Naoot

شارك على مواقع التواصل

: د. ماهر شفيق فريد


أربعةٌ وعشرون شاعرًا أوروبيًّا وأمريكيًّا التقتْ بهم فاطمة ناعوت على الورق أو في الحياة يشكِّلون هذه المختاراتِ ذاتَ المذاق الفريد، وينتمون إلى بلدانٍ مختلفة في أربعِ قاراتٍ: جورجيا، إيران، تركيا، الأرجنتين، جُزر الهند الغربية، الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا اللاتينية، إستونيا، ألمانيا، بريطانيا، قطالونيا.. كلُّهم مغروسٌ في بيئته، وكلُّهم- مع تفاوتٍ في الدرجة- يخترقُ مقولاتِ مكانِه وزمانِه لكي يلاقيَ القارئَ على أرضِ الإنسانيةِ الرحبة التي لا تعرفُ فواصلَ ولا حدوداً.
وللمرأة حضورٌ واضحٌ في هذه المختارات (إحدى عشرة شاعرة) ابتداءً بشاعرة أمريكية من القرن التاسع عشر هي إميلي دكنسون، وبحقٍّ تصفُها المترجِمةُ بأنّها "قلمٌ عصريٌّ، ينتمي إلى لحظتنا الراهنة"، وانتهاءً بشواعر يعشن أحداثَ يومنِا هذا بعمقٍ وحساسيةٍ وبصيرة.

في عمل هؤلاء الشعراء وحدةٌ وتنوُّع: الوحدةُ تلمسُها مثلاً في تجلّياتِ صورةِ الزهرة عند الشاعر التركيّ سيهان إيروزتشيليك، والتنوعُ يتبدَى في اتساع رقعة الخبرات الداخلية والخارجية التي تغطيها القصائد. ثم هناك بُعدٌ سياسيٌّ يستدعي الشرقَ الأوسط وقصفَ بيروتَ على أيدي الإسرائيليين، وغزوَ العراق. وهناك خبراتٌ ذاتية تعالجُ الحبَّ والحُلمَ والفقدان.. وهناك عاطفةٌ دينية تستدعي أجملَ ما في الإسلام. وهناك مرثيةٌ لمحمود درويش. وهناك احتفالٌ بتنصيب باراك أوباما أوّلَ رئيسٍ أفريقيِّ الأصل للولايات المتحدة الأمريكية، إلى آخر ما تجدُه على هذه الصفحات.

والتناصُّ، كما لا حاجةَ بنا لأن نقول، جزءٌ من لحمةِ الشعر وسداه، خاصةً في عصرنا، لن يُدهشَك إذًا أنْ تجدَ قصفَ بيروتَ يستدعي مقتلَ هيكتور على يدي أخيل في إلياذة هوميروس، أو أنْ تقيمَ قصيدةُ الشاعر الأمريكيّ ميجيل آنخيل ساباتا "النافذة" حوارًا مع قصيدة نثر سابقة لبودلير تحمل عنوان "النوافذ"، أو أن تحفلَ القصائدُ بإشاراتٍ إلى أبي التحليل النفسيّ فرويد، أو الموسيقار مالر، أو الشاعر جيفري هيل، أو الثائر زاباتا، أو الشاعر رلكة، أو المصور السرياليّ والي، أو راقصة الباليه الروسية بافلوفا: فهذه كلُّها أجزاءٌ من وعي الشاعر الحديث الذي يقف- مهما أمعن في التجريد- على أرضٍ صلبة من منجزات الماضي.

ومما يؤكدُ الطابعَ الإنسانيَّ العامَ لهذه القصائد امتزاجُ العناصر الإثنية والكوزموبوليتانية في تكوين شعرائها: فمنهم مثلاً الأمريكيُّ من أصل مكسيكيّ، والأمريكيُّ من بيرو، والاسكتلنديُّ المولودُ في جنوب ويلز، والمولودةُ في كندا الناشئةُ في اسكتلندا المتلقيةُ تعليمَها في الهند، وقد تعاونتْ هذه العناصرُ كلُّها على صبغ القصائد باللون المَحليّ (انظر مثلاً ابتعاث أزاتكة المكسيك في قصائد لويس لوبيز "أبناء الشمس الخمسة" "هبة النار" "ازدواجيات") الذي يحملُ عبقَ الأرض وزخمَ أشواق من دبّوا فوقها، ونشواتهم وعذاباتهم.

هذه الترجماتُ، ككلّ ما تصنعه فاطمة ناعوت، جواهرُ صغيرةٌ مُحْكَمةُ الصُّنع، ساطعةُ اللألاء، مصقولةُ الحواف، تجمعُ بين براعة الحِرَفيّ الماهر وجيشان الروح العميق، وهي تنضافُ إلى مختاراتها الشعرية المترجمة السابقة "مشجوج بفأس" (سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004) وترجماتها لفرجيينيا ولف، وغيرها، لتُشكِّلَ إضافةً بديعةً إلى تراثِ الترجمة المعاصرة: أمانةٌ في النقل، وسلاسةٌ في الأداء، وقدرةٌ على العثور على المعادل الدقيق لما قاله شاعرٌ أجنبيٌّ، ثم استضافتُه في لغة الضَّاد.

ولا أودُّ أن أضعَ القلمَ وأخلّي بينك- أيها القارئ- وبين هذه المختارات، قبل أن أنوِّه بالمقدمة الجميلة- على وجازتها- التي قدّمتْ بها فاطمة ناعوت لهؤلاء الشعراء: إنها في أقلِّ من عشرين صفحةً تمسكُ بما هو جوهريّ حقًّا في إبداعهم، وتضعُ يدَها على مواطنِ الجمال ومواضع التوكيد وبؤر الألم، على نحوٍ يجعلُ من أي تصديرٍ عملاً لا ضرورةَ له في الواقع. اقرأ مقدمةَ ناعوت ثم اقرأ القصائدَ، ولن تحتاجَ- بعد ذلك- إلى تصديرٍ، منّي أو من غيري.


ماهر شفيق فريد
مساكن شيراتون، أبريل 2009
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.