Naoot

شارك على مواقع التواصل

تقديم
طوبى للمشجوجين

حلمي سالم


هذه مجموعة مختارةٌ من قصائد الشِّعر الإنجليزيّ و الأمريكيّ المعاصر، انتقتها الشاعرةُ والمترجمةُ الشابة فاطمة ناعوت، لكي تقدِّمها – كباقة وردٍ أو كحزمةِ قمحٍ – لقارئِها المصريّ والعربيّ، وقد اختارتْ لباقتِها (أقصدُ لحزمتِها) عنوانًا جميلا مُلتبِسًا، مستلاً من أحدِ نصوصِ الكتاب هو " مشجوجٌ بفأس".
و لا غرابةَ في مثل هذا الاختيار الغريب، فالمترجمةُ شاعرةٌ مميزةٌ من شاعرات الجيل الذي يسميه هواة التصنيفات العقدية " جيل التسعينات". وهي تهوى العناوين ذات الطابعِ العمليّ الماديّ الحاد،المبتعد عن رهرطة العاطفة المفروطة، والنائي عن ليونة الرومانسية الليّنة. هذا ما نجده في عناوين دواوينها الثلاثة التي أصدرتْها، حتى الآن: نقرة إصبع، على بُعد سنتيمتر واحد من الأرض، قطاع طوليّ في الذاكرة".
وليس عندي شكٌّ في أن الشاعرة/المترجمة قد انتقتْ هذا العنوان الغريب من بين العديد من الجمل الجميلة التي تحفل بها قصائدُ الشعراء الواردين في هذه المختارات، لسببٍ أساسيّ، هو أن تدفع القراءَ من أمثالي إلى السؤال :
من هو ( أو ما هو ) المشجوج بفأس ؟
هل هو الشاعرُ – صاحبُ النصِّ المترجَم ؟ حيث هو منقسمٌ بين عقلِه وقلبِه، وبين وعيه ولا وعيه، وبين الصَّنْعة والفطرة، وبين الواقعِ والحُلم، وبين الذات والجماعة، وبين انطلاق الخيالِ المنطلقِ وقيودِ الأرضِ المقيِّدة، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍ يمكن أن نسمّي معركتَها : مأساةُ الشاعر .
هل هو النصُّ (الشعر) نفسه؟ حيث هو منقسمٌ بين أن يكونَ "وصفةً للجنون" و أن يكون "سربًا من عقائد"، وبين أن يصدرَ من مبدأ الوضوح و أن يصدر من " مبدأ التخفّي"، وبين أن ينحاز إلى " أجيرٍ مطرودٍ لتوّه" و أن ينحاز إلى ترقية الإدراك الجماليّ عند القراء، وبين أن يكون "محض حيل بسيطةٍ" و أن يكون تركيبًا معقدًا عميقًا، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍِ مما يمكن أن نسمّي معركتَها : مأساةُ الشعر.
هل هو المترجم(سيما إذا كان شاعرًا)؟ حيث هو منقسمٌ بين أمانتِه تجاه اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها، وبين ثقافةِ النصِّ الأول(المناخ الحضاريّ للقصيدة /الأصل )، وثقافة النصِّ الثاني (المناخ الحضاريّ للقصيدة/الصورة)، وبين خيانة "جسد" النصِّ وخيانة "روح" النصِّ (مع الاعتذار للفصل بين الجسد والروح، وللصوفيين العرب الذين اعتبروا "الجسد قبّة الروح") وبين تبعية المترجِم للنصِّ أونديته له، وغير ذلك من انقساماتٍ متعارضةٍ أو متجادلةٍ مما يمكن أن نسمّي معركتَها : مأساةُ المترجم.
هل هو القارئ؟ حيث هو منقسمٌ بين أسرار لغتين : المنقولة والناقلة، وبين طبيعة مُتعتيْن : متعة الجمال الأول بدون تدخّل المترجم ومتعة الجمال الثاني بعد تدخّل المترجم ( وقد يغدو تدخل المترجم جمالا أوّل )، وبين المعرفة التي يكتنزها النصُّ في لغته السابقة والمعرفة التي يكتنزها النصُّ في لغته اللاحقة،وبين "الجريمة" المضمرة في حرفيّة الترجمة و" الجريمة" المضمرة في الانحراف عن حرفية الترجمة، ليجد القارئُ نفسَه أمام جريمةٍ في الحالتين، حائرًا في الاختيار بين الجريمتين، وغير ذلك من انقسامات متعارضة أو متجادلةٍ مما يمكن أن نسمّي معركتها : مأساة القارئ .
