Naoot

شارك على مواقع التواصل

النـور في نهاية النّـفق
مستهلٌّ

أنتمي لعائلة صوفيّة المنزع، نؤمنُ بوحدة الكون، وواحدية الخالق، ورغبته في تعدّد سُبل عبادته عبر طرائقَ وعقائدَ عدّة، تصبو جميعُها إلى الإله الواحد الحق. "ولو شاءَ اللهُ لجعلَكم أمّةً واحدة" -قرآن كريم. لهذا تصالحتُ أنا وعائلتي الكبيرة، وأسرتي الصغيرة، مع كافّة المعتقدات، لأن الإيمانَ بالله هو غايتُنا، وليس أسلوب الإيمان به. يشغلنا "النّور" الذي في نهاية النّفق، وليس النّفق، والنّور هو الله، جلَّ وعلا. تعلمتُ من "ابن عربي" و"جلال الدّين الرّومي" و"شمس التبريزي" وغيرهم حبَّ الله، ومن ملأ حبُّ اللهِ قلبَه، لن يكون بقلبه متسعٌ لبُغض مخلوق، ولو كان حشرة صغيرة تسعى.


أجدلُ السّـعفَ لأنّي أحبُّ
كتبَ على صفحته يقول: "يا حبيبتي، هذا العام أيضًا سنذهب كعادتنا معًا ليلة الأحد، نحصدُ عيدان السَّعف وسنابل القمح، لتعلّقيها بكفّيكِ فوق باب البيت؛ كعادتكِ كلَّ عام. عند مساء السبت سأنتظرك، ونذهب معًا. كلُّ عام وأحباؤنا المسيحيون صائمون، يرفعون أياديهم إلى السماء ضارعين بالدعاء لكي يحمي اللهُ "مصرَ" ونيلَ "مصرَ" وشعبَ "مصرَ" من كل شرّ، اللهم تقبّل عبادتكم، آمين".
هذا رفيق دربي؛ صخرةُ حياتي التي عليها أتّكئ كلّما هدّني التعبُ. هذا زوجي وأبو ولديّ "مازن" و"عمر". المهندس المعماري الجميل "نبيل شحاته"، كتب من "القاهرة" هذه الكلمات على صفحته قبل أيام، ورغم أنّني لم أره، إلا أنّي أكاد أرى العبرات التي تقطر من كلماته تترقرق في عينيه الطيبتين، فأنا هذا العام، لست معه ولا مع أبنائي، أنا لستُ في بيتي، ولا في وطني، بل في مكانٍ آخر.
أنا خارج وطني منذ أربعين يومًا، وبدأت تتواتر المناسباتُ التي تمرُّ عليّ ونحن (لأول مرّة ما بنكون سوا) -كما تقول جارة القمر.
قبل شهر، مرّ عيد الأم وأنا بعيدة، فخسرتُ أربع قبلات: من أمّي ومن طفليّ وأبيهما، واليوم يمرُّ عيد السّعف (الزّعف كما نسميّه بالدّارجة المصرية)، فخسرتُ أن أجدل شرائح السّعف تاجًا وأساور وخواتم ولُعبًا لي ولأسرتي، وخسرت سنبلة قمح خضراء أعلّقها على باب شقتي، أراقبُها وهي تجفُّ يومًا بعد يوم، حتى تتحوّل إلى شعلة من الذّهب المشعّ يجلبُ الخير على بيتي ويحمي أسرتي من عيون الحاسدين، كما كان يؤمن أجدادي الفراعنة.
قرأت كلماته على صفحته فغام الحزنُ فوق صفحة وجهي. قاتل الله الغربة التي تمزّق نسيج الأهل والأحبّة والجيرة والصّداقة. لكنّ السّماء تهبنا الأصدقاء حيثما تحطّ رحالنا. لمح صديقي السفير "رأفت إسكندر" حزني، فأهداني جريدة ضخمة من سعف النخيل الغضّة الخضراء، ثم جلس معي ليلة الأمس لنجدل التيجان والحُليّ، كما اعتدّت أنا أفعل في وطني، ولم يشأ اللهُ أن يقطع عادتي، فمنحتُ أمّي تاجها، ورددتُ لـ"نبيل" عهدي الذي أبدًا لن ينقطع بإذن الله.
من خارج "مصر" أكتبُ إليكم نهار "أحد السعف" وأكاد أرى شوارع "مصر" تعجّ بباعة سنابل القمح وجريد النّخيل في كلّ مكان، فتلك عادتنا الفرعونية الجميلة قبل آلاف السنين، قبل أن تتأكّد باصطفاف أهالي القُدس الشّريف، على الجانبين حاملين أغصان الزّيتون رمزًا للسّلام وعيدان السّعف رمزًا للرّغد، انتظارًا للحظة وصول السيّد المسيح، عليه السّلام، رسولاً للسّلام والمحبة. قبل ألفي عام دخل أورشليم القديمة منتصرًا مكلّلاً بأوراق الغار. لكن غياب الحبّ عن بني الإنسان جعلت هذا السيّد الكريم -الذي جال يصنع خيرًا- يسير بعد أيام قليلة طريقًا وعرة من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة حاملاً صليبَه الخشبيَّ الهائل، قربانًا لخلاص البشر من الشّرور والبغضاء.
غيابُ الحبّ أصلُ كلّ شرور العالم. فاجلسْ الآن إلى طاولتك واجدلْ شيئًا من السّعف لمن تحبّ، ثم افحصْ قلبَك، قلبك يخفق؟ إذن أنت بخير، ولا خوفٌ عليك. أنت بخير حين تتيقّن أنّ قلبك ما زال قادرًا على الحب، رغم ما تصادفه في حياتك من قبح. الحب نعمة هائلة لا يدرك معناها إلّا ذوو القلوب الخافقة، أمّا ذوو البلادة القلبية فليس لهم إلّا الشّفقة والدعاء لهم بأن يتعلّموا كيف أحبّنا الله ولم يطلب منّا سوى أن نحبّه ونحبّ خلقه فنعمّر الكون بالرغد والسلام. أنت تحب، إذن أنت إنسان. أحبّب حبيبتك، أحبب أخاك، أحبب جارك، أحبب عدوك، أحبب الحيوان والطّير والشّجر. أحبب الكون، فتكون بهذا مُحبًّا لله.



