shaban

شارك على مواقع التواصل

هذه هي اليافطة التي كانت موضوعة أعلى المخبز الإفرنجي الذي يمتلكه الحاج عبد الله، وكان المخبز مواجهًا لبيتنا في شارع الجسر.
عمّ عبد الله.. رجلٌ طاعنٌ في السِّنِّ، تجاوز السبعين بقليل، له العديد من الأولاد والبنات، كافح كثيرًا، وجمعهم في منزلٍ واحدٍ كبير يقع خلف بيتنا "في الجنينة"، حيث كانت هناك مساحة خضراء.. بدأ الفلاحون في بيعها في بداية الثمانينيات من القرن العشرين.. كانت متنفَّسًا لنا ونحن صغار، حيث كنا نمرّ عليها أثناء غُدُوِّنا، ورواحنا من المدرسة وإليها.. فمن شارع علي منجد، ثم شارع أحمد صالح، ثم الطريق الترابي، وعبر مَدَقٍّ طويل نمرُّ على أرض زراعية شاسعة. ومن ثمّ نصل لمدرسة شبرا الحديثة الإعدادية، الذي يجلس في بوابتها تمثال لبطة يخرج منها ماسورة، ويبدو أنها كانت نافورة؛ لأنِّي لم أرها يومًا تخرج ماء من فمها، ولو مرة واحدة!
اشترى الحاج عبد الله قطعة أرض، وقرَّر أن يبنِيَها عمارة كبيرة.. ممَّا حدا بباقي المقتدرين بالمنطقة المجاروة أن يشتروا مثله كعائلة رضوان وغيرها. كان الرجل قويَّ البنية، يضع شيئًا في أذنه يتدلَّى منه حبل ينفذ إلى داخل جلبابه قصير الكمّين، عرفت بعدها أنها سماعة أذن، فقد كان ثقيل السمع، ويوم أن يترك تلك السماعة كنا نواجه مشكلة معه، فلا بُدّ أن نرفع أصواتنا عند شراء الخبز "الفينو"، أو تسوية طاجن البطاطس باللحم؛ لأننا لم يكن عندنا بوتاجاز..
وقتها كان الحاج عبد الله يهوَى تربية الأبقار، والعجول كعادة معظم المقتدرين.. اعتاد الحاج على شراء العلف للعجول من الدكان الذي نملكه.. وكان يأمر عمّاله بإحضار تلك الأعلاف ومن ثمَّ يشرف على إطعام البهائم بنفسه..
الأستاذ خضر هو الابن الأكبر للحاج، ذو وجه أحمر يذكرك بالأرمن، أو الروس، لا يضحك.. صامت دائمًا إلَّا من خذ، وهات.. يعطيك طلبك في صمت وتجهّم.. عندما يكون المخبز مزدحمًا تجده متبرِّمًا ضائقًا بفعل حرارة الفرن.. حيث المروحة بالسقف كبيرة الحجم. ثقيلة، تدور في ملل ظاهر.. ولا تجلب نسمة هواء.. الكل في المخبز يملؤه العرق صيفًا وشتاءً!
خضر كان ضخم الجثة كأبيه، ويبدو أنه كان يعمل موظّفًا في الصباح ويأتي في المساء ليساعد أباه وأخاه منعمًا..
الابن الثاني للحاج عبد الله.. كان "منعمًا".. إنسانٌ ضخمٌ، يشتعل حركة ونشاطًا، ورث عن أبيه عمله الدائب، كنت أقوم من نومي، وأنزل لأشتري منه في يوم الجمعة ربع كيلو من كعب الغزال" نوع من النواشف به عجوة"، وكنت أغمسه في اللبن الحليب.. وبعدها كنت أشتري منه "لما قام بتطوير المخبز"، بعد موت أبيه أطباقًا صغيرة من الكيك، كان ثمنها لا يتعدَّى خمسة وعشرين قرشًا رفعها لخمسين قرشًا كاملة.. وكنت أشتريها!
منعم كان على العكس من أخيه.. صوتُهُ عالٍ دائمًا، يمازح الزبائن ويداعبهم، ولا تخلو مداعباته من كلامٍ فظٍّ جارحٍ أحيانًا!
قام المخبز على كتفيه، لاحظت ضعفه في القراءة والكتابة، فقد كان يعهد لأخيه خضر بكتابة ثمن المخبوزات على ورق، ثم يقوم بلصقه على زجاج الفتارين من الداخل حتى يكون واضحًا للزبائن. خط خضر سلاسل من ذهب.. أتأمّله في إعجابٍ، وحبورٍ..
خضر أحيانًا تضطّره ظروفه أن يغيب عن المخبز لفترات متباعدة، لكنَّ "منعمًا" لم يكن يأتمن أحدًا على المخبز، فأولاد الحرام كثيرون!
لما مات الحاج عبد الله – يرحمه الله- تمّ تجديد المخبز بعد أن بُنِيَتْ فوقه عمارة من سبعة أدوار، بناها "كامل بكير" المقاول الثري الذي حضر إلينا من "المِرِيس" كانت استثماراته كلها موجَّهة لبناء العمائر. مات بكير وانتقلت أمواله، وعقاراته لأبنائه.
