Naoot

شارك على مواقع التواصل

تصدير المُترجِمة
يلتقي القارئُ في هذه المجموعة بإحدى عشر قصة. تسعٌ منها للقاص الإنجليزي المعاصر "جون ريفنسكروفت"، John Ravenscroft ، واثنتان طويلتان؛ واحدة للقاص والروائيّ الأمريكي "شيروود أندرسون" Sherwood Anderson، والأخرى للروائيّ والقاص والشاعر الأمريكي أيضًا "جيسي ستيوارت Jesse Stuart" .

خلال مجموعة القصص الأولى لريفنسكروفت، وهو قاص إنجليزيّ معاصر يعمل ضمن أسرة تحرير مجلة "كادينزا" وحصد مجموعةً لا بأس بها من الجوائز بينها جائزة الكومنولث، تتجلى ملامح منهجه السرديّ الذي يمتاز بالتقاطه دقائق الحياة غير المُلفتة واقتناص الشعرية منها عبر الموقف الدراميّ والصورة التشكيلية والنقلات المباغتة والمفارقة.

يستلهم مفردات تأملّه من (الشيء) ومدى تأثّره بـ/ وتأثيره على (الإنسان)، بوصف المرء والموجودات في حالٍ دائم من الجدل. يناقش أزمة الإنسان عبر مواقف حياتية تبدو بسيطةً وبديهية، بل تكاد تكون يومية غير مُلفتةً، لكنه ينجح في اقتناص العمقِ الوجوديّ منها والمحنة التي تعانيها شرائح محددة من البشر؛ قد تنسحب خصائصها على غير الأسوياء أو المنقسمين على ذواتهم من البشر، أو هؤلاء ذوي الحساسية الشفيفة، أو شريحة الفنانين، أو البشر في مراحل حيواتهم الأخيرة حين تنكشف لهم الحياة كاملةً مثل كتابٍ انتهت قراءته للتوّ، هؤلاء المعمّرين في جدلية وَهَنِهم الفيزيقيّ وحدّة بصرهم الرؤيوي. أو نقيض ما سبق تماما، أي الإنسان تقريبا، الإنسان قبل أن يكتمل أي الجنين ورؤاه المستقبلية. وكل تلك الشرائح السابقة – في زعمي – تلتقي كثيرًا وتتقاطع، أو أنها مرايا للنفس البشرية في أصفى حالاتها وأكثرها أثيريةً وبُعدًا عن الأرض. وبديهيّ– والحال هكذا – سوف يشغله كذلك عالم الحيوان بكلِّ ما يحملُ من ضعفٍ وقوّة، في آن، وخصائصَ وجوديةٍ جديرة بالتأمّل والإنصات.

يجمع أسلوبه بين اللغة الإنجليزية (البريطانية) الرفيعة وبين التعبيرات الدارجة الحديثة في نقلاتٍ بارعة لا نتوءات حادةً فيها تعرقل استرسال التلقي ولا إثقالَ من أيٍّ منهما على الأخرى. ويجمع كذلك بين الجُملة الطويلة التي تزخر بالجمل الاعتراضية، وبين الجملة القصيرة المباغتة التي تشبه الومضات أو الطلقات التي تحملُ قدرًا من إنارة النص حينًا، وفي حين آخر تحمل شحنةً من الصدمات التي تحوّل وتبدّل من مسار الاتجاه الفكري للقارئ الذي كان ركن إليه قبل لحظة بمعرفة الكاتب.

ومثل كثيرين من كتّاب القصة القصيرة الحديثة، يبدأ ريفنسكروفت نصَّه من منتصف الموضوع، أو ربما من نقطة الذروة، ثم يبدأ في لملمة الزمن من الأمام ومن الخلف حتى تكتمل قصاصات الصورة المشهدية في آخر سطرٍ ربما.

ويقودنا هذا إلى الكلام عن النهايات (وهو مأخذي الوحيد على هذا القاص المميّز)، فهو أحيانا – برأيي الخاص – يُثقل النهاية بإيضاحٍ قد يفسد جمال ورهافة الوقفة المفاجئة التي تدع للقارئ ثغرةً يدخل منها إلى فضاء التأويل ولا تغلق النص على أحادية التلقي، الأمر الذي يحرم القارئ من متعة الارتطام بالمفارقة وتؤدي إلى استلابه لذة الصدمة.