لماذا يكرهـون هذا الرجـل؟
وقف رجلٌ ذاتَ نهار يحملُ في يده مصباحًا، لكي يُنير الطريقَ لمَن ضلّوا، وفي اليد الأخرى يحملُ مرآةً هائلة. راح يُوجّه صفحةَ المرآة العاكسة صوب وجوه الأدعياء المُضلّين الذين يخدعون الناسَ. كان يعرف أنّ المرآة سوف تعكس قُبحَ أرواحهم، فإن شاهدوا دمامتَهم، انفجروا، أو اِرعووا عن غِيّهم. هذا الرجل موجودٌ في كلّ عصرٍ، ومنتشرٌ في كلّ بقعة من بقاع الدّنيا، تمنحه السّماءُ لأهل الأرض في كلّ حين حتّى يُنقذ البسطاءَ من تغوُّل الزائفين الذين يستغلّون جهل النّاس لكي يقتاتوا على جهلهم ويرتزقوا من غفلتهم.
ما شكلُ هذا الرّجل؟ كيف يتكلّم وما لسانه؟ له أشكال عديدة، وله ألسنٌ كثيرة، وملامح مختلفة، ويرتدي في كلّ زمن ملابسَ تشبه ذلك الزمان، وفي كلّ أرض ثيابًا تناسب تلك الأرض.
ما اسمُ هذا الرّجل؟ له أسماءٌ لا حصر لها، فتارةً اسمه "الحلّاج"، وتارةً اسمه "ڤولتير"، وتارةً اسمه "نصر حامد أبو زيد"، وتارة اسمه "ديڤيد هيوم"، وتارةً اسمه "الكِندي"، وتارةً اسمه "بروتاجوراس"، وتارةً اسمه "ابن عربي"، وتارة اسمه "كارل ماركس"، وتارةً اسمه "محمد عبده"، وتارة اسمه "ملك سيام"، وتارةً اسمه "جمال الدين الأفغاني"، وتارةً اسمه "فرنسيس بيكون"، وتارة اسمه "أبو بكر الرازي"، وتارةً اسمه "جبران"، وتارة اسمه "فرج فودة"، وتارةً اسمه "برتراند راسل"، وتارة اسمه "الوليد ابن رشد"، وتارةً اسمه "مارتن لوثر"، وتارة اسمه "الخوارزمي"، وتارةً اسمه "طه حسين"، وتارةً اسمه "السهروردي"، وتارةً اسمه "جلال الدين الرومي"، وتارةً اسمه "سبينوزا"، وتارةً اسمه "شمس الدين التبريزي"، وتارةً اسمه "چون لوك"، وتارةً اسمه "كوبرنيكوس"، وتارةً اسمه "ديكارت"، وتارة اسمه "ابن الفارض"، وتارةً اسمه "مهاتير محمد"، وغيرها كثير الأسماء.
هذا الرّجلُ خصيمُ الجهل، وخصيمُ التّجارة الكذوب، وخصيمُ الارتزاق باسم السّماء. لهذا اختصمه كلُّ زائف، وكرهه كلُّ جهول، ومقته كلُّ متاجر باسم الله، وبغضه كلّ من يرتزق على الغافلين. اجتمعت عُصبةُ الشّر في كهفهم المعتم يتآمرون ضدّه لأنّه العدو الذميم والخطر المقيم.