تلك اليافطة الموضوعة على واجهة المَخْبز التي تحمل عنوان" طرّاد النيل"، كنت أقرأها، وأنا في العاشرة من عمري، ولم أعرف معناها أبدًا إلّا بعد عشرين عامًا!
يعمل في المخبز العديد من الصِّبْية والصنايعية، منهم من هم دون الثالثة عشرة من عمره، ومنهم من تجاوز العشرين، أوالثلاثين، كنت أنظر وأنا في الخارج إلى داخل المخبز، فأجد العمال يعجنون، ويخبزون كنت أتوق إلى الدخول عندهم، ورؤية ما يفعلون!
عبد الله: من بني سويف "بلدي" متجهِّمٌ دائمًا، في إحدى عينيه حَوَلٌ ظاهِرٌ، ضَجِرٌ من كلِّ شيء.. صوته عالٍ، أتاني مرة يشتري مني بعض الأشياء للمخبز، ونَدَّتْ منه بعض الكلمات، فهمت منها أنه تعب كثيرًا في حياته حتى استقرَّتْ به الحال في هذا المخبز، يؤمن بشيء واحد هو المال!
تنحصر فلسفته في الحياة في كون الجنيه هو المحرِّك الأساسي؛ والقوة الضاربة لكلِّ شيءٍ في هذا العالم!
إنها نظرة مادية.. وبرجماتية وَصَمَتْ معظم المصريين في هذا العصر العجيب!
الكل تقريبًا يلهث وراء المال.. ومعظم الناس- إلّا من رحم ربي- يجمع المال ولا يبالي.. أمن حرام هو، أم من حلال!
هذه الفلسفة البرجماتية النفعية.. طغت على قيمة الإخلاص.. وحولتها إلى قيمة مُتْحَفِيّة للأسف... مع أن ديننا عماده الإخلاص... ولا حول ولا قوة إلَّا بالله!
والآن أحدِّثك عن نموذجٍ آخرَ من نماذج الفُرْن الإفرنجي:
هاني: لا تسلني عن باقي اسمه؛ لأني ببساطة لا أعرف!
قاهري، يسكن في آخر شاع الجسر، لم يبلغ العشرين "وقت كتابتي لتلك القصة". يهتمُّ بنفسه كثيرًا، فهو يلبس ثيابًا غالية الثمن أثناء الإجازة.. ويضع الزيوت على شعره بكثره.. فتَنِزُّ على جِلْدِهِ بطريقة مضحكة..كان يذكرني بأنور وجدي ذي الشعر الفاحم.. اللّامع النَّاعم دائمًا.. فلا تجد به شعرة بيضاء.. مهما بلغ به العمر!
إذا رأيته وهو يعمل تجده لابسًا بنطلونًا قد قطع جزءًا كبيرًا من ساقيه.. فهو بعدُ ليس بنطلونًا طويلًا، ولا تستطيع أن تطلق عليه "شورت"!
ثم هو يلبس " فانلة" كالحة مهبّبة من أثر الفرن.. ذات حمَّالات.. يتحدث إليك بطريقة مضحكة، فيلوي عنقه يمينًا، ويسارًا.. فتعتقد أن من يحدثك له شأن، ولا ينسى أن يشمخَ بأنفه كنوع من العُجْبِ بالنّفس.. كما كان يتعمّد أن يبرز عضلاته أمام النساء والبنات، لعلَّ واحدةً منهنّ تُعجب به!
عنتر: شابٌّ أسمرُ صعيديّ.. آتٍ من أسيوط.. مرح.. لا يعجبه الحال المائل.. يتحدث إليك في أدبٍ جَمّ، وتواضعٍ ليس مصطنعًا، متعصب لصعيديّته، ممَّا حمل غيره من الصنايعية على الاستهزاء به.. ذكر لي أحدهم قصة مضحكة عنه:
كان من عادة عنتر أن يدخل حمّام الفرن للاستحمام بعد يوم حارٍّ مرهقٍ شاقّ.. فهم يقضون اليوم وسط بركة تغصّ بالعرق. واللّزاجة.. فالعرق لا ينقطع أبدًا بفعل الجوِّ خارج الفرن.. والحرارة داخله، وكانوا يستخدمون "المازوت" في تشغيله.. ولا تسلْ عن مروحة تلطِّفُ الجوّ، فوجودها يزيد الأمر سوءًا.. حيث تنشر الهواء الساخن بدلًا من أن تعمل العكس.. وللمازوت مشكلة أخرى، فهو ينشر رائحة خانقة، كنت أشتري ما أريد، وأهرب منها، وأنا أقف خارجًا، ولك أن تتخيل من بالداخل، ويعاني منها!
ثم ها هو عنتر يخلع ملابسه خارج الحمام.. ويضع الصابون على جسده، وفجأة..
انقطعت المياه، وصرخ صاحبنا في زملائه في الخارج أن يتصرَّفوا في هذه المصيبة!