هكذا أرادت المترجمة الشاعرة (باختيار هذا العنوان الملهمَ المشجوجَ بفأس) أن تشيرَ إلى أن " المشجوجَ " هو الشاعر والنصُّ و المترجِم والقارئ، جميعًا، موضحةً كميّة المآسي الكامنة في عمليةٍ بسيطة وضرورية هي : ترجمة الشعر.
" ترجمة الشعر" كان عنوان قطعة من قطع قصيدتي "رفع العيون من الجثث"، في ديوان "يوجد هنا عميان"، حاولت فيه أن أصوّر"مأساة" مترجمٍ كبير، هو الناقد المصريّ المعروف د.فاروق عبد الوهاب، الأستاذ بجامعة شيكاغو، حينما زرته في منزله بشيكاغو (بصحبة الصديق الشاعر أحمد طه) عام 1995، حيث تتبدى حيرة المترجم بين هويّته وهويّة النصّ، وبين مصريته وعالميته، وبين حرارة الفيزيقا و رفرفة الميتافيزيقا، وبين سِحْريْن وهميّين : روحانية الشرق وماديّة الغرب :
" أعرف أن زوجته انجذبتْ إلى ندّاهة الفيمينزم،
وتركته يداعبُ التلميذاتِ اللواتي يشدُّهن سحرُ الشرق،
ربما إحداهن هي التي تعدُّ لنا الأرزَ بينما فخذاها يقطران من حرارة المطبخ.
لم يشْكُ من ساقيه،
لكنني أحببته لأنه كان فظًّا :
ليس في وطني مكانٌ أمارس فيه شغلتي الوحيدة :التعليم.
ألم تلاحظْ تحوّل المدرجاتِ إلى مساجدَ،
وتحوّل المساجدِ إلى غرفِ عمليات ؟
كنت أودُّ أن أحتضنَه على الطريقةِ المصرية،
لكنني تركته على كرسيّه المفضَّل،
يفكّر في مرادفٍ دقيقٍ لمصطلح:
اقتصاد المرايا. "
واضحٌ إذن، أنني كنتُ دائمَ النظر إلى المترجم باعتباره "شخصًا في مأزق"، لا يحلُّ طرفًا من أطراف مأزقه إلا على حساب طرفٍ آخر من أطراف المأزق، فهو الخاسرُ لا محالة في كلِّ وضع. ذلك أن اختياراته جميعًا مشوبةٌ بالجُرْم.وهو في كل اختيارٍ مذنبٌ، وكأنه"البطل التراجيديّ"السائر إلى حتفِه، وهو يبصرُ الهاويةَ السحيقة.
هذه هي "شَعْرةُ معاوية" التي تدركها الشاعرةُ المترجمة نفسُها، حينما أوضحتْ ذلك في مقالٍ لها بعنوان "ترجمة الشعر : إبداع"* قائلةً:
*" أن الاعتداءَ على حرمِ الفنِّ و مباغتة حصونِه متعةٌ.فلا بأس إذن من بعض المكرِ والإجازاتِ الشريرة.لكنها اللعبةُ الخطِرة التي يجب أن تنطوي على مهارةٍ فائقة ووعيٍ بالأدوات، حتى تتم "الجريمة الكاملة" بغير خدشٍ لجوهر المادةِ الأصل، أ و تشويه لفكر المبدع الأصليّ.تلك هي المعادلة الصعبةُ التي يحلُّ طرفيْها المترجمُ ."
نحن إذن أمام مترجمةٍ تعلمُ حقَّ العلم أن الترجمةَ (سيما ترجمة الشعر) هي محنةٌ ومنحةٌ في آن.
قارئُ مختارات "مشجوجٌ بفأس" سيلحظ أن هناك ثلاثة ملامح فكرية فنية تربط بين نصوصها في جديلةٍ واحدة:
الملمح الأول هو الطابع الكوزموبوليتانيّ الذي يسِمُ معظمَ القصائد ومعظم الشعراء. ولعلّ هذا الملمح يفصحُ عن تفضيلاتٍ وانحيازات لدى المترجمة الشاعرة نفسِها، مما يشي بميلِها إلى التياراتِ الشعريةِ التي تجعل موضوعَها "الإنسان" ذاته، بعيدًا عن "زمان"(عصر) بعينه، وعن "مكان" (وطن) بعينه، وعن "وضع اجتماعيٍّ " (طبقيّ) بعينه.
