Horof

شارك على مواقع التواصل

برطمانات الدم

حفيدها الأخير لأبنها الأخير قبل ما يخرج من البيت باس سته سلامه، كانت بتعمله فطاره وفي نفس الوقت محضرة نفسيها عشان تقوله عن واحدة من تحليلاتها الغريبة دايماً، بس هو ابتسم لها وفهمها أن هو مضطر يخرج دلوقتي وعشان يطمنها أكد لها إنه حيبقى يشرب معاها الشاي المركز بالنعناع تحت شجرة الكافور فضحكت وضربته في كتفه وقالت أن هو مش محتاج يضحك عليها عشان هي فاهمة كويس هو رايح فين.
سلامة ست مش ذكية لدرجة أن هي ممكن ترتبك بشدة لو أتجمع في أديها فئات مختلفة من الفلوس ولكنها كانت ولازالت علي علاقة بجني صالح عنده خلفيه واسعة عن نظرية المؤامرة ووجودها في صفحة التاريخ السياسي الطويل جداً وده لأن مساحته العمرية ممتدة من أزمان بعيدة.
الجني الصالح كان بيرتاح لسلامة وشايف في سذاجتها أرض خصبة لأنه يطلعها على تحليلاته المدهشة جداً، وفي الوقت نفسه قمة في التعقيد ولكن ببساطة شديدة بيقدر يشرح لها كل أفكاره المعقدة جداً، سلامة جوزها استشهد وأبنها الكبير برضو وبتها راوية سافرت مع جوزها المصري القاهرة وأبنها الأخير خلف بنتين ومات في مظاهرة بعد ولادة أبنه الأخير، بتها عرضت عليها كذا مرة أنها تسيب فلسطين وتيجي تعيش معاها في مصر بس هي رفضت وكان رفضها مش عشان حبها لفلسطين بأكتر من عدم قدرتها علي مفارقة الجني الصالح اللي رافض يعيش في أي مكان تاني إلا فلسطين.
الحفيد الأخير للأبن الأخير استشهد في صباح يوم تمت فيه سلامة تقريبا مئويتها، مستغربتش ولا أندهشت ولا صوتت، الأخبار دي بقت عادي جداً بالنسبة ليها، طلبت من شباب جيرانها أنهم يودوها لحد مشرحة المستشفي، أترددوا شوية، خافوا تولول وتصوت رغم أن عمرها ما عملت كده.
استغربوا جداً أن هي طلبت في المشرحة كيس جديد ولما سألوها عن السبب قالت لهم أن هي عايزة تصفي دم الشهيد فيه، الرفض كان رد الفعل الطبيعي للمحيطين، بس كلبشتها فوق جسم الشهيد وإلحاحها خلاهم يسمحوا ليها بالفعل المجنون ده وصفت دمه في الكيس وربطته كويس ورجعوها لبيتها ووشها عليه ابتسامة كبيرة قوي وعيون صافية مفهاش ولو دمعة واحدة.
لما عدوا عليها أصحابه الأربعة تاني يوم، حاولوا يمارسوا دور الحفيد الأخير للأبن الأخير بس هي رفضت بشدة وعرضت عليهم كيس الدم اللي فيه دم حفيدها وآمرتهم بأنهم يوزعوا دمه في برطمانات وفي مظاهراتهم يبقوا يرموها علي الإسرائيليين، الأصحاب الأربعة كانوا مندهشين جداً علي الرغم من اعتيادهم لغرائبها ولما حست في عيونهم محاولة مبتذلة لإرضائها ثارت وغضبت وفي الآخر قالت لهم أن هي تعرف اللي هما ميعرفهوش.
واحد من الأربعة كان تقريباً مصدق كلامها ولكنه خايف يعلن عن تصديقه ليها قدام صحابه لحسن يسخروا منه لما خرج معاهم في اليوم المحدد للتظاهر كان معاه شنطة قماش فيها ست برطمانات حمر ولما سألوه عن اللي في الشنطة قالهم ده دم الشهيد، محاولوش يعلقوا علي كلامه لأن لا الوقت ولا الظروف تسمح بأي جدال.
لما حصل الأشتباك بدأ الشاب يراجع نفسه ويندم علي أنه صدق كلام الست المخرفة دي ولكنه هو حس أنه مش خسران حاجة لو جرب وخصوصاً لما سقط قدامه واحد من صحابه برصاصة ما بين عينيه، بسمل علي كل برطمان ورماه فأنفجر في جنون زي ما يكون هو راخرغضبان قوي، الفلسطينيين والإسرائيليين علي حد السواء أندهشوا جداً والشاب كان أكتر واحد مندهش فيهم.
الدبابات أتدخلت وضربت جموع الفلسطينيين بقذائف عشوائية، الفلسطينيين أتراجعوا وأتشتتوا بسرعة، بس كان آخر مشهد منطبع في أذهانهم وشوش الجنود الإسرائيليين المذهولة جداً، كان الذهول مش من الموت ولكن من أثر البرطمانات الحمرا.
المتظاهرين بقوا يحاولوا بقدر الإمكان أنهم يكبسوا دم الشهدا اللي بيسقطوا لحد ما يوصلوا المشرحة ويفضل الدكاترة والممرضين يستخرجوا دم الشهدا في أكياس محكمة الأغلاق، الستات مبقتش تبكي زي الأول وكل ما يسمعوا نبأ شهيد يزغردوا مش عشان يغيظوا الإسرائيليين ولكن كانت الزغرودة طالعة من القلب فعلاً وبفرحة وده لأن كل واحدة بقت تفتخر بأن شهيدها بقي قنبلة حكاية مطلعة زرابين الإسرائيليين!