ولا تخلو قصص ريفنسكروفت من ومضات من الواقعية السحرية واستجلاب الميتافيزيقا أحيانًا ( كما نلمس في : داخل رحمٍ مُنتظر - النبتة الصغيرة )، أو الاتكاء على الحُلم بكل ما فيه من فانتازيا (كما في : المشي بالمقلوب)، إلى جوار الواقعيّ والمتعيّن الممسوس بخيطٍ من الرومانسية أحيانًا (مثلما نجد في :البومة) تلك القصة الحافلة بكثير من الصور الشعرية وكثير من أسباب الشجن الإنسانيّ. كلُّ تلك الخيوط التي ينجح ريفنسكروفت في غزل نسيجه عبرها تجعل من تجربته مشروعًا أدبيًّا متنوعًا وثريًّا.

***

القاص الثاني الذي تناولنا عملا له بالترجمة في هذا الكتاب هو الأمريكي " شيروود أندرسون" (1874-1941). وقد كان في وقته روائّيًا ذائع الصيت، بل يعدُّ – حسب النقاد – أستاذًا لرموز بارزة مثل آرنست هيمنجواي ووليم فاكنر، أو لنقل إن الكثيرَ من أعماله الشهيرة كان لها أثرٌ واضح تجلّى في أعمالهما.

ويعدُّ أندرسون أحد رواد المدرسة الواقعية في القصة الأمريكية، التي استلهمت مفردات عوالمها من لغة الحياة اليومية، تلك المدرسة التي كانت سائدة في فترة ما بين الحربيْن العالميتيْن.

جدير بالذكر أن هذا الروائي قد استعاد شهرته (التي خفُتَت بعد رحيله عام 1941)، في السبعينيات من القرن الماضي حين انتبهت مجموعة من النقاد والأكاديميين إلى مشروعه الذي كاد يطمره التاريخ وأعادوا استكشاف مناطق مهمة جديدة في بعض تجاربه مثل : "قصةُ راوي قصةٍ " عام 1924و " طفولةٌ نصفُ غربية " عام 1926 و "ذكرياته" عام1942، و "رسائل" عام 1953 . ومن ثم أُعيد طباعتها تحت عنوان " أعمال شيروود أندرسون الكاملة".

يحفل مشروع أندرسون الأدبي بهموم البسطاء من القرويين وبني الطبقة الفقيرة: أحلامهم البسيطة وإحباطاتهم وكفاحهم المستدير من أجل الحق الأول للحياة. وكذلك جنوحهم أحيانا صوب الجنون من أجل ابتكار وسائل تحقّقٍ وسعادة عوضًا عن الطرائق التي يجنح إليها بنو الطبقات الثرية. تماما كما نرى في قصته الفاتنة "انتصار البيضة" – التي قمنا بترجمتها هنا – وكان كتبها عام 1921، وفيها يصوّر انغماس قرويٍّ بسيط في عالم (الدجاج والبيض)، وبناءه مشروع حياة كامل عبر جدلية الكفاح من أجل أن يجعل البيضة تقف على جانبها المدبب، عكس قوانين الفيزيقا وعكس منظومة تشريح البيضة التي معها تستحيل تلك الفرضية. وربما سبب اختيارنا ترجمة تلك القصة هو ما نلمسه – في زعمي الخاص – من إسقاطات اجتماعية وسياسية حول طبيعة حياة هؤلاء البسطاء وهروبهم من واقعهم عبر قرار تغييب (ذاتي) يجنّبهم آلام تأمل الواقع المرير فضلا عن محاولة الشروع في إصلاحه.

***

الكاتب الثالث الذي تعرضنا له في هذه المجموعة هو الأمريكيّ " جيسي ستيوارت" (1906- 1984) ، وهو روائي وشاعر وقاص ذائع الصيت في وقته. وله الكثير من الإصدارات الشعرية والمجموعات القصصية وفاز بالعديد من الجوائز.

