«! لا أصُدِّق عينيَّ » : صاح في دَهشةٍ قائلًا
فعلًا، لقد كنتَ تسير على أطراف أصابِعك أمام غُرفةٍ فارغة خلال » : فأجبتُه قائلًا
«. الأسبوعين الماضيين؛ والآنَ إذا أتيتَ معي يا بودجرز، فسأرُيك كيفيَّةَ القِيام بالخدعة
أغلقتُ الباب مرةً أخرى عندما دخل غرفة المكتب، وقدتُ رئيس الخدَم المُزيَّف، الذي
كان لا يزال يسير على أطراف أصابعه بِحُكم العادة أعلى الدَّرَج إلى غرفة النوم العُلوية، ثم
خارجها مرَّةً أخرى، تارِكَين كلَّ شيءٍ كما كان تمامًا. نزلْنا عبر الَّدرَج الرئيسي إلى الرَّدهة
الأمامية، وهناك أتاني بودجرز برِزْمةِ الصحف التي طلبتُها وهي مُغلَّفةً بإحكام. أخذتُ
الرِّزْمة إلى شقَّتي، وأعطيتُ أحد مُساعديَّ بعضالتعليمات وتركتُه يعمل على الصحف.
أخذتُ عربة أجرة إلى نهاية طريق كورت توتنهام ومَشيتُ عبر الشَّارِع وُصولًا إلى مَتجر
بعد التَّحديق في نوافِذ العرض المُكتظَّة لبعض الوقت، .« جيه سيمبسون » الغرائب القديم
تنحيتُ جانبًا بعد أن اخترتُ صليبًا صغيرًا مصنوعًا من الحديد كان معروضًا خلف اللَّوح
الزُّجاجي، وكان يبدو أنه مِن صُنع أحد الحِرَفِيِّين القُدامى.
علمتُ على الفَور من وَصف بودجرز أنَّ من كان في استقبالي هو الكاتِب المُحتَرَم
الحقيقي الذي يُحضِرحقيبةَ النُّقود كلَّ ليلةٍ إلى بارك لين، والذي كنتُ مُتأكِّدًا من أنه هو
رالف سمرتريز نفسه.
لم يكن في أسلوبه شيءٌ يَختلِف عن أسلوب أيِّ بائعٍ هادئ آخر. كان سِعر الصليب
سبعةَ شلنات وستة بنسات، فأخرجتُ عُملةً ذهبيَّة لأدفَع ثمنه.
فأجبتُ دون «؟ هل تُمانِع لو أعطيتُك الباقي كلَّه عُملاتٍ فِضيَّة يا سيدي » : سألني
إبداء أيِّ لهفة، على الرغم من أنَّ سُؤاله قد أثار بِداخِلي شُكوكًا كانت قد بدأت تَقِلُّ شيئًا
فشيئًا:
«. لا، على الإطلاق »
أعطاني نصف كراون، وثلاثَ قِطَعٍ معدِنية من فِئة الشِّلِنَين، وأربعة شلنات مُنفصِلة،
وكانت جميعها عُملاتٍ فضيَّةً بالِيَةً مِن كثرة الاستِخدام، وهي بلا شكٍّ المُنتَج الخالي من
أيِّ شكلٍ فنِّي جَمالي لدار سَكِّ النقود البريطانية الشهيرة. بدا في ذلك ما يَدحَضُ النظريَّة
القائلة إنَّه يتخلَّص من النقود غير الشرعية. سألني إن كنتُ مُهتمٍّا بفرعٍ مُعيَّنٍ من فُروع
التُّحَف القديمة، وأجبتُه أنَّ فُضولي مُجرَّد فضولٍ عامٍّ لهاوٍ يَفتقِر إلى الخِبرة. عندئذٍ دَعاني
لأُلقِيَ نظرةً على المكان، وهو ما شرعتُ فيه فعلًا، بينما استأنفَ هو عَنونةَ ودَمْغ بعضٍ
من الكُتيِّبات المُغَلَّفة التي خَمَّنْتُ أنها نُسَخٌ من قائمة سِلَعِهِ.
لم يُحاوِل مُراقَبَتي ولا الضغط عليَّ لشِراء بضاعته. اخترتُ عشوائيٍّا مَحبرَةً صغيرة
وسألتُ عن سِعرِها، فقال إنه شِلِنَان، فأخرجتُ قِطعةَ الخمسة الشلنات المُزيَّفة التي كانت
معي. فأخذَها وأعطاني الباقي دُون أن ينبِس بِبِنت شَفة، لتتلاشى بذلك آخِرُ ذرَّةِ شكٍّ
كانت لديَّ حول صِلته بِمُزيِّفي العُملات.
في هذه اللحظة، دخل شابٌّ أدركتُ على الفَور أنه ليس زبونًا، وسار بسرعةٍ إلى آخِر
المَتْجر واختفى خلفَ حاجِزٍ لم يكن يَحتوي سوى على لَوحٍ زُجاجيٍّ واحدٍ يُواجِهُ الباب
الأمامي.
ثُم تَبِع الشابَّ إلى مكتبه الخاص. ،« اسمح لي بلَحظات » : قال صاحِب المتجر
بينما كنتُ أفحص المجموعة الغريبة غير المُتجانِسة من السِّلع المعروضة، سمعتُ
صرير العُملات المعدنية وهي تُفَرَّغ على السطح الخشبيِّ لأحد المكاتب أو على طاولةٍ غير
مُغطَّاة، وتَسلَّلَتْ إلى مسامِعي أصوات هَمهمة. كنتُ أقِف بالقُرب من مَدخل المتجر، وبخفَّة
يَدٍ أخذتُ مِفتاح الباب الأمامي دُون صوت وأنا أرمُق بجانِب عيني اللَّوحَ الزجاجي للمكتَب
الخاصِّوطبعتُ نسخةً من الِمفتاح على قطعةِ شمعٍ ثُمَّ أعدتُه إلى مكانه مرةً أخرى خِلسة.
في هذه اللحظة دخل شابُّ آخر ومرَّ أمامي مُتَّجهًا نحو المكتب الخاص، وسمعتُه يقول:
«؟ أوه، أستميحُك عُذرًا يا سيد سيمبسون. كيف حالك يا روجرز »
وخرج بعد ذلك وتمنَّى ليلةً سعيدة للسيد ،« مرحبًا، ماكفيرسون » : حيَّاه روجرز قائلًا
ماكفيرسون، وغادر المتجَر إلى الشارع وهو يصفر، ولكنَّه كرَّرَ العِبارة نفسها مرَّةً أخرى
وهو يُحيِّي شابٍّا آخَرَ دعاه تيريل، كان قد دخل المتجر في وقت مُغادَرَته نفسه.
دَوَّنتُ هذه الأسماء في عقلي. دخل اثنان آخران، ولكنَّني اضطُرِرتُ إلى الاكتفاء بحِفظ
ملامِحِهما؛ إذ لم أعرف اسمَيهما. كان واضحًا أنهما مُحصِّلا أموال؛ إذ سمعتُ صرير
العُملات في كلِّ حقيبة؛ في حين أنَّ المتجَر كان صغيرًا، لا يبيع سوى القليل، ولأكثر من
نصف ساعةٍ قضيتُها داخل المتجر، كنتُ أنا الزبون الوحيد. لو كانت ثَمَّةَ ثِقةٌ كافِية بينهم،
لكان مُحصِّلٌ واحِد كافيًا بالتأكيد، إلَّا أنَّ خمسة آخرين دخلوا المتجر وأفرغوا عُملاتهم فوق
الكَومة التي يُفتَرضأن يأخذها سمرتريز معه إلى المنزل في تلك الليلة.
عزمتُ أن آخُذَ واحدًا من الكُتيِّبات التي كان يُعنوِنها البائع. كانت مُكدَّسة فوق رفٍّ
خلفَ طاولة البيع، ولكنَّني لم أجِد صعوبةً في أنْ أمُدَّ يدي وآخذ الكُتيِّب الأول الذي دَسستُه
في جيبي. عندما خرج الرجل الخامسمن المتجر مُتوجهًا إلى الشارع، ظهر سمرتريز نفسه،
وكان يحمِل في يده هذه المرة الحقيبة الجِلدية المملوءة بالمال وكانت أحزِمَتها مُتدلية. كانت
الساعة الآن تقترِب من الخامسة والنِّصف، ورأيتُ أنه كان مُتلهِّفًا لإغلاق المَتجَر والذَّهاب.
