول إليها.
الجزء الأسفل من النافذة الأخرى مخفي عن الأعين برأس هيكل السرير الثقيل والذي
يلتصق بها تمامًا. وُجِدت النافذة الأولى محكمة الإغلاق من الداخل، وقاومت أقصىقدر من
القوة ممن حاولوا فتحها. كان هناك ثقب كبير مصنوع في الإطار الأيسر لها عُثِر داخله
على مسمار ضخمٍ جدٍّا، وقد أدُخِل بشكل ملائم حتى رأسه تقريبًا. بعد فحص النافذة
الأخرى، عُثِر على مسمار مشابه وقد وُضِع بالطريقة نفسها مما جعل محاولة رفع الإطار
بقوة تفشل أيضًا. كانت الشرطة الآن مقتنعة تمامًا أن الهروب لم يتم من النافذتَين؛ ولذا
وكجهد زائد عن المطلوب نُبذَت فكرة سحب المسامير وفتح النوافذ.
بشكل ما، كان فحصيأكثر تدقيقًا وكان هذا من أجل السبب الذيسردته للتَّوِّ؛ لأنني
كنت أدرك أنه كان يجب إثبات عدم صحة أي استحالة ظاهرية على أرضالواقع.
لذا استمررت في التفكير بناء على الاستنتاجات والدلائل. لقد هرب القتلة من إحدى
هاتَين النافذتَين، وبحدوث هذا، فإنهم سيكونون غير قادرين على إعادة إغلاق النوافذ من
الداخل كما وجدناها. وهو ما وضع حدٍّا لفحص الشرطة في هذا الجزء بسبب وضوحه.
لكن الإطارات كانت مغلقة؛ لذا لا بد أنها تمتلك القدرة على إغلاق نفسها. تقدَّمتُ نحو
النافذة التي لا يعيق الوصول إليها أي شيء وسحبت المسمار ببعض الصعوبة وحاولت
رفع إطارها، لكنه قاوم كل مجهوداتي كما توقعت. كنت أدرك أنه لا بد من وجود زنبرك
خفيٍّ في مكان ما، وعزَّز هذا فكرتي وأقنعني أن افتراضاتي صحيحةٌ على الأقل، على الرغم
من الغموضالمتعلق بالمسامير. بعد قليل كشف البحث الدقيق عن الزنبرك الخفي،ضغطته
لكي أرفع إطار النافذة وأنا سعيد باكتشافي.
خلعتُ المسمار وظللت أنظر له بانتباه. ربما أعاد شخصما خرج من النافذة إغلاقها،
وكان الزنبرك سيعود إلى موضعه لكن لا يمكن استبدال المسمار. كان الاستنتاج واضحًا
وبسيطًا وضيَّق مرة أخرى من مجال تحقيقاتي. فلا بد أن القتلة قد فروا من النافذة
الأخرى. إذا افترضنا إذن أن الزنبركات في كل إطار متشابهة، كما كان محتملًا، لا بد أن
هناك فرقًا بين المسامير أو على الأقل في أسلوب تثبيتها. صعدت لأقف فوق كيس الخيش
الذي يغطي هيكل السرير ونظرت من فوق لوحة رأس السرير إلى النافذة الأخرى بدقة.
مررت يدي لأسفل وراء اللوحة واكتشفت بالفعل الزنبرك الذي كان، كما افترضت، مشابهًا
للأول وضغطته. كنت أنظر الآن إلى المسمار، كان ضخمًا مثل الآخر وكان من الواضح أنه
ثُبِّت بالطريقة نفسها، حيث أدُخل حتى رأسه تقريبًا.
ستقول إنني ارتبكت، لكن إذا كنت تعتقد هذا، فلا بد أنك أسأت فهم طبيعة هذه
فأنا لم أفقد الرائحة .« موضع خطأ » الاستنتاجات. وباستخدام تعبير رياضي، فأنا لم أكن في
على الإطلاق، ولم يكن هناك خطأ في أي حلقة من السلسلة. لقد تتبعت السر حتى النتيجة
النهائية وكانت هي المسمار. لقد كان المسمار يمتلك المظهر الكامل للمسمار في النافذة
الأخرى، لكن هذه لم تكن الحقيقة مطلقًا (مهما كانت تبدو حقيقة قاطعة) عندما تُقَارن
بالاعتبار الذي قضىفي هذه اللحظة على مفتاح حل اللغز. قلتُ لنفسي إنه لا بد أن هناك
خطأً ما بشأن المسمار. لمسته ليخرج رأسه وحوالي ربع بوصة من ساقه في يدي، وظل ما
تبقى من ساق المسمار في الثقب حيث كُسِر. كان الكسر قديمًا لأن حوافه كانت مغطاة
بالصدأ ويبدو أنه كان نتيجة ضربة بمطرقة، والتي كانت مخبَّأة بشكل جزئي في أعلى
الإطار السفلي. أرجعت الجزء من رأس المسمار بحرصإلى الفجوة التي أخذته منها ليعود
ويشبه مسمارًا سليمًا حيث لا يُرَى الشرخ، ثم ضغطت الزنبرك ورفعت إطار النافذة برفق
بضع بوصات لترتفع رأس المسمار معه، بينما بقي المسمار نفسه ثابتًا في محله. أغلقت
النافذة ليرجع المظهر الخارجي للمسمار سليمًا بالكامل مرة أخرى.
