عبده علي الفهد

شارك على مواقع التواصل

كيد الرجال

بقلم : عبده علي الفهد
[email protected]

من الطارق؟
:عراف رمال ، اضرب الفال و أعلل أسباب موت العيال . اتتني اخبار موت اطفالكم ، وهذا سبب وقوفي على بابكم .
:تفضل بالدخول!
ضرب الودع وقراء الكف وقال : إن السبب يعود لوجود عارض من العوارض الجسام و هامه من الهوام تدعى أم الصبيان ، تهشم العظم و ترم اللحم وتشرب الدم .
عليك قبل الولادة بساعات أن تخرجي من هذا الدار وتلدي في بيت سابع جار ، و لا تعودي مع مولودك قبل أن يمر عليك أربعون نهار.
أعطوا العراف حسابه و نفذوا ما قاله ، فرزقهم الله بولد ، في بداية الشهر ، فأسموه هلال .

توفى والده بعد ولادته بعام ، و في الخامسة من عمره لحقت أمه بأبيه ، فلم يجد من يأويه ، كفلته أخته مرعى و ضمته إلى أولادها ، فنشاء و تربى و حظي بإعجاب ماطر زوج أخته ، فصارت له مكانة في الأسرة وإجلال ، فكل الأولاد ينادوه يا خال.

كان هلال كثير التردد على وادي العبيد تعود ملكية هذا الوادي لأبيه ، فكان هلال يجد في هذا الوادي متنفس لارتباطه بذكرى والديه ، فكلما ضاق به الحال ذهب اليه.

ذات يوم ذهب إلى الوادي كعادته للتنفيس عن كربته رأى عش على فرع شجرة ، تسلق الشجرة فوجد في العش فرخان فأخذهما و أعتنى بتربيتهما و تعهدهما حتى آلفاه ، يعطيهما الحب والماء ويشاركهما اللعب و بداية الطيران في الهواء وجد فيهما حنانه المفقود ، تكسوهما ألوان جميلة و أعيان كحيلة ، يشديان بالألحان فتذهب عنه الهموم والأشجان ، فأينما ذهب يذهبان على رأسه يحطان و بين الأكتاف يتنقلان .
حدث خلاف بين اخته وزوجها ماطر تطور الى شجار ، رأء هلال انه سبب الشجار، فترك الدار .
ذهب إلى الرعيان واستراعى منهم نعاج و ضان ، فتعهدها و رعاها فتكاثرت فكانت تلد بالأزواج ، ذاع صيته في البوادي فعُرف بهلال الراعي الأمي ، فلا هو بكاتب ولا بقارئي .
ذهب إلى تاجر بالمدينة ، وقف باب المتجر و إلى مطلبه بيده أشر ، أعطاه التاجر بعد أن وزن و قبض الثمن ، كان جوار التاجر فتاة تقارب هلال سنة و صباه .
تنظر إلى هلال مذهولة من هيئته و دوران البلابل حوله ، هم هلال بالانصراف فنادته باستلطاف :
- ما اسمك ؟.
رد باستعجال : هلال !.
ضحكت و بصوت يتخلله الضحك قالت: يا أبي اسأله عن أسمه ؟.
قال التاجر: ما هو أسمك يا بُني ؟.
قال : هلال.
ضحك وقال : الهلال هو الذي يظهر اول الشهر؟.
قالت الفتاة : قد أوضحت لنا يا أبي معنى هلال !
أريدك أن تبين لنا معنى قمر ، و ما الفرق بين الهلال والقمر ، و كيف أسميتني قمر؟.
قال ملهوف : القمر هو الذي يكن مكتمل منتصف الشهر ، فصادف ان ولدت منتف الليل والقمر مكتمل سامر ساطع ، فأسميناك قمر.
فبادرة قمر بسؤال هلال : قد سمعت سبب تسميتي قمر ، فهل تعلل سبب تسميتك هلال؟.
نفض العصافير عن كتفيه ، أحس بشيء قوي يجتاح وجدانه وعواطفه ، توافقت الحروف و تطابقت الأوصاف ، شعر بأن روحة استغنت عن العصافير ، و أن هناك محتل غزى جوارحه ، فألتصق فلا يغادر كيانه و لا يطير.
تلعثم و حكى لها قصة تسميته بهذا الاسم الشهير.
تبسمت قمر مودعة هلال : إلى اللقاء المنتظر .
فكان الوفاء والصفاء رديف القدر.