الظاهرة الملاحظة كمان أن كل شهيد بيستخدم دمه كعبوة ناسفة بيظهر لأهله، مثلاً سلامة كان حفيدها الأخير لأبنها الأخير بيجي يخبط عليها الباب في المسا يشرب معاها الشاي المركز بالنعناع زي ما كان بيحب وبيكون معاه أحياناً شيشة قالها أن دي هدية من الجنة، يعقدوا يدخنوها سوا تحت شجرة الكافور يحكي لها عن أبوه و أخوه وأحوالهم إيه في دنيا الأموات وهي تحكي له عن أخبار فاطمة اللي كان ناوي يتجوزها بس هما كانوا عارفين أن ده مكنش ممكن يحصل لأنه كان ناوي على الموت، وبعدين ضحكتهم تجلجل وتحس سلامة بأن دخان الشيشة لا بيحرق الصدر ولا حاجة لكن بيخلي مزاجها عالي قوي.
الجيش الإسرائيلي في الإشتباكات اللي بعد كده بقي يصادر جثث الشهدا بأي وسيلة، وكتير من تجار السلاح اليهود والعرب كان إنزعاجهم أشد من الجيش الإسرائيلي لأن سوق السلاح أتوقف حاله، علشان كده بدأوا يشتروا من المستشفيات أكياس دم الشهدا ويعبوها في برطمانات أحجامها مختلفة بأسعار مختلفة ويبعوها تاني للفلسطينيين!، باع تاجر يهودي دم الشهدا للجيش الإسرائيلي وفرح قوي لما باع كميات كبيرة بسعر مغري، استعملها الجنود الإسرائيليين في ضرب الفلسطينيين ومع أول قنبلة انفجرت فوق دماغات الفلسطينيين نزلت علي هيئة مطر أحمر، جزم الكتير أن فيه ريحة مسك، وبعد ما تنفجر عبوات دم الشهيد الواحدة ورا التانية قدام ذهول الجنود الإسرائيليين كان الفلسطينيين يضحكوا من جوا قلبهم ويقوموا مطلعين برطماناتهم البسيطة ويرموها علي الإسرائيليين اللي يا كانوا بيتفرقوا في دربكة أو تبدأ الأعيرة النارية والقذايف التانية في الإنطلاق العشوائي.
طبعاً الناس مصدقتش سلامة لما خرجت عليهم بتحليل جديد تماماً غير أي تحليل سابق، المرة دي كان غريب جداً ومجنون جداً وهو أن ياسر عرفات روحه دلوقتي بترفرف في السماء العليا، طبعاً ضحكوا وهي كالعادة توقعت منهم السخافة دي، المرة دي برضو محاولتش تفهمهم الحقيقة اللي أبعد من كل الحقايق الأرضية، استخسرت فيهم معرفة كبيرة كان ممكن يعرفوها.
روح ياسر عرفات رفرفت في السما العليا من ساعة ما بدأت الإنتفاضة وأن اللي بيحرك جسمه دلوقتى جني حاقد بيعيد تاريخ أباءه الأولين اللي فضلوا عبيد لسليمان أربعين سنة ميعرفوش فيها أنه مات والسوس لما زهق من غبائهم قرر يكشف لهم السر البسيط فأكل العصاية اللي سليمان كان متسند عليها والجني الحاقد ده بيمارس نفس اللعبة علي البشر عشان تتاح ليه هو راخر فرصة السخرية من البشر!
طبعاً لو كانت سلامة صرحت بكدة كان وصل الخبر ده للسلطة الفلسطينية وكانوا أعتقلوها ومش بعيد كانت الحكومة الإسرائيلية استغلت الفرصة وضربت بصاروخ موجة عن بعد الزنزانة اللي قاعدة فيها سلامة.
السياسة الإسرائيلية اضطرت أنها تتبني سياسة تانية خالص اتجاه الفلسطينيين فأصبح السلاح اللي مع الجنود قاذفات مسيلة لللدموع ورصاص مطاطي وممكن كرتون كمان ولمزيد من التأمين جابوا دبابة تزأر عشان بس تخوف الفلسطينيين مش أكتر.
وبعد أسبوع تاني أصبح بيرافق كل وحدة مسلحة إسرائيلية فرقة طبية، أعتقد الفلسطينيين أنها عشان تداوي جراح جنودهم ولكن الفرقة الطبية كانت بتنزل ميدان الإشتباك بعد كل إشتباك تداوي جراح الفلسطينيين وتتمني للشباب الفلسطيني مزيد من الصحة والسعادة وتعلق في شوارع القطاعات الفلسطينية يافطات مكتوب عليها"دمائكم هي أغلي عندنا من أنفسنا "!، سلامة بدأت تستعد للموت في هدوء واتقابلت لآخر مرة مع الجني الصالح عشان تودعه فشافت في عنيه نفس الاستعداد الهادي للموت، قالها في اليوم ده أنه بقي بيرتبك بشدة لما تتجمع في أيده فئات مختلفة من الفلوس!
