Horof

شارك على مواقع التواصل

ومع غروبِ شمسِ يومٍ من أيام اللهفةِ ومعاناةِ قسوة ساعات الانتظار جلس خالد ينظر للشمس وهي تذوب عشقاً في مياه البحر الذي أغراها بحبه وبهجة لقائه حتى ابتلع قرصها القرمزي في محيط مياهه الزرقاء.
بدا الليل وقد وشَّح الدنيا بسواده الحالك وراح يفرضُ سطوته على الشاطئ رويداً رويداً حتى أذعنت مملكةُ الشطآن لسلطانه وقبلت باحتضان صولجانه بين رمالها ولو إلى حين.
- تمدّد على كرسيه وجهاً لوجه مع صديقه القديم، يستمع لصوت أمواجه وهي توشوشه همساً حانياً وقد أغمض عينيه ووضع يده على الكرسي الذي يعانق كرسيه، يتحسسه ويعاتبه:
كم أخشى أن تخلفَ وعدها لنا أيها الخاوي من نورها الذي يضيئ ظلامنا ، ودفء هواها الحاني الذي يسري في أيدينا فيحيي أجساداً قست عليها دنيا البشر ومتاهات القلوب، دفءٌ كنورِ شمسٍ في شتاءِ يومٍ عاصفٍ يداوي جراحَ الحب ولوعة الشوق والحنين.
جلس يعاتبها ويناجيها: حبيبتي هل هنتُ عليكِ حتى تركتيني أعاني نيران شوقي وحيرتي وقسوة الانتظار؟
متى تدركين حبيبتي أن هواك هو حياتي ومهجتي وأني في حكم المفارقين حياتهم إن نال مني هاجس البعد وخيالات الفراق؟
جودي بحبك وارحمي من أحرقته نيران اللهفة وأضنته آلام البعاد.
- كهمسٍ حالمٍ هب نسيمها الرقيق، وراحت تناجيه:
- ليلى: تعلم أني ما كنت أعرف معاني الحب قبلك حبيبي، وتوقفت عقارب الساعات عند لقائنا يا مهجة قلبي ونور أيامي وفرحتها، وغَيَّرتها بدقات قلبي ونيران شوقي ولهفتي إليك ‘ حتى ما عاد لعينٍ أن تستطيع أن تقرأ عقاربَ الساعاتِ من سرعتها وصخب دقات الفؤاد.
- شعرخالد أنه يحلمُ بهذا الصوت الشجيِّ لولا أنه شعر بدفء يدها يسري في يده ويحي جسده الذي جمده برد الليل وبرد البحر وبرد الخوف ألا تحضر في موعدها وتوفي بوعدها له، سارع يتلمس يدها بلهفة طفلٍ حائرٍ بين سيقان البشر وازدحام العابرين فَرَاحَ يتشبث بجلباب أمه حيث منابع الأمان.
- احتضنت بيدها رهبة يده وارتعاش أنامله ثم داعبته كي تخفف عنه من قلق الخوف وهاجسه أن تحرمه الدنيا كما عودته من فرحة ٍ تكتمل أو فجرٍ صادقٍ يفلت من قبضة الليل البهيم،
- أجبني حبيبي لمَ الخوف وقد تعاهدنا على حبٍ ووفاء لا يخضع لقوانين الغدر ولوائح الفراق؟
- يتهرب من سؤالها قائلاً: أجيبي أنت: ما أجمل كلمة تحبين سماعها مني حبيبتي؟
- ابتسمت كنور الشمس حين تطل ببهائها على الدنيا بأسرها، ها قد سمعتها تواً منك حبيبي ولكن أخبرني عنك أنت يا لهف قلبي ومهجتي؟
- تخف وتيرة قلقه ويملأ صدره بنفس ٍطويلٍ بملء الطمأنينة التي تسربت إليه من دفء أنفاسها وصدق حروفها المتناغمة، أجمل الكلمات حبيبتي عندما تحتضنين ضعفي وتضمين شوقي ولهفتي بمحراب هواك ثم تهمسين لروحي الظمآى: لا أريد شيئاً من الدنيا سواك.
- تحاول أن تخفي القلق الذي بدأ ينتقل منه إليها، لم تجب عن سؤالي أيها الماكر ولكن ثق أني بجوارك ما دامت تزور صدري أنفاس الحياة.
- يُقَبِّل أناملها ويمررها على شفتيه ويلثمها داعياً ربه ألا تقسو عليهما الدنيا وتتشعب بهما دروب الحياة