هلال اليتيم السقيم تقابله قمر ذات الثراء والنعيم
، كانت قمر ذات جمال فائق ، فكل شيء فيها يفوق سائر الخلائق ، جدائلها تلامس التراب ، تظل وجناتها الأهداب ، على صدرها عقد كهرمان ، تغطي رأسها صرة شديدة اللمعان بالسيف مئزرة ، وعلى كتفها رمحان ، ذاع صيتها وتناقلتها الأخبار.
فكانت إذا خرجت من الدار تلاحقها الأنظار.
في أحد الأيام داهم هلال في المرعى فارس همام
فطلب المبارزة والنزال أو تسليمه جميع الأغنام بسلام.
فطلب هلال نزوله من على الحصان ، فنزل الفارس و دار النزال و أشتد و كاد الفارس أن يطبق على هلال الخناق .

تناطحت السيوف و تنافرت الكفوف ، دار هلال دورة فاقتلع السيف من يد الفارس و ألقاه على الأرض و وضع السيف على عنقه بإحكام ، فسارع الفارس و أماط عن وجهه اللثام ، فارتعدت فرائص هلال و أنتابه اضطراب ، فقد كان الفارس الملثم حبيبته قمر.
غضب هلال منها غضباً شديداً ، فكان قد أوشك أن يقطع عنها الوريد ، بينما شعرت قمر بالفخر و وجدت في هلال القوة لحمايتها من نوائب الدهر.
أثناء النزال كانت العصافير تغار من قمر فكانت تحط على وجهها و تلفحها كالذباب.
كانت قمر تواسي هلال و تعطيه بعض الدراهم ، ذات يوم هطل مطر عجاج فجرف السيل على هلال بعض النعاج.

وصل الخبر إلى مسامع قمر فثارت و إلى نُصرة هلال طارت ، فحمشت الثياب و دخلت السيل فجرفها مع النعاج ،
فصاح هلال ولاح و ألقاء بنفسه خلف قمر فانتشلها وترك النعاج ، حضر والد قمر فرآها محمولة على كتف هلال ، فخفق قلبه و أرتعش ، غضب أباها من شدة تعلقها بهلال فطلب منها نبذه و عدم اللحاق به ، فتمردت و كانت ترافقه في المسراح و تلاقيه في المرواح ، فسجنها والدها و منعها من الخروج ، فامتنعت عن الطعام و أصابها السقام ، فأرسل هلاهإ هلال في الخفاء حليب الغنم ، فشربت وانزاح عنها الغم .
كان في المدينة فقيه يفتح الكتاب فلا يعلم غيرة من العوام بالخطاء من الصواب.
ذات مرة حدثت خصومة حساب بين والد قمر و أحد التجار ، فاحتكما إلى الفقيه ، حضر الفقيه و طلب منهم إحضار السجلات ، و في بيت التاجر جرت المداولات.
أتت قمر بسفرة الطعام مدتها بعد أن ألقت السلام ، حط الفقيه احد عينيه على السجل والأخرى على قمر ، فُتن الفقيه بجمالها و بطلاقة لسانها ، و بعد أن حسم الخلاف حول الحساب استمر بالترد بين الحين والأخر على متجر والدها متعلل بعدة أسباب ! تقدم الفقيه لخطبتها طمعاً في ثراء والدها وجمالها ، عرض التاجر على أبنته طلب الفقيه منها الزواج ، فساخت و داخت وعلى الأرض ارتطمت ، و بعد أن استيقظت و أفاقت ، قالت: الموت أهون من زواج الفقيه ، و أراح ، ألم تكفيه زوجته نُباح ؟.

أبلغ التاجر الفقيه برفض طلب الزواج ، سمع هلال بخطبة الفقيه لقمر فغضب و طلبها للقاء والنقاش ، اجتمع هلال بقمر و دار النقاش.
هلال: يا قمر هل ترغبي مني بالزواج ؟.
قالت : هذا عندي هو يوم السعد والسُعاد و التقاء الأبراج.
قال : اذا طلب والدك مهرك فمن أين سنأتي به ؟.
قالت : نبيع نصف النعاج و نأخر نصف المهر إلى بعد الزواج ؟.
قال : لا تحزني يا قمر ، لدي مهرك والتاج ، عندي سيف مهند و درع مزرد ، وعقد زمرد هن ميراثي من بعد أبي وأمي ، سأبيع و أدفع مهرك و أرفع رأسك ، سأعطيك مقابل وفاءك وإخلاصك كل ما أملك.