في هذا الملمح الكوزموبوليتانيّ يبرز "جوهر الإنسان" لا "عَرضُه" وتتجلى قضاياه وهمومُه وأحلامُه من حيث كونِه "إنسانًا كونيًا" لا من حيث كونه "مواطنًا سياسيًّا" أو "علامةً اجتماعيةً" على تراتبٍ طبقيٍّ قاهر أو مقهور.منبع الشعر- في هذا الملمح- هو "قدَرُ الإنسان" كلُّه (بتعبير أندريه مالرو) بغضّ النظر عن الجغرافيا والتاريخ، وبغض النظرِ عن الوطنِ والطبقاتِ والهويّاتِ القوميّة الضيقة.
وعلى ذلك، فإن الألمَ، في هذا المنحى، هو ألمٌ كونيٌّ متصلٌ بمأزق الوضع البشريّ كله من المهدِ إلى اللحد، ومن الأزلِ إلى الأبدِ، وليس ألمًا شخصيًّا أو اجتماعيًّا أو وطنيًّا.كما أن هذا المنحى ينفي عن منظورِ الشاعرِ الرؤيةَ العنصريةَ أو التمييزَ العِرقيَّ، فالإنسانُ هو الإنسان مهما كان لونُه أو جنسُه أو دينُه أو وطنُه أو دمُه أو عقيدتُه السياسية.
ومن هنا، فإن هذا الملمحَ الكوزموبوليتانيّ هو ملمحٌ ديمقراطيٌّ عِلمانيٌّ مضادٌ لمذهبِ نقاءِ السُّلالة أو الدم، مناهضٌ للتمييز اللاهوتيّ أو الثيوقراطيّ أو الهيراركيّ بين البشر. وفي هذه المناهضة سمةٌ جوهرية من سماتِ حداثةِ ذلك الشِّعر الكونيّ الإنسانيّ.
ربما تحِفُّ بهذا الملمح الكوزموبوليتانيّ مسحةٌ من الرومانتيكية التي تجعله مهوِّمًا في السماء متعاليًا عن الأرض الملوثَة بالخطيئة والصواب، و ربما نجمَ عن هذا التهويم قدرٌ قليلٌ أو كثيرٌ من التعمية على الصراعاتِ السياسيةِ و الاجتماعيةِ و الوطنيةِ في طين الواقعِ الحافلِ بالقهرِ والاستعمارِ والنفي والقتل. لكن الميزةَ الكبرى المقابلة لهذه المثلبة الكبرى تجعل الحصيلةَ متوازنةً، ونعني التوّجه الثاقبَ إلى " الجوهر المشترك الباقي" بين الإنسانِ والإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان، والمعنى الديمقراطيَّ الكامنَ في عدم التمييز بين الناس بسبب اللونِ أو الدينِ أو الجنسِ أو الوطن، واقتناص البقعة الوجدانية بين الآدميين، ووضع اليد على محنةِ المرءِ من حيث كونه امرءًا مُمتحنًا بالوجود،ولمسةَ المساواة التي يضمرها التوجه الكونيّ، والتعميم الذي ينقذنا من ضلال التخصيص و التجزيء، كلُّ ذلك يمنح هذا الملمحَ الكوزموبوليتانيّ إنسانيةً أرحب ونغمةً لا تزول.
الملمح الثاني هو حضور تيار"الالتزام" الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، لكنه الحضورُ غيرُ الثقيل.من خصائص ذلك الالتزام – في هذا الملمح 0ابتعاده عن "الإلزام" المفروض عنوةً من الخارج،واقترابه من "النزوع "الفطريّ الحرِّ المناقض للنهج الزدانوفي (الذي سيطر على المبدعين في الاتحاد السوفيتيّ في مرحلةٍ سوداءَ من مراحلِ الأدبِ في العالم).
في هذا الملمح لا تتحول الآراءُ إلى "سربٍ من عقائد" بل إلى نسغٍ داخليٍّ دفين و غير مرئيٍّ. ولا يصبحُ المبدعُ مشجوجًا بفأس الأيديولوجيا، بل ملموسًا بهمِّ الآخرين بوصفهم وجهًا من وجوه ذاته.
و في هذا الملمح يخفتُ الضجيجُ ويتلاشى الزعيقُ وتذوبُ التقريراتُ الساخنةُ، ليصيرَ النصُّ لمسةً رقيقةً من الحنين والحنان : أي لمسةً من الشِّعر.