«؟ هل أعجبَك أيُّشيءٍ آخر يا سيدي » : سألني قائلًا
لا، أو بالأحرى لا ونعم؛ لديك مجموعة مُثيرة للاهتمام هنا، ولكن الظلام يحلُّ حتى »
«. إنَّني لا أستطيع الرؤية جيدًا
«. أنا أغُلِق المتجر في الخامسة والنصف يا سيدي »
أوه، في هذه الحالة سيكون من دواعي سُروري أن أمرَّ » : قلتُ وأنا أتفحَّص ساعتي
«. بِك في وقتٍ آخر
وهَممتُ بالرحيل. «. شُكرًا لك سيدي » : ردَّ سمرتريز بهدوءٍ قائلًا
من ناصِيَة زقاقٍ على الجانب الآخر من الشارع، رأيتُه وهو يُغلق مِصراع النافذة
بيديه، ثُمَّ ظهر مُرتديًا مِعطفًا وحقيبة المال الجِلديَّة تتدلَّى من فوق كَتِفه. أغلق الباب
ودفعه بأصابعه ليتأكد أنه قد أغُلِق جيدًا، ثم مشى في الشارع حاملًا تحت إحدى ذِراعيه
الكُتيِّبات التي كان يُعنونها. تَبِعتُه من بُعدٍ ورأيتُه وهو يرمي الكُتيِّبات في صندوق أول
مَكتب بريد مرَّ به، ثُمَّ سار مُسرعًا نحوَ منزله في بارك لين.
عندما عدتُ إلى شقَّتي واستدعيتُ مُساعِدي، قال:
بعدما استبعدتُ الإعلانات العاديَّة للأقراص والصابون وما إلى ذلك، وجدتُ شيئًا »
واحِدًا مُشتركًا بين جميع الصحف الصبَّاحية والمسائية على حدٍّ سواء. لقد وجدتُ أنَّ
الإعلانات ليست مُتطابِقة يا سيدي، ولكنها تشترِك في شَيئَين، أو ربما ثلاثة أشياء لأكون
دقيقًا؛ كلها تَدَّعي تقديم علاجٍ لشُرود الذِّهن، وكلها تتطلَّب أن يُوضِّح المُتقدِّمون هوايَتهم
«. الأساسية، وكلها تحمِل العنوان نفسه: دكتور ويلوبي، طريق توتنهام كورت
شكرتُه بينما كان يَضَع قُصاصات الإعلانات أمامي.
قرأتُ العديد من الإعلانات وكانت جميعها صغيرة، وربما لذلك لم ألحَظ أيٍّا منها في
الصحف، وقد كانت بلا شكٍّ غريبةً بما يكفي. فقد طَلَبَ البعض منها قوائم بالأشخاص
الذين يُعانون منشُرود الذِّهن، وهوايات كلِّ واحدٍ منهم، ولقاء هذه القوائم سَتُقدَّم جوائز
بداية من شِلنٍ واحدٍ إلى ستة شلنات. وفي قُصاصاتٍ أخرى، ادَّعى دكتور ويلوبي أنه
قادِر على علاج شُرود الذهن. لم تكن ثَمَّةَ رُسوم ولا علاج، بل كُتيِّب سيُرسَل إلى المُهتمين،
إذا لم يَستفِد منه من تلقَّاه، فهو على الأقلِّ لن يَضُرَّه. لن يتمكن الطبيب من مُقابلة
المرضىشخصيٍّا، ولا يُمكِنه أن يتبادل المُراسَلات معهم. وكان العنوان الموضَّح هو نفس
عنوان متجر الغرائب القديم في طريق توتنهام كورت. عند هذه النُّقطة، أخرجتُ الكُتيِّب
من تأليف دكتور ستامفورد ،« العلم المسيحي وشُرود الذهن » من جيبي ووجدتُه بعنوان
ويلوبي، وكانت العبارة نفسها الوارِدة في الإعلانات مَوجودة في نِهاية المقال: دكتور ويلوبي
لن يرى المرضىولن يتبادَل المُراسَلات معهم.
سحبتُ ورقةً نحوي وكتبتُ إلى الدكتور ويلوبي زاعِمًا أنَّني رجلٌ يُعاني من شُرود
الذهن الشديد، وأنَّني سأكون سَعيدًا بتلقِّي كُتيِّبه، مُضيفًا أن هُوايَتي هي جمع الطَّبعات
ألبورت ويبستر، شقق إمبريال، لندن، المنطقة البريدية » : الأولى، ثم وقَّعتُ تحت اسم وعنوان
«. الغربية
يُمكِنُني توضيح الأمر هنا بأنه غالِبًا ما يكون من الضروري بالنِّسبة إليَّ استِخدام
أسماء أخرى غير اسمي المعروف، يوجين فالمونت. يُوجَد بابان لشقَّتي، مكتوب على واحدٍ
بينما مُثبَّتٌ على الآخر حامِل زُجاجي مُفرَّغ يمكن أن يُوضَع فيه ؛« يوجين فالمونت » منهما
لَوح زجاجي مُنزَلِق يحمِل أيَّ اسمٍ مُستعار أختاره. تُوجَد الحوامِل الزُّجاجية نفسها في
الطابق الأرضي، حيث تُوجَد قائمة بأسماء جميع شاغلي المبنى مُعلَّقة على الحائط الأيمن.
أغلقتُ الخِطاب وعَنْونتُه وخَتمتُه، ثم أخبرتُ مُساعِدي أن يَضَع على اللَّوح الزُّجاجي
وأن يُحدِّد مَوعد زيارةٍ أخرى إذا حدث وأتى أيُّ شخصٍ ،« ألبورت ويبستر » بالباب اسم
لزيارة هذا الرجل الوَهميِّ ولم أكن مَوجودًا حينئذٍ.
كانت الساعة السادِسة تقريبًا من عصراليوم التالي عندما أرسَل أنجوسماكفيرسون
بطاقته إلى السيد ألبورت ويبستر. تعرَّفتُ على هذا الشاب على الفَور بِوصفِه الشابَّ الثاني
الذي دخل المتجر الصغير البارِحة حامِلًا مُساهمَتَه النقدية إلى السيد سيمبسون. كان
يحمِل تحت ذِراعه ثلاثة مُجلَّدات، وكان يتحدَّث بأسلوبٍ لطيفٍ دَمِث لا يخلو من التَّملُّق
نَوعًا ما، فعرفتُ على الفَور أنه كان ماهرًا في مِهنة الترويج للسِّلَع التي كان يشتغلها.
«؟ لتجلس يا سيد ماكفيرسون، كيف يُمكِنُني مُساعدتك »
وضَعَ المُجَلَّدات الثلاثة وظهرُها إلى أعلى على طاولتي.
«؟ هل أنت مُهتَمٌّ بالإصدارات الأولى يا سيد ويبستر »
إنه الشيءُ الوحيد الذي أهتمُّ به؛ ولكن لسوء الحظ، غالبًا ما تتكلَّف » : أجبتُ قائلًا
«. الكثير من المال
هذا حقيقي، ولديَّ هنا ثلاثة كُتب، واحدٌ منها هو مِثال » : قال ماكفيرسون في تعاطُف
على ما تقول؛ إذ تبلُغ تكلِفَته مائة جنيه. آخر نُسخةٍ بِيعت بالمزاد في لندن كانت تكلفتُها
مائةً وثلاثةً وعشرين جُنيهًا. أما تكلفة الكتاب الثاني فتبلُغ أربعين جنيهًا، والثالث عشرة
جُنيهات. أنا واثِقٌ أنك لن تَجِد نظيرًا لهذه الكُنوز الثلاثة في أيِّ متجر بَيع كُتُب في بريطانيا
«. بهذه الأسعار
تفحَّصتُها بدقَّة، لأدُرِك على الفَور أنَّ ما يقوله صحيح. كان لا يزال واقفًا على الجانب
الآخر من الطاولة.
اجلس أرجوك يا سيد ماكفيرسون. هل تَعني أنك تَجوب لندن حامِلًا تحت ذِراعك »
«؟ بضاعةً بِقِيمة مائة وخمسين جنيهًا بهذا الاستهتار
ضحك الشاب.
المخاطر شِبْهُ مَعدومة يا سيد ويبستر. أعتقد أنَّ أيَّ شخصٍ أقُابِله سيَتخيَّل أنَّ »
المُجلَّدات الثلاثة التي أحمِلُها تحت ذِراعي ما هي إلَّا كُتب رخيصة اشتريتُها لقاء ثمنٍ زهيدٍ
«. لا يَتجاوَز أربعة بنسات فقط
تأمَّلتُ المُجلَّد الذي طلَب لقاءَهُ مائة جُنيه، ثم قلتُ وأنا أنظُر إليه عبر الطاولة:
«؟ كيف آل إليك هذا الكِتاب مثلًا »
التفَتَ إليَّ بأسارير صافِيةٍ غير مُتحفِّظة وأجاب دُون تردُّدٍ وبأقصى قدْرٍ مُمكِن من
الصراحة قائلًا:
في الواقع أنا لا أمتلِكُه يا سيد ويبستر. أنا خبير في الكُتُب النادِرة والقَيِّمة، وإن كنتُ »
بالطبع لا أملك سوى القليل من المال، فلا يُمكِنني شراؤها. غير أنَّني على دِرايةٍ بِمُحبِّي
الكُتب المطلوبة في مُختلِف أنحاء لندن. هذه المُجلَّدات الثلاثة، على سبيل المثال، من مكتبة
زبونٍ خاصٍّ في ويست إند، كان يرغب في بيعِها لِقاء ثمن يُضاهي قِيمَتَها الحقيقية، وقد
تفضَّل بالسَّماح لي بإجراء المفاوضات. لقد اتخذتُ من اكتِشافمن يَهتمُّون بالكُتب النادِرة
«. عملًا لي، وبهذه المُقايَضة أزِيد من دَخلي إلى حدٍّ كبير
«؟ كيف عرفتَ على سبيل المثال أنني مُحبٌّ للكتُب »
ضحِك السيد ماكفيرسون بحرارة.