حتى الآن، حُلَّ اللغز. لقد هرَب القاتل من خلال النافذة التي تطلُّ على السرير
والتي سقطت لتنغلق من تلقاء نفسها مرة أخرى بعد خروجه (أو ربما أغُلقت عن عمد)،
وأصبحت مُحكَمة الإغلاق بواسطة الزنبرك الذي خلطت الشرطة بين بقائه في مكانه وبقاء
المسمار، مما يجعل أي مزيد من التحقيق أمرًا غيرضروري.
السؤال التالي يتعلق بطريقة الهبوط. حتى هذه اللحظة، كنتُ راضيًا أثناء تجوُّلي معك
حول المبنى. على بعد حوالي خمس أقدام ونصف من النافذة التي نتحدث عنها، كان هناك
مانع صواعق. لا يمكن لأحد الوصول إلى النافذة بواسطة هذا القَضيب فَضلًا عن الدُّخول
منها. على الرغم من ذلك، لاحظتُ أن مصاريعَ الدور الرابع كانت من نوع مميَّز يسميه
نادرًا ما يستخدم حاليٍّا لكنه كان يستخدم بانتظام فيما مضىفي ،« فيراد » نجارو باريس
البيوت القديمة في بوردو وليون. تشبه هذه المصاريع بابًا عاديٍّا (مفردًا وليسقابلًا للطيِّ)
فيما عدا الجزء السفلي الذي يمتلك شرائط متقاطعة من المعدن أو ما يشبه التعريشة
المفتوحة، مما يوفر مكانًا مثاليٍّا للإمساك باليدين. في الوضع الحالي، يصل عرض هذه
المصاريع بالكامل إلى ثلاث أقدام ونصف. عندما رأيناها من مؤخِّرة المنزل، كانت نصف
مفتوحة مما يعني أنها كانت متعامدة على الحائط بزاوية قائمة. من المحتمل أن الشرطة،
وأنا كذلك، فحصنا مؤخرة المنزل، لكن، في هذه الحالة، فإن فحصهم هذه المصاريع طبقًا
لعرضها (كما لا بد أن فعلوا) لم يؤدِّ لإدراك هذا العرض الكبير، أو فشلوا على أي حال
في أخذه في الاعتبار المطلوب. في الحقيقة، فإنهم بمجرد اقتناعهم أنه لم يحدث أي هروب
من خلال هذا الجزء من المبنى، فإنهم سيجرون هنا بطبيعة الحال فحصًا سطحيٍّا جدٍّا.
لكن كان من الواضح بالنسبة لي أن مصراع النافذة التي تقع فوق رأس السرير يمكنه
أن يصبح على بعد قدمَين من مانع الصواعق إذا تأرجح بشكل كاملٍ نحو الحائط؛ لذا
كان من الواضح أيضًا، عن طريق بذل قدر غير عادي من الجهد والشجاعة، أن الدخول
من خلال النافذة حدث باستخدام مانع الصواعق؛ فعن طريق قطع مسافة قدمَين ونصف
(على افتراضأن المصراع الآن مفتوح على اتساعه)، ربما تمكن السارق من الإمساك جيدًا
بتعريشة النافذة، ثم بتركه للمصراع والإمساك بمانع الصواعق جيدًا ووضع قدمه بإحكام
قبالة الحائط ثم القفز بشجاعة، ربما تأرجح من المصراع تجاه النافذة كما لو كان يريد
إغلاقه؛ وإذا تخيلنا أن النافذة كانت مفتوحة في تلك اللحظة، فربما يكون قد تأرجح قاذفًا
بنفسه داخل الغرفة.
أتمنى ألا تنسى بشكل خاص أنني تحدثت عن درجة غير عادية من الجهد مطلوبة
للنجاح في تحقيق مثل هذه الخطوة الخطرة والصعبة جدٍّا. لكني أنوي أن أريك أولًا أنه
ربما أمكن تحقيق هذا؛ وثانيًا وبشكل خاصٍّ، فإني أريد أن أجعلك تفهم جيدًا الطبيعة
الاستثنائية أو الخارقة للطبيعة تقريبًا لخفة الحركة التي يمكن بها تحقيق هذا.
لا شك أنك ستقول، مستخدمًا لغة القانون، إنه لكي أبرهن على حقيقة ما أقول يجب
عليَّ تقليل قدر الجهد اللازم للقيام بهذا الأمر، بدلًا من الإصرار على تقديم تقدير كامل له.
ربما يكون هذا ما يتم في الممارسات القانونية، لكن ليس فيما يتعلق باستخدام المنطق؛
فهدفي النهائي هو الوصول للحقيقة فقط. إن غرضي المباشر هو دفعك للربط بين هذا
المجهود غير الطبيعي الذي تحدثت عنه للتَّوِّ والصوت الحاد (أو الخشن) الغريب جدٍّا وغير
المنتظم الذي لم يتفق أي شاهدَين بشأن جنسيته، والذي لم يمكن تمييز أي مقاطع لفظية
«. نطق بها
في تلك اللحظة، طاف بفكري تصوُّر مبهم وغير كامل عن المعنى الذي يقصده دوبان.
