Mohammadgarrah

شارك على مواقع التواصل

أ

أخرج منها تائهاً وسط زحامها مشنوقاً بهوائها الخانق، وأعود إليها وقد صارت مثل مدائن الأشباح حتى وإن كان النهار قد انتصف والشمس تملأ الفضاء.
في رحلة الخروج كنت منفياً إلى مدينة كثيراً ماداعبت خيالي؛ فكنت أرى نفسي من أصحاب قاماتها المنحوتينفي شموخ؛ وأنا أتجول يين أفنية وأساطين معبديها الكبيرين؛ الشمالي حيث "آمون" بقوته وجبروته وفحولته وسطوته؛ والجنوبي حيث تنتظره "موت" في عز ودعة وسلام!، فهل أفلحفي رحلة عودتي وأستعيد اسمي وأراه منقوشاً في كل أوراق البردي، وفي الدفاتر، وعلى الجدران؟!
هل ما أنا فيه بعث وميلاد جديد؟!، لو كان كذلك سأسترد اسمي ولن أرضى بغيره بديلاً، وسأعلم أن أبي كان حكيماً عندما أسماني بذلك الأسم الغريب والعجيب!
هاأنذا أعود والشوارع تسبح في غلالات من بقايا غبار ودخان يشهقه الجميع؛ من خرجوا بحثاً عن قوت أولادهم أو المختبئون خلف الجدران التي كساها الصدأ وأنهكتها الشيخوخة.
سكنت الروائح كامل جسدي مثلما سكنت تفاصيل هذا السائق الذي أصر على مزيد من الأجرة بعد أن غادرنا المطار وأصبحت في قبضته، فهلكنت سأعارض والشوارع تبدو بهذا الشكل الموحش؟
لماذا يختبئ الناس؟، هل تركوا ثورتهم بينما الميدان مايزال يهدر باصوات الشباب؟!
شغلني السؤال وترددت في طرحه على السائق الذي بادرني بقوله: لم أقصد أن أضايقك، ولست طماعاً، ولكن حال البلد كما تراه، ورائي أسرة وأفواه لم تعرف الشبع، وقسط التاكسي لا أستطيع تدبيره!
لم أعقب على كلامه ولكنني نظرت له وسألته بلا اهتمام: أين الناس؟!
نظر لي مهتماً، وبدا مفكراً فيما سيرد به، فقال بلسان خبير يتذاكى، ودهاء واثق مطمئن: كل في مكانه، من يخرج لقضاء مصالحه، ومن يذهب للميدان؛ ومن يجلس خلف بابه لا يخرج إلا للضرورة ثم يعاود الجلوس أمام الشاشات واجهزة المحمول والكمبيوتر!
ابتسم ساخراً وبصوت خفيض قال: هناك أيضاً الرئيس وناسه وربما يضحك ملء شدقيه ومن حوله حاشيته يصفقون وهو يعاود جملته الحكيمة " خليهم يتسلوا "!
انتظر ردي فلم أعقب فمضى مسترسلاً ليزيل لبساَ ظنه يسكنني: هناك مظاهرات في الميدان خرجت إلى كل المحافظات، وهناك مناضلون لهم طرقهم التي لا أعرفها، ثم ختم مؤكداً: الكل ثائر حتى من يتوارى خلف حياده!
سألته لأظفر منه بما يطمأنني: هل هي ثورة وهل تنجح وتكتمل ملحمتها؟!
رد بسرعة ملخصاً المشهد في جملة بليغة: لو زمجر الجيشفلن تجد أحداً!
التقطت منه الجملة بفرح وفهمت ما يرمي إليه فاطمأننتوسألته متأنياً: هل تعتقد.....؟
قبل أن أكمل قال: الضعف قد يكون طال النظام، واصل مسرعاً ومفسراً أكون مخطئاً في ظني، لكنني خائف من القادم!
قلت: تخاف من الغد إذن؛ فبماذا قصدت عندما قلت لو زمجر الجيش؟!
قال مهوناً وبدا من نبرات صوته أنه يرسم اللامبالاة: أنا لا يهمني من يحكمني!، ما يهمني هو أمني وقوت أبنائي، وما يحدث لا يبشر بخير حتى وإن كنا قد مللنا النظام وبلغت منه المرارة حلوقنا...!، أنت ترى البلد بنفسك، سألتني أين الناس؟، وأنا أجيبكمن جديد وبصراحة ودون مواربة إن كثيرهم يكتفيبالمشاهدةإما خائفاً وإما منتظراً!
تذكرت مع كلامه حالنا عندما كنا نخرج في المظاهرات ونستجدي الناس ونراهن على انضمامهم إلينا ولكنهم كانوا في كل مرة يخذلوننا حتى كانت المرة الأخيرة التي وقعت فيها في قبضتهم، مر الخاطر بآلامه سريعاً مخلفاً مرارة وكمداًفقلت له مبدياً اهتماماً ومزيلاً ارتباكاً: وماذا عنك أنت؟ هل شاركت؟
لم يرد على سؤالي لكنه نظر لي مفكراً وهو يحك ذقنه فبدا محترزاً متردداًفواصلت استفهامي: وهل في سبيل العيش نرضى بالهوان؟!
ظل على حذره فمضيت أنا شارحاً: ماحدث بالأمس يشير إلى أن القادم أفضل، ألا ترى ما تسبح فيه المدينة؟؛ الدخان والغاز يسكنان الأجواء، مثل هذا يدفع الناس لأن يواصلوا، وقفة 28كانت قوية وقد كسرت النظام وأربكته، الشرطة كسرت، والجيش حتى الآن يقف محايداً وإن كنت لا أعتقد أنه سيظل محايداً، الجيش سينحاز والظواهر تشير إلى انحيازه للناس حتى وإن كان مبارك مايزال هو قائده الأعلى حتى الآن!