حسنًا يا سيد ويبستر لا بد أن أعترِف أنه كان من قَبيل الصُّدفة. أفعل ذلك في »
الكثير من الأحيان، أمرُّ بشقةٍ كهذه مثلًا، وأرُسِل بطاقتي للاسم الموجود على الباب؛ فإذا
هل أنت مُهتمٌّ بالإصدارات » : دَعاني الشخصلزيارته، أسألُه السؤال الذي سألتُك إياه الآن
إذا كان جَوابه بالنفي، أعتذِر منه وأغادِر، وإذا جاء بالإيجاب، أعرِض عليه «؟ النادِرة
«. بِضاعتي
يا له من لَبِقٍ كاذِب صغير، بوجهِه البريء هذا! ولكن السؤال «. فهمت » : أومأتُ قائلًا
الذي طرحتُه تاليًا هو ما كشَفَ الحقيقة.
بما أنَّ هذه هي المرَّة الأولى التي تزورُني فيها يا سيد ماكفيرسون، فلن تُمانع، كما »
أظنُّ، أن أطرَح عليك سؤالًا آخر. هل تُمانع إخباري باسم صاحِب هذه الكُتب في ويست
«؟ إند
«. اسمه السيِّد رالف سمرتريز من بارك لين »
«. من بارك لين؟ آه، بالطبع »
سأكون مسرورًا بأن أترُك الكُتب معك يا سيد ويبستر، وإذا كُنتَ مُهتمٍّا بتحديد »
«. مِيعادٍ مع السيد سمرتريز، فأنا مُتأكد من أنه لن يَتوانى عن تأييد ما قُلتُه
«. أوه، أنا لا أشكُّ في ذلك، ولا أرغَب في إزعاج هذا السيِّد المحترَم »
كنتُ سأخُبِرك أنَّ لي صديقًا مَيسور الحال، يَدعمُني نوعًا ما؛ » : أردفَ الشابُّ قائلًا
فأنا كما أخبرتُك، لا أملك سوى القليل من المال. غالبًا ما أجِد أنَّ دفْع مبلغٍ كبير من المال
يكون غير مُناسِبٍ بالنِّسبة إلى الناس. ولكنَّني عندما أعقِد صفقة، يشتري صديقي الثريُّ
الكتاب، بينما أتَّفِقُ مع زُبوني أن يَدفع مَبلغًا مُحدَّدًا كلَّ أسبوع، وبالتالي لا يَشعر بأنه قد
دفع مبلغًا كبيرًا حتى لو كانت السِّلعة مُرتفعة السِّعر، إذ إنَّني أقَُسِّط المبلغَ على دفعاتٍ
«. صغيرة بما يكفي لتُناسِب زبوني
«؟ أنت تعمل خلال النهار كما أعتقِد. أليس كذلك »
«. بلى، أنا كاتِب في المنطقة التجارية في لندن »
ها نحن أولاء نعود إلى عالم الخيال البهيج!
لنفترِض أنَّني اشتريتُ هذا الكتاب لقاء عشرة جنيهات، فما المبلغ الذي يتعيَّن عليَّ »
«؟ دَفعُه كلَّ أسبوع
«؟ أوه، كما ترغَبُ يا سيدي؛ هل خمسةُ شِلنات مبلغ كبير »
«. لا أعتقد ذلك »
حسنًا، إذا دفعتَ لي خمسة شلنات الآن يا سيدي، سأترُك الكِتاب معك، وسيُسعِدني »
«. أن أمرَّ عليك في اليوم نفسه من الأسبوع القادِم للحصول على الدفعة التالية
وضعتُ يدي في جَيبي وأخرجتُ عُملتَين نِصف كراون وأعطيتُه إياهما.
«؟ هل أحتاجُ لتَوقيع أيِّ استمارةٍ أو تعهُّدٍ بدفْع الباقي من المبلغ »
ضحك الشابُّ بود.
أوه، لا يا سيدي، ليس هناك أيضرورة للرسميَّات. كما ترى يا سيدي، فأنا أقوم »
بهذا العمل بدافع الحُب، وإن كنتُ لا أنُكِر أنَّني أفكِّر في المستقبل. أحُاول تكوين شبكةٍ
من العلاقات مع الرِّجال المحترَمين أمثالك من المُولَعين بالكُتب، وأثِق أنَّني في يومٍ من الأيام
سأكون قادِرًا على الاستقالة من شركة التأمين وتأسيس عملٍ خاص صغير من اختياري
«. يُمكِنني فيه استغلال مَعرِفَتي بالأعمال الأدبية القَيِّمة
وبعد ذلك دَوَّنَ مُلاحظةً في دفترٍ صغير أخرَجه من جَيبه ثم ودَّعَني بلَباقةٍ وغادَر،
تاركًا إيَّاي مُستغرقًا في التفكير مُحاوِلًا فَهْم كلِّ ما حدث.
في صباح اليوم التالي، استلمتُ مقالَتَين. الأولى عبر البريد، وكانت عبارة عن كُتيِّبٍ عن
تُشبِه تمامًا ذلك الكُتيِّب الذي أخذتُه من مَتجر الغرائب ،« العِلم المسيحي وشُرود الذِّهن »
القديم. أما الثانية فكانت عبارة عن مِفتاحصغيرصُنِع من النُّسخة الشَّمعيَّة التيصنعتُها
لفتح الباب الأمامي للمَتجر؛ وقد صنعه أحد أصدقائي الرائعين من الفوضويين في شارعٍ
مَجهول بالقُرب من هولبورن.
في تلك الليلة في العاشرة مساءً كنتُ داخل مَتجر الغرائب القديم، أحمل بطَّارية تخزين
صغيرةً في جيبي، ومصباحًا كهربائيٍّا صغيرًا في عُروة سُترتي، وهو أداة مُفيدة للغاية سواء
للُّصوصأو للمُحقِّقين.
توقعتُ أن أجِدَ كُتب المتجر في خِزانة، وإذا كانت شبيهة بالخِزانة الموجودة في بارك
لين، فسأكون إذن مُستعدٍّا لفتحها بالمفتاح الزائِف الذي في حَوزتي، أو طبْع نُسخةٍ من
ثُقب المفتاح وأعهد إلى صديقي الفَوضوِي ببقيَّة الأمر. ولكن لدَهْشتي، اكتشفتُ أنَّ جميع
الأوراق المُتعلِّقة بالأمر موجودة في مكتبٍ لم يكن حتى مُقفَلًا. كانت الكتُب الثلاثة الموجودة
هي دفتر المبيعات اليوميَّة التقليدي، ودفتر يوميَّات، ودفتر حسابات المتجر؛ وهو النَّمَط
القديم لنِظام مسك الدفاتر. ولكنَّني وجدتُ في ملفٍّ سِتٍّا من أوراق الفولسكاب مُعنوَنة:
وهي الأسماء ،« قائمة السيد تيريل » ،« قائمة السيد ماكفيرسون » ،« قائمة السيد روجرز »
التي كنتُ أعرفها بالفعل، بالإضافة إلى ثلاثةٍ آخرين. احتوَتْ هذه القوائم على الأسماء في
العمود الأول، والعناوين في الثاني، والمَبالِغ المالية في الثالث؛ تَبِعها في الخانات الصغيرة
مَبالغ تبدأ من نصف كراون إلى جُنيه. في أسفل قائمة ماكفيرسون وجدتُ اسم ألبورت
ويبستر، شقق إمبيريال، عشرة جُنيهات، ثم خانة، ثم خمسة شلنات. كان من الواضِح أنَّ
هذه الوَرَقات الستَّ التي يَعلوها اسم كلِّ مُروِّج سِلعٍ هي سِجلَّات لمجموعة السلع الحالية،
وبدا الأمر برمَّته بريئًا على نحوٍ جلي، حتى إنه لولا القاعدة الثابتة التي أومن بها بألَّا
أعتقِد أنَّني قد وصلتُ إلى حلِّ القضيَّة حتى أصادِف شيئًا مُريبًا، لخرجت من المتجر خاليَ
الوِفاضتمامًا كما دخلتُه.