بدا كما لو كنتُ على وشك الفهم دون امتلاك القدرة على الفهم، فالرجال يجدون أنفسهم
أحيانًا على وشك تذكر شيء ما لكن في النهاية لا يقدرون على التذكر. استمر صديقي في
حديثه.
سترى أني نقلت المسألة من الحديث عن الخروج إلى الحديث عن الدخول إلى المنزل. »
كنتُ أقصد توصيل فكرة أن كليهما حدَث بنفسالطريقة وفي نفسالمكان. دعنا الآن ننتقل
إلى داخل الغرفة. لنلق نظرة عامة فيها. يُقال إن أدراج المنضدة قد نُهِبَت، رغم أن العديد
من قطع الملابس بقيت فيها. الاستنتاج هنا منافٍ للعقل؛ فهو مجرد تخمين — وتخمين
سخيف جدٍّا — لا أكثر. كيف لنا أن نعرف أن الملابس التي وُجِدَت في الأدراج لم تكن كل
ما تحويه الأدراج في الأساس؟ كانت السيدة ليسبانيه وابنتها تعيشان حياة انعزالية بشكل
زائد، فلم تكونا تقابلان أي شخص وكانتا نادرًا ما تخرجان وكانتا لا تحتاجان للعديد
من قطع الملابس. كانت الملابس التي وُجِدَت بجودة جيدة على الأقل مثل أي ملابس من
الممكن أن تمتلكها السيدتان. إذا أخذ سارق أيٍّا منها، لماذا لم يأخذ الأفضل؟ لماذا لم يأخذ
كلشيء؟ باختصار، لماذا ترك أربعة آلاف فرنك من الذهب ليعيق نفسه بكومة من قماش
الكتان؟ لقد تُرِك الذهب. اكتُشِف المبلغ الذي ذكره السيد مينيو، المصرفي، بالكامل تقريبًا
في حقائب على الأرض؛ لذا أتمنى أن تتجاهل الفكرة الخرقاء الخاصة بالدافع، التي نشأت
في تفكير الشرطة بسبب ذلك الجزء من الدليل الذي يتحدث عن إيصال مبلغ من المال إلى
باب المنزل. هناك صدف تفوق في غرابتها هذه (إيصال المال وحدوث جريمة القتل خلال
ثلاثة أيام في حق المستلم) بعشرات المرات تحدُث لنا جميعًا كل ساعة من حياتنا دون جذب
أي قدر من الانتباه اللحظي حتى. بشكل عام، فإن الصدف هي عقبات كبيرة في طريق
تلك الطبقة من المفكرين الذين لم يتعلَّموا شيئًا عن نظرية الاحتمالات، وهي النظرية التي
يدين لها أعظم غايات البحث الإنساني بأكثر النتائج روعة. في الوضع الراهن، إذا كان
الذهب قد اختفى، فإن حقيقة إيصاله قبل ثلاثة أيام كانت ستمثل شيئًا أكثر من مجرد
صدفة؛ كانت ستدعم فكرة الدافع. لكن في ظل الظروف الحقيقية للقضية، إذا افترضنا
أن الذهب هو الدافع وراء هذه الجريمة، يجب علينا أيضًا تخيُّل أن مرتكبها أحمق متردد
لدرجة تركه للذهب وتخليه عن الدافع بالمرة.
بتذكر النقاط التي جذبتُ انتباهك لها للتَّوِّ بشكل ثابت — الصوت الغريب وخفة
الحركة غير التقليدية والغياب المدهشوالمخيف للدافع في جريمة مروِّعة بشكل خاصٍّمثل
هذه — دعنا ننظر للطريقة البشعة التي ارتُكبت بها الجريمة. هناك امرأة خُنِقت حتى
الموت باليدين ثم دُفِعَت جثتها لأعلى داخل مدخنة وقد وُجِّهَ رأسها للأسفل. لا يستخدم
القتلة المعتادون مثل هذه الطرق في القتل. فيما يتعلق بدفع الجثة داخل المدخنة لأعلى،
يجب أن تعترف بأن هناك أمرًا شديد الغرابة؛ أمرًا مضادٍّا تمامًا لأفكارنا العامة عن الفعل
البشري حتى لو كان الفاعل من أكثر البشر انحرافًا. كذلك، فكِّر في مدى عظم القوة التي
يمكنها دفع جثة لأعلى داخل هذا المنفذ عنوة في الوقت الذي كانت فيه قوة العديد من
الأشخاصكافية بالكاد لتخرج الجثة!