قال: ما أعلمه قليل.
قلت: ولكنك لخصت الحوار بقولتك لو زمجر الجيش!
قال: لو زمجر الجيش سينحاز للنظام.
قلت: فهمت من كلامك عكس ما تشرحه، لو كنت قد قرأت الأحداث جيداً ماكان قد سكنك هذا الظن، الجيش مع الشعب ولو كان يريد التدخل لصالح الرئيس لفعلها ودك الميدان بمن فيه منذ جابت آلياته العتيقة شوارع المدينة!
لم يرد ولكنه زفر متاوهاً، فهل كان يفرغ بزفرته بعضاً من كمده حتى لا ينفجر مثل إطار سيارته الذي أرعبني صوته فظننتها قنبلة أو قذيفة قد استهدفتنا؟!
صرنا نقترب وكان الصمت قد عاد ليلفنا ويخيم على سيارة التاكسي ذات اللون الأبيض التي لم توقفها إشارة ولم يعطلها عابر طوال الطريق!

ب

نالت السنوات الماضيات مني مثلما نالت من غيري ومن البلد، بدا لي الأمس قريباً مثلما بدا لي بعيداً، ما أبعد الأمس وما أقربه، يبدو لي كما لو أنه اليوم الفائت أو الذي ينتوي أن يفوت، ثم أعود فأراه بعيداً حتى وإن كنت أقبض على تفاصيله!
متى عشت تلك السنوات وكيف عشتها؟!، تفاصيلها تتقافز أمامي فتتداعى الذكريات وأتذكر ذلك اليوم الذي كتب فيه السطر الأول في رحلة الخروج من القاهرة مدينتي القاسية!
كنت مهيئاً لاسترجاع الماضي وذكرياته واستعذاب تفاصيله لكن السائق بسيارته التي كانت تتلوى بين الأزقة أعادني إلى الواقع وهو يسألني عن مكان البيت!
انتهى الشارع على شارع عرضي قذر على جانبه سور متعال!، لم أكن أحلم؛ ولم أكن قد ضللت حتى أتوه عن البيت الذي شهد ميلادي، وعشت فيه طفولتي وشبابي!، مالذي حدث؟، وأين وكيف اخنفى البيت بأرضه وجيرانه؟!
مالذي حدث، وأين ذهب الناس وانكمش الحي أمام هذا الجدار العازل؟!
بدا المكان شبه خال وكان النهار قد انصرم معظمه؛ لكن أصواتاً كانت تسبح في الفضاء بعضها هارب من نوافذ البيوت الباقية؛ وبعضها آت من الغرز القليلةبمن يجلس عليها من الزبائن ذوي الوجوه الكالحة؛ بينما نباحات هزيلة لكلاب الشوارع بعضها منغم بعواء يشبه عواء الذئاب تأتي هي الأخرى متقطعة من بعيد!
سألت لأعرف ماذا حدث، وسألت لأعلم أين ذهبت أشيائي؟!
أشاروا جميعاً إلى المبنى الذي يولي ظهره لنا و لبولاق، مبنى ماسبيروبجبروته وارتفاعه واتساخ حوائطه الكئيبة!، المبنىالذي تمدد بغشمهفالتهمعدداً من البيوت العتيقةصنع سوراً متعالياً يفصله عن الناس والشوارع الضيقة وما تبقى من حينا الذي تضاءل لتبتلعه حكايات قادمةلزمن مغاير!.
لمأتعرف على أحد ممن سألتهم لأستأنس به؛ ولم يعرفني أحد ليخفف من غربتي، بدا لي أن سكان شارعنا وجيرانهم قدأبيدوا أو انقرضوا، إلى أين أذهب؟ كان السؤال ينقر رأسي حتى خلتها تنزف، إلى أين أذهب والناس تنفض من حولي واحداً بعد آخر وهم يمطون شفاههم ويمصمصونها؟!، ماذا عليَّ أن أفعله والبلد تعيش بعضاً من الفوضى التي بشر بها الأمريكان؟!
أمسكت بقطعة حجر وبكل قوتي رميت بها السور المتعال فأحدثت صوتاً سرعان ما تلاشى وهي ترتد خائبة باتجاه الأرض، أعدت الكرَّة مرة ومرات وأنا ألعن المختبئين خلف السور لكن أحداً لم يرد وصدى سبابي يصنع نحيباً سرعان ما يتلاشى بين السور والبيوت القديمةحتى أتي من زعق في وجهي آمراً وهو يدفعني بأن أغادر المكان؛ نظرت في وجهه مندهشاً وأنا أتشبث بالأرض؛ كان وجهاً مألوفاً وشبيهاًبتلك الوجوهالصدئة التي مازالت تسكن المكان.
انثنيت حذراً وحملت حقائبي لا تشيعني إلا نظرات متوعدة من ذلك الشخص الذي لا أدري لماذا ناصبني العداء!
****
جـ

مصدوماً ومهزوماً طويت الحواري والأزقة.
هل هذه هي بولاق المنتسبة إلى أبي العلاء؟!، لماذا أسموه حياَ؟، ماهي علامات الحياة هنا؟، ومن قال إن الناس هنا أحياء؟، وإذا كانوا أحياء وهو حي فلماذا يدفعون دفعاً إلى الموت؟!
كان، وكانوا، أدواتماض نبكيه ونتحسر عليه لما نكتشف أن المستقبل لم يحقق لنا شيئاً من أحلامنا التي حلمنا بها وعشنا على أمل تحقيقها لما ضل الحظ طريقه إلينا واختار - ربما دون حاجة - غيرنا!