سمعت قمر كلام هلال فانتفخت و فخت وقبضت بيد هلال وهزت.
هلال: اخشى ما أخشاه أن يرفض أباك مصاهرتي لدنو مقامي وامتهان مكانتي.
قالت : أرى أن تصحب معاك لوالدي مجموعة من الرعيان ، و بالتالي لن تكون وحدك مهان بين مجموعة الرعيان .

استحسن الفكرة فطلب من الرعيان مرافقته للذهاب لخطبة قمر.
كان والدها بمتجرة يحسب أرباحه و يفرز ضريبته.
فدخل عليه الرعيان ، فزع وقال : هل حدث لقمر مكروه ؟.
قالوا: بل أتينا خاطبين لهلال بقمر راغبين !.

2

قال : هذا لم يحدث أن تتزوج أبنة تاجر براعي على مر السنين لا في الأولين ولا في الأخرين !.
قالوا : ننتظر رأي قمر هل ترغب من هلال بالزواج ؟.
دخل التاجر لقمر و أعلمها بأمر الزواج.
فقالت: الرأي لك يا أبي ، و لكن أعلم أن هلال خير الأزواج ، فهو ذو أخلاق تملأ الأفاق ، و ذو كرم وعطاء لا يخشى إملاق ، كان لقمر مكانه في قلب والدها فكان يعمل كل ما بوسعه ليرضيها لأنها يتيمة الأم ، عاد والد قمر و بارك لهلال الزواج بشرط أن يكون تحديد المهر و لوازم الزواج متروك لتقدير قمر.

تهلل وجه هلال فنفش الزبيب ، فطاب لقاء الحبيب بالحبيب.
كان عرس بهيج سمع به البعيد والقريب.
امتعض الفقيه أمتعاض شديد ، فكيف فضلت قمر راعي الغنم والجياد على فقيه البلاد ؟.
سُعد هلال بقمر و تنامت و كثرت النعاج.
في المقابل كان الفقيه يحترق بجمر نار مما جرى له وصار ، فبدأ يحيك الدسائس لهلال بهدف إهلاكه بالاستدراج كي يفوز في الأخير بالزواج من قمر ، مستغل سذاجة السلطان القائم الذي كانت عقليته تشبه عقلية البهائم ، كان جديد العهد بولاية المقام
فلم يمض على موت والده أكثر من عام.

فكان أبنه الوحيد عُرف بالتبلد والغرور الشديد ، فكان يُسمى يوم الجمعة عيد تُذبح الذبائح وتُعزف الأناشيد ، ذات يوم أتت إلى مقامه أمرأة فأثنت عليه بالمديح والدعاء كي يجزل لها بالعطاء .
، فقالت: أدام الله عطاء مولانا السلطان .
فأمر بسجنها من ساعته و قطع لسانها من منبته.
عجب الحاضرين ! فتقدم أحد الوزراء يشفع لها لدى السلطان عله يتراجع .
فقال: مولاي السلطان عفوك أكبر من غضبك وصفحك أشمل من عذابك .
فأمر بجلد الوزير ، فحضر الجلاد و بيده السياط و مد الوزير على الحصير .
حضرت والدة السلطان فسألته عن تِبيان سبب أمره بسجن وقطع اللسان ، و جلد الوزير أمام الأشهاد والأعيان ؟.

فقال: هذه السائلة اعتبرت عطاء مولاها وسلطانها و ليس أنا ، و أنت تعرفين من هو عطاء ، مجرد عبد من العبيد لا ينقص و لا يزيد ! أما الوزير
كونه قذفني بما ليس بي من غضب وعذاب كبير.
طلبت السلطانة من الحاضرين الانصراف
و بجهد جهيد فهمته معاني الألفاظ والأوصاف.
فأخلاء سبيل السائلة.

و أمر الوزير بعدم اعتراض أوامره.
ذات يوم حضر الفقيه مجلس السلطان بين الوزراء والأعيان .
فقال الفقيه : مولاي السلطان لقد أصبحت سلطان البلاد مكتملة من أقصاه إلى أدناه ؟.
فقال السلطان : نعم ، و هل يوجد سلطان غيري ؟.
الفقيه: بلى ، و لكن يا مولاي بما أنك سلطان الأرض قاطبة فلا بد أن يكون لك قصر يتوسط البلاد .