كانت الوَرَقات الستُّ مُنفصلة دُون ربطٍ داخل حافِظة رفيعة، ولكن ثمة خمسة
مجلَّدات ضخمة على الرفِّ الموجود فوق المكتب. أنزلتُ واحدةً منها ووجدتُ أنها تحتوي
على قوائم مُشابهة تعود لعدَّة سنوات ماضية. لاحظتُ على قائمة السيد ماكفيرسون الحالية
اسم اللورد سيمبتام، وهو عجوزٌ من النُّبلاء كنتُ أعرفه معرفةً طفيفة. انتقلتُ بعد ذلك
إلى القائمة التي تَسبِق القائمة الحالية مُباشرةً وكان الاسم لا يزال موجودًا. بحثتُ عنه في
قائمة تلوَ الأخرى حتى وجدتُ المُدخَلَ الأول الذي دُوِّن فيه اسمه قبل ثلاث سنواتٍ ماضية
أمام قِطعةٍ من الأثاث ثمنُها خمسين جُنيهًا، كان يدفع لقائها جنيهًا كلَّ أسبوعٍ لأكثر من
ثلاثِ سنوات، بمجموع مائةٍ وسبعين جنيهًا على الأقل، وفي الحال تجلَّت البساطة الرائعة
للمَكيدة أمام عينيَّ وصرتُ شديد الاهتِمام بعمليَّة الاحتيال هذه، حتى إنَّني أضأتُ مصباح
الغاز خَوفًا من أن يُستنفَد مِصباحي الصغير قبل أن أنتهيَ من بحثي، الذي توقَّعتُ أن
يكون طويلًا.
في العديد من الحالات، كانت الضحيَّة المُستهدَفة تُثبِت أنها أذكى مما كان يظنُّ
على الخطِّ نفسه الذي يحمل الاسم عند «. دُفِعَ بالكامل » سيمبسون العجوز، وكان مكتوبًا
استيفاء جميع الأقساط. ولكن عندما انسحب الضحايا الأذكياء، حلَّ محلَّهم آخرون، وكان
يبدو اعتماد سيمبسون على شُرود ذِهنهم وَجيهًا في تِسع حالاتٍ من أصل عشر؛ إذ كان
مُحصِّلوه يَستمرُّون في تحصيل الأموال حتى بعد سداد الدَّين بفترةٍ طويلة. في حالة اللورد
سيمبتام، صارت عمليَّة دفع المال مُستديمة على نحوٍ واضح؛ إذ ظلَّ العجوز يدفع جنيهًا
كلَّ أسبوع إلى السيد ماكفيرسون الدَّمِث بعد سنتَين من سداد دَينِه.
أخذتُ الورَقة المُفكَّكة التي تَرجِع إلى عام ١٨٩٣ من الملفِّ الضخم، والتي سجَّلتْ
شراء اللورد سيمبتام لطاولةٍ مَنقوشةٍ مُقابل خمسين جنيهًا، ظلَّ يدفع لقاءها جنيهًا كلَّ
أسبوع منذ ذلك الوقت حتى الوقت الذي أكتُب فيه الآن، أي نوفمبر ١٨٩٦ . فإذا أخذتُ هذه
الورقة الوحيدة من الملف الذي يعود لثلاث سنواتٍ مَضَت، فلن يُلحظ الأمر على الأرجح،
على العَكس من لو أخذتُ ورقةً حديثة. ومع ذلك، فقد صنعتُ نسخةً من أسماء عُملاء
ماكفيرسون الحاليِّين وعناوينهم، ثمَّ وضعتُ كلَّ شيءٍ كما كان بِعناية، وأطفأتُ مِصباح
الغاز وخرجتُ من المَتجَر وأغلقتُ الباب خلفي. بوجود الوَرَقة التي تعود إلى عام ١٨٩٣
في جيبي، قررتُ أن أحُضِّر مفاجأةً صغيرة سارَّةً لصديقي اللطيف ماكفيرسون عندما
يَزورُني للحصول على قِسط الخمسة الشلنات التالي.
على الرَّغم من وُصولي في ساعةٍ مُتأخِّرة لميدان ترافالجار، لم أستطِع أن أحرِم نفسي
من مُتعة الاتصال بالسيد سبنسرهيل، الذي كنتُ أعرِف أنَّه لا يزال يَعمل حتى هذا الوقت
المتأخِّر. لم يكن يبدو في أفضل حالاته أبدًا خلال ساعات العمل؛ إذ كان الروتين الحكومي
يُقوِّضُهيئته القويَّة الشُّجاعة. كان في داخله مُنبهرًا بأهميَّة مَنصِبه، كما لم يكن مسموحًا
له بتدخين غليونه الأسود الكبير وتَبْغِه البَشِع. استقبلَني بالفظاظة التي اعتدتُ توقُّعها
عندما كنتُ أفرِضوجودي عليه في مكتبه. حيَّاني بخشونةٍ قائلًا:
«؟ أفُكرُ يا فالمونت فيما هي المُدَّة التي تتوقَّع أن تقضيها في هذه المهمَّة »
«؟ أيُّ مُهمَّة » : أجبتُ بلُطف
«. أوه، أنت تعرِف ما أعنيه؛ قضية سمرتريز »
أوه، تلك القضية! لقد انتهيتُ فِعلًا من قضيَّة سمرتريز. لو كنتُ » : صحتُ بدهشة
أعلم أنَّك في عجلةٍ من أمرك، لانتهيتُ من كلِّ شيءٍ البارِحة، ولكن بما أنك أنت وبودجرز
وأنا، ولا أعلم كم شخصًا آخر، نعمل على هذه القضيَّة منذ ستَّة عشر أو سبعة عشر يومًا،
إن لم يكن أكثر، فقد فكرتُ في المغامرة باغتِنام كلِّ ما يُمكِنُني اغتِنامه من وقتٍ لأنني أعمل
«. بِمُفرَدي تمامًا؛ فأنت لم تقُل أيَّشيءٍ عن إتمام العملسريعًا
أوه، بربك يا فالمونت، هذه مُبالَغة كبيرة. هل تقصِد أن تقول إنك قد حصلتَ بالفعل »
«؟ على دليلٍ يُدينه
«. أدلَّة قاطِعة وكامِلة »
«؟ من هم مُزيِّفو العُملات إذن »
كم مرَّةً أخبرتُك يا صديقي المُبجَّل ألا تقفِز إلى استنتاجات؟ لقد أخبرتُك عندما »
تحدَّثتَ معي أول مرَّة عن الأمر أن سمرتريز ليس مُزيِّفَ عُملات ولاشريكًا لمُزيِّفي عُملات.
ولكنَّني حصلتُ على أدلَّةٍ كافِية تُدينه بارتِكاب جريمةٍ أخرى، ربما تكون فريدةً من نَوعِها
في سجلَّات الجرائم. لقد حللتُ لُغز المتجر الغريب، واكتشفتُ السبب وراء كلِّ تلك الأعمال
المشبوهة التي قادَتْك لاقتِفاء أثرِه كما ينبغي. والآن أريدُك أن تأتي إلى شقَّتي مساء الأربعاء
«. القادِم في السادسة إلَّا الرُّبع وأنت على أهُبة الاستعداد لإلقاء القبضعليه
«. لا بد أن أعرِف بأيِّ صِفةٍ سأقوم بعمليَّة احتِجازٍ وبأيِّ تُهمة »
أنت مُحِقٌّ تمامًا ياصديقي هيل؛ لم أقُل إنك ستقوم بعمليَّة احتجاز، بل حذَّرتُك فقط »
لتكون مُستعدٍّا. إذا كان لديك الوقتُ الآن للاستِماع إلى ما اكتشفتُه، فأنا في خِدمتك. أعِدُك
بأنَّ بعضسِمات القضية غريبة ومُثيرة للجدَل. أما لو كان الوقتُ غيرَ مُناسِب الآن، فلتمرَّ
بي في الوقتِ الذي يناسِبُك واتَّصِل بي هاتفيٍّا قبل أن تأتي لتَعرِف إذا ما كنتُ موجودًا أم
«. لا؛ حتى لا تُهدِر وقتك الثمين هباءً
اختتمتُ كلامي بانحناءةٍ شديدةِ الدَّماثة، وعلى الرَّغم من أنَّ تعبير وجهِهِ الحائر كانَ
يُشير إلى أنه يشكُّ في أنَّني أمُازِحه، كما كان يقول دَومًا، فقد تلاشى عنه وَقار الرسميَّات
إلى حدٍّ ما، وأعلَن عن رغبتِه في سَماع كلِّ شيءٍ عن الأمر بالتَّفصيل في التوِّ واللحظة. لقد
نجحْتُ في إثارة فُضول صديقي هيل. أنصَتَ إلى الدَّليل وحاجِبُه مَرفوع في حيرة، وأخيرًا
هتفَ بقوَّةٍ قائلًا إنه محظوظ.