تراها كيف كانت بولاق قبل أن أعيها؟، هل كانتأفضل حالاً عندما كانت بسيطة غير مزدحمة بدورها وشوارعها؟، هل كانت أجمل بفقرها وهي تتدثر ببركة الأولياء الذين يتوزعون في مراقدهم قرباً وبعداً من سيدهم أبي العلاء؟
هل كانت بولاق أجمل بغشمها وبكارتها وعشوائية كل أرجائها...؟، هل كانت كل هذا بوجوه أهلها الذين لم تعذبهم الحاجة حتى وإن طل العوز من تفاصيلهم؟!
كيف تراه كان جدي عندما تمرد على سكنه بحدائق القبة مبتعداً عن القصر ومالكه، وخارجاً من زمرة الخدم الجالسين أسفل أقدام أسيادهم، بانياً لنفسه تلك الدار التي زالت وحجب أرضها ذلك السور اللعين؟!
هل تمرد جدي فصنع ثورته على وضع لم يألفه وهو القادم من أرض لا يضع أهلها قيوداً على أقدامهم لما وجد نفسه مربوطاً بين بيته الصغير والقصر الكبير؟
هل تراه كان متمرداُ أم أنه كان يهرب مما لم يفصح عنه؟
لماذا خالف جدي الناموس وابتعد عن الحاكم بينما تقول النقوش وتؤكد الآثار أن كل العمال وغيرهم من الخدم والحشم كانوا لايكتفون فقط بالعيش قرب القصر بل كانوا يحرصون على أن ينالوا رضا الفرعون فيرضى أنتكون قبورهم قريبة من هرمه حتى يبعثوا ملبين لخدمته في الجنة!
هل قصدوا خدمة الفرعون في أخراه أم تراهم أرادوا أن يضمنوا موضع قدم لهم في الجنة الموعودة حيث ميراث أبناء الآلهة الذين تسيدوا على أقرانهم، فضمنوا الجنتين؛ جنة الدنيا؛ وحقول إيارو الأبدية في الآخرة؟!
ماذا تبقى من الناس الذين كانوا؟، ومنذ متى كانت الملامح تغني عنالصفات؟، هل من كانت له ذات الملامح ستكون معه ذات الصفات؟!
كان، وكانوا .....، فعل الماضي الذي أسرنا واستعبدنا فاستعذبناه ولم نقرأ حكمته المتدفقة بين ثناياه فنبصر المستقبل في تفاصيله!
هاأنذا أقع في أسر ذلك الفعل الذي تشتق من بنيته كل أفعال الذكريات حلوها ومرها، نحكي فنقول كان وكانوا، لكننا لم نحك مرة بفعل سنكون!
هل نستسيغ حكاية يتحدث راويها بفعل المستقبل فعل سنكون؟!، (سنكون في قادم العصر والأوان)؟
لماذا لم يجرب الحكاء مرة أن يحكي بصيغة المستقبل؟
هل نمتلك شيئاً من المستقبل حتى نتحدث عنه؟، هل نستطيع؟!،وكيف نحكي عن شيءلا نعرف تفاصيله؟!.
قد نمتلك فعل الحكي إن أردنا، لكن غيرنا هو من يأتي ويكتبالتفاصيل!، هل سنستطيع أن نكتب التفاصيل مرة أم ستظل غاية نحلم بها ولاندركها؟
أمريكا وغيرها من دول الغرب وأخرى في الشرق استطاعوا أن يحكوا عن المستقبل لما استوعبوا فعل كان وكيفوه بما هو كائن وما سوف يكون فجعلوا من الخيال حقيقة والأحلام واقعاً متاحاً للجميع، فمتى سنكون، أقصد في البداية متى نكون؟!
****
تتعثر قدماي في قاذورات الحواري، أمضي مستحضراً ماضياً بعيداَ، كل الكبار حكوا وقالوا عنها إنها فيما مضى كانت بسيطة، وكان أناسها أهلاً لبعضهم البعض، فكيف سكنتها كل تلك الموبقات؟، مالذي حدث؟!، قالوا إن الفقر كان يسكن كل أرجاء الحي، لكن القناعة والرضا كانت تنضح وتكاد تقفز من الوجوه الصابرة التي لم تشتك مرة من قلة ذات اليد....!، كانت البركة تسكنهم فيرتضون بالمكتوب؟!
مالذي تغير؟، ولماذا صار الناس هكذا يثورون ويتعاركون ويتلاسنون لأتفه الأسباب؟، كيف تحول أكثر الحي الذي اشتهر بشهامة أهله إلى وكر من أوكار المخدرات؟، لماذا كثرت بالحي تجارة الأعراض؟، مالذي تغير؟، أليس هؤلاء من أولئك؟، لماذا لم يرثوا من خصالهم الحميدة شيئاً؟، ولماذا صار المال هو هم أكثرهم؟، يسعون إليه بكل وسيلة فيختلط الحرام بالحلال!، مالذي تغير؟، ولماذا تحولت البيوت التي كافح من بنوها في الماضي إلى عشش وعشوائيات ترتدي أثواب الكآبة؟، هل كان الناس بما يرتكبون من آثام يقفزون إلى المستقبل، أم أنه كان يأساً لأنهم أموات في كل الأحوال؟!
تراها كيف كانت في تلك الأيام الخوالي، كيف بدتعندما كانتتسكن النيل ببيوت وملاه وميناء؛لم يكن شارع الكورنيش قد شق؛ولم تستأسد وقتها عمارات شاهقة على بيوتها البسيطة، لم يكن مبنى الإذاعة والتليفزيون قد بني، ولم تكن الخارجية قد انتقلت إلى مقرها بجوار ماسبيرو فمحت بجبروتها التاريخ والحكايات والشجن الذي يصنع في النفس الشوق والحنين.
ترى كيف كانت بولاق عندما كان الشاطىء ميناء يستقبل الخير؛ بينما النيل يهدي نسيمه لكل العابرين؟
كيف كيَّفت وأهلها معاشهم وعلى الضفة المقابلة منازل بعض علية القوم في الجزيرة التي تحمل اسم الزمالك ورباطهم كوبري معدني عتيق تقول الحكايات أن مشيده هو نفسه من شيد برج إيفل في فرنسا؟!