9-3-2002
الإسكندرية



السحب الوردي

مدثر في الأسبوع الأخراني ده كان دايماً شارد وكأنه بيفكر في حاجة رافضة أي حل بيحاول يوجده لدرجة أنه بطل يتكلم تقريباً مع أهله، أصله دلوقتي أصبح لديه رصيد ضخم من معرفة سماوية!، المعرفة السماوية دي جت له في لحظة من الشفافية متعمدش أنه يستعد ليها أو حتى يستناها ومنها عرف جني في عمره تقريباً عنده معرفة سماوية ضخمة أصبحت دلوقتي تقريباً مجرد تراث كبير لأنها انقطعت عن الجن من أزمان بعيدة .
المعرفة دي مليانة تكتيكات مذهلة معرفهاش البشر قبل كدة، القدرة الغريبة اللي اكتسبها مدثر خلت عنده أحساس بأنه ممكن يعمر مية سنة زي سلامة، الحقيقة اللي تقريباً قلب بيها الجني حال مدثر هي أن الجني الحاقد اللي كان بيلعب بجسم ياسر عرفات خلاص سابه وهجر فلسطين كلها ومعشر الجن ميعرفوش راح لفين!
مدثر أذكى من أنه يعلن حقيقة زي دي، تجربة سلامة العريضة كفيلة بأن هي ترشد خطواته اتجاه تعامله مع قدراته الجديدة ، علي الرغم من سعادته بالمعرفة دي ألا أن هو محسش بفخر ولكن حس بعبء وقع عليه وأن هي طابقة علي صدره أكتر ما بتفتح عينه علي حقايق متصورش أن هي ممكن تميزه في يوم من الأيام ولكن على العكس اعتبرها عقاب لذنب قديم أرتكبه!
كانت ردود فعله اتجاه نشرات الأخبار في الراديو يا أما عادية أو باردة أحياناً، يعني كان ممكن يقعد في أوضته الضلمة يشرب الشاي المركز بالنعناع اللي أصبح بيحبه قوي اليومين دول وميديش أي انطباع زي أن السلطة الإسرائيلية مثلاً صادرت البرطمانات الموجودة في السوق الفلسطيني كلها وأن هي منعت أزايز الحاجة الساقعة من الأسواق الفلسطينية ومرة استقبل بالضحك خبر عساكر إسرائيلية بتقتحم بيوت الفلسطينيين عشان تلم البرطمانات اللي عندهم ونعى غباء المذيعة اللي اتصورت أن الجنود طمعانين في البرطمانات ذاتها، كان بيسمع من الجيران أن الكتايب الإسرائيلية كل شوية بتقتحم مدينة جديدة وتجيب عاليها واطيها بالمدافع والدبابات.
أخوه الصغير دخل عليه مرة في ضلمته وقاله بدون مقدمات أن الكتايب الإسرائيلية بتمسح المدن لأن الفلسطينيين بقوا يدبحوا نفسيهم عشان يعبوا دمهم في برطمانات!
يوميها مدثر شتمه وحلف أنه هيدبحه زي اللي سمع عنهم لو دخل عليه الأوضة تاني خصوصاً وهو بيسمع فيروز!
بس اللي مكنش بيتقال هو أن المدن اللي كانت بتدك دك كان بيطلع منها أزرع دخانية وردية تفضل تتلوى في الهوا وهي طالعة السما ومتندمجش أبداً مع الدخان الأسود اللي طالع من مسام الأنقاض وتتضفر مع بعضيها فتكون سحابة أو أتنين لونها وردي وتمشي ورا السحب البيضا في حركتها المجهولة.
بس كانت تنفصل عن السحب البيضا وتقف فوق أي مقابر للفلسطينيين تصادفها وتمطر بشدة عليها لحد ما تدوب آخر حتة في السحابة الوردي.
مدثر كان الصاحب المقرب للحفيد الأخير للأبن الأخير لسلامة ولأنه في لحظة شفافية صدق أسطورة رسمت معالمها فاعتبر المعلومة دي التفسير الوحيد المنطقي اللي حاول يفهم بيه ليه انتقلت إليه قدرات سلامة، لما اجتمع بأصحابه الأتنين في أوضته الضلمة قرر يخبرهم بأول حقيقة سماوية ولما قالهم عليها كان متوقع الدهشة دي منهم بس هما ما أندهشوش من الحقيقة بأكتر من إندهاشهم من روعتها، حسوا أن هما أخيراً بقى ليهم دور فعال في صنع أسطورة جديدة تتضاف لكم متراكم من أساطير فلسطينية سابقة.
عشان كده في نفس الليلة راحوا قعدوا في المقابر القريبة من بلدتهم مستنيين فيها فرصة مرور أي سحابة، مملوش من الانتظار ولكن ملوا أن الأسطورة تموت قبل ما تتولد، في اليوم التالت مع أول تكبيرة في آدان الفجر وقفت سحابة وردي فوق المقابر ومطرت بشدة، فاق التلاتة على صوت ضرب المطر فوق السقف البلاستيك اللي شدوه علي أربع أوتاد خشب وقعدوا يتأملوا السقف البلاستيك وهو بيتكور من النص زي بطن الست الحامل.
