Horof

شارك على مواقع التواصل

تسلَّلَ ضوء القمر من بين فراغات ستائر النافذة، متلصصًا على ما يدور بالداخل، لكنه ويا للحسرة! لم يستطع أن يُلقي ضوئه خارج حدود النافذة، كان الظلامُ حالكًا على الرغم من الشموع الموزعة في أنحاء القاعة، ما إن تقترب منها حتى تجد إضاءتها الخافتة تُلقي بظلال دموية، والدماء تتساقط من بين ألسنة اللهب، تنساب فوق حاملها، الذي ينثر القطرات فوق الأرض الخشبية السوداء، المشاعل غافية فوق الجدران مستكينة تمامًا، فتظنها لم ولن توقد مطلقًا.
ما أن أعلنت الساعة عن انتصاف الليل، ويتردد صوت دقاتها الاثنتي عشرة، حتى توهجت المشاعل بلهبٍ قويٍّ بلا دخان، كان من الشدَّة بحيث أنَّ ضوء القمر تراجع هاربًا، لتغلق الستائر ذاتيًا خلفه بقوةٍ؛ تضاعف ضوء الشموع آلاف المرات، لتطغى إضاءتها الدموية على كل شيءٍ، وتفور الدماء منها كالشلالات، لتغرق الأرض متجمعة في وسط الغرفة، ينبثق من وسطها غادة حسناء، بيضاء البشرة، تتطاير حول وجهها خصلات من شعرها الفاحم الكثيف الطويل الناعم، ذات ملامح ساحرة كأحسن الحوريات، ترتدي ثوبًا من الساتان ذا أكمامٍ طويلةٍ، ورقبةٍ عاليةٍ بلون الدم يزيدها جمالًا ورهبةً، أَخدتْ تسيرُ إلى الركن القصي من القاعة، الذي كان غارقًا في ظلمةٍ عجيبةٍ، تُناقض القاعة المتوهجة، وما إن اقتربت منه، حتى أضاء ليظهر ذاك الغافي فوق مقعده، كأنما الظلمة التي كان بها حجبته عما يدور في القاعة، أشارت إليه بأصابعها المرمرية ليستيقظ، ويركض تجاهها ليُقبِّل يدها برقةٍ، انبعثت موسيقى كلاسيكية هادئة من اللامكان، فأمسك يديها ليسيرا إلى وسط الغرفة، حتى يبدآ الرقص، كانت عيناه تنطق بعشقه، بينما يسرق سحرها أنفاسه.
ابتسمت بغرورٍ، وهي تنظر إلى المفتون بها، ثمَّ قالت: "إنها الرقصة الأخيرة أيها الفاني"، توقف عن مراقصتها، ونظر إلى الأرض مطرقًا، وهو يقول: "سيدتي الجميلة!".
قاطعته، وهي تنظر إليه بقوةٍ قائلة: "لقد مرَّ الشهر أيها الفاني"، رفع رأسه، وقال معترضًا: "ولكن"، لم تعطه الفرصة ليكمل، وقالت له، وعيناها تتحول للون الدم: "لا يجوز لك الاعتراض أيها الفاني، أنت ملكي الآن، فقد انتهت الرقصات الثلاثون، يجب أن نرحل"، قال لها فرحًا: "نرحل معًا! هل سأكون معك إلى الأبد؟".
ضحكت بقوةٍ فتهتز أضواء المشاعل، والشموع حتى كادت أن تُطفأ، ثم قالت بدلالٍ: "أيها الفاني، سنرحل معًا لتكون لي خادمًا إلى الأبد، هذا اتفاقنا، أن تبيعني روحك مقابل تلك الرقصات الثلاثين".
نظر إليها مفتونًا بضحكتها، وقال لها برقةٍ: "وكيف لي ألا أوافق أن أبيعَكِ روحي يا فاتنتي؟ يا مَن سرقتِ قلبي، لتصبح أعظم أمنياتي أن أكون خادمكِ".
نظرت له بعينيها التي أخذت تفور دمًا، وشعرها الفاحم يلتف حول عنقه، وهي تقول بصوتٍ كالفحيح: "لنرحل الآن! فقد حان الوقت!".
كان يختنق، وشعرها يعتصر رقبته بقسوةٍ، ودماؤها تغرقه، حتى دقت الساعة الواحدة صباحًا لتنطفئ الشموع والمشاعل، وتفتح الستائر، ويندفع ضوء النجوم إلى القاعة الخالية من كل شيء إلا من كرسي يجلس عليه هيكل عظمي بالٍ، يرتدي حلة سهرة لامعة.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.