الآن، انظر إلى الدلالات الأخرى التي تشير إلى استخدام أكبر قوة ممكنة. فوق الموقد،
كان هناك خصلات سميكة جدٍّا من شعر بشري رمادي. لقد نُزِعت هذه الخصلات من
جذورها. أنت تدرك إذن القوة العظيمة المطلوبة لنزع الشعر من الرأس حتى لو كانت
مجموعة من عشرين أو ثلاثين شعرة. لقد رأى كلانا خصلات الشعر التي نتحدث عنها. لقد
كانت جذورها تحمل كتلًا دموية متجلطة بأجزاء من فروة الرأس في منظر شنيع ودليل
أكيد على القوة الهائلة التي استُخدمت في نزع الجذور ما يصل ربما إلى نصف مليون
شعرة في كل مرة. لم يكن حَلْق السيدة العجوز مقطوعًا فقط، بل فُصِل رأسها تمامًا عن
جسدها وكانت الآلة المستخدمة مجرد شفرة موسى. أريدك أيضًا أن تتأمل في وحشية هذه
الأفعال وقسوتها، أنا لا أتحدث عن الرضوضوالسحجات على جسد السيدة ليسبانيه؛ أعلن
السيد دوما ومساعده المؤهل السيد إيتيان أن هذه الرضوضحدثت نتيجة لاستخدام أداة
ثقيلة، وحتى الآن هما على صواب. هذه الأداة الثقيلة من الواضح أنها حجارة رصيف من
الساحة التي سقطت فيها الضحية من النافذة التي تطلُّ على السرير. وهذه الفكرة رغم
بساطتها لم تخطر على بال الشرطة للسبب نفسه الذي لم يجعل فكرة عرض مصاريع
النافذة تخطر على بالهم، وهو أنه بسبب وضع المسامير، لم يطرأ على ذهنهم إمكانية فتح
النوافذ على الإطلاق.
الآن، بالإضافة إلى كل هذه الأشياء، إذا كنت تأملت في الفوضىغير المعتادة في الغرفة،
فإننا قد وصلنا لمزج الأفكار الخاصة بخفة الحركة المدهشة، والقوة الخارقة والوحشية
الغاشمة، والذبح دون دافع، والرعب الشاذ المنافي تمامًا للطبع الإنساني، والصوت الغريب
على آذان رجال من أمم عديدة، والمقاطع اللفظية العصيَّة على التمييز أو غير الواضحة.
«؟ إذن ما هي النتيجة التي توصلنا إليها؟ ما هو الانطباع الذي تركته على خيالك
رجل مجنون ارتكب هذه الجريمة. » : شعرت برعشة أثناء طرح دوبان للسؤال. قلتُ
«. مخبول يهذي هرب من مصحة عقلية مجاورة
فكرتك ليست بعيدة عن الصواب فيما يخصبعضالجوانب، لكن أصوات » : رد دوبان
المجانين، حتى في أعتى نوبات الجنون، لا تشبه الصوت الغريب الذي سُمِع أثناء صعود
سلم المنزل. ودائمًا ما تحوي لغة المجانين من أي دولة، رغم عدم ترابط كلماتها، مقاطعَ
لفظية يمكن تمييزها. علاوة على ذلك، فإن شعر أي مجنون لا يشبه الشعر الذي أمسكه
الآن في يدي. لقد حصلت على هذه الخصلة الصغيرة من الشعر من بين الأصابع المضمومة
«. بإحكام للسيدة ليسبانيه. أخبرني ما الذي يمكنك معرفته من خلالها
دوبان! هذا الشعر غير معتاد على الإطلاق. إنه » : ردَدْتُ وقد فقدت أعصابي تمامًا
«. ليس شعرًا بشريٍّا
لم أجزم بعد بهذا، لكن، قبل أن نقرر هذا، أريدك أن تلقي نظرة عابرة » : ردَّ قائلًا
على هذا الرسم التخطيطي الصغير الذي رسمته على هذه الورقة. إنه نسخة طبق الأصل
مما وُصِف في جزء من الشهادات برضوضسوداء وأخاديد عميقة ناتجة عن أظافر اليدين
على حلق الآنسة ليسبانيه، ووصف في شهادة أخرى (للسيدَين دوما وإيتيان) كسلسلة من
«. البقع المُزرَقَّة الناتجة بوضوح عن الضغط بالأصابع
سترى أن هذا الرسم يتيح » : استمر في حديثه بينما يفرد الورقة على الطاولة أمامنا
فكرة عن إمساك قوي وثابت ولا يوجد أي انزلاق واضح. لقد حافظ كل إصبع — حتى
موت الضحية — على انقباضمخيف أدى لانغراسه في مكانه في الأساس. حاول الآن وضع
«. كل أصابعك في الوقت نفسه، كلٌّ في المكان الخاصبه كما تراه
حاولت دون جدوى.
يبدو أننا لا نقوم بالأمر بالطريقة المناسبة؛ فالورقة مفرودة على سطح مستوٍ » : قال
بينما الحلق البشري أسطواني. هاك قضيبًا خشبيٍّا يشبه سطحه الحلق البشري، لف الرسم
«. حوله وحاول مرة أخرى
«. هذه ليست يدٌ بشرية » : فعلت ما قاله لكن الصعوبة كانت أكثر وضوحًا من قبل. قلتُ
«. اقرأ هذه الفقرة لكوفييه » : رد دوبان
كانت الفقرة تقدم سردًا تشريحيٍّا بشكل دقيق وتصويري بشكل عام لقردة إنسان
الغاب الضخمة الصهباء اللون التي تعيش في جزر الهند الشرقية. كانت الصفات الخاصة
بالجسم العملاق، والقوة والنشاط الهائلان والوحشية الغاشمة، والميل للتقليد لهذا النوع
من الثدييات؛ معروفة لدى الجميع بشكل كافٍ. لقد فهمت الأبعاد الكاملة للرعب المتعلق
بجريمة القتل فورًا.