سحب مدثر شيشة الجنة من يمينه وواحد من الأتنين راح يعمل تلات كوبيات شاي مركز بالنعناع، بعديها بيوم أستنوا في لهفة نتائج تدابيرهم في إذاعة الراديو بعد ما صبوا مطر السحب الوردي في نهر الأردن، مدثر الوحيد اللي عارف اللي حيحصل مسبقاً عشان كده كان قاعد بيدخن الشيشة في هدوء ولما سألوه عن اللي حيحصل ضحك وقال عشان أنا أعرف اللي أنتوا متعرفهوش مش حقول لكم على حاجة.
كانوا بيجوا يبلغوه بحالات الحرق والتسمم اللي انتشرت بين المواطنين الإسرائيليين فكان يستقبل الخبر عادي وهما كانوا عارفين أن ده حيكون رد فعله لأنه بيتلقى معارف تانية غير أرضية ويسيبوه يدخن شيشة الجنة في تلذذ، القوات الإسرائيلية بقدر الإمكان كانت بتحاول تحصر أكبر كم لمقابر الفلسطينيين وتقوم بتطويقها ولكن بعد كده طوقوها من مسافة بعيدة بعد المرة اللي غفى فيها جندي إسرائيلي جنب شاهد وما أخدوش بالهم من السحابة الوردي اللي وقفت في خبث فوق المقابر ومطرت بشدة وكانت المطرة فيها تخرم جسم الجندي زي طلقة الرصاص.
مدثر وأصحابه الأتنين اتنقلوا لمقابر في حضن الجبل دلهم عليها بدوي بعد ما عرف مدثر من الجني أن السلطة الفلسطينية بتدور عليه بالاشتراك مع السلطة الإسرائيلية ولما سأل مدثر الجني عن سر التعاون العجيب ده ما بين السلطتين هز كتافه وقال معرفش بس ممكن يكون ده حل جديد للسلام فضحك الأتنين.
أما بالنسبة للسحب الوردي زي ما تكون أشتركت في التواطؤ مع مدثر وأصحابه الأتنين لأنها مبقتش تمطر فوق مقابر الفلسطينيين المحاصرة ولكن فضلت تتبع كل تنقلات مدثر في كهوف الجبل القريبة من المقابر المدفوسة هناك وتمطر منين ما يقعدوا.
لما الجنود عرفوا يوصلوا ليهم في الآخر ملقوش غير صحابه الأتنين ولما استجوبوهم عن مكان مدثر، الأولاني قال أن الجني هّرب مدثر للأردن والتاني قال أنه طلع بالليل يتسابق مع الجني حوالين الجبل ولسه مرجعش لحد دلوقتي وفعلاً ميعرفش إذا كان هيرجع ولا لأ والبدوي اللي دل مدثر وصحابه الأتنين علي كهوف الجبل هو برضو اللي دل الجيش الإسرائيلي على مكانهم قال ساعة الاستجواب أنه شافهم بيدفنوا مدثر في مقابر الجبل بعد ما مات موتة طبيعية جداً ومبسم الشيشة في بقه، السياسة الإسرائيلية اضطرت مرة تانية أنها تغير سياستها اتجاه الفلسطينيين ورجعت تزود كتايبها علي نقط التفتيش حوالين المدن الفلسطينية المحاصرة برصاص مطاطي وكمان كرتون وجابوا دبابة تزأر عشان بس تخوف الفلسطينيين .
الدكاترة الإسرائيليين بيقعدوا أغلب الوقت في وحداتهم الطبية المتحركة وساعة العصرية يتجمعوا حوالين التلفزيون يتابعوا أخبار الحرق والتسمم اللي مش قادرة الحكومة تحط ليه حد والجنود في الشوارع ما بين الوقت والتاني يبصوا للسما في خوف متوقعين ظهور سحابة وردي في أي لحظة، لما بيت واحد فلسطيني عجوز ولعت فيه النار فجأة كده، جرى الجنود الإسرائيليين يعبوا المية في الجرادل من الحنفيات العمومي ويطفوا بيها الحريق، في حين أن الفلسطيني ساب البيت ومشى لحد الرصيف المقابل وفي أيده جهاز ترانزيستور صغير بيسمع فية آخر أخبار السحب الوردي!
1-4-2002
الإسكندرية



جنود سماوية

لما أفرجوا عن جاسر (جاسر كان واحد من أصحاب مدثر) هما متأكدين جداً أن مفيش أي سبب يخليه يملي حيز محتاجه معتقل غيره جداً!، وده لأنهم معرفوش منه فين مكان مدثر أو إذا كان فية مخططات هجومية جديدة لأن جاسر فعلاً ميعرفش أي حاجة.
صاحبه التاني مات في المعتقل موتة طبيعية مفهاش أي نوع من الدراما، وجاسر ميعرفش ليه فضل عايش؟، محاولش يفتكر نفسه محور لأي أسطورة جديدة، لأن عمره ما أعتقد في نفسه أنه يستحق دور زي ده، هو شايف نفسه تابع كويس وبس، وده لأن جاسر كان بسيط جداً مع نفسه حتى في تصرفاته ونتيجة للبساطة دي برضو كان شغله الشاغل وهما بيفرجوا عنه أنه ياخد معاه شيشة الجنة اللي صادروها وقت ما قبضوا عليه في الجبل!