الملمح الثالث هو اصطيادُ الشِّعر مما لا شعرَ فيه . "والذي لا شعر فيه"يتسع ليضمَّ هجرَ الوزن التقليديَّ العتيق إلى شساعةِ النثر ذي الموسيقى الضامرة والمضمرة، ويضمُّ الطابع الأمثوليَّ الناضحَ بشعرية الفكرة وكثافةِ الحكمة، ويضمُّ التقاطَ القيم الكبرى من المداخل الصغرى، ويضمُّ" أنسنة الحيوان " بحيث ينطق بما لا يُنطَق، ويضمُّ الواقع اليوميّ المعيش، حيث يتمُّ التأكيدُ على أن "ريتشارد جير لم يكن شاذًّا ".
في هذا الملمح تتجاور السماتُ الحداثيةُ والسماتُ ما بعد الحداثيةِ في سبيكةٍ غنيّةٍ متآلفةٍ زاخرةٍ بالدروس الباهرة:
من هذه الدروس، أن الحداثةَ وما بعد الحداثةِ طريقٌ واحدٌ طويلٌ تتكاملُ فيه الخطواتُ، ويُفضي بعضُها إلى بعض.
ومن هذه الدروس، أن الشِّعرَ ليس له بابٌ واحدٌ وحيد، فالشعر يأتي من المجرَّد كما يأتي من العيْنيّ، ويأتي من الحكمةِ كما يأتي من الجنون، ويأتي من الوعي كما يأتي من اللاوعي، ويأتي من الخالدِ المقيم كما يأتي من العابر المؤقت.
مبدأ هذا الملمح : الشِّعرُ لا "وصفةَ" جاهزةً مسبقةً له.
لماذا اختارت فاطمة ناعوت هذه القصائدَ بعينها لترجمتِها وتقديمها للقارئ ؟
عندي أن فاطمة ناعوت (الشاعرة) قد وجدتْ في هذه القصائد ذاتَها كمبدعة، ووجدت في الملامح الرئيسية التي تشكّل هذه المختارات ما يشابه سعيَها الشِّعريّ، فطابقت بين ذاتِها الشاعرة وذاتِها المترجِمة.
إن قارئَ دواوين فاطمة ناعوت الثلاثة،يلحظ بجلاء أن الطابعَ الكوزموبوليتانيّ، والالتزامَ غير الصارخ، وقنصَ الشعرَ مما لا شعر فيه، هي الملامحُ العامة التي تسمُ مجملَ سبيلها الإبداعيّ.فكأنها اتخذتْ من شعراء هذه المختارات "أقنعةً" لها، تتكلم بلسانهم عن ذاتِها، أو تتكلم بلسانِها عن ذواتهِم، عساها بذلك تنقل رسالةً إضافيةً فحواها أن الآخرين هم الأنا، و أن الأنا هي الآخرون، مناقضةً بذلك مقولة سارتر الشهيرة "الآخرون هم الجحيم".
أما فاطمة ناعوت (المترجمة)، فجليٌّ عندي أنها اختارت الخيانةَ الأعمق، فلم تلتصق بالنصِّ الأصليّ التصاقَ العبيدِ أو التابعين أو الحمَّالين، بل جاوزته إلى التحررِ منه والتحررِ فيه و التحررِ به، لتخلقَ نصًّا أصليًّا مواجهًا للنصِّ و قرينًا له. وجليٌّ عندي أنها انحازتْ إلى "الجريمة الكاملة" التي ذكرتها في مقالتها عن الترجمة، وهي دمجُ ذاتِ المؤلف في ذات المترجم، لينجمَ عن الذاتين ذاتٌ جديدة هي ذاتُ النص الذي وقف على قنطرةٍ خطرةٍ بعد أن هدمَ الشاطئين.
وهنا يمكن أن نفهمَ المغامرةَ الرهيفةَ التي تتولد عن تصدي شاعرٌ مميزٌ لترجمةِ شعراء متميزين من لغةٍ مميزةٍ (كالإنجليزية) إلى لغةٍ مميزةٍ (كالعربية). حينئذٍ سيكونُ الصراعُ صراعًا بين أكفاء، وسيكون السِّجالُ سجالاً بين أنداد.
ساعتَها، سنفهمُ معنى "البقاء بلا أقنعة"، وستزداد الشجوجُ شجًّا جديدًا، هو انقسامُ النصِّ على نفسِه.
أما "الفأس" فهي الحياة : حياة الشاعر و حياة النصِّ، وحياة المترجم، وحياة القارئ، على السواء.
فما أجمل الشجَّ.
وما أجمل الفأس.
يوليو 2003
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.