Horof

شارك على مواقع التواصل

باتَ ليلته يأمل ألا تهاجمه الكوابيس المعتادة، تمدَّدَ على الفراش بعد أن أدى طقوس ما قبل النوم اليومية، أخذ يدعو في سِرِّهِ أن لا يستغرق وقتًا طويلاً قبل أن يمنحه النوم شرف الحضور، أخذت رأسه تطن بذكرياتها المحشوة في تلافيف المُخ، أيام الطفولة حيث أول يومٍ لدخول المدرسة، وأمه ممسكة بيده على الباب في انتظار السماح لهم بالدخول، ورعبهُ المَفهوم ِمن تَرك أمه ليده والدخول بمفرده، هو ليس بالجَبانِ وليس مِن هؤلاء الأطفال الذين يتربون في حضن أمهاتهن، طفلٌ مُشاكسٌ عنيد هو، دائِمُ الشقاوة والشراسة مع أقرانه رغم صغر سنه ، ولكن اللحظة كانت مَهيبة، فمكانٌ يدخله لأول مرة مُكتَظٌ بالصغار والكبار، المدرسين يحوطونهم وينتظمون في صفوف مرصوصة، تَبُثُّ في قلبه الخوف مِن المجهول، أماكن غريبة تطل فجأة مِن ثنايا الذاكرة لا يدري لِمَ وافَتْهُ في تلك اللحظة، مول دبي باتساعه المهول حين استند على السور المعدني الفاصل بين الجمهور وحوض الأسماك الضخم خلفه ليأخذ صورة للذكرى، منزله القديم الخالي الآن مِن الحياة بعد أن رحل الجميع كلٌ في طريق، صورٌ متتالية لأصدقاءَ رحلوا أحياءً وأمواتًا، دموعٌ تَنهالُ فجأة لتذكر أحد الأحبة الذين ماتوا، مواقف كثيرة مع أمه حين تحنو عليه دائمًا وتُرَبِّتُ على كتفه مواسيةً أو مشجعة، يتذكر يدها الناعمة الدقيقة ويكاد يلمسها، أباه المُسيطر الآمر الناهي حين يأخذه مرغمًا إلى المسجد، أو حين نزل مهرولاً مِن الترام خلف فتاةٍ شدَّت انتباهه، كلها أشياء غير مترابطة، ولَمْ تخطر على باله طوال النهار، فلِمَ الآن؟ في الليل وعلى الفراش؟
أتى الليل فسادَ الدنيا الهدوء والسكون والسكينة، انضوَت تحت أستاره الكثيفة همومٌ وظنونٌ وشجون وأغلقت الأبواب على دموع الحزانى، وآلام الثكالى وأوجاع الفقارى، وأحلام العذارى، وآمال وأحلام المكدودين والمتطلعين والضائعين في دروب العَتمة.
يأتي الليل كل ليل فتمر الحياةُ كشريطِ فيلمٍ سينمائي قديم، ذكريات بعيدةٌ تُستَحضَر وكأنما هي ملك يديكَ الآن، وكأنها قابَ قوسين أو أدنى مِن قدميك، لَمْ تغادركَ يومًا، تعيد أحداثها وتجترها وكأنك سوف تعيدها للحياةِ مرةً أخرى.
كاذبٌ مَن يزعم أنك سوف تمر عليها وتبتسم على حماقاتك، واهِمٌ مَن يظن أنها سوف تنمحي مِن عقلك وقلبك وإحساسك، فهي تنخر عظامك وتتمدد داخل شرايينك، وتقبع تحت جلدك.
يأتي الليل فيظلم داخلك بحشوٍ مُكتظٍ من خليط غريبٍ مِن الاسترخاء المصاحب لازدحام الصور وصخَب الأصوات، وحزن عميق لما ضاعَ في الزمن.
تتمنى أن ينشقًّ قلب الليل فتُبعَثَ مِن جديد وتعود لاسترداد ما ضاع منك، ماكنت تتمنى أن يحدث فلم يحدث، وتُنهي ما حدث وماكنت تتمنى أن يحدث، تتمنى لو تبعث مِن جديد فتعيد تشكيل ما تشكَّل رغمًا عنك وتوقظ مالَمْ يَكُن حيًا فيك.