سيزورُني هذا الشابُّ في السادِسة من بعد ظُهر يَوم الأربعاء » : قلتُ مُختتمًا حديثي
ليَحصُل على دُفعته الثانية من الخمسة الشلنات. أقترِح أن تكون جالِسًا معي في استِقباله
حينئذٍ مُرتديًا زِيَّك الرسمي؛ فأنا أتوقُ لتفرُّسمَلامِح السيد ماكفيرسون حينما يُدرِك أنَّه قد
اقتِيد لمواجهةشُرطي. وإذا شئت، فلتسمَح لي بعد ذلك باستجوابه لبِضع لحَظاتٍ بالأسلوب
الحرِّ والسهل الذي نتَّبِعه في باريس، وليسبطريقة سكوتلانديارد التَّحذيرية حتى لا يُدين
«. نفسه، ثم سأحيل القضيَّة إليك للتَّعامُل معها كما تشاء
يا لجزالة لِسانك يا سيد فالمونت. سأكون مُستعدٍّا في السادسة » : أثنى عليَّ سبنسرقائلًا
«. إلَّا الربع يوم الأربعاء
في هذه الأثناء، رجاءً لا تُخبر أيَّ شخصٍعن الأمر. لا بُدَّ أن نُرتِّب مُفاجأةً » : أجبتُه قائلًا
كامِلةً لماكفيرسون؛ هذاضروري. رجاءً لا تتَّخِذ أيَّ إجراءٍ في هذه المسألة على الإطلاق حتى
«. مساء الأربعاء
أومأ سبنسر هيل مُذعنًا بانبهارٍ شديد، واستأذنتُه بأدبٍ ورحلت.
تُعتبَر الإضاءة مسألةً مُهمَّة في غرفةٍ كغرفتي، وتوافُر الكهرباء فُرصة جيِّدة لاستغلال ذلك
بذكاء، وقد استَغْللتُ هذه الحقائق الاستغلال الأقصى. يمكنني التَّلاعُب في إضاءة غرفتي
بحيث تكون أيُّ بُقعةٍ فيها مُبهِرة الإضاءة، بينما تظلُّ باقي المساحة المحيطة مُظلِمة
بالنسبة لها. في مساء ذلك الأربعاء، جهَّزتُ المصابيح بحيث تكون قوَّةُ أشعَّتها كاملةً
مُوجَّهةً نحو الباب، بينما جلستُ على أحد جوانِب الطاولة في ظلامٍ شِبه كامل، وجلَس
هيل على الجانب الآخر والضوء مُسلَّط عليه من الأعلى، وهو ما أعطاه مَظهرًا غريبًا وكأنَّه
مَنحوتة حيَّةٌ لتمثال العدالة، بملامِحِه الدَّالَّة على الصَّرامة والانتِصار. كان من شأن أيِّ
شخصٍأن يَنبهِر بالضوء حال دُخوله الغرفة، ثم يرى هيئة هيل الضخمة وهو يرتدي زِيَّه
الرَّسميَّ كاملًا.
عندما دخل أنجوس ماكفيرسون إلى الغرفة، بدا جَليٍّا أنه قد تفاجأ، فتوقَّف فجأةً
عند عتبة الباب مُثبِّتًا نظرَه على الشرطيِّ الضخم. أظنُّ أنَّ رد فعله الأول كان أن يَستدِير
ويهرُب، إلَّا أنَّ الباب أغُلِق من خلفه، وقد سمع بلا شكٍّ، كما سَمِعنا جميعًا، صوتَ اندفاع
مِزلاجِ الباب وهو يُقفَل ليصير ماكفيرسون محبوسًا بالداخل.
«. أ… أستميحُك عُذرًا، كنتُ أتوقَّع مُقابلة السيد ويبستر » : تلعْثَم قائلًا
بينما كان يقول ماكفيرسون هذه العبارة، ضغطتُ على زرٍّ أسفل طاولتي، فَسُلِّطَ
الضوء عليَّ في الحال وأحاطبي من كلِّ جانب. ارتسمَت ابتسامةٌ واهِيةٌ على وجه ماكفيرسون
عندما رآني، وقام بِمُحاولةٍ جديرة بالتَّصديق للتَّعامُل مع الموقِف برباطَةِ جأشٍ ولا مُبالاة.
«. أوه، ها أنتَ ذا يا سيد ويبستر؛ لم ألحَظْك في البداية »
كانت لحظةً عمَّ فيها التوتُّر. تحدثتُ ببطءٍ وعلى نحوٍ يُثير الإعجاب قائلًا:
«. سيِّدي، ربما لا تكون على علمٍ باسم يوجين فالمونت »
ردَّ بوقاحةٍ قائلًا:
«. يؤسِفُني أن أقول يا سيِّدي إنَّني لم أسمَع باسم هذا السيد من قبل »
أطلقَ سبنسر هيل الأبلَه ضحكةً عاليَةً تُشبِه صهيل الحصان جاءت في غير وقتها،
مُفسِدًا الموقفَ الدِّراميَّ الذي حضَّرتُ له بعد تفكيرٍ وعناية شديدَين. لا عجَبَ في أنَّ الإنجليز
ليس لديهم أيُّ دراما؛ فهم يُظهِرون تقديرًا ضئيلًا للَّحظات المُهمَّة في الحياة.
نهَقَ سبنسر هيل ضاحِكًا، مُحوِّلًا الجوَّ الدِّراميَّ المشحون في الحال إلى جوٍّ عاديٍّ
للغاية. ولكن ماذا على المرء أن يفعَل في مُواجَهةِ مِثل هذه المواقف؟ لا عليه سوى التَّعامُل
مع الأدوات التي حباه لله بها. تجاهلتُ ضحكةَ هيل غير الملائمة.
هكذا قلتُ لماكفيرسون وأطاعَني. «. اجلس يا سيدي »
«. لقد زُرْتَ اللورد سيمبتام هذا الأسبوع » : واصلتُ حديثي مُتجهِّمًا قائلًا
«. أجل يا سيِّدي »
«؟ وأخذتَ منه جُنيهًا »
«. أجل يا سيدي »
لقد بِعتَ للُّورد سيمبتام في أكتوبر عام ١٨٩٣ طاولةً قديمة منقوشةً لقاء خمسين »
«؟ جُنيهًا. أليس كذلك
«. هذا صحيح تمامًا يا سيِّدي »
عندما كُنتَ هنا الأسبوع الماضي، أخبرتَني باسم رالف سمرتريز بوصفِه سيِّدًا يعيش »
«؟ في بارك لين. هل كنتَ تعلمُ في ذلك الوقت أنَّ هذا الرجل هو ربُّ عملك
كان ماكفيرسون ينظُر إليَّ دون أن تَطرِف عيناه، ولم يَردَّ على سؤالي، فواصلتُ قائلًا
بهدوء:
وكنتَ تعلم أيضًا أن سمرتريز الذي يعيشفي بارك لين هو نفسه سيمبسون صاحِب »
«؟ المتجر الكائن في طريق توتنهام كورت. أليس كذلك
حسنًا يا سيِّدي، لا أعلم ما تقصِده بالضَّبط من حديثك هذا، ولكن » : رد ماكفيرسون
من المُعتاد تمامًا أن يُزاول الشَّخصنشاطًا تجاريٍّا تحت اسمٍ مُستعار؛ لا يُوجَد ما يُخالِف
«. القانون في ذلك
سآتي على ذِكر مُخالَفة القانون بعد لحظاتٍ يا سيد ماكفيرسون. أنت وروجرز »
«. وتيريل وثلاثة آخرونشركاء لهذا المدعو سيمبسون
«. أجل، نحن نعمَل لديه يا سيِّدي، ولكنَّنا لسنا سوى مُجرَّد مُوظَّفين »
أعتقِد يا سيد ماكفيرسون أنني قد قلتُ ما يكفي لأوضِّح لك أن اللُّعبة قد انتهت، »
كما تقولون. أنت الآن في حضرة السيد سبنسرهيل من سكوتلانديارد، والذي ينتظِر سماع
«. اعترافِك
وهنا اندفَع هيل الغبيُّ قائلًا:
«… وتذكَّر يا سيِّدي أنَّ أيَّشيءٍ ستقوله »
مَعذِرة، سيِّد هيل، سأحُيل القضيَّة لك بعد لحظاتٍ قليلة، ولكنَّني » : قاطعتُه سريعًا
أطلبُ منك أن تتذكَّر اتفاقنا، وأن تترُك الأمر كُلَّه حاليٍّا في يدي. والآن يا سيد ماكفيرسون،
«. أريد اعترافك، وفي الحال
اعتراف؟شركاء؟ » : اعترَضماكفيرسون مُتصنِّعًا الدَّهشة بصورةٍ مُثيرةٍ للإعجابقائلًا
«؟ إنك تَستخدِم مُصطلَحاتٍ غير عاديَّة يا سيد … سيد … ماذا كان اسمُك
«. اسمه السيد فالمونت » : صاح هيل ضاحِكًا
أرجو منك يا سيد هيل أن تترُك لي هذا الرَّجُل لبِضعِ لحظات. والآن يا ماكفيرسون، »
«؟ ماذا لديك لتقوله دِفاعًا عن نفسك
بما أنَّني لم أتَُّهَم بأيِّ جُرم يا سيِّد فالمونت، فلا أرى أيَّ داعٍ للدِّفاع عن نفسي. إذا »
كنتَ ترغَب في أن أعترِف بأنك قد حصلتَ على عددٍ من التفاصيل الخاصَّة بعمَلنا، فأنا على
أتمِّ استعدادٍ للقيام بذلك وأن أضيف إلى دِقَّتها أيضًا. إذا تكرَّمتَ وأخبرتَني بما تحتجُّ عليه،
فسأحُاول أن أوَضِّح لك الأمر إذا أمكنَنِي ذلك. من الواضِح أنَّ ثمَّة سوء فهم، ولكن دُون
مزيدٍ من التَّوضيح، إن عقلي في ضبابية تامَّة بشأن هذا الأمر، تمامًا كما كان بَصري وأنا
«. في طريقي إلى هنا؛ إذ إن الضَّباب في الخارج كثيفٌ بعض الشيء
كان ماكفيرسون يتصرَّف بتعقُّلٍ شديد بلا رَيب، وكانت هيئتُه وإيماءاته، دُون أن
يقصِد، أكثر دبلوماسية بكثير من صديقي سبنسر هيل الذي كان يجلِس مُتيبِّسًا كالصَّنم
قُبالَتي. كانت نبرتُه نبرةً احتجاجيَّة مُعتدِلة خفَّفَ من وطأتها إشارته إلى أنَّ الأمر كلَّه سوء
فهم وسيزولسريعًا. ظاهريٍّا، رسَم ماكفيرسون صورةً مثاليةً للرَّجُل البريء؛ فلم يُغالِ في
الاعتراض ولم يَمتنِع عن إبدائه أيضًا. غير أنَّني كان لديَّ له مُفاجأة أخرى، كانت بمثابة
ورَقةٍ رابحة، وضعتُها على الطاولة أمامه.