هذا هو الحي الذي لم يكن يفصله عن ميدان التحرير شيء،وكانت منطقة معروف امتداداً له حتى مع شق شارع رمسيس ثم بناء كوبري أكتوبر فيما بعد.
تقوقعتبولاق وصارت بمثابة ركن عشوائي أو خراج متقيح في وجه القاهرة المتناقض والذي تتناثر عليه البثور وتطبق على أجنابه الكثير من الآورام، هاهو الوهن والجرب قد سكنا المبانيفتساقط بعضها وبعضها الآخر في طريقه للتداعيفلا تحكي حوائطه شيئاً القائم منها والمهدوم، ومثلها أيضاً الأزقة والحواري السالك منها والمسدود، لا حجر يحكي ولا طوبة تفسر!، حي ماتتاريخه لما شاخت مبانيه، فوقف يقاوم الزمن بلا ذاكرة لما تخلى عنه شيوخه وتهدمت مقاماتهم؛ ولما ارتفعت أدوار ماسبيرو ثم الخارجية ومعهما ذلك الفندق الذي تكاثرت أدواره فتكشفت لنزلائه الأغرابكل عورات الحي العتيق!.
آه يا بولاق، وآه يا أبا العلاء؛ هل تستحق أن تظل بولاق تنتسب إليك أنت يامن ارتضيت أن تتخلى عن ناسك ومريديك وترضى بالسكنى في مكانك وأنت مسلوب السلطان فتقطعت أوصال الملك لما ارتضيت بكان ولم تفكر فيما سيكون؟!،استعجم الماضي على (كان) وهرب المستقبل من (سنكون)، ضاع ملكك لكنك ظللت ملتصقاً ببولاق فلا تعرف إلا بك ولا تعرف إلا بها؛ (بولاق أبو العلا)، لكن اسمك طغى على المكان الذي تسكنه فصرت أنت العلم وصار الحي هو حي أبو العلا حتى وإن احتفظت الأوراق بالاسم القديم للحي التعس، سلبت أيها السلطان المسلوب اسم الحي مثلما سلبت الحكومة الأرض ومحت كل سطور تاريخها البسيط، واخترت يا سلطان المتصوفة أن تعيش في أوهام تصوفك حتى ضاعت كل أحاجي المتصوفين وانفرطت من بين يديك وقت أن أشهرت البلدوزرات أسلحتها وهي تزيل مراقد التابعين وبيوت المحبين، فبدا ما تبقى من الحي مثل دمل اختار أن يشوه وجهاً يحاول أن يتجمل فنفر من صديده كل الناظرين!
هاأنذا قد عدت يا بولاق في أيام مغايرة وظروف ملتبسة تفسرها غلالات الدخان وروائح الغاز التي ما تزال تعبق في الآفاق، هاأنذا أعود لأسلب من جديد، ضاع البيت وضاع الصبا والشباب ومعهما ضاعت كل الحكايات، أعود لأتوه بين الحواري والأزقة متحدثاَ إلى من لا يعرفني ولا أعرفه، قسوة بلغت مداها ونفي بلغ منتهاه، وموت يكاد أن يفرد جناحيه على (كان) ويستقر بناموسه على ما (سيكون)!
***
وجدتني بالميدان راغباً ومضطراً وكنت غريباً على كل الوجوه المتباينة التي يكتظ بها المكان.
ترى هل سأستطيع النوم وسط الثائرين، وهل إذا نصبت خيمتي سيقتحمها ذلك الفتى الأسمر بلباسه الكتاني القصير فيأخذني وأنا في نومي إلى عوالمه التي أعرف تفاصيلها ولا أراها في الحقيقة؟، ومن تراه سينقذني من ذلك الكابوس الذي يشلني وهو يكرر مشاهده فأرى النيل قد غطته سحابة منمركبات فضائية معادية قد تكون إسرائيلية وقد تكون أمريكية؛ ثم أرى المشهد نفسه وكأن ماأراه يحدث في أرض الرافدين، كيف تكون القاهرة هي بغداد، وكيف يكون النيل هو دجلة و الفرات، كيف أكون هنا وأكون هناك؟، ولماذا أراني أرتدي زي ( مونتو) ثم أعود فأراه رباً تائهاً بلا قوس أو سهم؛ ولا يزين رأسه تاج الشرف والقوة والعزة والفخر تاج الحرب تاج خبرش الأزرق!.
في الصباح أنا في "كان" وأسرها، وفي الليل تهرب نفسي إلى "سيكون" بأمانيها ورجاءاتها فتصطدم بما تراه من غيب لا تعرفه فتعود من جديدإلى سجنها التليد في كان؟!.

د

من أي تاريخ أبدأ؟ وعن من أحكي؟
إن حكيت فسوف أحكي بـــ "كان" فربما أصل في يوم ماإلى "سيكون" فالتاريخ الذي أعرفه يبدأ معي، إذن هي حكايتي، هي الماضي والحاضر الذي يوالي سكنى الماضي بتوالي الأيام والحوادث، هي كل ما أملكه وأستطيع سرده، حتى وإن خايلني المستقبل بكوابيسه التي تثير من الأسئلة أكثر مما تأتي به من إجابات!