كعادتهم يتسكعون في الطرقات ما بين العشش " الفلل " المنتظمة كانتظام خلية النحل في دقتها وجمالها بالمصيف العتيق، باحثين عن علاقات عابرة ومتأملين في وجوه البشر ومظاهرهم خاصة المتعلقة ببنات حواء، وقد تركوا صديقهم خالداً وحده يتأملُ البحرَ كعادته ويتابعُ قصورَ الرمال التي يُشَيِّدها العاشقون بدقات قلوبهم قبل أناملهم المتداخلة أملاً في عناقٍ لا ينتهي ولقاءٍ لا تخذله السنون، ثم ما يلبثُ أن تغدرَ بهم الدنيا وترسلَ إليهم بعضاً من إشارات الغدر حين تغدرُ أمواجُ البحرِ بقرى الرمال وقصورها المتناثرة بامتداد الشاطئ الصامت صمت أبي الهول عن قصصٍ بدأت وقصصٍ تذبلُ وأخرى تموت.
- عاد أحدهم ليرافق صديقه في وحدته، ألا تَمِّلَ من صمتك وتأملك للبحر ورمال الشاطئ واختفاء الشمس خلف ستور الظلام؟
- يبستم كعادته ابتسامة تخفي خلفها من الأوجاع والآلام أكثر بكثير ٍمن قسوة الأمواج وغدرها بقصور الرمال، ثلاثة عشر شهراً منذ عرفتها كما تعلم ومن وقتها ضَنَّت الدنيا أن تجود لنا بلقاء.
- لكنك تتواصل معها ولا شك أن الأقدار أرحمُ بك من عذابك الذي لا ينتهي، وخوفك الدائم صديقي العزيز.
- تنسابُ دموعه دونَ إرادةٍ منه، أخبرتني في آخر مرة أن عمها يصممُ أن يزوجها بابنه الذي رآنا مرةً وقد خالطت أقدامنا رمال الشاطئ وخضنا بأقدامنا في مياهه متناسين العيون التي ترقبنا حيث ظننت وقتها أني قد قتلت الخوف وراقت لنا الدنيا وصدق حنينها حيث ظننت أن لها بقايا حنين.
- لا عليك صديقي فلكل ضائقةٍ مخرجٌ، ولا أظن أنه يجبرها على أمر لا تطقيه هي فيغرس في حياتها معالم القهر ورايات الشقاء.
- ترتعشُ يده وهو يتحسس الكرسي المجاور له وقد خلا من نور ٍ كان يبدد ظلامه، ودفءٍ كان يحيه، ألا تعلم أنه حَّرم عليها أن تزورَ تلك الشطآن منذ تلك الواقعة أو أن تطأ قدمها مدينتا؟، وأقسم عليها أنه قد لا يتورعُ في إنهاء حياتي إن عاودنا حكاوينا وجددنا اللقاء.
- ارحم قلبك صديقي ففي الدنيا سعة وغيرها بين النساء كثير.
- يشيحُ بوجهه عن صديقه وقد ضاقت به الدنيا، أمثالك لن يدركوا مأساتي فأنت كشارب ٍ من مياه البحر لا يرتوي منه ولو شرب المحيط.
- أمزح معك صديقي فأنا أعلم مدى تعلقك بها وحبك لها ولكن ما الجديد؟ وقد حال بينكما طوفانٌ من الغدر وأمواجٌ كالجبال ِ من الحقدِ وسوادِ القلوب.
- سوف أسافر لها.
- هل جٌننتَ صديقي! إنك تلقي بنفسك في أتونٍ من الهلاكِ ومغادرة ِالدنيا لا محالة.
- وما قيمةُ الدنيا إن خلت منها؟ وما قيمتي أنا إن خلت منها يميني؟
- لا تتسرع صديقي لعل الأقدارَ تأتي لك بما تتمنى وتتغير خارطة ُالشطرنج وتتبدل الأحجارُ على رقعتها.