«؟ ها هي! هل رأيتَ هذه الورَقة من قبل » : صحتُ بحماس
ألقى عليها نظرةًسريعة دُون أن يَعرِضأخذَها ليرى ما فيها.
«. أوه نعم، لقد استُخرِجَت من مَلفِّنا. إنها ما أسُمِّيها بقائمة زياراتي » : وأجاب
بربِّك يا سيدي، إنك ترفُض الاعتراف، ولكنَّني أحُذِّرك من ذلك. هل » : صحتُ بحدَّة
«؟ سمعتَ عن الدكتور ويلوبي من قبل
«. أجل، هو مُؤلِّف الكُتيِّب السَّخيف عن العلوم المسيحية »
«. أنت مُحِقٌّ يا سيد ماكفيرسون، عن العِلم المسيحي وشُرود الذِّهن »
«. ربما، فأنا لم أقرأه منذُ فترةٍ طويلة »
«؟ هل سبق لك مُقابلة هذا الطبيب المُطلع يا سيد ماكفيرسون »
أوه، أجل، الدكتور ويلوبي هو الاسم المُستعار للسيد سمرتريز. إنه يؤمن بالعِلم »
«. المسيحي وهذه الأشياء ويكتُب عنها
أوه، حقٍّا. إننا نحصُل على اعترافِك تدريجيٍّا يا سيد ماكفيرسون. أعتقِد أنه سيكون »
«. من الأفضل أن تكونصريحًا معنا
كنتُ سأقترِح عليك الشيء نفسَه حالًا يا سيد فالمونت. إذا أخبرتَني باختصارٍ ما هي »
«. التُّهمة المُوجَّهة ضِدِّي أو ضدَّ السيد سمرتريز، سأعلم حينئذٍ ما عليَّ قولُه
نحن نَتَّهمكما يا سيِّدي بتقاضي أموال تحتَ ادِّعاءات كاذِبة، وهي جريمة زَجَّت »
«. بأكثر من ثَريٍّ بارزٍ إلى السجن
هزَّ سبنسر هيل سبَّابَته السمينة في وَجهي قائلًا:
ولكنَّني أكملتُ دون «. لا لا يا فالمونت، يجِب ألا نُهدِّد، يجِب ألا نُهدِّد كما تعلم »
الالتفات إليه.
لنأخُذ اللورد سيمبتام على سبيل المثال. لقد بعتَه طاولة لقاء خمسين جُنيهًا »
بالتقسيط، على أن يدفَع جنيهًا كلَّ أسبوع، وفي أقلِّ من عامٍ كان قد سدَّد دَينَه بالفِعل.
ولكنَّه يُعاني من شُرود الذهن، ككلِّ زبائِنكم. ولذلك أتيتَ لي؛ فقد أرسلتُ خِطابًا ردٍّا
على إعلان ويلوبي الوَهمي. وهكذا ظَللتُم تجمعون المزيد والمزيد من المال لأكثر من ثلاثِ
«؟ سنوات، والآن هل تفهَم التُّهمة المُوجَّهة إليك
كان رأس السيد ماكفيرسون يميل جانبًا قليلًا أثناء سَماعه لهذا الاتهام. في البداية،
ارتَسَم على وجهه أبرَعُ تعبيرٍ زائفٍ للتركيزٍ المَشوب بالقَلَق رأيتُه في حياتي، ولكنَّه أخذَ
يتلاشىتدريجيٍّا كلَّما زاد إدراكه للأمر. وعندما انتهيتُ، كانت على شفتَيه ابتسامةٌ مُتملِّقة.
إنه حقٍّا، كما تعلم، مُخطَّط ضخم؛ عصابة شاردي الذهن، كما يُمكن أن » : وقال
نُسمِّيه. مُخطَّط عبقريٌّ بالفعل! لو كان لدى السيد سمرتريز أيُّ حسِّ دُعابة، ولكنَّه
ليس كذلك، لتفاجأ من أنَّ هَوَسَه البريء بالعِلم المسيحي قد قادَه ليُصبِح مُشتبهًا به في
الحصول على مالٍ تحت ادِّعاءاتٍ كاذبة. ولكن في الواقِع ليس في الأمر أيُّ ادِّعاءات على
الإطلاق. الأمر، كما أفهمه، هو أنني أقوم بزياراتٍ وأحُصِّل الأموال بكلِّ بساطةٍ مُعتمدًا على
سُوء ذاكرة الأشخاص المُدرَجين في قائمتي؛ إذن وفقًا لنظريَّتِك الجريئة هذه، فإذا كنتَ
تتَّهمني وسمرتريز، فسيكون اتهامُك هو اتِّهام بالتآمُر. ولكنَّني أدُرِك سبب هذا الخطأ:
لقد استنتجتَ أنَّنا لم نَبِع أيَّ شيءٍ للُّورد سيبمتام منذ ثلاث سنوات مضت سوى الطاولة
المنقوشة. يُسعِدُني أن أشُير إليك أن سيادته عميل دائم لدَينا، وأنه قد اشترى منَّا الكثير
من الأشياء في وقتٍ ما أو آخر. في بعضالأحيان يكون مَدينًا لنا، وفي بعضالأحيان نكون
نحنُ المدينين. إننا نحتفِظ معه بنَوعٍ من أنواع التَّعاقُدِ المُستمرِّ يدفَع لنا بِمُقتضاه جُنيهًا
كلَّ أسبوع. هو والعديد من الزَّبائن الآخرين يتعامَلون معنا وفقًا لخُطَّة الدفع نفسها؛ وفي
مُقابِل دَخلٍ يُمكِننا الاعتماد عليه، يحصلون على العُروض الأولى من أيِّ شيءٍ يُفترَض أنَّ
لديهم اهتمامًا به. وكما أخبرتُك، نحن ندعو هذه الأوراق في المكتب بِقوائم الزِّيارة، ولكن
لكي تُصبِح كاملة، فنحن بحاجةٍ إلى ما نُطلِق عليه مَوسوعتنا. ونُطلِق عليها هذا الاسم لأنها
تتألَّف من مُجلَّدات عديدة، بواقِع مُجلَّدٍ لكلِّ عام، ولكنَّني لا أعلم إلى متى تعود بالضبط.