أحكي فأقول: بالأمس القريب أعلنت أمريكا بثقة مائعة سقوط قلعة الأسود...بغداد،دخلت إلى (كان) بما (سيكون) فارتقت آلياتها العتبات المقدسة والمحيرة وتواطئ الراقدون تحت القباب الذهبية مع الأغراب؛ وأغمضوا الطرف عن أفعالهم؛ فتجسد الماضي بكل آلامه التي لم تفلح في طيها السنون!،انتشرت الدبابات والمدرعات وغيرها في أرجاء عاصمة الرشيد، وطلت المدافع من فوق جسور دجلة والفرات، وتقطع وصل واتصال العاصمة التي روت أحجارها أنهار الدم على امتداد التاريخ، وبثت"الجزيرة" مشهد الجندي الأمريكي الذي أصر على أن يكسي علم بلاده وجه التمثال، ولما رمى المشدوهون والموتورون جسد الرئيس بنعالهم!، كان الجندي قد أوثق رباط رقبة الزعيم وشدها إلى دبابته التي ما أن تحركت حتى تهاوى التمثال من عليائه وانخلع من قاعدته فرأينا أنه كان مثبتاً على خازوق معدني بدا منتصباً مثل قضيب فحل عفي، ومال التمثال مثل صنم جاهلي بكل وجهه ناحية الأرض!.
في المشهد كان أناس كثيرون مبتهجين وهم يدوسون صور الرئيس بأقدامهم ويقذفون التمثال بأحذيتهم وتصدرعنهم حركات وصيحات أشبه بصيحات المجاذيب أو الممسوسين...، انتابتني حالة من الصمت ولم تصدر عني أي إشارة ولا عبرت بأكثر من السكوت!، ترى لماذا خانتني ملامحي وقتها أمام المرآة؟، ولماذا خارت قواي داخل الحمّام فشج راسي حائطُه الأملس؟!
خرجت بلا هدف هائماً على وجهي وكعادتي ظللت أتنقل بين مقاه وسط البلد؛ مساءات عديدة مرت بتكرار تفاصيلها المملة؛ أتحدث وأصيح وأتشاجر فوصل صوتي إليهم، وصرت مراقباً، وفي مرات عديدة أفلتُّ من ملاحقة أُناس كانوا يهبطون علينا بزيهم المدني، كما حذرني أصدقاء كثر من التمادي خشية عاقبة رأوها قريبة لكن رأسي لم يكن قد تعافى بعد!
في الأيام القريبة كنت قد اعتدت الانضمام للمظاهرات الكثيرة التي كانت تخرج بين الحين والآخر والسير في ركابها حتى لو كانت هزيلة دون الاهتمام بالسؤال عن منظميها أو قادتها!، كانوا جميعا يراهنون على الجماهير المطحونة أن تنضم إليهم، أو أن يتبعهم بعض منظري الأمسيات وفرسان المقاهي في وسط البلد، لكن ذلك لم يحدث، حتى كانت المظاهرة التي خرجت تندد بما فعلته أمريكا بالعراق؛ خرجنا مستنكرين الاحتلال، وهتفنا ضد الصمت العربي والتواطؤ الدولي المريب، وتخاذل المتخاذلين، فحاصرتنا قوى أمنية معلومة، وأخرى اندست بين صفوفنا، بينما اكتفى المارة كالعادة بالنظر إلينا لبرهة من بعيد ثم المضي إلى حيث يسيرون!..
****
لم تكن لي سابقة الدخول إلى دهاليز ذلك الجهاز المحاط دائماً بسياج متعال من الرهبة والخوف، كان اسمه إذا جاء عرضاً اقشعرت الأبدان وامتعضت الوجوه، وكانت المرارة والرهبة تتجليان إذا ما حكى البعض عن أحداث عايشوها وسط الظلام الدامس لسراديبه التي لا أقدر على وصفها، أو عن فنون العقد النفسية، والمهارات السلطوية لمعظم أعضائه...، كانوا يرتعشون وهم يحكون، وكانوا يتعوذون بالله بين ثنايا الكلام ومع كل استهلال من ذلك الجهاز الرهيب بشياطينه والمردة الذين يديرونه!
كنت واحداً منهم، وكنا أعداداً كثيرة أتوا بها بعد أن أعمل فينا الجنود"الغشم" الضرب بهرواتهم وعصيهم"المكهربة"، ونالوا من عزيمتنا بقنابلهم المسيلة للدموع والمثيرة لحواسنا، فلما كفت خراطيم المياه التي اندفعت باتجاهنا من كل الزوايا، كانت جذوة اشتعالنا قد انطفأت فوقعنا ونحن نرسف في ملابسنا في قيودهم بعد أن فقدنا آخر ما لدينا من مقاومة!
سألني عن اسمي ثم عن وظيفتي وأجبته، لكنه فجأة ضحك عالياً، وتعالت ترجيعات ضحكته ساخرة ومستهجنة، وقال بثقة حاول أن يطبع بها بصمات صوته الأقرع والذي بدا لي من نبراته أنه لم يغادر شريحة الفئة العمرية للمراهقين والصبية الذين يدخلون إلى مرحلة البلوغ الجنسي بلهفة المحرومين بعد: " تُربي يعني"!، تربي يا بأ...!!!!!
لم استسلم!، رددت عليه استهزاءه وسخريته وأنا أعريه ممتعضاً من أعلاه إلى أسفله، كانت سخريتي واضحة الصوت والملامح وإن بدت مرتعشة؛ فأتتني صفعة من خلفي أطاحت بي، كتمت ألمي وابتلعت الإهانة غصباً، ورغم ذلك تماسكت واعتدلت من جديد وأنا ألتفت مذهولاً لأرى من تجرأ وفعل بي تلك الفعلة الشنعاء فرأيت شبحه!
كان نفراً ذا جسد ممتلئ غشيم التفاصيل...!، بدا لي مثل تماثيل آلهة الكفار في أفلام ظهور الإسلام الساذجة التي يعاود التليفزيون بثها كلما جاءت مناسبتها، وكانت دمامته تتشابه أيضاً مع تلك الهيئات التي تشفق عليها وتشك في ذكائها وهي تصادفك في غدوك أو رواحك، ولا أدري لماذا قربت بنيانه الفج إلى أجساد البغال المتعافية؟!