مسمعش عن أي أخبار جديدة لبرطمانات الدم ولا حتي عن سحب وردية جديدة بس الحادثة الوحيدة اللي حصلت طول فترة اعتقاله أن واحد فلسطيني عرف يدخل فندق بتل أبيب وكان مخبي في الجاكيت "قلة" صغيرة كان فيها شوية من مطر السحب الوردي ورماه علي الناس اللي في حمام السباحة فغلت المية وشوت الكل قبل ما يلحقوا يطلعوا ويهودي مسلح موته في ساعتها برشاشه.
بس الخبر مهموش قوي لأنه كان مشغول بأحساسه الجديد أنه شايف أن الشوارع اللي عارفها كويس بقت أكبر من أنه يستوعبها، لما اليهود سألوه عن المكان اللى يحب يقضى فيه إقامته الجبرية، اختار المكان اللي قبضوا عليه فيه.
علي عتبة فتحة الكهف حط ترابيزة وعلي بعد عشرة أمتار وقف أتنين من العساكر، جاسر مكنش بيعمل غير أنه بس يدخن شيشة الجنة ويشرب القهوة ويسمع في الراديو مباريات الأهلي لأنه أهلاوي متعصب!
كان غصباً عنه مش بيهيج في المباريات اللي بتجمع الأهلي مع الزمالك لأن واحد من الأتنين الحراس كان زملكاوي متعصب برضو ووقت كل مباراة بين الفريقين كان يقعد العسكري قصاد جاسر وسلاحه في وشه!
لما واحد من الأتنين طلب من جاسر أنه ياخد نفس من الشيشة معترضش وناوله الشيشة فسحب العسكري نفس طويل وإفلاته المفاجئ للشيشة ساعدت جاسر لأول مرة علي أنه يجتاز فترة صمته الطويلة بالضحك الهستيري .
العسكري التاني متصورش أن فيه مجال في الدنيا لأي تجاوزات فانتازية لأن منظر زميله وهو بيموت كان مثير فعلاً وضربه لجاسر وبرضو محاولته لتكسير الشيشة اللي منجحش يكسرها هي مجرد رد فعل لعدم تصديقه أن عقله قدر لأول مرة يستقبل حقيقة أن فية أساطير فلسطينية، السلطة الإسرائيلية سحبت العسكري الأخير لأنه أبتدى يناقش جاسر كتير في الفلسفة الوجودية والمادية الجدلية وأن حتي التوراة بكل ما فيها من أساطير مكنتش بتمثل ليه أكتر من حكايات ليلية ممتعة وأن اتجاهاته العلمانية بقت سلاطة في مخه، جاسر لثقافتة الضئيلة مقدرش يفهم كلام الجندي ولما كان العسكري الزملكاوي بيسأل جاسر عن رأيه، كان جاسر يرد دايماً بإجابة واحدة وهي أن دين الإسلام أحسن!
لما مشى العسكري حس جاسر بالوحدة الشديدة ولأول مرة جاله أحساس بأن الزمن ممكن يتخلى عن دوره ويهجر الأرض دي بكل أحداثها، مبقاش قادر يميز بين طعم الشيشة من نص ساعة فاتت ومن دلوقتي والنص ساعة اللي جايه، كمان ده غير أنه فقد الشعور بالاشتياق للدخان وده خلاه يقدر نعمة وجود الزمن في الدنيا .
لما شاف في يومه السابع الحفيد الأخير للأبن الأخير علي عتبة فتحة الكهف فرح وقعد يفتش فيه كأنه بيشوفه لأول مرة، وشه بشوش وقميصه بيسرسب ريحة مسك وجزمته بتلمع زي لمبة منورة.
قعد الحفيد جنبه ودخن معاه شيشة الجنة وجاسر عمل كوبيتين شاي مركز بالنعناع وفض قماشة ملفوف فيها فطيرة جبنة قريش وبقدونس ومع كل قطمة يأكد الحفيد أن أكل الجنة أطعم من أكل الدنيا بكتير، أتكلموا في أمور كتيرة ملهاش دعوة بأحوال فلسطين، في نهاية كلامهم سألة جاسر بلهفة شديدة عن الحور العين والجنة.
قاله الحفيد أنه ميعرفش بالضبط شكل الجنة إية لأن الملايكة اللي بيسكنوها بيواربوا باب الجنة ويدخلوا واحد ورا التاني من غير صوت ويمسكوا مقشات مرمرية ويكنسوا بيها أرض بنور ومعِرفش يشوف أكتر مما سمح له حدين الباب الموارب غير كمان ولدان مخلدون ماسكين كئوس من معين بيمسحوها وحور العين علي الرغم من أنه مصادفش واحدة منهم ألا أنه بيشم ريحتهم علي طول اللي هي حلوة بس مش لاقي ليها مثيل دنيوي ممكن يقربها لخيال جاسر اللي أصبح محدود جداً بالنسبة للحفيد.
ولما سأل واحد من الملايكة عنهم ابتسم وقاله أنه ميعرفش حاجة عنهم ولما طلب منه الحفيد أنه يخش الجنة اتسعت إبتسامة الملاك وطلع من جيبه تفاحة وقاله: دي من الجنة!
