Sottoo3

شارك على مواقع التواصل

ماذا بعد؟  (1)

ماذا بعد؟
عادل جابر عرفه
مؤسسة سطوع
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر


الإهداء
إلى الأحفاد
عائشة ومالك
أعدتما لقلبي النبض ثانية، وأعدتما لروحي الحياة بعد أن ظننت أن الجميع فارقني مع المشيب، مشيب الروح والجسد، فأنتما لي الربيع بعطره، ونسيم البحر في الصيف الحار، بارك الله فيكما وحفظكما، سأظل أهديكما كافة أعمالي؛ فأنتما الحبر للقلم والنغم للحروف والعطر للعبارات.

المؤلف

المقدمة
تسري ثقافة المجتمع داخل جسده في بعض المواقف كالسم، فيقتل أبناءه ببطء كأنه يعذبهم قبل الموت، فيحرم بعض فصائله من حقها في الحب وفي المطالبة بإشباع احتياجاته العاطفية والفسيولوجية، بل ويفقدهم الحق أحيانًا في المطالبة بالحياة بكل ما تحويه من معنى، والمقصود هنا حياة الروح والتي هي أصل حياة الإنسان وليس حياة الجسد، ويكون الإنسان مشتتًا بين أمرين للحصول على إكسير الحياة الذي يحتاجه، وكلاهما مر؛ فإما الدخول في صراع غير مضمونة عواقبه وخسائره، أو أن يستسلم ويتنازل عن حقه للمحافظة على هدوء حياته الظاهري، وعادةً يفضل استمرار الحياة داخل قوقعة الواقع، مع ما تحمله من أمراض نفسية وبدنية، كالاكتئاب والوحدة.
تناقش الرواية هذا الصراع وهذه الثقافة وأضرارها، كما تناقش جوانب أخرى فرعية تؤدي إلى دمار مكونات المجتمع الأساسية.
تتحدث الرواية عن الأسوياء، بمشاعرهم الطبيعية التي تحركها الفطرة السوية، والخوف من أشياء كثيرة، وليست عن أصحاب الشهوات والنزوات من الجنسين، فهؤلاء فئة مريضة، تحتاج العلاج، وأحيانًا تحتاج العقاب لردعها.
أرجو أن تكون الرواية مصباحًا، يضيء ركنًا من أركان الحجرة، المسجون فيها كثير من التائهين والحيارى، وجرس إنذار لكل أطراف الصراع ومُتبنِّي هذه الثقافات.
المؤلف