يأتي الليل فتحسد المنعَّمينَ الساهرين السائرين الهوينى مع تموجات الضوء الخافت الذي يغمر حانات الرغبة والشوق والانتظار.
يأتي الليل فتتمدد وحدتك داخل حناياك، تتمنى لو تجد مَن تحادثه غير نفسك، تناقضات الرغبة بين السكون والصخب تحتلك وتُنَغِّصُ عليك اتساق خواطرك وذكرياتك وأحداث حياتك الماضية.
تنفرد بنفسك تمام الانفراد تهامسها وتزجرها وتعنفها وتتعاطف معها حينًا وتَصُبُّ عليها جامَ غضبك كثيرًا.
يأتي الليل فتنحني لنفسك شكرًا لما منحتك مِن الثقة والبهجة والصلابة والقدرة على المواجهة طوال العمر الماضي، وترفسها بقدمك على مالم تمنحه لكَ مِن الحسم والعزم وسرعة اتخاذ القرار واحتمال العذاب في غير محله.
تشكرها على ما منحته لك من محبةٍ وبهجة وأمل ومحاولات للاستمرار، وتنكرها على الوقت الذي قضيته في الحزن والبكاء والندم والتِّيهِ والضياع.
تسهر ويطول السهر في محاورات ومناوراتٍ غير نهائية في انتظار اختراق أشعة الفجر لمسام الليل الطويل عسى أن ينجلي.
تصدح أم كلثوم في الأطلال من كلمات إبراهيم ناجي"وتولى الليل والليل صديق" فهل الليل صديق حقًا أم عدو؟ ولِمَ ترتبط المعاناةُ فيه فقط عند الذهاب للنوم؟ هل هو الهدوء؟ هل فراغ المهمات اليومية والاستكانة والخضوع لتدفق سيل الخبايا التي يمنع الضوء ظهورها؟ وهذا التدفق وتلك الانسيابية القاهرة الغلابة مِن أين تهاجمه ليلاً وبشكلٍ دائمٍ ويومي؟ مهما كانت شدة التعب والإرهاق الجسدي نتيجة العمل الشاق والمُضني الذي يمارسه كل يوم على مدار ساعات النهار المتواصلة، مهما كانت لا تعطيه راحة فترة الاستلقاء استعدادًا للنوم ، لا يغفو إلا بعد عدد كبير من الساعات، وربما امتدَّ الوقت للفجر حين تشرق الشمس وتزقزق العصافير.
يحاول مُغالبة التداعي في الأفكار بالعَدِّ على أصابعه، بتذكر الأغاني وترديدها، وأحيانًا بترديد بعض آيات القرآن التي مازالت في الذاكرة، حتى هذا التذكر يستدعي هو الآخر أحداثًا وذكريات مطمورة في قاع الذاكرة، كيف أن مدرسة الفصل ضربته على أصابعه بالعصا لأنه لَمْ يحفظ نصًا قرآنيًا طالبته بحفظه، أو قصيدة شعرية عجز عن تذكرها، كيف أن مدرس اللغة العربية جعله يقف طوال الحصة ظهره للتلاميذ ووجهه للسبورة رافعًا كلتا يديه لأعلى لأنه فشل في إعراب جملة، كيف أن ميرفت زميلته الجالسة خلفه كانت تهمس بالإجابة له، كيف تقاسما الطعام في الفسحة في أوقاتٍ كثيرة، كَمْ هي جميلة ميرفت بشعرها الفاحِم وعينيها العسليتين، ترى ماهو مصيرها الآن؟
يقول فرويد، إن العقل الباطن يُخَزِّنُ كُلَّ الأحداث ويطلقها وقتما يشاء، والليل والفراغ والهدوء والسكينة والوحدة، أكبر فرصة مناسبة لهذا الانطلاق، وكأنما هو المارد المحبوس في القمقم وقد وجد فرصة مناسبة للإنفجار، وماذا أنسب من سواد الليل؟ كل الكون نام ولَمْ يبقى غير الذكريات توجعك وتنخر في عقلك وتمتصُّ عصارة ذهنك وتنسكب كما الحمم البركانية لتستدعي الكوابيس اليومية.
