shaban

شارك على مواقع التواصل

لا أدري لماذا سَمَّى نفسه بهذا الاسم العجيب!
مساحة دكانه لا تزيد عن متر في متر..
يضبط نفسه كلَّ يوم على فتح الدكان في التاسعة صباحًا.. لم يكن لديه "فُرْن" لتسوية صواني الحلوى التي كان يتفنَّن في صناعتها، بل كان يحملها على كتفه، ويعبر الشارع في الجهة المقابلة، ويقوم بتسليمها لمنعم صاحب فرن "طرَّاد النيل"، فيقوم منعم بالمطلوب مقابل أجرة معيّنة متفق عليها مسبقًا.
اعتدت أن أذهب إليه، وأجلس معه.. كان طيّبًا وبشوشًا..
هو متزوج من امرأة تصغرة بحوالي خمسة عشر عامًا، وأنجب منها ولدين وبنتًا، لم يهتم الولدان بصناعة الأب، ولا حاولا تعلّمها!.
الولدان جميلان، قد أخذا جمال الأب والأم معًا...
عم غزال كان وسيمًا - ما شاء الله- ولكني لم أَرَ ابنته سوى مرة أو مرتين.. يسكن بالمريس.. "شارع جاد المولى".
كانت زوجته أحيانًا تأتي للدكان لطلب المال.. أو لحاجة ما تريد منه أن يقضيها لها..
والولدان كذلك كانا يأتيان للدكان، ولكنهما لا يمكثان سوى بضع دقائق!
كان الرجل بارعًا في صناعة البسبوسة، أما البسيمة، فلم أَرَ لها حَلًّا..
أبي أحيانًا كان يبعثني لأشتري منه البسبوسة والبسيمة. لكن الكنافة كانت أمي تصنعها لنا في البيت..
وبعدها كانت تصنع لنا صواني "الكيك"، وتغرقه في العسل.. فيصبح طَرِيًّا بدرجة تجعله يذوب في أيدينا..
ثم تعلمتْ أمُّنا كيف تصنع البسبوسة.. لكنها أبدًا لا تقترب، ولو بمقدار واحد بالمئة من تلك التي كان يصنعها عم غزال...
لم يكن الرجل يصنع المشبّك؛ لأنه كان موجودًا في الموالد، فكنا نجلبه من مولد السيد البدوي. أو الحسين..
ظل يعمل واقفًا على قدميه لمدة تزيد على ثلاثين عامًا حتى بدأ فرن "طرّاد النيل" في صناعة الكيك، والبسبوسة، والبيتي فور، وأنواع البسكوت المختلفة، فبدأ الرجل يعاني من قلّة الطلب عليه..
وبعد أن كان يفتح الدكان جميع أيام الأسبوع.. وجدتُّ أنه يفتح نصف النهار، ثم يعود لبيته، في آخر عقد التسعينيات من القرن العشرين.. اقترب الرجل من سِنّ السبعين.. ووقعت أسنانه.. وقلّ الطلب عليه بصورة قاتلة لمِهْنته التي داوم عليها مدة تزيد على ثلاثة عقود. مرّ عليه ثلاثة رؤساء.. وشهد كثيرًا من الأحداث التي مرّت على مصر.. شهد الانكسارات والانتصارات. فرح بعُرس ابنته الصغرى، وعانى من تفلُّت الولدين، فقد كانا متمرِّدَيْن.. أتعباه كثيرًا حتى أكملا تعليمهما.. دلّلتْهُمَا الأم.. وكان يغيب عن البيت لمدة اثنتيْ عشرة ساعة.. يذهب للبيت كالضيف.. يأكل، ثم يستريح قليلًا.. وينام!
حتى أنه كان يصلي كلَّ الصلوات في المسجد..
كان أبي يصلي في "دكان العلافة" جميع الصلوات..
ولا يصلي إلّا الجمعة والعيدين في المسجد..
لكنه في آخر عشر سنوات من حياته اعتادت قدماه على الذهاب إلى مسجد "علي منجد"، الذي يقع بعد بيتنا بحارة واحدة، فهو يتفرَّع من شارع الجسر..
كانا يذهبان- هو وعمّ غزال- إلى المسجد كلَّ يوم.. ينادي عليَّ، فأنزل له، أصلي أنا في الدكان، وهو يصطحبه عم غزال، ويذهب به إلى المسجد..
ساعدنا عم غزال عندما خُطِبَتْ أختي الصغرى في صناعة الحلويات الخاصة بحفل الخطوبة..
ذات مرة سألته أمي عن صناعة "البسيمة والبسبوسة"، لكنه رفض أن يبثَّ إليها سِرَّ صنعته.. وكانت وجهة نظره التي نقلها لها: " طيِّب أنا هشتغل إزاي لمّا أقولك على سِر صنعتي؟!".
كان عنده حقّ.. فلو أنّ كلّ صانع نشر سِرَّ صنعته، فلن يجد عملًا!
لكنَّ هذه المقولة تمّ هدمها الآن. فموقع" يوتيوب" لم يترك شاردة، ولا واردة إلّا وبيَّنَها، وأفْشَاها!
ثم هو كان لا يردُّ أيَّ شخص يطلب منه عونًا..
فهذا يطلب منه مالًا، فيعطيه، وذاك يطلب منه مشورة، فيشير عليه. وثالثة تأتيه تشكو إليه معاملة زوجها الخشنة لها.. فينصحها..
لما مات عم غزال.. ومات أبي.. أتانا أحدُ وَلَدَيْه يطلب أن نؤجِّرَ له المخزن؛ لأنه ينوي أن يعيد فتح الدكان الخاص بأبيه.. وقد أتى بعامل ماهر في صناعة الحلوى.. رحَّبتُ به، وأجّرْت له المخزن.. لكنه لم يكن جادًّا في أمر فتح الدكان.. ولم يستمر الموضوع!
عمّ محمد.. أو "عمّ غزال" لا تزال ذكراه عالقة بذهني، تراوح روحي.. ذلك أنه كان كأبي ..
يرحمك الله يا عم غزال..

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.