وصف الأصابع يتطابق تمامًا مع هذا الرسم. لا أرى » : قلتُ وقد أنهيت قراءة الفقرة
أي حيوان قادر علىصنع هذه الثلمات والأخاديد كما رسمتَها إلا إنسان الغاب من الفصيلة
المذكورة. علاوة على ذلك، فإن هذه الخصلة من الشعر الأسمر المصفرِّ تطابق في طبيعتها
الحيوان الذي ذكره كوفييه. لكن لا يمكنني بأي حال إدراك تفاصيل هذا السر الغامض
المرعب. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك صوتان يتنازعان أحدهما كان صوت شخصفرنسي
«. بلا ريب
صحيح؛ وستتذكر كلمة نُسِبت بالإجماع تقريبًا لهذا الصوت بناء على الدليل وهي »
هذه الكلمة، في هذه الحالة، ميَّزها أحد الشهود بدقة وهو مونتاني، صانع .« يا إلهي » كلمة
الحلوى، كتعبير عن الاعتراض أو الاحتجاج؛ لذا، وبناء عليها، بنيت آمالي بشكل أساسي
على الوصول إلى حل كامل للغز. كان هناك شخصفرنسيمطَّلع على حدوث الجريمة، من
الممكن — بالتأكيد هو أكثر من مجرد احتمال — أنه كان بريئًا من المشاركة في المذبحة
الدامية التي حدثت. ربما كان إنسان الغاب قد هرب من قبضته. ربما تتبعه حتى وصل
إلى الغرفة، لكن في ظل الظروف المربكة الناتجة عن هذا، لم يكن بإمكانه القبضعلى القرد
مرة أخرى. ما زال القرد حرٍّا طليقًا. لن أواصل هذه التخمينات — لأني لا أملك الحق في
أن أطلق عليها أكثر من هذا — بسبب أن مختلف الأفكار التي قامت عليها ليست بالعمق
الكافي لتكون جديرة بالتقدير، ولأنني لا يمكنني التظاهر بجعلها مفهومة وواضحة لتفكير
الآخرين؛ لذا نسميها تخمينات ونتحدث عنها في هذا الضوء. إذا كان الرجل الفرنسي الذي
نتحدث عنه بريئًا بالفعل، كما أفترض، من هذه المذبحة، فإن هذا الإعلان الذي تركته ليلة
أمس فور عودتنا إلى المنزل في مكتب صحيفة لوموند (وهي صحيفة مكرسة لأمور الشحن
«. البحري ويسعى البحَّارة بشكل كبير لقراءتها) سيقوده إلى مسكننا
ناولني دوبان ورقة وقرأت فيها ما يلي:
مقبوض عليه. في غابة بولونيا في وقت مبكِّر من صباح … (صباح يوم الجريمة)، »
إنسان غاب ضخم جدٍّا وأصهب اللون من جزيرة بورنيو. يمكن للمالك (الذي تم التأكد
من أنه بحَّار يعمل على متن سفينة مالطية) الحصول على الحيوان مرة أخرى بعد تقديم
مواصفات كافية له، ودفع بعضالتكاليف الناتجة عن القبضعليه والاحتفاظ به. اتصل
«. برقم … شارع … حي فوبورج سان جيرمان، الطابق الثالث
«؟ كيف أمكنك أن تعرف أن الرجل بحَّار يعمل في سفينة مالطية » : سألته
لا أعرف. ولستُ متأكدًا من هذا. على الرغم من ذلك، إليك هذه القطعة الصغيرة من »
شريط قماشي، والتي يبدو من شكلها ومظهرها الملوث بالشحم أنها استخدمت بوضوح
في ربط الشعر على هيئة واحدة من الضفائر الطويلة التي يحبها البحَّارة بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العقدة واحدة من العقد التي لا يستطيع الكثيرون باستثناء
البحَّارة صنعها ولا يستخدمها إلا سكان مالطا. لقد وجدت هذا الشريط عند قاعدة مانع
الصواعق، لا يمكن أن يكون ملكًا لأيٍّ من المتوفاتَين. الآن، لو كنتُ أنا مخطئًا بعد كل هذا
في استنتاجي، بسبب شريط القماش، بأن الرجل الفرنسي بحَّار يعمل في سفينة مالطية،
ما زلت لم أحدث أيضرر بقول ما قلتُه في الإعلان. إذا كنتُ مخطئًا، فلن يفترض سوى
أنني أخطأت بسبب ملابسة ما لن يكلف نفسه مشقة التحقيق فيها. لكن إذا كنتُ على
صواب، فسنكون قد فزنا بنقطة كبرى. بوجوده في مسرح الجريمة أثناء حدوثها — رغم
براءته من ارتكابها — سيتردد الرجل الفرنسي بطبيعة الحال قبل الردِّ على الإعلان وطلب
القرد الخاصبه. سيقول لنفسه: أنا بريء وفقير وقردي ذو قيمة كبيرة ويمثل في حد ذاته
ثروة لشخص في مثل ظروفي، لماذا يجب أن أخسره بسبب مخاوف لا معنى لها؟ ها هو
في قبضتي. لقد عُثِر عليه في غابة بولونيا على مسافة كبيرة من موقع المذبحة، كيف يمكن
أن يشكَّ الناس في أن وحشًا غاشمًا قام بها؟ الشرطة هي المخطئة فقد فشلت في الوصول
لأصغر دليل ممكن. حتى لو تتبعوا الحيوان، فسيكون من المستحيل إثبات أنني شهدت
وقوع المذبحة أو توريطي في الذنب بسبب هذا؛ فقبل كلشيء، أنا معروف. والإعلان ينص
على أنني مالك الوحش. لستُ متأكدًا من مدى معرفته. إذا تجنبت كشف امتلاكي لشيء
بهذه القيمة العظيمة، والمعروف امتلاكي له، فسأجعل الحيوان عرضة للشكوك على الأقل.