سأله جاسر وهو بيضحك عن أخبار سلامة فقاله أن هي دلوقتي بتتلقي معرفة تانية خالص من الملايكة حتي أن الجني الصالح قاعد جنبها بيسمع بنفس السذاجة اللي كانت سلامة بتسمع بيها الجني الصالح! والملايكة معتبرينها طفلة بتعمل دوشة مسلية مش أكتر أما عن الحفيد الأخير وأصحابه بيحاولوا يخططوا أزاي يواصلوا الجهاد من مكانهم ده ودي هي المفاجأة الحقيقية اللي بلم لها جاسر بس كعادته ما بيعلقش، دلوقتي بس حس أن فلسطين معادتش واسعة عليه زي ما كان شايفها، في الليلة دي بعد ما سابه الحفيد الأخير قعد يدخن الشيشة بشراهة غير أي مرة فاتت وأكل من التفاحة اللي سبها له الحفيد الأخير ودار في دماغه آخر كلمة قالها الحفيد الأخير عن مدثر وهي أنه راجع مرة تانية ولكن بشكل مختلف تماماً .
جاسر والخمسة اللي كانوا معاه مكنوش مصدقين أن هما ممكن يهاجموا نقطة تفتيش إسرائيلية برشاشاتهم بس، مش معني أن الشباب دول صدقوا شوية أساطير أنهم يصدقوا برضو أنهم ممكن يكونوا أصحاب أسطورة جديدة، جاسر قعد بيهم فوق التل وبص بصة واحدة علي نقطة التفتيش تحتيه وقال ربنا يبقى يرحمنا!
سأله واحد من الخمسة عن اللي حيحصل فكان تعليق جاسر بسيط جداً أن هو يعرف اللي هما ما يعرفهوش وضحك، طبعاً كانت بالنسبة ليهم مش أكتر من استفزاز وقعدوا يراقبوا الحفيد الأخير وصحابه السماويين وهما بيقربوا من النقطة وبيقفوا يكلموا مع عساكرها ويضحكوا معاهم زي ما يكونوا أصحاب وجاسر بعقله البسيط حاول يحلل الموقف بس برضو عجز وطلع من شنطته القماش شيشة الجنة وقعد يدخن، بالتأكيد كان لازم يندهشوا جداً لما يشوفوا أن العساكر بيسيبوا نقطة التفتيش وهما بيسلموا علي الحفيد وصحابه السماويين وبيركبوا عربياتهم وبيبعدوا بمنتهى السهولة. لما نزلوا من فوق التل محدش سأل أزاي ده حصل ولكن بدون أي أتفاق مسبق وقف أصحاب جاسر في أماكن العساكر السابقة وبدأوا يستقبلوا الناس اللي عايزة تعدي الحاجز بالابتسام وبرضو الناس تبتسم ليهم، الناس كانت بتبارك لهم كما لو أن الأمر يخص صحاب جاسر بس واللي كان بيخص الناس من الموضوع ده أنهم مبقوش مضطرين يقفوا في الشمس كتير عقبال ما يعدوا ولما يسألهم واحد من الناس أزاي قدروا يعملوا كده فكان جاسر يجاوب وهو ميت علي روحة من الضحك : جري إيه هو فيه حاجة بعيدة علي ربنا يا أخوانا.
لما العمليات دي أتكررت كتير وكانت نهايتها الطبيعية مرسومة زي ما كلهم عارفينها وحافظينها وهي أن بالتأكيد برضو القوات الإسرائيلية عرفت تقبض علي جاسر وصحابه وهما قاعدين في شقة صغيرة وكان جاسر بيقولهم عن آخر حاجة عرفها من الحفيد الأخير قبل ما يطلع في السما تاني مع أصحابه السماويين وهي أن العسكري الزملكاوي كل ما يقابل حد من جيرانه أو أصحابه أو أهله يقولهم تعرفوا أن فعلاً الإسلام أحسن ويقوموا ضاحكين عليها قوي والغريبة أن جاسر قدر يفلت من القبض عليه في الشقة.
كان جاسر الأخير من المجاهدين اللي تقبض عليه بعد كده وهو بيجرى في سفح الجبل وبيضحك بصوت عالي وده اللى عّرف الجنود الإسرائيلين مكانه ولما مسكوه طلب منهم أنه ياخد معاه شيشة الجنة للمعتقل!
8-7-2002
الإسكندرية



ملايكة مدثر


المرة الأخيرة اللي دخل فيها جاسر المعتقل عرف أنه ملوش أمل في أنه يخرج منها تاني زي المرة اللي فاتت، ولذلك حاول يكيف نفسه مع الظروف الجديدة واستسلم للأمر الواقع وبالتالي موصلتهوش أي أخبار عن أي أساطير فلسطينية جديدة ومعرفش مدثر حيرجع أمتى تاني لأرض فلسطين بعد اختفاءه الأخير اللي كان وقتها غريب جداً، طبعاً أفراد الأمن الإسرائيلي كانوا بيحاولوا يشربوا من شيشة الجنة بتاعت جاسر ولكن بيكون الموت وقتها هو الرد الطبيعي على محاولاتهم البائسة ولما استجوبوا جاسر كذا مرة باللين وبالعنف مكنش ليه غير رد واحد أن شيشة الجنة دي للمسلمين بس، بس هما مقتنعوش وحاولوا يكسروها ولكن معرفوش فدفنوها في حوش المعتقل ولكن دخان أبيض كان بيطلع منها كل ليلة الساعة أتناشر وهما قلقوا في الأول ولكن بعد كده اعتادوا حكاية الدخان اللي بيطلع من موضع دفنها وجاسر كل ليلة في نفس الميعاد كان بيطلع علي سريره ويطل من الشباك يبص علي دخان الشيشة الطالع من أرض الحوش ويبتسم وطبعاً رفضوا يجاوبوا كل طلباته اللي هي الشاي المركز بالنعناع وفطيرة الجبنة بالبقدونس.