السلطان : ولكن من باستطاعته تحديد منتصف الأرض ؟.
الفقيه : هلال الراعي يستطيع ذرع الأرض .
استحسن السلطان رأي الفقيه فأرسل من يحضره اليه.
مثل هلال أمام السلطان ، فشاهد الفقيه يقف في رأس الديوان فعرف أن الأمر من تدبيره فشم رائحة المكر والمكيدة !
هلال : مولاي السلطان أتيت لطلبك ملبي فبماذا تأمرني ؟.
السلطان: أريدك أن تقوم بذرع الأرض وتحدد نقطة منتصفها كي أبني قصري عليها.
نظر هلال إلى السلطان بإمعان وقال : الأرض يا مولاي شاسعة و ذرعها يحتاج لوقت طويل وتكلفة و نفقة.

السلطان: حدد ما تحتاج من مال و سوف أمر بتجهزه و دفعه.
ذهب هلال إلى خاله معصار ، فأخبره بمطلب السلطان ،
فقال : أذهب إلى السلطان فأطلب منه مذرع بأعين و مدة شهرين و الف آلف درهم و قيراطين ، ثم أبدأ بالذرع من جوار بيت الفقيه شرقاً وأتمم الذرع إلى جواره غرباً.
قبل الذهاب للسلطان عاد إلى قمر وشرح لها بإسهاب حيلة الفقيه الكذاب .
و قال : إن قصد الفقيه إهلاكي بمصيبه كي تكوني أنتِ يا قمر من نصيبه ، فتدبري واحتاطي فأنت ساعدي و ذراعي.

قالت : نفذ ما أمر السلطان و سنرى الرابح من الخسران .
عاد هلال إلى السلطان فأعطاه ما طلب من مال و مهلة و مذرع ، فخرج في الصباح و بدأ بالذرع من جوار بيت الفقيه من الجهة الشرقية فغاب من النجد و هو يذرع و المذرع بيديه ، و في المساء عاد هلال متخفي إلى بيت خاله معصار
الذي حط عنده ما أعطاه السلطان من أمواله و دراهمه ، فكان يذهب إلى منزله في الليل و يتفقد أحوال زوجته وأغنامه .
و ذات يوم أتى الفقيه إلى قمر في المرعى.
فقال: إن هلال ذهب و لن يعود فهو حتماً سيموت ظماء في الصحراء ، و إن نجى من الصحراء فلن ينجو من ضباع و أسود الغابات السوداء.
قالت : فماذا ترى ؟.
قال الفقيه: سيطول بك الانتظار و يسوء بك الحال ، فما تنتظرينه هو المحال ، ولكن إن رغبتي سأطلبك من والدك وبالزواج بي ستكوني أسعد و أفضل حال.
قالت : سأنتظر مدة الشهران المقدرة من السلطان.

ذهبت قمر إلى نُباح زوجة الفقيه بقصد إخبارها بما ينويه ، وقفت على الباب فشاهدت نُباح منهمكة في اللهو والطرب مع بعض صعاليك العرب.
فطفقت عائدة من حيث أتت ، فعجبت من الفقيه و تماديه على نساء الرعيان في المرعى و غفلته عما يصير في منزله من بهتان و بغى !.
استمر هلال مع خاله في صرف الأموال و تعهد أسرهم والأخوان ، و في آخر يوم من المهلة و قبل الزوال ظهر هلال من النجد الغربي للمدينة و بيده المذرع و هو يذرع و يعد ، فبلغ السلطان الخبر فجميع من كان موجود حضر ، فشاهدوا هلال يذرع بالمذرع ويرعش و ذراعه محمش وهو يعد عشرة أحداعش ...