ليس في نيتي جذب الانتباه لي أو للوحش. سأردُّ على الإعلان وأحصل على القرد وأخبِّئه
«. حتى يهدأ الأمر
في تلك اللحظة، سمعنا وقع أقدام على السلالم.
«. كن مستعدٍّا بالمسدسات، لكن لا تستخدمها أو تظهرها إلا بإشارة مني » : قال دوبان
كان الباب الأمامي للمنزل قد تُرِك مفتوحًا لذا دخل القادم دون أن يرن الجرس
وصعد عدة درجات من السلَّم. على الرغم من ذلك، بدا أنه متردد. ثم سمعناه ينزل السلم.
تحرك دوبان بسرعة تجاه الباب في الوقت الذي سمعناه فيه يعيدصعود السلم مرة أخرى.
لم يتردد ثانية لكنه كان يصعد بعزم وطرق باب غرفتنا.
«. ادخل » : ردَّ دوبان بنبرة مرحة وودودة
دخل من الباب رجل من الواضح أنه بحَّار، حيث كان طويلًا ومتينًا ذا جسم مليء
بالعضلات ويعلو وجهه تعبير تهور وجرأة غير منفر في المُطلق. كان وجهه قد لفحته
الشمس بشكل كبير وبه شارب يغطي أكثر من نصفه. كان يحمل معه هراوة ضخمة من
خشب البلوط لكنه لم يحمل أي شيء آخر كسلاح. انحنى بشكل أخرق ثم حيانا بتحية
المساء بلهجة فرنسية كانت تشير بشكل ما إلى أنه من شمال فرنسا، رغم أنها كشفت
بشكل كافٍ أصله الباريسي.
اجلس يا صديقي. أفترض أنك أتيت بشأن قرد إنسان الغاب. قسمًا » : قال دوبان
بشرفي، أنا أحسدك بشكل كبير بسبب امتلاكك لهذا الحيوان الرائع والقيِّم جدٍّا بلا شك. كم
«؟ تفترضعمره
سحب الرجل نفسًا عميقًا كما لو كان قد أزاح حملًا لا يُحتَمل من فوق عاتقه، ثم ردَّ
بصوت واثق:
لا أستطيع معرفة هذا لكنه لا يمكن أن يكون أكبر من أربع أو خمس سنوات. هل »
«؟ تمتلكه هنا
لا، لا نملك وسائل مناسبة للحفاظ عليه هنا. إنه في إسطبل خيول في شارع دوبورج »
«؟ المجاور لنا. يمكنك الحصول عليه في الصباح. أنت مستعد بالطبع للتعرُّفعلى ما يخصك
«. كن متأكدًا من هذا يا سيدي »
«. سيحزنني فراقه »
لا أنوي أن أجعلك تتحمل كل هذا العناء بلا مقابل يا سيدي. لم أكن أتوقع العثور »
«. عليه. أنا مستعد بشكل تام لدفع مكافأة مقابل العثور عليه. أيشيء يمكن القيام به
حسنًا، كل هذا مناسب جدٍّا بالتأكيد. دعني أفكر! ما الذي يجب عليَّ » : ردَّ دوبان
الحصول عليه؟ سأخبرك! مكافأتي هي أن تخبرني بكل ما تعرفه عن الجريمتَين اللتَين
«. حدثتا في شارع مورج
قال دوبان جملته الأخيرة بصوت خفيض جدٍّا وبهدوء شديد. وبالمثل، سار بهدوء
نحو الباب وأغلقه ووضع المفتاح في جيبه. ثم أخرج مسدسًا من جيب صدره ووضعه على
الطاولة بأقل قدر ممكن من الجلبة.
تغير وجه البحَّار كما لو كان يقاوم الاختناق. نهض على قدميه وقبض على الهراوة
لكنه عاد ليسقط مرة أخرى على الكرسي وبدأ يرتجف بعنف وقد بدا وجهه كما لو كان
على وشك الاحتضار. لم ينطق بكلمة. وأشفقت عليه من أعماق قلبي.
أنت تخيفنفسك بلا سبب في الواقع ياصديقي؛ فنحن » : قال دوبان بصوت متعاطف
لا ننوي إيذاءك بأي شكل ممكن. أتعهد لك بشرف رجل نبيل فرنسي، أننا لا ننوي إيذاءك.
أنا أدرك تمامًا أنك بريء من ارتكاب الجريمتَين الوحشيتَين في شارع مورج، لكن هذا
لا ينفي أنك متورط بشكل ما. يجب أن تعلم مما قلتُه للتَّوِّ أنني أمتلك وسائل للحصول على
معلومات تخصهذا الأمر، وسائل لم تحلم بها؛ لذا فالأمر الآن كالآتي: أنت لم تفعل شيئًا
يمكنك تفاديه؛ لا يوجد أي شيء بالفعل يجعلك ملومًا. أنت غير مذنب حتى بالسرقة في
الوقت الذي كان يمكنك فيه ارتكابها والإفلات من العقوبة. لا يوجد لديك ما تخفيه، وليس
لديك أسباب لهذا. على الجانب الآخر، تلزمك مبادئ الشرف بأن تعترف بكل ما تعرفه.