(1)
غردت العصافير على شرفة حجرتي، أفهم تغريدها هذا جيدًا؛ فهي تناديني، هكذا يخيل إلي، أعلم ما تريد، نظرت إلى الطبق الذي أضع لهم فيه حبات الأرز أو الغلة، فوجدته فارغًا كما توقعت، فتحت الشرفة، طارت، وقفت على شرفة مجاورة، ملأتُ الطبق، لم أنس وضع الماء في الكوب المخصص لهم، وما إن أغلقت الشرفة عادوا يتهافتون على الطعام والشراب، ينظرون إلي، ثم ينطلقون إلى عالمهم الفسيح، هكذا يفعلون كل يوم، كم أحب تغريدهم، وأحب فرحتهم بالطعام، إذ ينشرح صدري بهذه اللوحة وتملؤني البهجة.رفعت رأسي أنظر للشمس وهي تشرق رويدًا رويدًا، اليوم عندي مختلف عن باقي الأيام؛ فقد خاصمني النوم من فرط التفكير، حيث فاجأني والدي بالأمس أن هناك شابًّا تقدم لخطبتي، وهو موافق عليه من حيث المبدأ، أسرته سمعتها طيبة، تسكن في محافظة مجاورة للقاهرة محل إقامتنا، لديه شقة بنفس المحافظة بعمارة يمتلكها والده، ولكل فرد من إخوته الفتيات والرجال وحدة سكنية بها، تزوج جميع إخوته، وأقاموا بنفس العمارة، ولم يبق سواه وأخت أخرى غير متزوجين.
لن تكون بعيدة عن بيت أبيها، لديه وظيفةٌ ثابتة تدر عليه دخلًا لا بأس به، خاصةً أنه في بداية حياته العملية، فارق العمر ثماني سنوات، ليس كبيرًا، سيساعده نضجه على رعايته للبيت والأسرة بعيدًا عن تهور الشباب.هذا ماقالته أمي، بالطبع لم يكن هذا رأيها، بل رأي أبي، حائرة أنا، تصرفات أبي معي منذ بدأت أنوثتي في البزوغ قد اتسمت ببعض التناقض مما جعل بداخلي شيئًا من الخوف رغم أنه مرحٌ في البيت، واتسمت علاقته بأمي بكل مظاهر الحب؛ فقد بدأت علاقتهما منذ لقائه بها في الجامعة أو قبل ذلك، واستمرت إلى أن أثمرت زواجًا ناجحًا، وبنتًا وولدًا يحسدهما الجميع عليهما، تفوق دراسي وأدب، هكذا كان يصفني وأخي من حولي. حبُّهما رومانسي بكامل أركانه ومعانيه ومشاعره، لا يفارقها إلا للضرورة ليعود سريعًا إليها، وحتى في مقابلاته الخاصة يصطحبها معه، تميزت هي بالصبرالعجيب، إذ تنتظره في السيارة ولو قضت في جلستها ساعات، لم يكن للعلاقة بينهما مثيلٌ في محيط العائلة أو الأصدقاء.لكنه متشدد معي في كل تصرفاته، خاصةً عندما أكون خارج المنزل؛ لا تلبسي هذا، لا تحدثي ذاك، الخطوات، النظرات، الكلام، كل شيء بحساب وبتوجيه أو أمر منه.
يتابع جيدا مواعيد محاضراتي، ويحسب لي زمن التأخر عن المنزل بالدقيقة، بل وتلاحقني أسئلته عند عودتي؛ أين كنتِ؟ أين ذهبتِ؟ لماذا تأخرتِ؟ مع من تكلمتِ اليوم؟، وبأحيان كثيرة يوصلني للجامعة بنفسه في أثناء ذهابه للعمل، ويعود لي بعد انتهائه منه لنعود معًا للمنزل، وكنت أسمع سخرية الزملاء والزميلات في بعض الأحيان، سجن روحي داخل ذاتي، لم يسمح لها بالانطلاق، لم أستمتع بأيام الجامعة التي طالما سمعت عنها من كل أقاربي، بل ومن أبي نفسه، فهي الأجملُ على الإطلاق خلال مشوار الحياة، لم يكن لي أصدقاء بالمعني المفهوم، مجرد زميلة أو اثنتين متشابهتين في الظروف، لم أشترك بأي نشاط في الكلية أو رحلة، رفض أبي هذا الأمر تمامًا، رغم ما كنت أسمعه منه ومن أمي - حين كان الجميع يجلس جلسة سمر بالمنزل- عما جرباه من أنشطة ورحلات في أثناء فترة الجامعة، وكيف عاشا أجمل أيام عمرهما بين جدرانها.