هو لم يقاتلهم، فهو لا يعرف القتال، ولم يشهر سيفًا في وجوههم؛ فهو لا يحمل سيفًا ولا خنجرًا. كلّ ما لديه مصباحٌ صغير غزيرُ الضياء، يحمله في يمناه، أشهره أمام عيونِهم، فآلمتهم عيونُهم، وأوجعتهم عقولُهم؛ ذاك أنّ عقلَ المتعصّب مثل حدقة العين، كلّما زاد الضوءُ المسلّط عليه، زاد انكماشُه، وضيقه؛ كما قال "أوليفر هولمز".
أعشى عيونهم وهجُ المصباح، فوضعوا أكفَّهم فوق مآقيهم ليحجبوا الضّوء، وما أن رفعوا الأكفَّ عن العيون حتّى وجدوا صفحة المرآة العاكسة في يد الرّجل مصوّبةً نحو أبصارهم. شاهدوا قبحهم فجفلوا وارتعبوا، هاجوا وماجوا وضجّوا وصخبوا وأرغوا وأزبدوا، هدّدوا وتوعدوا، ثم أشهروا السّيوف.
ما كان الرّجلُ الأعزل ذو البصر والبصيرة والعقل المثقف ليحتاج أكثر من طعنة صغيرة في القلب حتى يسقط مضرجًا في دمائه ليُريح ويستريح، لكن الغلاظ لم يرضوا بغير أن يذيقوه من العذاب بقدر ما أذاقهم من التنوير، فراحوا يمزقون ملابسه ويجلدونه، وراحوا يضربونه فوق رأسه بالكتب التي كتبها حتى فقد البصر، وراحوا يصلبونه على عمود خشبي، وراحوا يقطّعون أطرافه، وراحوا يحرقونه، وراحوا يسملون عينيه، وراحوا يضربونه بالرصاص، وراحوا يشنقونه، وراحوا ينشرونه بالمناشير، واستخدموا من كلّ عصر ما أتاحت لهم صنوفُ العذاب والويل والتنكيل والإهانة.
مات الرّجلُ ألف مرةٍ ومرة، وفي كلّ مرّة كان لسانُه يلهج بآخر ما جادت به الكلمات: "يا ربُّ جوهرُ علمٍ لو أبوحُ به/ لقيل لي: أنتَ ممن يعبد الوثنَا/ ولاستحلًّ رجالٌ مسلمون دمي/ يرون أقبحَ ما يأتونه حسنًا".
جميعُنا قتلنا ذلك الرّجل حامل المشعل والمرآة، لأنه أشهرَ في وجوهنا مرآته ونحن لا نريد أن نرى قبحنا ودمامتنا.
قتلناه وهو يردّد بلسان "الأفغاني": "ملعونٌ في دين الرحمن مَن يخنق فكرًا، مَن يرفع سوطًا، مَن يُسكِت رأيًا، من يبني سجنًا، من يرفع راياتِ الطغيانْ. ملعونٌ في كلِّ الأديانْ مَن يهدرُ حقَّ الإنسانْ، حتّى لو صلَّى أو زكّى وعاش العمرَ مع القرآنْ."

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.