ومِن الغريب جدًا أن هذه الذاكرة الباطنية-كما قال فرويد- لا تستدعي الفرح، بالتأكيد أن لكل إنسان لحظات فرح قد عاشها إلى جانب أحزانه، ولكن لِمَ لا يخرج مِن الذاكرة إلا لحظاتُ البؤس والحزن والشقاء؟ لِمَ يجثُمُ الموتى فوق الصدور مساءً؟ لِمَ تستدعي كل لحظات فراقك لهم متمثلةً في لحظات إخراج النفَس الأخير؟ وتبكي كما لو أنك فارقتهم للتو، لِمَ تتذكر كل خيباتك وفشلك ومعاناتك وإحباطاتك؟ نادرًا جدًا ما تمر بمخيلتك لحظة سعادة عابرة وقد تبتسم لبرهةٍ ثُمَّ تعاود سريعًا تذكر خيباتك وكأنها سوف تسارع بالهرب منك لو تركتها هُنَيهة، مديره في المدرسة حين طلب نقله لأنه لا يعطي دروسًا خصوصية، و له حصةٌ مقننة مدفوعة شهريًا من هؤلاء الذين يعطون الدروس، زملاؤك أيضًا اشتكوا وضجوا لأنك تشرح بالفصل وتفوت عليهم فرصة اصطياد التلامذة مِن عندك، وتَمَّ نقلك بالفعل للتوجيه كي تكون منبوذًا من باقي الموجهين لأنك ذهبت إلى فرع في غير تخصصك، مديري المدارس التي تذهب للإشراف عليها نبذوكَ وصاروا يستقبلونكَ بالتكشيرة على الوجوه لأنك تؤدي واجبك بهمة ونشاط وشرف وتدخل الفصول وتقف إلى جانب المدرسين حين تعاقبهم إدارة المدرسة أو تتخذ معهم إجراءً دون سبب، وعاهدتَ نفسك دائمًا أن تتمسك بمبادئك وبشرفك مهما كانت الظروف، فهل كنت على حق ومازلت؟ أم أنَّ مواقفك المتشددة جعلت الجميع يكرهك، وينظرون إليك كشخصٍ مُتعالٍ مغرور؟ زوجتك حين ترفض وجودك، مقطبة الجبين دائمًا، تضحك وتقهقه فقط حين يمتليء المنزل بضيوفها، الذين لا تحب وجودهم وتكره التعامل معهم، فقط تضع قناعك الباسم كي لا تبدو نافرًا أو متجهمًا.
وهذه المرة حين أوقفه الشرطي في كمين على الطريق، وقد ارتعب أشدَّ الرعب لأنه نسي بطاقته الشخصية من استعجاله بالنزول ليلحق ميعاد المدرسة، فهو لَمْ يَنَم هذا اليوم أيضًا إلا بعد طلوع الفجر كالمعتاد، لكن ولحسن حظه ومع زحمة الطريق لَمْ يتم تفتيش العربة، ألقى الشرطي نظرة فقط للداخل وسمح لها بالمرور، تنفس الصعداء ووعد نفسه ألا ينسى بطاقته ثانية، وطلَّ في مخيلته في تلك اللحظة مشهد البحر وهو جالس على الصخرة يصطاد السمك، فهي هوايته المفضلة من سنين عِدَّة، يجلس إلى البحر ساكنًا خاشعًا يتأمل زُرقَتهُ الفاتِنة المتدرجة، وزبد الموج الأبيض الهادِر حينًا والساكن أحيانًا، ويلقي بسنارته كمَن يُلقي بكامل همومه وهواجسه ووساوسه إلى الماء، فيسرح ويتأمل حتى هبوط الظلام وتحول لون السماء والبحر للأسود فتتكاثف شجونه، لا يدري ماهو الرابط بين الوقوف في كمين وبين مشهد السمكة وهي تقفز خارجة مِن الماء بعد أن بلعت الطعم وشبكت في سنارته، تقلب في فراشه محاولاً الرجوع للعَدِّ حتى يصرف ذهنه عن أي ذكرى تهاجمه، تمدَّدَ وانثنى وتثاءب علَّ النوم يحن عليه ويريحه من كل تلك التداعيات البعيدة التي تقتحم مخيلته عنوة فتُطيلُ السَّهر والسهاد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.