ونلمس في قصته الطويلة أو النوفيللا التي قدمناها هنا :" شجرة الكرز المشقوقة" ، حال الصراع الدائم بين الأجيال، والأزمات التي تسببها سطوة الأب البطريركية والتي تتجلى على نحوها الأشد سلبًا بين طبقة الفقراء أو بسيطي العلم. ومن خلال تلك القصة نتعرف على طبيعة الحياة في الجنوب الأمريكي سيما شرائح المزارعين في تلك الحقبة.

النوفيللا، كاملة، مكتوبة باللغة الدارجة الجنوب-أمريكية، بل بلغة السوقة والرعاع خاصة في خطاب الأب تحديدًا (غير إني ترجمتها بالفصحى بطبيعة الحال لتجنّب الوقوع في تباين اللهجات).

القصة على شكل حوار بين الأب وابنه، وبين الأب والبروفيسور الذي يقوم بتعليم ابنه. ونلاحظ النقلات والتباينات النوعية البينّة بين طبيعة خطاب طبقة المزارعين المتمثلة في الأب من جهة، وبين خطاب الشريحة المثقفة المتمثلة في البروفيسور، وبين خطاب الشريحة (الحائرة): الابن ، تلك الشريحة الواقفة على خط التماس – إن جاز التعبير – بين العلم والجهل، وبين عالمين متناقضيْن سوسيولوجيًّا أحدهما عالٍ (المدرسة) والآخر بسيط (البيت)، ونلمس تلك الصراعات والموازنات التي يجتهد الولد أن يأتيها طوال الوقت من أجل ألا يخسر أيًّا من العالميْن.

***

المبدعون الثلاثة الذين قمتُ بترجمة بعض أعمالهم هنا ينتمون إلى ثلاث حقب زمنية متباينة : أول القرن العشرين ومنتصفه ونهايته. وأرجو أن أكون قد نجحت في إبراز الخيط الرهيف الذي يربط بين الإحدى عشر قصة التي ضمّتها دفتا هذا الكتاب، وهو الخيط الذي ربما حدّد اختياراتي لتلك الأعمال ومن ثم ترجمتي لها.. إنه الإنسان. عبر رحلته الطويلة فوق هذا الكوكب.

لكن أي نوع من الإنسان كان بطل تلك الحكايا ؟ هل هو البطل المنهزم ؟ المنقسم ؟ المنشق على طبقته ؟ غير المتحقق ؟ المعمّر الذي ينتظره الموت ؟ الجنين الذي ينتظره الميلاد ؟ السجين ؟ الهارب إلى الحُلم ؟
أم أن البطل هو عين الفنان الراصدة لذلك الإنسان؟

ربما عبر هذه المجموعة يمكننا أن نقف على إجابةٍ للسؤال التالي :
كيف عبّر قلم المبدع عن محنة الإنسان عبر الزمن؟
هل تغيرت رؤية المبدع للوجود ؟ أم أن الذي تغيّر هو شكل التعبير عن تلك الرؤية ؟
هل تباينتْ أزماتُ الإنسانِ منذ بداية القرن الماضي وحتى نهايته ؟

خلال فترةٍ خاض خلالها حربيْن كونيتيْن، وتغيرت ملامح الخارطة، فترة صنع فيها الإنسان وعاش تحوّلاتٍ سياسيةً واجتماعيةً وتكنولوجيةً وثقافيةً وفكرية، قرنٌ من الزمان نشأت خلاله مدارس فكرية- سياسية –اجتماعية وانهدمت أخرى، كيف تبدّل الإنسان وكيف تبدّلت همومه وأحلامه ؟
والأهم من ذلك كيف تبدّلت العينُ الراصدةُ له : عينُ المبدع ؟


فاطمة ناعوت
القاهرة – يونيو 2004


جون ريفنسكروفت

* قاص وروائي إنجليزي معاصر ولد عام1954 في بريمنجام بإنجلترا ، يعيش في " لينكون شاير" بالمملكة المتحدة. يشارك مع آخرين في تحرير مجلة "كادينزا" Cadenza Magazine . له العديد من الأعمال مثل ( نبتة صغيرة - المشي بالمقلوب- هديةٌ من أجل باكو - أحوال المادة- البومة–الجين المدمر – الزنبقة المدهشة. وغيرها)
حاصل على عدة جوائز من بينها جائزة الكومنولث.



0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.