Zajelpublishing

شارك على مواقع التواصل

لم يُدهشني وجودها في هذا المكان وفي هذا البرد القارس قدرَ ما أدهشتني تلك الوقفة التي تقفها في ثباتٍ وعزمٍ وكأنها تحوّلت لتمثالٍ من الرخام!
كنتُ أركضُ في سرعةٍ متوسطة قاطعًا ذلك الطريق في محاولة بائسة لاتقاء حبات المطر التي لفظتها السماء بقوةٍ وغزارة، ولأن مظلتي اليدوية أصبح شكلها كزهرة عباد الشمس بفعل الهواء الذي ضرب جوانبها، وقد صار زجاج نظارتي مرتعًا يتلقى على سطحهِ أمطار الشتاء بكثافةٍ؛ أصبحتْ رؤيتي مشوشة.
كنت عائدًا من عملي فلمحتُها تقفُ عند ناصية الطريق في إباء، ترتدي سترة جلدية كبيرة متآكلة وصلت لأسفل ركبتيها، وأخفتْ معظم معالم جسدها بينما تغطي رأسها بغطاءٍ ملحقٍ بتلك السترة، ولم يظهر منها سوى كفٍ ضئيل يخرج من فوهة ذراع السترة ممسكًا بأنامل مرتعشة عدة أكياس بلاستيكية صغيرة!
وقفتُ لحظةً بعد أن قطعتُ الطريق أنظر لها بِعطفٍ، وتأثرٍ، وتساؤل!
أي ظروف تلك التي دفعت امرأة مثلها للخروج في هذا الجو الصعب والوقت المتأخر نسبيًّا حتى تتحامل على نفسها وتقف تلك الوقفة -رأيتها بعيني شامخة- قابضة بيدها تلك الأكياس المعبأة ببعض حبات ثمرات الليمون تريد بيعها!
وقفتها مؤلمة بحق!
تقف فوق ذلك الإفريز متباعدة القدمين يسيرًا بلا سقف يحميها، تنهمل على رأسها أمطار الشتاء فأدنت برأسها أرضًا، تفردُ ذراعها الأيمن على طولهِ وينتهي بأنامل تكاد تتجمد بردًا تحمل تلك الأكياس، زفيرها يَخْرج بخارًا تخترقه الأمطار وتبدده سريعًا.
تُرى كم من طفلٍ لديها؟!
أين زوجها؟!
لم أعلم ماذا أصنعُ، هل أستمرُ في طريقي دون أن أبالي، وأكتفي فقط بمصمصةِ شفتيَّ شفقة عليها؟ أم أتوجهُ إليها محاولًا مساعدتها؟
جنحتُ إلى ما جال بخاطري؛ فتوجهتُ نحوها مسرعًا، وأنا أخلع قفازي، وأضعه بجيب بنطالي لأطبق ورقةً فئة العشر جنيهات مستعدًّا لإعطائها إياها بصورةٍ لائقة لا أشعر معها بالخجل، ولا تشعر هي معه بالشفقة.
«سأشتري كيسًا واحدًا من الليمون بذلك المبلغ.. نعم هذا هو الحل الأمثل» هكذا حدثتُ نفسي.
توجهتُ نحوها؛ لا أعبأ ببللي، وبرودتي.. سمعتها تنادي في وهنٍ على بضاعتها.. تناجيها في وحدتها، يمر البعض من أمامها لا ينظرون إليها، وكأنها طيف غير مرئي!
لم تُمكنني ظلمة الليل وعدسات نظارتي المبللة في تبين ملامحها ولا تلك النظرة المنكسرة التي تبدو واضحة في انحناءةِ رأسها على ذلك النحو.
تقدمتُ خطوتين ثم سألتُها بفمٍ مرتعش ومطرٍ غمر جميع جسدي:
_ كم ثمن الكيس الواحد؟
في وهن وانكسار استشعرته ودون أن ترفع رأسها أجابتني:
_ ثلاثة جنيهات.
وددتُ مداعبتها؛ علَّها تستفيق أو حتى تبتسم لي فقلتُ لها:
_ إذن أعطيني ليمونة واحدة!
لم ترد على مداعبتي ولم تبتسم!
كنت أحاول عبثًا رؤية وجهها بوضوحٍ ولكن دون جدوى.. مددت يدي نحوها بالمبلغ؛ فأعطتني كيسًا دون أن ترفع رأسها!
لم أنتظرُ منها ردًّا؛ فتحركتُ سريعًا مبتعدًا عنها.
كادت الدهشة أن تطيح بي عندما نادتني، وهي تهرولُ نحوي وتمُد يدها قائلة:
_ عمو.. عمو، لقد نسيت أن تأخذ بقية المبلغ!
لم أستطع كبحَ دموعي طويلًا، وأنا أفطنُ للحقيقة بعد رؤية وجهها الخلاب، وملامحها الرقيقة، وطفولتها البريئة التي ظهرت للوهلة الأولى!
فأخيرًا رأيتُ ابتسامتها المشرقة، التي تناسيت معها شعوري بالبرودة حتى أنني تبسمتُ إليها و...
وانصرفت.

خالد حمدي
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.