استمرّ وجود عنتر فترة من الوقت.. حائرًا لا يدري من أمره شيئًا..اكتشف صاحبنا بطريقة ما أن المياه قد قُطِعَتْ عنه بفعل فاعل.. فما كان منه إلّا أن وضع على نصفه التَّحتَانِي شيئًا يستره، وانطلق في أثر هؤلاء الشياطين سابًّا وشاتمًا.. وكان يقذف من يلاقيه منهم بأيِّ شيءٍ يجده متاحًا!
محمد: وقت كتابة القصة كان في الثانية عشرة من عمره.. ترك المدرسة وهو في الصف الثاني الإعدادي، وانطلق إلى "الندّاهة".. إلى القاهرة حيث أخرجه أبوه من المدرسة؛ كي يعينه على تربية إخوته، فهو أكبرهم.. ما زال هناك في البلد خمسة غيره!
متوقّد الذكاء.. لمَّاح.. كان منظره - وهو يصارع النوم، ويغالب التعب.. بعد اثنتي عشرة ساعة متواصلة من العمل- مؤلمًا جِدًّا على نفسي.. ورغم ذلك منعم طالبه بالمزيد!
ولمَّا سألتُ محمَّدًا عن هذا الانتحار، قال لي: العمال كلهم يطبّقون.. يعني يعملون لفترة إضافية لتعويض النقص في العمالة.. إذا غاب أحد زملائهم!
وكنت قد سألت عن معاملة منعم له.. فقال: "بيشتم كل العمال، أما عندي بيوجّف" قالها باعتداد وأنفة، وثقة في النفس.
وإذا رأيت حال هؤلاء الغلابة يدركك الأسى، والهَمّ؛ لأنهم لا يجرؤون على الاعتراض.. فظروف عملهم تذكرك بالسُّخْرة.. حيث يُجْبَرون على العمل في ظروفٍ تلتهم براءتهم، وتأكل شبابهم..مطلوب منهم العمل لخمس عشرة ساعة دون توقف، أو راحة! وأحيانًا يتطلب العمل من أحدهم الوقوف أمام "الفُرْن" ثماني عشرة ساعة! هل رأيت استعبادًا كهذا.. في الدول الفقيرة تجد الأطفال يعملون، ويكدحون من أجل مال لا يكاد يذكر.. بينما هناك أطفال يعانون من التخمة، وأمراض القلب والسكر.. بسبب الراحة!
لا تسلْ عن حقِّ طفل كمحمّد الصعيدي.. فغيره كثيرون يعملون في الورش، والحقول، والمقاهي، محرومون من أبسط الأمور، بل يلهب المجرمون من أصحاب الوِرَش ظهورهم، وأجسادهم بضربات تخلف أثرها بأرواحهم، وندوبًا بعقولهم.. فينقمون على هذا المجتمع الذي جبرهم على أن يمتهنوا أنفسهم من أجل بضع مئات من الجنيهات!
لكنَّ عزاءَهم في كونهم يَجْبُرُون كَسْرَ ذويهم من الأمّهات والعجزة.. والمرضى الذين يمسكون بتلابيبهم، فيطالبونهم بالثبات في وجه رياح عاتية من الواجبات، والمطالب التي لا تنتهي.
لعلك تسألني الآن عن الاسم الغريب الذي وضعته لهذه القصة " طرَّاد النيل"!
وأنا لنْ أدَعَكَ حائِرًا، وسوف أجيبك..
كان النيل يفيض قبل بناء "السد العالي" كعادته قبل مجيء القرن العشرين، فيغرق الكثير من القرى والمدن..
وعند حدوث تلك الكارثة.. كان المصريون يتحايلون بتجهيز كثير من أجولة الرمل. والتراب لصَدّ هذا الفيضان..
في منطقة الساحل التي يمرُّ بها النيل..تلك التي تمتدُّ من الكورنيش.. حتى المظلات، ومشتهر، وشبرا الخيمة.. الفيضان يأتي هادرًا، فيفترس كلَّ البيوت، ويهدم المَبْنِيّ منها بالطوب اللَّبِنْ "الأخضر"، ولا يصمد أمامه إلًا تلك البيوت المَبْنِيّة بالطوب الأحمر، والدَّبْش، فكان الناس يطردون هذا الضيف الفضولي المفترس بأجولة الرمال، والتراب!
لهذا سُمِّيَ هذا العمل بـ" طرَّاد النيل"، ومنه سَمَّى الحاج عبد الله مخبزه الإفرنجي.. إلى أن جاء الوقت، وقام كلٌّ مِنْ عبد المنعم، وأخيه أستاذ خضر بتجديد المخبز، وأزالا اليافطة المكتوب عليها " طرَّاد النيل"، ومن يومها أصبح المخبز عاريًا من أيِّ اسم!
(كُتِبَتْ عام 2002)



ربما تلقي بنا الحياة إلى دائرة جهنمية من البلاء والضنك والشقاء.. لكن العبرة بثباتنا أمام هذه العواصف الهوجاء..
شعبان منير
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.