و في جدار بيت الفقية وضع المذرع وصاح و أبان و قال : هذه منتصف الأرض و هذا موضع بناء قصر السلطان.
غضب الفقيه وعرف أنه خسران.
أمر السلطان في الحال بهدم بيت الفقيه ونقل حجارة من هذا المكان والشروع في بناء قصر السلطان.
أحتاس الفقيه و في شر عمله غاص ، بينما منح السلطان هلال أموال و هبات على ما بذله من مجهودات ، عاد هلال لبيته راعياً لأغنامه
و تقاسم الغنيمة بينه وبين خاله و بقية أقربائه وأصحابه.
فعمد الفقيه لتدبيره وحيلة جديدة ، فتقرب من السلطان بعد أن غاب عنه مدة طويلة.
فقال: مولايا السلطان لقد أضحيت الأن في أفضل حال ، ولكن إذا سألك سائل كم عدد النجوم فماذا أنت قائل ؟.
فإن قلت لا أعلم فهذا لا يليق بمقام السلطان.
السلطان : هذا أمر مُحال ، فلا يقدر أحد على عد النجوم في كل الأحوال !.
الفقيه : إن من ذرع الأرض والماء قادر على عد النجوم في السماء.
أرسل السلطان إلى هلال عساكره و أمر بإحضاره.
السلطان: أعلم يا هلال أنك بعد الأن صرت من المقربين ، ذرعت الأرض فكنا لك منصفين ، سنجعل لك مجلس في المقام تأتي اليه فتدخل وتجلس في سائر الأيام و تكون من أصحاب المشورة عند التشاور في الأمور الجسام.
هلال: نشكر مولاي السلطان و ندعو له بطول العمر وصحة الأبدان.
هل من طلب قبل أن تأذن لي بالانصراف ؟.
السلطان: دعوناك لأمر هام يعد من الأمور العِظام ، أريدك أن تحصي و تعد في السماء النجوم.
في وقت صافي لا قمر فيه و لا غيوم نظر هلال إلى الفقيه الواقف غير بعيد فهز رأسه و عرف من وراء هذا الأمر الجديد.
هلال: أعطني مهله استشير أصحابي و غداً آتي اليك بجوابي.
ذهب هلال الى خاله في الحال ، اخبره فقال : أضف شهر فوق الشهران و أجعل الألف ألفان و خيل و جملان ثم أختفي عن الأعيان.
فقص صوف الأغنام وحملها و إلى السلطان أوصلها.
عاد هلال للسلطان فأعطاه المهلة والمال والخيل وجملان.
ذهب هلال و أختفى وصرف الأموال وتيسر الحال فاشترى لحاف و مانيه و فراش ، و أهدى مرعى عقد حُلى و أفخر القماش.
أوشكت المهلة على النهاية فطلب من قمر البحث عن حلاق و قص صوف الأغنام وتعبئتها في أكياس .
في الصباح ظهر هلال و معه الجملان محملان يقودهما راكباً على الحصان ، أناخهما أمام القصر و صعد إلى السلطان فظهر بمظهر المرهق التعبان.
السلطان : اخبرنا يا هلال كم عدد النجوم ؟.
هلال : أنا رجل غير قارئ ، كنت أعد نجم و أحط مقابله شعرة في الكيس حتى امتلأت الأكياس الأربعة ، والجمال بها محملات باب القصر نائخات.
السلطان : و كيف لنا أن نحصيها ؟.
هلال: الفقيه لا يوجد سواه في البلاد من يجيد قراءة الحروف و كتابة الأعداد.
أمر السلطان بإدخال الأكياس إلى غرفة من غرف القصر و بعث إلى الفقيه وكلفه بعدها والحصر.
أُدخِل الفقيه إلى الغرفة جوار الأكياس و مُنع من الخروج من قبل الحراس.
مضى على الفقيه عام و هو محبوس يعد صوف الأغنام ، تحول سواد عينيه إلى بياض فأَصيب بالعمى و روماتيزم العظام ، ثم أصدر حكم بعدد النجوم فاحتفظ به السلطان في خزانة الأحكام.
تمتع هلال و قمر خلال هذا العام بعطايا السلطان.
فحاك الفقية مكيدة عتيدة رأى فيها نهاية هلال الأكيدة.
أتى إلى مجلس السلطان بهيئة مهانه أهدب أحدب
في يده خيزرانة وعلى عينيه نظارة ، فسأله السلطان عن أخباره وأحواله و عن سبب الزيارة؟.
فقال بصوت خافت : حفظ الله السلطان ، طاف علي طائف في المنام و اخبرني بأن لمولاي السلطان بنت وغلام توفاهم سيد الأنام و هما في المقبرة بين الأموات كالأيتام ، فلا زائر يأتيهم و لا رسول منك يصلهم ، عيروهم الأموات و نبزوهم ، ونادر ما يتصدقوا عليهم ويعطوهم ، فأباهم سلطان وهم بين الأموات في الذل والمهان.
تحركت لدى السلطان الأحزان والأشجان فسجت عيناه بالبكاء على فراق ولديه الذي ماتا في عز الصباء.
فمسح دموعة وقال: كلامك يا فقيه مُحال ، فلم يحدث أن قام أحد بزيارة الأموات في المقابر لا في الحاضر و لا في الزمن الغابر.
الفقيه: زيارة الأموات من الأمور الميسرة و لها أوقات و ساعات محددة.
فمن ذرع الأرض بماها و عد النجوم وأحصاها من السهل عليه زيارة الأموات في المقابر و تعهدها والاطلاع على أحوال سكانها.
طأطأ السلطان رأسه ثم أرسل فارس فاحضر هلال فمثل أمامه.
السلطان: ألم أخصص لك مجلس في مقامي ، فلماذا هذا التمادي ؟.