كان وجهه السمين لا يلوي على شيء حتى وإن بدا متحفزاً وكارهاً لنا فكرهته في لحظته....، واعتقدت أنه يستعد - ربما - لمعاودة صفعي، لكن الضابط أشار له فظل يدور في مكانه مثل دابة لوى صاحبها عنقها فجأة فكفها عن الجري، وكانت ما تزال في كامل لياقتها واستعدادها واندفاعها!.
عاود مستجوبي الابتسام ساخراً وهو يقول:" ما تزعلش يا سيدي، بلاش تُربي إذا كانت مزعلة جنابك: تنفع حانوتي؟!".
لم أرد، ولم يعطني الوقت للرد لأنه واصل بسوقية: "حانوتي أحسن"، "حانوتي بس بشهادة"!، ثم نظر لي ساخراً كمن ينتظر الرد: "ماشي ولا مش عاجب أهلك"؟!.
نظرت إليه قرفاً، كان وجهه الصبياني مايزال يثير اشمئزازي...، صارت عيناي في عينيه، كانت حواجبه مرسومة ومصفوفة بعناية، فبدت مثل حواجب النسوة عندما يعدن من محالالتجميل.، هممت بالرد عليه وأنا أتحسس قفاي من أثر قوة وألم الصفعة السابقة، لكنني ترددت والتفت دونما قصد، فرأيت ذلك الهمجي وهو يندفع خلفي بكل قوته، فانزحت مسرعاً من أمامه قبل أن يطولني أذاه، فسقط على الأرض بكل غشامته، وكانت ليلة سوداء على جميع المقبوضين.
وقع فضحك الجميع رغماً عنهم ونسوا آلامهم للحظة، وكنت أنا الأعلى قهقهة منهم!، مالذي جعلني أضحك هكذا؟، ولماذا علا صوت ضحكي عن الآخرين؟ هل هي ضحكة انتصار أم شماتة في بغل يتباهى بغباء عضلاته؟!.
أمرهم الضابط زاعقاً بتجريدي من كل ملابسي، فمددت يدي لأسترعورتي، لكنه عادفأمرهم بتقييد يدي وقدمي، وبأمره طرحوني أرضاً وأناموني على وجهي فاستغثت بهم – رغماً - أن يرحموني مما أحسست أنهم مقدمون عليه، لكن أحدهم وضع على عيني عصابة وعلى فمي شريطاً لاصقاً، فكنت أسمع دون أن أرى أو أتكلم، فامتدت يد كنت على يقين من أنها لابد أن تكون يد تابعه تعبث بقضيبي وتنقر بقوة على خصيتيَّ فصرخت من شدة الألم، ثم رفعوني وأنا أواصل الصراخوالأنين،.....كنت أشعر بهم وهم يدخلون عصا في مؤخرتي،ولم أكن أعلم هل كان ذلك يحدث أمام الآخرين؛ أم أنهم عزلوهم عني لأنني لم أعد أسمع وقتها إلا صراخي وأنيني الذي كان يرتد إليّ لما فشلت في إيصاله إليهم؟!.
جاءني صوت الضابط من جديد بعد فترة ظننتها دهراً، وكنت ما زلت ملقى على الأرض بإهمال، قال لي وهو يحاول ارتداء مسوح الناصحين وإن كان صوته المراهق يبدو شامتاً: "عامللي بطل يا موميا"؟، "مال أهلك ومال العراق وأمريكا"؟ "كانوا من بقية أهلك يعني"؟، "ما يروحوا في ستين داهية"، "تكونشي مفكر نفسك زعيم يا تحفة يا بن الشـ......"؟!
حاولت أن أصرخ فيه فلم أستطع، وكان أمره أن أبقى هكذا حتى الصباح، ثم اقترب بصوته المراهق وهو يحذرني: "المرة الجاية مش حتكون العصاية، وطبعاً أنت عارف قصدي أيه يابن" العاهـــ........".
*******

هـ

مضت أيام كثيرة بلياليها الحالكة والمؤلمة لم أهتم بعددها لتشابهها حتى جاء يوم استعدت فيه ملابسي دون أن ترفع العصابة عن عيني، ثم ترحيلي إلى قسم شرطةحيِّنا فأبصرت من جديد.
أمر الضابط ذو الملامح الجامدة بعمل فيش وتشبيه، وأمر مشدداً الجندي المكلف بي على ضرورة تسجيلي في مديرية الأمن، فركبت في سيارة ترحيلات القسم، وأنهى إجراءاتي هناك جندي آخر دون أن أفارق الجندي المخصوص الحريص على القيد الذي يربطني بيده، كان يبدو متخوفاً أكثر من اللازم، وأشعرني طول الوقت بأنني مجرم عتيد!.
عدت إلى القسم وظللت على ذمة المباحث أحضر طوابيرها الصباحية والمسائية، وأنال مثل غيري طريحتي من الضرب والسب والإهانة، لكنني لم أكن معصوباً أو معزولاً!، ومن عجب أنني رغم ثورتي في البداية ألفت القسم بكل موبقاته وتكيفتمع طقوسه!، وسلمت كغيري أمري لله، ولم أستطع أن أحدد على وجه اليقين هل كنت متواكلاً أم متكلاً، خاصمني في تلك الليالي الفتى الأسمر؛ وتخلف عن الحضور ذلك الرب الحزين (مونتو) وكنت في حاجة إلى وجودهما لأبصر بناظريهما صبحاً بالغ في التأخر فتمدد نتيجة غيابه الليل الكئيب حتى كان مساء فصباح حضرت فيه عرض الساعة التاسعة، وبعدها بدأت إجراءات الإفراج عني تأخذ طريقها للتنفيذ، فلما كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ظهراً كنت أتجاوزعتبات القسم إلى الشارع حيث الناس والحياة!