اعتدت أن أرى رأس أبي يستريح على رجل أمي، وأناملها الرقيقة تتراقص فوق شعر رأسه كأنها تعزف على البيانو، فيغفو كطفل صغير، أقنعت نفسي أن هذا التناقض ناجمٌ عن خوفه الشديد على ابنته الوحيدة، وأن سلوك الناس تغير للأسوأ مع مرور الزمن، زكَّت أمي هذه المبررات بتكرارها أمامي إذا شَعَرَت أن الضيق والحزن أصابني لما يحدث لتهون على نفسي، كان حلمي وحلم قلبي الأخضر زوجٌ أحبه ويحبني، أرى فيه صورة أبي مع أمي، فيكون المرح والرحلات والسعادة سمة حياتنا معًا، يُنسيني ما فقدته في أيامي الماضية، لكنني فوجئت وقبل أن أهنأ بتخرجي من الجامعة الذى مر عليه أيام قليلة بعريس لا أعرفه، لم ألتقِ به سابقًا، لم أحبه، نعم، قلتها بصوتٍ مكتوم داخلي حتى لا يسمعني أحد، فأنا أريد أن أحب.
- لاأعرفه، لا أحبه!
صرخات لم تتوقف، تحدثت مع أمي فكانت مقولتها:
- يأتي الحب بعد الزواج، العشرة سوف تنجب الحب والسكن والرحمة.
- ولكن يا أمي أنتِ وأبي...
- إن شاء الله نصيبك في الطيب، كل زيجة لها ظروفها والنصيب غلاب.
مرَّ هذا الشريط أمام عينيَّ مع بداية أول ضوء للنهار معلنًا عن يوم جديد، أو عن عهد جديد إذا أبديت موافقتي التي ينتظرها أبي، بدأت الشمس تصيب رأسي بحرارتها التي لم تكن أقل حدَّة من حرارة الحيرة التي انتابتني، تركتُ الشرفة، وألقيت بجسدي الرقيق على السرير، فبجانب رقة الجسد قد امتلكتُ ابتسامة طفل لا تفارقني، وجمال أنثى ممزوج بحيائها، هكذا كان يصفني خالي دائمًا قبل أن يفارق دنيانا، وكم تعرضت بسبب حيائي لآلام؛ فقد طلبت إحدى صديقاتي ذات مرة كشكول المحاضرات أثناء المراجعات النهائية قرب أيام الامتحانات، على وعد بأن تعيده سريعًا، ثم اختفت بعدها. انتهت أيام المراجعات، الكل في منزله يستعد للامتحانات، حاولتُ الاتصال بها، هاتفها مغلق دائمًا ولا أعرف عنوانها، عانيت كثيرًا وأنا أحاول استذكار هذه المادة، لم أستطع التحصيل بالدرجة المرجوة، ولم ألتقِ بها سوى يوم الامتحان، وبمنتهى الهدوء أعطتني الكشكول وكأن شيئًا لم يحدث، لم يكن هناك مجالٌ لأي لوم أو عتاب فبعد قليل يبدأ الامتحان، لم أجب على الأسئلة كما أحب أو أتمنى، خرجتُ مندفعةً من لجنة الامتحان لتلقين زميلتي هذه درسًا في الأخلاق لكن الزميلة كانت أسرع في الخروج عائدة إلى منزلها، هربت في صمت، ظهرت النتيجة كان تقدير هذه المادة أقل من الأخريات، بل وأثَّرت في التقدير العام، لأني حصلتُ علي تقدير جيد بدلًا من جيد جدًّا، بكيت كثيرًا وتوعدت، وفي أثناء الأجازة أبلغتني إحدى الزميلات التي تقيم معنا في نفس العمارة أن هذه الزميلة مريضة وتلازمُ الفراش في إحدى المشافي، لم أفكر لحظة أو أتردد في زيارتها مع حملي باقة ورد وعلبة شيكولاتة فاخرة، وبسمتي الطفولية على وجهي كما قالت زميلتي عني يومها، حاولت زميلتي الاعتذار لكني أومأت لها بأن تصمت، وقلت:
- لاعليكِ، المهم الآن صحتك، وفي العام القادم سأردها لك.
فضحكت وضحك الحاضرون، عدنا وعادت علاقتنا وكأن شيئًا لم يحدث.
هل أوافق على العريس هربًا من محاصرة أبي وأملًا في حياة أحلم بها دومًا وليأتِ الحب مستقبلًا؟ أم أنتظر حتى يدق قلبي ويشاركني بعمري المتقارب
يقاسمني الجنون واللعب والقفز في الهواء كما الأطفال، وركوب قوارب البحر السريعة، وألعاب الملاهي المخيفة، والصراخ الممزوج بالضحك والقطار السريع يشق طريقه على القضبان الملتوية، وكلمات الغزل في أعلى عربة من الأرجوحة ووقت انقطاع التيار الكهربائي، هذا ما حلمتُ به دومًا، وما رأيته بين سطور الروايات الرومانسية التي أحببت قراءتها أو في مشاهد أفلام الحب والغرام، بين هذا وذاك تاه رأسي حتي هربت بالنوم بعد أن أهلكني السهر الذي لم أعتد عليه؛ فقد كان موعد نومي بالتاسعة أو العاشرة مساءً، والأستيقاظ مع أذان الفجر يوميًّا.



يتبع
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.