ستُلاحِظ بعض الأرقام الصغيرة هنا من وقتٍ لآخر مكتوبةً فوق المبلَغ المذكور في قائمة
الزِّيارات هذه. تُشير هذه الأرقام إلى الصفحة من الموسوعة الخاصَّة بالسنة الحالية، وفي
تلك الصفحة تُسجَّل عملية البيع الجديدة وكميَّتها، مِثلما قد تُسجَّل في دفتر الحسابات على
«. سبيل المثال
هذا تفسير مُمتِع للغاية يا سيد ماكفيرسون. أعتقِد أنَّ هذه الموسوعة، كما تُسمِّيها، »
«. موجودة في مَتجر طريق توتنهام كورت
أوه، كلا يا سيِّدي، كلُّ مُجلَّدٍ من الموسوعة مُغلَق على نفسه. فهذه المُجلَّدات تحتوي »
على السرِّ الحقيقي لعَمَلنا، وهي محفوظة في خِزانة بمنزل السيد سمرتريز في بارك لين.
لنأخُذ حِساب اللورد سيمبتام على سبيل المثال، ستجِد الرقم ١٠٢ مكتوبًا على نحوٍ باهتٍ
أسفل تاريخ مُحدَّد. إذا انتقلتَ إلى الصفحة ١٠٢ من مَوسوعة ذلك العام، فستجِد قائمة
بما اشتراه اللورد سيمبتام والأسعار التي دَفَعها لقاءها؛ إنَّ الأمر حقٍّا بسيط للغاية. وإذا
سمحتَ لي أن أستخدِم هاتِفك للحظة، فسأطلُب من السيد سمرتريز، الذي لم يبدأ في تناوُل
عَشائه بعد، أن يأتي إلى هنا ويُحضِرمعه مُجلَّد عام ١٨٩٣ ، وفي غضون رُبع ساعة ستتأكد
«. تمامًا من أن كلَّشيءٍ قانوني تمامًا
أعترِف أنَّ طبيعية هذا الشابِّ وثقَته في نفسه قد أذهلاني، لا سيما عندما رأيتُ
الابتسامة الساخِرة التي ارتسمَتْ على وجه هيل دلالةً على أنه لم يُصدِّق كلمةً واحدة مما
قيل. كان يُوجَد هاتِفٌ نقَّال على الطاولة، وعندما انتهى ماكفيرسون من شرحه، مدَّ يدَه
وجذَب الهاتِف نحوه، فتدخَّل سبنسر هيل قائلًا:
«؟ مَعذِرة، أنا من سأجُري المكالمة. ما رقم السيد سمرتريز »
«. ١٤٠ هايد بارك »
اتَّصَل هيل في الحال بالسِّنترال، وأجاب عليه أحدُهم في بارك لين. سمِعناه يقول:
هل هذا هو منزل السيد سمرتريز؟ أوه، أهذا أنت يا بودجرز؟ هل السيد سمرتريز »
موجود؟ رائع. أنا هيل، أنا في شقَّة فالمونت—شُقَق إمبيريال—كما تعلم. أجل، حيثما أتيتَ
معي بالأمس. حسنًا، اذهب للسيد سمرتريز وأخبره أنَّ السيد ماكفيرسون يُريد موسوعة
عام ١٨٩٣ . هل فهِمت؟ أجل، موسوعة. أوه، سيفهَم ما هي. أجل، السيد ماكفيرسون. لا،
لا تذكُر اسمي إطلاقًا؛ فقط أخبرْه أن السيد ماكفيرسون يُريد موسوعة عام ١٨٩٣ ، وأنك
ستُحضِرها له. أجل، يُمكِنك أن تُخبِره أنَّ السيد ماكفيرسون في شُقَق إمبريال، ولكن لا
تذكُر اسمي على الإطلاق. بالضَّبط. بمجرَّد أن يُعطيك المجلد، أوقِف عربة أجُرة وتعالَ به
إلى هنا في أسرع وقتٍ مُمكِن. وإذا لم يَسمح سمرتريز بأن تُحضِره أنت، فأخبِره أن يأتي
معك. وإن لم يفعل، ضَعْه قيد الاعتِقال وأحضِرْه هو والمجلَّد إلى هنا. حسنًا. بأسرع ما
«. يُمكنك، نحن في الانتظار
لم يُبدِ ماكفيرسون أيَّ اعتراضٍ على استِخدام هيل للهاتف، بل اكتفى بالجلوس
مُسترخيًا في كرسيِّه وقد ارتسمَ على وجهه تَعبير مُذعِن، لو رسم على لَوحة كنافا، لأطُلِق
عندما أغلَقَ هيل الخط، قال ماكفيرسون: .« المُتَّهم زُورًا » عليها
أنت تعرِفعملك جَيدًا بلا شك، ولكن إذا اعتقَلَ رجُلُك سمرتريز، فسيجعلك أضحوكة »
لندن. تُوجَد تهمة تُعرَف بالاعتقال غير المُبرَّر، مثلما تُوجَد تُهمة الحصول على مالٍ تحت
ادِّعاءات كاذبة، والسيد سمرتريز ليس ممن يَغفِرون الإهانة. ثم، إذا سمحتَ لي بأن أقول
ذلك، كلَّما فكرتُ في نظريَّتِك حول استِغلال شارِدي الذهن، بدا الأمر مُستغرَبًا تمامًا،
وإذا وصلَتِ القضية إلى الصُّحف، فأنا مُتأكد يا سيد هيل أنك ستخضع لنِصف ساعةٍ من
«. الاستِجواب المُزعِج من رؤسائك في سكوتلانديارد
«. سأخوضتلك المُخاطرة، شُكرًا » : رد هيل بعنادٍ قائلًا
«؟ هل أعتَبِر نفسي قَيْد الاعتقال » : تساءل الشاب
«. لا يا سيدي »
إذن، إذا سمحتُم لي، سأذهب أنا. سيُريكم السيد سمرتريز كلَّ ما ترغَبون فيه في »
مُجلَّداته، وهو أقدر بكثيرٍ على شَرح عملِه منِّي؛ لأنه يعلم المزيد عنه؛ لذا، أيُّها السيدان،
«. أتمنَّى لكما ليلةً سعيدة
لا، لا لن تذهب. ليس » : صاح هيل وقد انتفضَواقِفًا تزامُنًا مع نُهوضالشابِّ للرحيل
«. بعد، ستبقى لبعضالوقت
«. إذن أنا قَيْد الاعتقال » : احتجَّ ماكفيرسون قائلًا
«. لن تَبرحَ هذه الغُرفة حتى يأتي بودجرز بذلك المجلَّد »
ثم عاوَدَ الجلوس مرةً أخرى. «. أوه، حسنًا »
والآن، بما أنَّ الكلام يُجفِّف الحلق، فقد جهَّزتُ شيئًا لأشرَبَه وأخرجتُ عُلبتَي السيجار
والسجائر. مَزَجَ هيل مَشروبه المفضَّل، بينما تجنَّب ماكفيرسون الخمر المصنوع في بلده
واكتفى بكأسٍ من الماء المعدِني، وأشعل سيجارة. ثم استرعى انتِباهي كثيرًا عندما قال
بلُطفٍ وكأنَّ شيئًا لم يكن:
«. بينما نحن في الانتِظار يا سيد فالمونت، أذَُكِّرُكَ بأنك مَدين لي بخمسةِ شِلنات »
ضحكتُ وأخرجتُ النُّقود من جَيبي ودفعتُ له، فشكَرَني.
سألني ماكفيرسون بطريقة شَخصٍ يُحاوِل تجاذُب الحديث لاجتِياز فترةِ الصَّمت
ولكن قبل أن أتمكن من الرد، «؟ هل أنت على صلةٍ بسكوتلانديارد يا سيد فالمونت » : المُملَّة
اندفع هيل دون تفكيرٍ قائلًا:
«! لا أبدًا »
«؟ إذن أنتَ لا تعمَل رسميٍّا كمُحقِّقٍ يا سيد فالمونت. أليس كذلك »
«. لا على الإطلاق » : أجبتُ بسرعةٍ لأسبِقَ هيل
«! يا لها من خسارة لبلدِنا » : تابع هذا الشابُّ الرائع بصدقٍ واضِح
بدأتُ أدرِك أنَّ بإمكاني استِغلال شابٍّ شديد الذَّكاء كهذا إذا سنَحتْ لي فُرصة تدريبه.