***
ملأت صدري من الهواء الجديد، وكانت القاهرة كما هي لما تبدت لي، مدينة تجمع بين العراقة والقماءة في انسجام عجيب وغريب!، وكانت الأيام الكثيرة التي أمضيتها محبوساً غير كافية لتحدث تغييراً على هذا الكيان الهرم الذي يتمدد متكلساً مثل حيوانات الأساطير القديمة، وفشلت في تقريب شكلها إلى واحد من تلك الحيوانات، فهل كانت مثل ديناصور عملاق يجري وراء فريسته فتسقط تحت أقدامه بمجرد أن يصيح صيحته التي يرتج لها الفضاء، أم كانت مثل غول تسقط فرائسه بمجرد أن ينظر إليها بعينيه المتوحشتين والمختبئتين وراء شعر حاجبيه الكثيف؟!، أم أنها بكل تلك المظاهر قد أصبحت مألوفة لساكنها وقاصدها فلم تعد قادرة على ألا تخيف أحداً!.
سرت على قدمي كل المسافة بين القسم وبين بيتي، لم يهتم أحد بي ولم يسألني أحدهم عن غيابي؛ وعندما صرت داخله عادت لي أشياء كان جسدي وروحي قد افتقداها.
كانت شقتي مبعثرة، وأوراقي الممزقة تحتل أركانها، قصدت غرفة نومي فوجدت أحشاء مرتبتها خارجها، لم تمتد يدي لترفع شيئاً، وعدت باتجاه الصالة، كان المشهد أشبه بمشاهد السينما، أثاث مبعثر، وأوراق ممزقة، وبطل عائد لتوه من المحبس، باب واحد وجدتني مشدوداً إليه كان هو باب الحمّام، قصدته تواً، وعندما وصلته كنت قد خلعت في المسافة إليه كل ملابسي، تدفق الماء المحبوس حراً على كل جسدي،وشعرت مع تدفقه وجريانه ثم سقوطه أنه يسقط معه كل ما أحسه من درن، فلما أتممت اغتسالي شعرت بالفعل أنني أستعيد توازني، لكنني انزعجت لما وجدت زجاج الحمام مكسوراً وأن جلبة من العاملين في ماسبيرو قد وقفوا في نوافذهم العريضة يشاهدون اغتسالي!.
*****
كانت تجربة، وكان جرحاً، وشعرت بعدها أنني شخصان يسكنان جسدي، فرأيتني محتجاً ورأيتني مهادناً، رأيتني ثائراً كما رأيتني متآمراً، حتى في أحوالي العادية كنت أضبط نفسي مستيقظاً في ذات الوقت الذي أكون فيه نائماً!
تخوفت من الأثر النفسي الذي يمكن أن تتركه فيّ تجربتي مع أمن الدولة والسجن، وأدخلني خوفي وقلقي إلى منطقة كنت أتخيل فيها الكوابيس والأحلام التي يمكن أن تطاردني، فتجنبت النوم ولم أذهب إليه أبداً، كان هو الذي يأتيني إذا ما أعياني الإجهاد والسهد، ينازلني سلطانه بأسلحته الناعمة وأنازله، وفي كل مرة كنت أهزم مهما احتطت أمامه، فإذا ما دخلت ملكوته هببت مذعوراً، لم تكن هناك أحلام أو كوابيس فقط، لكن كان هناك انكسار قد سكنني أيضاً،انكسار جعل خوفاً ما يلازمني، يسكن حروفي وينطبع على هيئتي،كان خوفاً يوازي في ضجره وألمه ما تعرضت له من ألم نفسي عند الشرطة التي غاب عنها شعارها القديم، "الشرطة في خدمة الشعب" لما حرص معظم أفراد هيئاتها أن يطلوا على الناس كأنصاف آلهة أو أرباب صغيرة تحكم بمشيئتها، فهم أحرارمتىشاءواوكيف شاءوا!.
كنت أهب من غفواتي مرعوباًمن قوى أثيرية تمارس معي صنوفاً من الجبروت واستعراض القوة، وتتمادى في استعلائها عليّ لأنني عاجز عن رؤيتها،حتى وصل بها غرورها وبطشها أنها كانت تشل حركتي حتى وأنا مستيقظ، وتمثل جبروتهافيما تسدده إلى جسدي الضعيف من لكمات كنت أشعر بها وهي تهوي بي إلى الأرض السابعة، ثم أرتد إلى الأرض الأولى فتمارس لعبتها معي وأنا واقع بالكامل تحت سيطرتها، فإذا ما جاهدت وحاولت أن أستعيد عقلي أراه هو الآخر ينطق بما برمج عليه من جانبها ونحى بعيداً برامجي.
كنت رغم تفوقهاأقاومها وأتحداها، وكانت في كل مرة أفعل معها ذلك تفرط في بطشها فلا أهادنها حتى استطعت في مرات وأنا أجاهد لأفتح عيني أن أقبض على بعض ملامحها التي ما إن تأملتها حتى وجدتها تشبه ملامح شخصأبصره كلما وقفت أمام المرآة!.
في مراترأيتهم يدخلون من أقصى زاوية في سقف الغرفة، كانوا عبارة عن مخلوقات متناهية القصر والصغر، ولا يزيد طول الواحد منهم على طول مسطرة صغيرة، ورأيتهم وهم يعتلون جسدي الراقد على السرير بواسطة سلالم خشبية، كما رأيتهم وهم يسلطون عليه ضوءاً مبهراً كان يأتي من الفتحة ذاتها !، وكان الضوء كفيلاً بشل حركتي إذا ما بدأوا طقوسهم معي.