يسافر إلى بلدها غيرَ آبهٍ بالمخاطر التي قد تحيط به وترسم له مصيره القادم.
يصلُ إلي بيتها، ينتظرُ بالساعات قريباً من نافذة غرفتها، تلمحه فتتسارع دقات قلبها حتى كادت أن ينخلع قلبها من وقع ضجيج الدنيا وتسارع الأحداث، تتمني لو يبتعدُ، يركضُ بعيداً بعيداً قبل أن ينالَ منه حراس المدينة المظلمة ويسلمونه للكهنة وقطاع الطريق.
ما عادت الدنيا تغريه ببريقها الزائف، فقد احتوته هي بعينيها واستغرقته بسحرها حتى أنه ما عاد يسمعُ صراخها وهي تتوسل إليه أن يهرب، وما انتبه ليد الغدر وهي تحاول أن تُحَطِّم فيه بنيانَ الطين وتسكب دمه الذي طالما تمنى أن يخالط دماها.
بلهفة السنين وعطش القلوب وحنينها الجارف أبت هي أن تدعه لقسوة ِ الدنيا ترسمُ بوجهها القبيحِ فصولَ النهايات، وجعلت جسدها الغض حائلاً بينه وبين غدرات الخائنين.
ارتضى هو أن يُخَّضِبَ الأرضَ التي تضمُ بيتها بدمائه وأن تفارقه أنفاسه وقد حقق أمنيته أن تكون هي آخر من يرى حين غدرت به أمواج الدنيا وتهدمت قصور الرمال على شطآنها.
تمنى أن يغمض عينيه وقد حرر روحه من قسوة السجان وظلمة البشر، وأن تستريح نفسه الظمآى وقد رأت في عينيها صدقَ عهدٍ ووعدٍ باللقاء.
لكنها كانت أسرع إليه من أمنيته وجعلت من جسدها درعاً صلباً تحمي به أملها نحو الحياة، وتشبثت بحلمها مهما كلفها ذلك من تضحيات.
أفاقت بالمستشفى، فإذا هو على السرير المجاور لها وقد سرى دمه في عروقها ليبقي على حياته هو عبر تمدد دفء يدها في جسده الذي طالما تمنى أن تجود عليهما الدنيا وتجمع بينهما حياة.
تعجب عمها من نبل أخلاقها عندما رفضت أن تتهم ابنه بمحاولة القتل وكان عجبه من تضحيتها من أجل حبيبها أشد.
انتبهت في عمق ذاته بعضٌ من معاني النبل والمروءة من بعد عقود من سنوات عجاف فبارك ذاك الطهر وسمح لنور الشمس أن يجتاز ستائر التعصب وحماقات النفوس.


بدا الليل مرتبكاً وقد خسر جولته في هذه الليلة، حيث سيطر ضوءُ قمره السماويّ على رمال الشاطئ الدافئة، وأعطى لأمواج البحر التي تعانقُ رمالَ الشاطئ لوناً فضياً يسحرُ القلوب َ ويسر الناظرين.
حاول القمر أن يثبت ريادته رغم أنه قد نالت منه الغيرة وهو يرى قمراً آخر يسحر رمال الشاطئ ويغري أمواجَ البحرِ بمزيدِ اندفاعٍ لعلها تنعمُ بملامسةِ أقدامِ القمرِ وتعانقُ الرمالَ التي سبقتها إليه
هناك حيث كان الكرسيان أكثر التصاقاً من ذي قبل حيثُ يسري دفءُ القمرِ الأرضيِّ في جسد حبيبه ودمه، وقد تعانقت الأيدي مانحةً للعاشقين أسمى معاني الصدق وراسمةً لهم معالمَ الأملِ وملامحَ الطريق.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.