«. هناك رجلٌ بريء مسجون الآن، ومتهم بجريمة يمكنك الكشف عن مرتكبها الحقيقي
استعاد البحار حضور الذهن بشكل كبير بينما كان دوبان يتحدث، لكن الجرأة التي
كانت تعلو وجهه اختفت تمامًا.
ليساعدني الرب، سأخبرك بكل ما أعرفه بشأن هذا الأمر، لكني » : صمت هنيهة ثم قال
لا أتوقع أن تصدق نصف ما سأقول. سأكون مغفلًا لو كنت أعتقد هذا. مع ذلك، أنا بريء
«. وسأعترف بكلشيء حتى لو مت نتيجة هذا
تمثَّل ما قاله، بشكل أساسي، فيما يلي: كان قد قام مؤخرًا بالإبحار إلى الأرخبيل
الهندي. هبطت مجموعة كان هو أحد أفرادها في جزيرة بورنيو وتوغَّلوا في الجزيرة في
نزهة غرضها الاستمتاع، وقام ورفيقه بأسر قرد من قردة إنسان الغاب. لكن رفيقه مات
مما جعل القرد ملكه بالكامل. بعد متاعب كبرى نتجت عن وحشية وشراسة القرد أثناء
رحلة العودة، نجح في النهاية في إيوائه في مسكنه الخاص في باريس حيث لن يجذب
الفضول غير المرغوب فيه من الجيران، وحافظ عليه منعزلًا بعناية حتى يتعافى من جرح
في قدمه حدث بسبب شظية على متن السفينة. كان هدفه في النهاية هو بيع القرد.
وبعد عودته من جلسة سمر مع البحارة ليلة حدوث الجريمة، أو صباحها بالأحرى،
وجد الوحش يجلس في غرفة نومه، حيث كان قد حرَّر نفسه من خزانة مجاورة كان قد
حجزه فيها بأمان حسبما ظن. كان القرد يمسك بشفرة موسى في يده ومغطى بالكامل
برغوة الصابون، وكان يجلس أمام مرآة محاولًا تقليد عملية حلاقة الذقن التي لا شك أنه
رأى سيده يقوم بها من خلال ثقب مفتاح الخزانة. انتاب الرجل الرعب لدى رؤيته سلاحًا
خطيرًا للغاية في حوزة حيوان شرس للغاية وقادر على استخدامه بمهارة، وحار للحظات
فيما يجب فعله، لكنه اعتاد على أن يهدئ الوحش حتى في أعتى نوبات هياجه بالسوط
وهو ما لجأ له تلك اللحظة. فور رؤيته له اندفع القرد من فوره خارجًا من باب الغرفة
هابطًا السلالم ثم خرج من نافذة كانت مفتوحة، لسوء الحظ، إلى الشارع.
تبعه البحار الفرنسيفي يأسبينما كان القرد الذي ما زال يحمل الموسىفي يده يتوقف
من آنٍ لآخر وينظر إلى الوراء ويومئ إلى مطارده حتى شارفالأخير على الوصول إليه. لكن
القرد انطلق مرة أخرى. استمرت المطاردة بهذا الشكل لفترة طويلة. كانت الشوارع هادئة
إلى أبعد حدٍّ، حيث كانت الساعة الثالثة صباحًا. وأثناء مروره بزقاق خلف شارع مورج،
لفت نظر القرد الهارب ضوء ينبعث من نافذة مفتوحة لغرفة مدام ليسبانيه في الدور
الرابع من منزلها. لمح القرد مانع الصواعق أثناء اندفاعه نحو المنزل وتعلَّق به بخفة حركة
لا تُصدَّق وأمسك بمصراع النافذة، الذي كان مفرودًا على آخره قبالة الحائط، وبواسطته،
تأرجح مباشرة تجاه لوحة رأس السرير. استغرق كل هذا أقل من دقيقة. ثم ركل القرد
المصراع مرة أخرى لينفتح على آخره بينما دخل الغرفة.