فغيابك عن مجلسي طال فساورتني عنك الظنون.
أنت تعلم يا هلال أن لي أبن و بنت ماتا في زمن الطاعون .
هلال: نعم ، و أبي و أمي ماتا أيضاً بسبب ذلك المرض الملعون .
السلطان: الأن عليك زيارتهم والاطلاع على أحوالهم ومعرفة متطلباتهم.
سيعطيك الفقيه الإشارة لتحديد وقت و ساعة ومكان الزيارة .
رد الفقيه و قال: سيكون يوم الجمعة هو يوم الفال والوقت المبارك هو وقت الزوال ، و غداً سأذهب إلى المقبرة لتحديد مكان النزول .
لم يعط السلطان لهلال مجال للرد أو طلب مهله بل طلب منه التنفيذ على وجه الاستعجال.
مُنع هلال من المغادرة و في الصباح ذهب مع الفقيه إلى المقبرة فحدد الفقيه مكان الحفرة و بدأ العمال في الحفر ، استأذن هلال للذهاب لتوديع قمر
فاسرع إلى خاله فأخبره ، فظهرمعصار مبتسم منشرح الحال ، قال هلال : لقد داهمتني الأهوال و أرى أن النجاة من هذه الحفرة مُحال.
معصار ; هل يوجد بيت قريب من المكان ؟.
هلال : نعم ، بيت خالي معصار المصان.
إذاً عليك أن تذهب الأن و تحضر عمال يحفروا من داخل البيت باتجاه الحفرة التي يحفرها عمال السلطان في مسار مقابل و ميلان بحيث في نهاية المطاف يلتقيان ، و عليك بإخفاء التراب عن العيان ، واذا حان موعد إنزالك ستجد من يكون في استقبالك.
اذهب وستأتيك بقية الأخبار عبر عامل من عمالك.
عاد إلى قمر مكسور الخاطر و شرح لها ما هو مقبل عليه من المخاطر.
ذرفت الدموع و صالت و جالت وقالت : ممنوع ، لا تحضر بكرة و لا تنزل حفرة ، سنشد الرحال في الليل الغاش و نترك الفقيه والسلطان يتناطحوا كالكباش.
فقيه كائد وسلطان بليد معاند ، لا ترد نفسك الهلاك فليس لي في هذه الدنيا سواك !.
قال : أعلمي يا قمر أنك سراجي الوهاج ، لأجلك أشق الإعصار و أركب الأمواج ، سأنزل بكرة بعد الزوال الحفرة ، و في المساء ستصلك مني هذه الصرة .
فبدأوا من داخل البيت بشق الحفرة ، فأكمل عمال السلطان الحفر فرفعوا السقال ، فثقب عمال هلال و تلاقت الحفرتان في الحال.
كان خبر زيارة هلال لابنا السلطان في المقبرة قد انتشر في أرجاء المدينة ، فتوافدوا إلى جوار الحفرة في المقبرة لمشاهدة هلال وكيف يتم إنزاله.
حضر السلطان بحاشيته والهدايا مصندقة على الجمال محملة ، وصل الفقيه حامل في يمينه كتاب و في شمالة حجاب عليه عمامة سوداء و ثوب أبيض و رداء .
برز هلال بنكف وعلى حافة الحفرة وقف ، ضاحك شغوف لا مرعوب ولا ملهوف ، عجب الجميع لأمره ! فتهامسوا و تغامزوا و أسروا النجوى بأن للفقيه أمر خارق مارق عابر ، فبقدرة قادر يُنزل الزوار إلى المقابر.
اقترب السلطان من هلال فسلم عليه بالأحضان و قال: أبلغ سلامي لقرة عيني وأعطهم الهدايا والنقود .
تلعثم الفقيه و قال : حان وقت النزول .
- هيا عمال انزلوا هلال في الحفرة في الحال مربوطاً بالحبال.
هلال: أحب أن تنزل الهدايا قبلي تكون بشوشة بوجهي قبل وصولي.
السلطان : رأي هلال هو الصواب.
فبدأوا بإنزال الصناديق بالحبال ، فكان صاحب هلال يستقبلها يفك الحبال عنها و يأخذها في الحال.
أندهش الفقيه لما يجري ! فقد تم انزال كل الصناديق والهدايا ، فتم رفع الحبل من الحفرة فاضي ، حان وقت انزال هلال.
رفع يديه و رُبط بالحبل من خصره ، فانزلوه في الحفرة على مرأ من الحشد من حوله .
بعد انزال هلال انصرف الجميع ، فعاد الفقيه بعد الغروب فانزل الأحجار في الحفرة بغرض قتل هلال و دفنه ، انتقل هلال مع الهدايا إلى بيت خاله
، فارسل إلى قمر الصرة فاستبشرت بنصره ، عاد هلال متخفي إلى قمر.
أما الفقيه فقد عاد إلى بيته منشرح الحال بعد أن أحس أنه قضى على هلال راع الغنم والجمال.
وبعد يومين أتى الفقيه ليلاً بالعمال وقام بحفر الحفرة لإخراج الهدايا والأموال ، فبزغ نور الصباح ولم يجدوا داخل الحفرة شيء ، فتعكر لدى الفقيه الحال و دارت به الوساوس واجتاحته الأهوال ، فقد نبش فلم يجد جثة هلال ولا الهدايا .
فأُصيب الفقيه بمرض التثاؤب والقُعام ،
بعد شهر ظهر هلال في الصباح الباكر واقفاً فوق الحفرة لابساً ثياب الصالحين ، بلغ السلطان الخبر فحضر ، اجتمع أهل المدينة قاطبة صغار و كبار شيبه وشبان ، الكل لهلال ناظرين منذهلين ، علم الفقيه بخروج هلال من المقبرة سالم فخر من قوامه و ارتعدت مفاصله وعظامه ، فحُمل إلى بيته بالمراعي و بقي طريح الفراش قاطع للعيش والمعاش.