الأخطاء الفادِحة التي يرتكِبُها رجال شرطَتِنا هي أمرٌ يُرثى له. إذا » : أردف قائلًا
كانوا لن يأخذوا سوى دُروسٍ في فنون التخطيط، لنقُل من فرنسا، لأدَّوا مَهامَّهم المُزعِجة
«. على نحوٍ أكثر قَبولًا بكثير، وبطريقةٍ أقلَّ إزعاجًا لضحاياهم
«. فرنسا! إنهم يَعتبِرون الشَّخصمُذنِبًا حتى تَثبُت براءته » : نخَرَ هيل بسخرية
أجل يا سيد هيل، وهذا هو ما يحدُث هنا الآن بالفعل. لقد قرَّرتَ أنَّ السيد سمرتريز »
مُذنِب، ولن ترضىحتى يُثبِتَ براءته. سأجازِفُ بِتوقُّع أنَّ ما ستسمَعُه منه بعد وقتٍ قصير
«. قد يُذهِلُك على نحوٍ ما
زَمجرَ هيل ونظر إلى ساعته. مرَّت الدقائق ببطءٍ شديد بينما كنَّا نجلِس نُدخِّن
السجائر. وفي النهاية بدأتُ أنا في الشُّعور بالتملمُل وعدَم الارتِياح. قال ماكفيرسون وقد
لاحظَ قلقنا، إنه عندما أتى، كان الضَّباب شديدَ الكثافة كما كان في الأسبوع السابق، وأنه
ربما يُوجَد صعوبة في العُثور على عربة أجُرة. وفي أثناء حديثه، فُتِحَ الباب من الخارج
ودَخل بودجرز حامِلًا مُجلَّدًا سميكًا في يدِه وأعطاه رئيسه، الذي أخذ يُقلِّب في صفحاته في
ذهول، ثم نظر إلى ظهر المُجلَّد وصاح قائلًا:
«؟ موسوعة الرياضة، عام ١٨٩٣ ! أيُّ نوعٍ من الدُّعابة هذه يا سيِّد ماكفيرسون »
ارتسمَتْ نظرةُ انزعاجٍ على وَجه السيد ماكفيرسون وهو يَميل إلى الأمام ويأخُذ المجلَّد،
ثم تنهَّد قائلًا:
لو كُنتَ سمحتَ لي باستِخدام الهاتف يا سيِّد هيل، لأوضحتُ لسمرتريز المجلَّد »
المطلوب بالضبط؛ كنتُ أعلَم أنَّ هذا الخطأ من المُمكِن أن يحدُث. يُوجَد طلبٌ مُتزايد على
كُتُب الرياضة القديمة، ولا شكَّ أنَّ السيد سمرتريز اعتقَدَ أنَّ هذا هو المجلَّد الذي كنتُ
أقصده. الحلُّ الوحيد أن تُرسِل رَجُلَك مرَّةً أخرى إلى بارك لين ليُخبِر السيد سمرتريز أنَّ
ما نُريده هو المجلَّد المُغلَق لحسابات عام ١٨٩٣ ، والذي نُسمِّيه الموسوعة. اسمَح لي بِكتابة
فوقف هيل استعدادًا لقراءة «. طلبٍ كي يُحضِره؛ أوه، سأرُيك ما كتبتُه قبل أن يأخُذه رجلك
ما كتبَه ماكفيرسون من فوق كتِفه.
كتبَ على ورقة مُلاحظاتي طلبًا كما قال، وسلَّمه إلى هيل الذي قرأه وأعطاه لبودجرز.
«؟ خذ هذا لسمرتريز وعُد بأسرعِ ما يمكنك، هل تنتظِرُك عربة أجرة بالخارج »
«. أجل يا سيدي »
«؟ هل الجوُّ ضبابي بالخارج »
«. ليس كما كان منذ ساعةٍ يا سيِّدي، لا صعوبة في المرور الآن يا سيدي »
«. جيد جدٍّا، عُد في أقرَب وقتٍ مُمكن »
حيَّانا بودجرز وغادَر وهو يحمِل المجلَّد تحت ذِراعه. أغُْلِقَ الباب مرَّةً أخرى، وجلَسْنا
وعاوَدْنا التَّدخين في صمتٍ كسَرَه صوتُ جرس الهاتف. وضع هيل السمَّاعة على أذُُنه.
نعم، هنا شُقق إمبريال. أجل. فالمونت. أوه، أجل؛ ماكفيرسون هنا. ماذا؟ نفدَت من »
ماذا؟ لا أسمعُك. نفدَت من الطباعة. ماذا؟ نفدَت الموسوعة من الطباعة؟ من المُتحدِّث؟
«. دكتور ويلوبي؛ شكرًا
نهض ماكفيرسون وكأنه سيتَّجِه نحوَ الهاتف، ولكنَّه بدلًا من ذلك التقَطَ الورقة
التي كان يُسمِّيها قائمة الزيارة (وكان يتصرَّف بهدوءٍ شديد حتى إنني لم ألُاحِظ ما كان
يفعله حتى انتهي منه فعلًا)، ومشى بهدوءٍ بلا عجلة، وأمسك بها ووضعها في الجمر
المُوقَد المُتوهِّج حتى اختفت في وَمضةٍ من لهبٍ ارتفعَت عبر المدخنة. انتفضْتُ وأنا أستشيط
غضبًا، ولكن كان الوقتُ قد فات حتى لكي أقفِز مُحاوِلًا إنقاذ الورقة من الحرق. تأمَّل
ماكفيرسون كِلينا بابتسامة الاستِهانة نفسها التي أضاءت وَجهه في العديد من المواقف
السابِقة.
«؟ كيف تجرؤ على حرْقِ هذه الورقة » : قلتُ بحزم
لأنها لم تكُن تخصُّك من الأساس يا سيد فالمونت؛ لأنك لا تَنتمي إلى سكوت لانديارد؛ »
لأنك سرقْتَها؛ لأنه لم يكن من حَقَّك ذلك؛ ولأنك ليس لك أيُّ صفةٍ رسمية في هذا البلد. لو
كانت الورقة في حَوزة السيد هيل، لما جَرؤتُ على إتلافِها، كما قلتَ أنت، ولكنَّني قد أتلفتُ
هذه الورقة بحريَّةٍ بما أنك قد أخذتَها من مقرِّ عمل سيِّدي دُون أن تكون مُخوَّلًا بذلك
تمامًا. ولو كان سيِّدي قد وجدَك وأنت تقتَحِم مكانه وأبديتَ أيَّ مُقاوَمة، لأرداك قتيلًا ولم
يكن ليُعاقَب على ذلك. لطالما كان رأيي هو عدَم الاحتِفاظ بهذه الأوراق؛ إذ إنها لو وقعتْ
في يدِ شخصٍفي ذكاء يوجين فالمونت وفحَصَها، وهو ما حدَث بالفعل، لتوصَّل لاستِنتاجاتٍ
غيرصحيحة. ومع ذلك، فقد أصرَّالسيد سمرتريز على الاحتِفاظ بها، ولكنَّه وافَقَ على أنَّني
فسيحرِق هذه السجِلَّات ،« موسوعة » إذا أرسلتُ له برقيَّةً أو اتَّصلتُ به هاتفيٍّا وذكرتُ كلِمة
،« الموسوعة قد نفدَت من الطباعة » على الفور، ثم يتَّصل بي أو يرسِل إليَّ برقيَّةً ليُبلِغَني أنَّ
وعندها سأعلَم أنه قد أتمَّ الأمر بنجاح.
والآن أيُّها السادة، افتحوا هذا الباب، فهذا سيُوفِّر عليَّ عناء دَفعِه بالقوَّة. إمَّا أن
تَعتقلاني رسميٍّا، أو تَكُفَّا عن تقييد حُرِّيَّتي. أنا في غاية الامتِنان للسيد هيل لإجرائه
الاتِّصال الهاتفي؛ وعلى الرغم من الباب المُوصَد، لم أبُدِ أيَّ اعتراضٍعلى كرَم ضِيافة السيد
فالمونت، ولكن هذه المَهزلة قد انتهت الآن. كلُّ الإجراءات التي خضعتُ لها هنا كانت غير
قانونية، واعذُرني يا سيد هيل، كانت إجراءات فرنسية لا تُناسِب الوضع هنا في إنجلترا
القديمة، ولن تكون مُرضيةً لرؤسائك إن خرجَتْ في تحقيقٍصحفي. أنا أطُالِب إمَّا بالقبضِ
«. عليَّ رسميٍّا، أو فتْح هذا الباب
ضغطتُ على الزرِّ في صمت، وفتحَ خادِمي الباب على مِصراعَيه. اتَّجه ماكفيرسون إلى
عتبة الباب ثمَّ توقَّف واستدار ناظِرًا إلى سبنسرهيل الذي كان يجلِس صامِتًا كأبي الهول.
«. طابت ليلتُك يا سيد هيل »
لم ينبِس هيل ببنت شفة، فالتفتَ ماكفيرسون تِجاهي بالابتسامة المُتملِّقة نفسها
قائلًا:
ليلة سعيدة يا سيد فالمونت، سيُسعِدني زيارتُك الأربعاء القادِم في السادسة مساءً »
«. لتحصيل شلناتي الخمسة