في الوقت ده ظهر مدثر فعلاً ولكن في مكان غريب جداً بعيد عن فلسطين، ظهر عند التانيين، الأمر غريب علي الإسرائيليين والفلسطينيين في نفس الوقت لأن ظهوره في المكان ده عمل بلبلة وحيرة، وكانت أسئلة الطرفين، ليه الأرض دي بالذات؟، بس اللي لفت النظر أكتر هو الملايكة الأربعة اللي كانوا مع مدثر.
ملايكة بيضة ملهاش ملامح وأطرافها داخلة مع جسمها ولما تحرك الملايكة أطرافها تبان من جسمها وبس، لدرجة أن مدثر مشى في الشوارع عندهم والناس بتتفرج عليه في استغراب بس مش بياخدوا أي خطوة عدائية أو حتي تعبير عن الخوف من وجوده علي أرضهم لدرجة أن عربية البوليس عدت من جنبه وبص له قوي راجل البوليس وكملت العربية مشيها عادي، ده كان غريب فعلاً بالنسبة للجميع حتى بالنسبة لمدثر رغم أنه عارف أنه مؤيد بس كان الموقف كله بالنسبة ليه غير منطقي ولكنه عرف يمثل الدور كويس ويحبكه بطريقة فعلاً مظبوطة وفي الأخير صدق الدور اللي هو فيه وأبتدي يعيشه، حجز أوضة في فندق صغير وبعد الظهر نزل يتغدى في مطعم وطلب من الجرسون أنه يشغله أغنية لفيروز متكنش وطنية فقاله الجرسون أنه بيحب أغنية حبيتك بالصيف فأعجب مدثر بذوق الجرسون وشكره علي تشغيلها والناس اللي كانت قاعدة في المطعم بتراقب مدثر والملايكة الأربعة في صمت ولكن بسرعة تناسوا وجودهم وكملوا أكلهم وكلامهم عادي، مدثر مكنش فاهم في البداية إيه الداعي من ظهوره ده ولكنه بعد كام يوم فهمها من غير ما يسأل أي ملاك معاه ولما رجع لأهله فضل يفهم كل واحد في بلدته أن الهدف هو أنه مفيش هدف!
والأمر مجرد من أي خلفية أو فكرة، طبعاً استغربوا الموضوع كله، لأن مدثر ذات نفسه مكنش عارف هو ليه بيعمل كده، كل ما في الأمر أنه بيتلقى أوامر بينفذها زي ما هي بدون أي مناقشة وهو كان عارف أن ممكن قريب يعرف إيه السبب من اللي بيعمله وممكن ما يعرفش والفلسطينيين والإسرائيليين بقوا محتارين يصنفوها أزاي، يا ترى هي أسطورة فلسطينية جديدة ولا مجرد مناوشة فلسطينية بشرية جداً!
الإجابة عن الأسئلة الكتيرة دي مكنتش متوفرة وده لأن الخطة لازالت مش واضحة ومدثر كل يوم محافظ بشدة علي مواعيد خروجه ورجوعه لأوضته بالفندق والمرواح للمطعم والمجي منه لدرجة أن الإسرائيليين أعتادوا وجوده ومبقاش مسار سؤال ولا حتى أصبح ذكرى بل أصبح مش موجود وده خلى كل حتة من جسمه تختفي يوم بعد يوم لحد مبقاش بيتشاف ولكنه موجود والقاعدين في المطعم بقوا يشوفوا الكوباية بتترفع وبتتشرب والأكل بيتاكل من غير ما يكون حد قاعد وبياكله، العيال الصغيرة كانت بتبص يأما باستغراب يأما بضحك وفي الأغلب بضحك، والملايكة بس هي اللي لازالت مرئية ولكن باين علي حركاتها العصبية وكلامهم النوراني مع بعضهم أنهم حاسين بشي من الملل، بس مش بيعترضوا على وضعهم أبداً، وفي آخر يوم للفترة المحددة لمدثر في أرضهم رجع لبلده بفلسطين وبعت كارنية تهنئة لرئيس الوزراء الإسرائيلي مكتوب فيه مبروك عليك الوظيفة بس وغلاوة موسى عندكم متحرموش الفلسطينيين من شيشات الجنة اللي جايلهم من فوق ولا تمنعوا عنهم فطيرة الجبنة بالبقدونس والشاي المركز بالنعناع!، بعديها أختفى مدثر تماماً ومعاه الملايكة الأربعة من غير ما يستنى رد الإسرائيليين على جوابه ولكن كل فلسطيني قدام خيمته أو بيته أو على الرصيف اللي نايم عليه لما صحي تاني يوم لقى قدامه شيشة الجنة وشموا ريحة الشاي بالنعناع وفطيرة الجبنة بالبقدوس في القهاوي والأفران!
14-2-2004
الإسكندرية


الحفيد الأخير للأبن الأخير



الحفيد الأخير كان دايماً ملازم جدتة سلامة وبيسمع منها حكاياتها الغريبة اللي بتعرفها من الجني الصالح اللي كان ملازمها أغلب سنين حياتها.