أما السلطان فُسر أيما سرور بما أتى به هلال من أخبار أهل القبور .
هلال ذهب إلى بيته بعد أن أذن له السلطان لغرض الراحة والاطمئنان ، على أن يأتي إلى مجلس السلطان فيخبره بما جرى و كان.
كثر على باب هلال الزحام وتعالت الأصوات وتشابك الكلام ، خرجت اليهم قمر وهم يتزاحمون كالنعاج .
أطلت عليهم من مكان عال فصمتوا كانه قُطع البث عن الإرسال ، فقالت: ماذا تريدون من هلال ؟ فقد طال به المطال و أرهقه سهر الليال .

نطق الجميع بصوت عابر : نريد أخبار الموتى في المقابر.
كان كل واحد يريد أن يسأل عن أحوال ميته ، فقد صدقوا الفقيه ولم يهتدوا إلى حيلته.
قمر : عليكم التوجه إلى أمام قصر السلطان
فهناك سيحضر هلال و يذيع الكلام أمام الأعيان.
فتوافدوا حتى عج قصر السلطان ، فلحقهم هلال فبادرة السلطان بالحفاوة والترحاب.
فأجلسه في المقام و أزاح عنه الزحام.
و قال: أنقل الينا يا هلال أخبار موتانا في مقابرهم ؟.
قال: أمورهم سابرة و بيوتهم عامرة ، يتبادلون الزيارة فيما بينهم ، طائفين عاكفين إلى ربهم ناظرين ، يُقرئونكم السلام و طيب الكلام و يتوسلون منكم الدعاء بالمغفرة والرضاء.
نطق الجميع بكلمة : أمين.
السلطان: اخبرني عن أولادي و ما هم عليه الآن ؟.
قال : يقرؤنك السلام الوفير و يشكروك على الهدايا شكراً كثير.
لا ينقصهم شيء ، هم في نعيم شديد وعيش رغيد ،
إنما هناك أمر ينغصهم و يكدر صفوهم .
السلطان: ما هو ؟.