كان هذا هو مبلغ جهادي معهم، ولا أدري هل أنا الذي انتزعت منهم ذلك المكسب، أم أنهم هم الذين سمحوا لي بالرؤية لكي يزيدوا من خوفي وتقل مقاومتي فلا أزعجهم إذا ما عادوا وعاودوا هوايتهم معي؟، وفي تلك المرة رأيتهم وهم يشقون صدري ويخرجون قلبي من ركنه وما أن وضعوه على قطعة قماش تشبه الكتان حتى رأيته هو الآخر، دخل لا أدري كيف لكنني ما إن رأيته حتى تقدم واقفا إلى جوار سريري وجنوده يرفعون قلبي إليه؛ أمسك به بكلنا يديه ثم ذهب في تراتيل وترنيمات ولما انتهى منها مد يده بمدية قصيرة شق بها القلب وإخرج من تجويفه بقعة تشبه الدم المتجلط أمسكها ونظر فيها مقلباً ثم وضعها على قطعة قماش كتانية أخرى مد بها أحد أتباعه يده: ولما انتهى رفع القلب في مستوى عينيه؛ نظر فيه ملياً وهو يتلو ما شاء من تعاويذ وصلوات؛ ثم تحرك فأعاده مكانه؛ بعدهاانحنى وهو يمد يديهفزم جانبي صدريبهما فالتحم الشقان وطاب الجرح ولم يترك أثراً يدل على مكانه؛وكان الفتى الأسمر واقفاً وسط زمرة الجنود مبتهجاً، وما أن انتهى (مونتو) من عمله إلا وجرى مسرعاً صحت عليه أن توقف فابتلعته أعمدةالمعبد البعيدة.
كيف عاد ذلك الفتى الذي كان كابوس طفولتي البعيدة، ولماذا يعود الآن، ولماذا لا يقف حتى أتحدث إليه ويسمعني؟!، ولماذا يشق مونتو صدري، وماذا فعل بقلبي؛ ولماذا يليسني لباس الحرب دون أن يمنحني صولجانه؛ أو يمدني حتى بحربة مسنونة؛ أو بقوس مشدود وسهم حتى أستطيع دخول الحرب والتصويب فيها والبلاء بين الكر والفر؟!، ماذا تقصد بفعلتك أيها الإله الذي تسكنه البداوة؟!، هل وضعت في قلبي من قوتك التي بعثرها آمون وكهته في أنحاء طيبة القديمة؟!؛ أتراك قد استعدت ماضاع منك فعدت بقوة وجاه أستطيع بهما كسر أعناق أعدائي؟، هل تراني سأحارب بيدي؟؛ كيف أقاوم كل تلك الجيوش وأنا مجرد من كل سلاح، أما علمت أن للشجاعة حدوداً وأن الشجاع هو من حافظ على شجاعته ولم يبعثرها دون خطة وعقل وهدف؟!.

و

جاءني الاستدعاء بسرعة التوجه إلى المقر الرئيس للمجلس بالعباسية، فتسلمت خطاب النقل المبني على توصية جهاز أمن الدولة.
أندهشت من مضمون القرار، وتساءلت بيني وبين نفسي:أهي مصادفة أن أنقل إلى الأقصر فأكون مفتشاً على معبدها، أم أن الأمر له صلة بذلك الفتى الأسمر الغامض الذي يقتحم عليَّ مرقدي ويبتسم لي في رؤاي وهو يجري بين جنبات معبدها الشهير، أو بذلك الإله المتعافي الذي يسكن مدينة أرمنت بالقرب من الأقصر عاصمة الدنيا في غابر الزمان، كنت أشعر بسعادة غامضة وأنا أتذكر ذلك الفتى الغريب واقتحامه الرقيق لمنامي، وتسلله بين تفاصيل ذكريات وأشياء أشعر كلما تذكرتها أنها مرت بي ومررت بها، لكنني كنت أنقبض كلما تذكرت مونتو رب البداوة والقوة والحرب الغشيم، لماذا يأتي ومالذي يقصده وهو يأتيني بلا سلاح، هل يدخل فارس إلى الميدان دون حربته؟!، لم ألق إجابة وظنتت أن رؤيتي لمونتو بهئته الشهيرة هي مدد ونصرة قادمة!.
تضاعف اندهاشيوسخرت من كرم من بيدهم الأمر لتغاضيهم عن خصم كلالأيام التي أمضيتها خلف القضبان، ولما سألتهم عن معنى ذلك لم أتلق رداً،فلم أعقب أنا الآخر واعتبرت الأمر غنيمة طالما لم يطلبوا مني التوقيع على أي أوراق!
هبطت درج العمارةالتي تسكنها الإدارة بأكملها، وعند المدخل رأيت أمين المجلس، كان وجهه يبدو لامعاً وشعره كما هو زاهي البياض، أشرت له بيدي وألقيت عليه التحية،ولأنه كان يعرفني جيداً رد باقتضاب وقد قطب جبينه ولوى وجهه باتجاه مكتبه مسرعاً ومن خلفه هيئة أركانه!، قلت لنفسي: الأفضل لي أن أسافر من لحظتي.
كانالزحام شديداً، والسيارات والحافلات تسد الفضاء بأدخنتها الخانقة، أمامي كان يقوم المبنى القديم لكلية الشرطة قبل أن تتحول إلى أكاديمية وتحمل اسم الرئيس وتغادر المكان باتجاه تجمعات وقصورالقاهرة الجديدة، فتبقت هنا مؤخرتها التي لا أدري ماذا يقومبداخلها الآن، لم أفلح في العثور على وسيلة مواصلات، سرت على قدمي مسافة على غير هدى، وتعجبت أنني وصلت إلى ذلك المكان العتيق، كان المكان هو مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية، طالعت اللوحة بغير اهتمام وأنا أواصل السير، كان آخر ما أتذكره أنني قرأت أيضاً اسم مستشفى الحميات، ولا أدري كيف غادرت تلك المنطقة، وما هي الوسيلة التي أقلتني من هناك؟!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.