الحفيد الأخير عاش معاها أغلب عمره ومكنش بيحب يقعد في بيت أهله قد ما يحب يقعد معاها لأنه تقريباً الوحيد اللي مصدق حكاياتها بعكس الجميع اللي كانوا بيسخروا منها وحتى جوزها الله يرحمه كان بيضربها من آخر زهقه من جنانها وسخرية الناس من حكايات وتصرفات مراته الغريبة ولكن رغم عراكه معاها وضربه ليها أحياناً إلا أنها عمرها ما بطلت تتكلم عن حكاياتها والوحيد اللي كان بيسمعها باهتمام شديد هو الحفيد الأخير بس مكنش بيقول لأصحابه على حكاياتها عشان ميضحكوش عليه زي ما بيضحكوا علي جدته سلامة.
وكان دايماً هو وجدته بيطلعوا الجنازات الكتيرة للشهدا الفلسطينيين ويقعدوا يبتسموا ويضحكوا بالمكتوم وهما بيشاوروا علي حاجات خفية وسط الناس وأحياناً يبص عليهم الماشيين منتقدين خروج واحدة ست في الجنازة ولأفعالها الغريبة وضحكها المكتوم مع حفيدها وده لأنهم ميعرفوش أنهم كانوا بيقدروا يشوفوا الملايكة اللي بتحضر الجنازات دي وتطبطب علي الناس كلهم وتبوس الشهيد في خده ولما كان بيسألها الحفيد الأخير عن السبب في أن هما بس اللي بيشوفوا الحاجات دي، كان ردها القاطع والمتأكد جداً من نفسه لأنهم مصدقين ده فعلاً.
وكانت دايماً بتحضر الشاي المركز بالنعناع وفطيرة الجبنة بالبقدونس عشان الجني الصالح لما يجي يزورها وساعتها تمنع أي حد من دخول الأوضة عليها حتي الحفيد الأخير اللي كان بيقف على الباب بيحاول يسمع أي حاجة بس مكنش بيسمع إلا صوتها بس، فيهز كتافه ويقعد علي الكنبة يستنى أن الجدة سلامة تطلع من الأوضة كعادتها مبتسمة قوي وتاخده بالحضن والفرحة مالية عنيها كأنها طفلة صغيرة.
سلامة كانت تقريباً مقدمة لأساطير فلسطينية كتير هتيجي بعد كده وهي كانت بتفرش الفرشة الأولي بحكاياتها اللي أعتبرها الناس وقتها غريبة ومش منطقية ولكن بعد موتها قدروا يصدقوا أن فيه أساطير فلسطينية، ممكن أساطير مش زي ما بتحكي الكتب ولكنها برضو أساطير .
هي كانت صابرة علي سخريتهم لأنها عارفة وشافت في حفيدها الأخير ثمرة للفرشة اللي بتحاول تأسس ليها طول حياتها عشان كده كانت مطمنة أن فية شوية أساطير جاية ولو كانت الأساطير دي حتقعد لفترة محدودة وممكن تكون أساطير ضعيفة ولكنها حتكون في عرف الجميع أساطير بحق وحقيق.
الحفيد الأخير للأبن الأخير كان بيحب فاطمة جارته بس مكنش بيحاول يطور العلاقة بينها وبينه لأنه عارف أنه بداية أسطورة نهايتها مفهاش أي بشرة عشان كدة كان بيحوم علي أطراف الكلام ويمشي عليه بصوابعه من غير ما يحاول يعمل أي دخول حقيقي للفكرة.
وهي لأنها فاهمة أن دماغه فيها حاجات غلط زي جدته برضو محاولتش تشجعه أنه يقولها الكلمة اللي مستنية تسمعها منه وأكتفت في الوقت الراهن بقربه منها لأنها عارفة مصيره اللى جاي علي حسب الأسطورة اللي رسماها جدته.
بس اللي مش قادرة تفهمه أن جدته مش بترسم أسطورة وأن طبيعة الأحداث هي اللي حتدفعه للمصير ده بدون أي تراجيديا أو تعظيم للأحداث ولأن الحفيد الأخير وسلامة فاهمين كده كانوا واخدين الأمور ببساطة جداً، ولما استشهد الحفيد الأخير قالوا الناس أن هي بجنونها دفعته لكده وهي زعلت من حاجة واحدة أن هي حتموت والناس لسة مفهموش أن ده المسار الطبيعي للأساطير اللي جاية والحفيد الأخير هو حيكون بداية الحلقة في السلسلة بس عزائها أنهم حيعرفوا أن الحقايق السماوية دي حتبقى بعد كده معرفة عامة يعرفها الصغير والكبير والعالم والجاهل لأن طبيعة الأساطير الفلسطينية الجديدة كده...الشيوع اللي فسرها صقر العجوز بجهله …الشيوعية!
سلامة وهي بتفهم الناس في آخر لحظاتها، فكرة النظرية اللي مكنتش فهماها كلها بالطريقة المتسطرة دي بس كانت مستغربة أزاي بتقولها بالدقة دي وهي مش فهماها فكانت دي الإشارة الحقيقية لبدء عصر الأساطير اللي سمعت عنها.
والحفيد الأخير في لحظة توديعه لجدته سلامة فكر يحود علي فاطمة بس غير رأيه وقدر يقنع نفسه بأنه ممكن يقابلها فوق أو حتى يعيش عيشة تانية مع حور العين فتراجع وقال خلي النية تبقي خالصة.
13-3-2004
الإسكندرية





0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.