قال: لقد بلغ أولادك سن الزواج و قد حصل النصيب فخطب أبنك بنت شيخ و قور كاملة الخصال تسر الناظرين.
وتقدم اليه شاب تقي زهي ميسور مستور فخطب أخته وهم لك ناظرين ، دُفعت المهور وجهزت الهدايا والعطور وعلى إكمال نصف دينهم مقبلون.
قال السلطان: أنطق يا هلال ماذا ينقص البنين ؟.
قال: إنهم بحثوا حتى يأسوا.
قال السلطان: على ماذا بحثوا يا هلال ؟.
قال: بحثوا عن فقيه يعقد عقد قران زواجهم وتتم أفراحهم ! فكما تعلم لم يمت فقيه في هذه المدينة من قبل ، فقبر جوارهم ! فإذا كنت تعزهم فأبعث اليهم الفقيه يكتب عقد قرانهم .
السلطان: على الرحب والسعة ، سأبعث إلى الفقيه
و أعطيه ما يكفيه فهو صاحب كتاب سيحدد طريقه و مكان إنزاله.

علم الفقيه بما جرى فكح و بح و سعل و رقل وظهر بين أرجله البلل ، احضروا الفقيه إلى السلطان محمول ملفوف بالكفن يشكي مرضه و ضعفه والعمى والوهن.
اصر السلطان على إنزاله ليعقد زواج عياله ، ما لم فالسيف بانتظاره.
ذهبت زوجت الفقيه نُباح إلى زوجة الراعي قمر طالبة منها التوسط لدى هلال و مد يد المساعدة للفقيه لتخليصه مما هو فيه.
أبدت قمر تفهمها طلب نُباح ، عند اللقاء في المقبرة الصباح حضر السلطان والأعوان
والفقيه و زوجته نُباح ، واحتشد الناس أصحاب الأموات بهداياهم ، علم الناس بموعد نزول الفقيه فاحضر كل واحد ما لديه من الهدايا ليرسلوها مع الفقيه إلى موتاهم ، تلاهم بالحضور هلال و قمر فتوجهت اليهم الأنظار.

طلب السلطان من الفقيه تحديد مكان حفر حفرة الإنزال .
قال الفقيه : على هلال أن يقوم بالاختيار ، إنه يعلم بأنفاق المقابر وسُبل الديار.
تقدم هلال وقال: المسار هو نفس المسار والغار نفس الغار ، فما اختاره الفقيه لي فهو الذي له أنا اختار ، لكن مع اختلاف موعد الإنزال يكون في بداية جنح الظلام ، هناك اختلاف في الأوقات فبداية الليل عند الأحياء يكون بداية الصباح عند الأموات.

بعد المغرب كان الموعد ، حل الظلام فبداء العبيد بربط الهدايا بالحبال و أنزالها الحفرة كرة بعد كرة حتى اكتملت ، فكان يطلع الحبل من الحفرة فارغ فظنوا أن الموتى أخذوا ما كان فيه من هدايا و فكوا عُقدة.
حان دور الفقيه ، أقترب من هلال و في إذنه همس
قائلاً : كيف ؟.
هلال: لا تخاف ، سنتركك مربوط بحبلك كي يتمكن المنتظرين لك من الإمساك بك قبل ارتطامك على قبة القصر الذي هم على سطحه منتظرين استقبالك.
ربطوا الفقيه مطأطئ الرأس و ألقي في الحفرة وحُسم أمرة ، فأنفض الحاضرون إلى ديارهم عائدون.

عاد هلال و القى عليه الثراء في الحفرة و ملاءها بالحصى.
وقال: الأن يرتاح من شرك الأحياء ، فأرني ماذا ستفعل بالموتى.
رجع هلال لقمر و تبادلا المشورة مع صاحبه ،
فاقروا توزيع الهدايا والأموال على الفقراء والمساكين ومعدمي الحال و عاشوا في بهجه وسعادة .

النهاية ......

الحكمة من القصة :

من حفر لأخية حفرة وقع فيها .
القناعة كنز لا يفنى.
عفو تعف نسائكم.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

كيد الرجال
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.