Dr. Manal Eissa

شارك على مواقع التواصل

راقصة التنورة
عرفتها من عينان إعتاد الشعراء وصفهما بعيون المها فى إتساعهما وكأنهما تصبوان بذلك الإتساع إلى رؤية ما وراء عالمهما المادى. وهما أيضا كالماس فى بريقه ليعكسا طموح وشغف شابة فى الثلاثينيات من العمر.
وتأكدت من هويتها وهى قادمة من داخل البناية حين إستدارت لتستقل عربتها الصغيرة فرأيت نفس الشعر الأسود الطويل المنسدل الذى يكاد أن يصل للأقدام من فرط إمتداده ليميز صاحبته عن باقى فتيات المكان منذ الصغر وربما ليضفى عليها خصوصية فنانة المستقبل.
هى سما...هذه الطفلة الصغيرة التى ألفها وأحبها الجيران لروحها المرحة وإبتسامتها الصافية وخفة حركتها.
ناديت عليها قبل أن تغادر بسيارتها: سما..سما..إنت سما!
فأجابت بإندهاش: نعم نعم..أنا سما..مين حضرتك!
تهللت سما لرؤية صديقة والدتها وأقبلت مسرعة بخفة حركتها المعهودة لتحيتى.
سما منبهرة من شدة المفاجأة: طنط إيمان!!!!
وبعد زوال تأثير المفاجأة، أصرت سما وألحت فى إصرارها على إصطحابى إلى المكان الذى أقصده. غادرنا سويا لتروى لى سما فى الطريق قصتها ورحلتها حتى وصولها إلى هدفها كأول فتاة مدربة ومؤدية لرقصة التنورة.
وفى الطريق إلى جلسة تدريبها لفرقتها الجديدة، والتى كونتها من الفتيات الموهوبات، روت لى سما كيف أصبحت أول صاحبة فرقة رقص نسائية للتنورة. ومن شدة حماسى طلبت منها حضور البروفة - كمتفرجة بالطبع. وعلى الفور رحبت بطلبى. وعند وصولنا، إستأذنت سما لبضع دقائق لتعود بعدها بملابس العرض المبهرة للعين ولتصعد إلى خشبة المسرح لإلقاء محاضرتها العملية عن التنورة. لكننى لا أدعى أننى تعرفت عليها من أول وهلة من فرط المكياج والتنورات المزركشة التى أضفت عليها حجما أكبر من حجمها الأصلى، ومن الأربطة الملونة التى تلف رأسها فى شكل التعصيبة (والتى تم ربطها بإحكام. فقط ميزتها من صوتها حين إستدعت الراقصات لمراقبة حركاتهن).
سما: إستعدوا يابنات من فضلكم...الكل يجمع عندى هنا على خشبة المسرح.

لم يظهر من سما سوى وجهها المبتسم الأخاذ بنفس الشعر الأسود المسافر ليلاً إلى أرجاء الدنيا بأرسها.
وبدأت تنورات سما أو (اللفيف) المنسدل من الوسط فى الدوران على إيقاع الدفوف ونغمات الآلات الشرقية وهمهمات المنشدين..
كانت تنوراتها متباينة فى الطول شديدة الإتساع تطوى كل واحدة قصة ثراء موروثاتنا من فرط ألوانها وموتيفاتها الغارقة فى مصريتها لتحمل بذلك هوية أمة. كل ذلك جمعته (السبتة) أو الحزام.
وهنا، وبمجرد بداية تلك الحركات الدائرية، أظننى إستوعبت وظيفة هذا المظهر. ففى البداية، كان الدوران بطيئا ...بطيئا ثم تصاعدت وتيرته تدريجيا... وطال الدوران... وإستمر. ومع كل تصعيد للدوران ترتفع يداها رويدا ...رويدا إلى أعلى وكأنها تطلب المدد وإستجابة النداء من الخالق. ويرتفع الذراعان أيضاً ليصلا إلى أبعد مدى... فكل أجزاء سما ترغب فى الصعود لولا قوانين الأرض التى تجذبها إلى أسفل. لكن دائما الروح التقية النقية الورعة تأبى أن تهبط فتقاوم لتبدو وكأنها صاعدة بينما هى لا تزال فى مكانها حيث عالم الفناء. ولا أدرى لماذا شعرت أن سما تنفصل عن عالمنا المادى السفلى فى محاولاتها للصعود والإرتفاع إلى عنان السماء بتلك الروح الهائمة فى الملكوت وفى حب الله ورسوله. ثم تأتى محاولات الرأس وحدها بحركتها فى كل الإتجاهات محاولة التنصل والفكاك من سجن الجسد، ورغم أن الرأس لا تفلح فى الهروب، إلا أننى أحسست مجدداً أن الروح تنتصر لتصعد إلى درجات العلى - لكننى لا أعلم إلى أين بالضبط.
كانت هذه رحلة (اللفيفة) – رقصة التنورة – تلك الرحلة الصوفية الروحانية التراثية الفلسفية الغارقة فى المحلية والمشيرة فى دورانها إلى حركة الكون وتعاقب الليل والنهار تؤديها صاحبة الروح المبتهجة بفرح وإقبال. يا لها من فلسفة ساعية لتنقية وتطهير النفس من شوائبها وظلامها ومعاصيها للرقى إلى دوائر من نور. عبرت سما عن كل ذلك حيث بدت سعيدة وعاشقة وباكية ومؤمنة ومتيقنة ومرتقية وزاهدة.
غادرت المسرح بعد أن ودعت سما يملؤنى التفاؤل والأمل بمستقبل شابة واعدة فتشت فى ثراء وأصالة الأجداد فشرعت فى إحياء فكرة الزهد والترفع لتلخص فلسفة الكون والوجود. وبإنتهاء رحلتى مع سما وصلت إلى نهاية رحلتى مع المكان فإكتشفت بذلك سر من أسرار الحياة. ربما أضفت الفتاة على تلك الرحلة بصيص من الأمل وبريق من النور حين عبرَت بى من عالم الذكريات المنصرم إلى عالم الغد المستقبلى. لقد إستلهمت هذه الشابة الواعدة من ماضيها قيمة من قيم الجمال لتحييها مجدداً فتضحى همزة وصل بين ماضى ولى وغد آت.
من المجموعة القصصية (شجرة التوتة) للكاتبة د.منال عيسى - دار المعارف 2022











0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.