في ذلك الوقت، كان البحَّار مبتهجًا ومرتبكًا في الآن نفسه. كان يأمل بشكل كبير في
القبضعلى الوحشحيث إنه يمكنه بالكاد الهروب الآن من المصيدة التي دخلها إلا بالتعلُّق
بمانع الصواعق والذي يمكنه اعتراض طريقه أثناء نزوله. على الجانب الآخر، كان هناك
سبب لقدر كبير من القلق بشأن ما سيُحدِثه القرد داخل المنزل. دفعت الفكرة الأخيرة
الرجل للحاق بالقرد الهارب. لا يمثل تسلق مانع الصواعق مشكلة، خاصة لبحَّار، لكن
بمجرد أن وصل لمستوى النافذة التي تقع على مسافة كبيرة على يساره، توقفت مسيرته
وكان أقصىما استطاع القيام به هو مد رأسه ليرى لمحة من داخل الغرفة. لكن تلك اللمحة
جعلته على وشك السقوط من مكانه من فرط الرعب. وفي تلك اللحظة، بدأت الصرخات
المروِّعة في تبديد صمت الليل وإيقاظ سكان شارع مورج من نومهم مفزوعين. كانت
السيدة ليسبانيه وابنتها في ثياب النوم وكانتا مشغولتَين فيما يبدو في ترتيب بعضالأوراق
في الصندوق الحديدي الذي ذُكِر بالفعل ودُفِع إلى منتصف الغرفة. كان الصندوق مفتوحًا
ومحتوياته قد طُرِحت أرضًا. لا بد أن الضحيتَين كانتا تجلسان وظهرَاهما تجاه النافذة،
وبحساب الوقت الذي انقضىبين دخول الوحشوصدور الصرخات، يبدو أنهما لم تلاحظا
وجوده على الفور. يمكن أن يُنسَب صوت تحرك المصراع إلى الرياح بطبيعة الحال.
بينما كان البحَّار ينظر إلى ما يحدث داخل الغرفة، أمسك الحيوان العملاق بالسيدة
ليسبانيه من شعرها (والذي كان حرٍّا حيث كانت تمشطه) بينما أخذ يلوح بالموسى في
وجهها مقلدًا حركات الحلاق. بقيت الابنة منبطحة وتجمدت مكانها، ثم أغُمي عليها.
أدتصرخات ومقاومة المرأة العجوز (أثناء نزع القرد لشعر رأسها) إلى تغيير حالة القرد
المسالمة إلى الغضب الشديد، وبحركة حازمة من ذراعه العضلية القوية، فصل رأسها تقريبًا
عن جسدها؛ أدى منظر الدماء إلى تحول غضبه إلى جنون؛ فاتجه وهو يصربأسنانه والنار
تومض من عينيه، بسرعة نحو جسد الابنة وغرس مخالبه المرعبة في حلقها وظل ممسكًا
به حتى لفظت أنفاسها. اتجهت نظراته الهائمة الوحشية في تلك اللحظة إلى رأس السرير
حيث انعكس عليه، بشكل قابل للتمييز فورًا، وجه سيده الذي تجمَّد من الرعب. تحول
غضب الوحش، الذي كان بلا شك يتذكر السوط المروِّع، إلى خوف في الحال. بإدراكه أنه
يستحق العقاب، بدا راغبًا في إخفاء أفعاله الدموية وظل يتقافز في أنحاء الغرفة في حالة
من الهياج المنفعل محطمًا الأثاث وراميًا به أثناء حركته، ثم جرَّ الفراشمن هيكل السرير.
في النهاية، حمل القرد أولًا جثة الابنة ثم دفعها لأعلى داخل المدخنة، حيث وُجِدت، ثم حمل
جثة السيدة العجوز وقذفها فورًا من النافذة دون تردُّد.
بينما يقترب القرد من النافذة بحمله المشوَّه، انكمش البحَّار من الرعب ممسكًا بمانع
الصواعق، ثم انزلق نازلًا وهُرِع إلى المنزل من فوره فَزِعًا من عواقب المذبحة ومتخلِّيًا بكل
سعادة، خلال شعوره بالرعب، عن عبء التفكير في مصير إنسان الغاب. وكانت الكلمات
التي سمعتها المجموعة الصاعدة لسلم المنزل هي تعبيرات من البحَّار الفرنسي عن الرعب
والخوف مختلطة بالصخب المتوحش للقرد.
ليس لديَّ ما أضيفه. لا بد أن القرد هرب من الغرفة بواسطة مانع الصواعق قبل
اقتحام المجموعة للباب فورًا. ولا بد أنه أغلق النافذة أثناء مروره من خلالها. فيما بعد،
أمسك البحَّار بالقرد وباعه إلى حديقة النباتات مقابل مبلغ ضخم جدٍّا. وأطُلِق سراح
لو دون فورًا بعدسردنا للأحداث (وبعضالتعليقات من دوبان) في مكتب رئيس الشرطة.
ورغم أنه كان متعاطفًا مع صديقي، فإنه لم يستطع إخفاء ضيقه بشكل تامٍّ من الطريقة
التي تمت بها الأمور، وسخر مرة أو مرتين بشأن التدخل في أمور الآخرين.
دعه يتحدث. » : قال دوبان الذي لم يظن أنه من الضروري الردُّ على رئيس الشرطة
فسيريح هذا ضميره. أنا سعيد بهزيمتي له في ملعبه. مع ذلك، فإن فشله في حلِّ غموض
الجريمة لا يعني أنها مسألة مثيرة للعجب كما يفترض؛ لأن صديقنا رئيس الشرطة في
الحقيقة ماكر جدٍّا إلى درجة تمنعه من التفكير بالعمق الكافي. فهو لا يمتلك أي خيال؛
رأس فارغ مثل صور الإلهة لافيرنا أو في أفضل الأحوال كرأس سمكة القد. لكنه شخص
جيد في النهاية، ويروق لي بشكل خاصٍّبسبب القدرة البارعة على الرياء التي اكتسب بها
سمعته في البراعة والدهاء؛ وأعني هنا الطريقة التي يملكها في إنكار ما حدث، وإعطاء
«. تفسير لشيء لم يحدث
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.