Sottoo3

شارك على مواقع التواصل

كان كابوسًا (1)


وهم أم حقيقة؟
عقل الإنسان عندما يشعر بالخوف يبدأ في اختلاق و توهم أشياء غير حقيقية ... ليبرر لنفسه صحة موقفه و أحقية خوفه.
هُنا مدينة "سيدي سليمان" غرب المغرب.. حيث لا بنايات تعلوا و لا سفن ترسوا.. ولا طحالب تمنح الصخر بعض الرطوبة على ضفة النهر .. ولا يوجد هذا النهر من الأصل ولا ذاك البحر.
الأفق رمادي مغبش.. و الهواء راكد لا يتحرك تمام كنمط الحياة في هذه الرقعة الجغرافية.
الحظ استقل القطار و سافر نحو الشمال.. قال للشباب سأعود لكنه لم يعد.. الأحلام تحتضر، الأمل مفقود..
بل حتى الأمل نفسه لم يبقى عنده أمل.. الشيء الوحيد الذي يكمله الشباب للنهاية في هذه المدينة هو أكواب القهوة و السجائر المحشوة.
الحادي والعشرون من يونيو لعام 2021.
الجو صيفي حار.. و الشمس بأشعتها الصفراء تخبر الناس أن الربيع الذي صوتوا له في الانتخابات قد رحل و سلم المشعل للصيف الذي لا يرحم من لا يملكون القدرة على شراء المكيفات.. الحركة اليوم في الشارع شبه عادية .. سيارات رديئة تتوسطها أخرى فاخرة، دراجات نارية و أخرى هوائية، شاب عشريني مل منه كرسي المقهى، عجوز ذاهب للمسجد و في يده سجادة، إرتفاع في أسعار الكازوال.. الناس في مدينة "سيدي سليمان" لا تحمل الكتب أو الصحف ولا الورود حتى، توجد مكتبة لكن لا يمكن أن تجد فيها روايات أيمن العتوم أو حتى مؤلفات إرنست همنغواي.. الكائن المغربي لازال يقاتل حتى لا يموت؛ حتى المثقفين على ندرتهم يفضلون شراء الخبز على حساب شراء الكتب.. لا غرابة في التوصيف، إنها غريزة البقاء ضد أرتفاع الأسعار،و كارثة الأقتصاد اللاشرعي و الغير مهيكل المستمرة منذ الأزل و إلى مالا نهاية. معركة تكسير العظام، حرب الكل ضد الكل إما أن تكون أو لا تكون، لا توجد حلول وسط. آخرون في المقهى؛ حوارات سخيفة عن الصراعات اليومية، أنواع الحلاقات التي تطيح
بالفتيات الحسنوات، شبح البطالة و نسمة التبويقة.. مُجاز يُقدم القهوة لأُمي، الأيادي تحت الدقون و الشرود بادي على ملامح الوجوه التي تفكر في حل لأزمة هشاشة الاقتصاد و غلاء المعيشة..
"يوسف" لا حزين ولا سعيد، جالس في غرفته غير مبالي بكل ذلك، يشرب حليب بالشكولاته على غير عادته. فهو يفضل القهوة لولا مراقبة أمه التي تمنع ذلك.. يشرب الحليب بالشكولاتة و يسأل أمه أستاذة الفلسفة السيدة "زبيدة" عن ظاهرة تسارع ظهور بقع الشيب على رؤوس الشباب في أوقات مبكرة جدا من العمر، الظاهرة التي لم يجد لها العلم أي تفسير.. لم تجبه على السؤال إجابة شافية و قالت إن ذلك بسبب التفكير المستمر في ضغوط الحياة التي أصبحت لا تنتهي.. قالت ذلك و هي تجهز العدة لأجل السفر لبيت الجدة الحاجة حليمة في الريف، لكن إذا أردتم رأي حكيم حول الموضوع فإن ليس التفكير وحده من يسبب ظهور الشيب على رؤوس الشباب، أيضا عامل واحد من العوامل التي ذكرت أعلاه كفيل في أن يتسبب في جنون العقل و ليس فقط شيب الرأس!!
يوسف ذو الستة عشر ربيعا، يتيم الأب، الأبن الوحيد لأمه الأستاذة زبيدة.. يوسف ومثل الكثيرون غيره في هذا العمر يعشق حتى النخاع و لحد الجنون شيء اسمه أفلام الرعب، القصص المخيفة وأي شيء يمت للعالم الآخر ودنيا الغموض بصلة .. و بحكم سنه الصغير و لأنه كان لا يسيطر على جموح خياله لدرجة تجعله يعيش في رعب حقيقي.. كانت أمه تراقبه و تمنعه قدر المستطاع من كل تلك الأمور التي تعتبرها أثقل من أن يتحمل مشاهدتها مراهق في مثل سنه.
الأستاذة زبيدة ... زرقاء اليمامة كما كان يلقبها زوجها الراحل السيد كمال.. أستاذة مادة الفلسفة في الثانوية العامة.. ذات أصول ريفية و بالضبط من مدينة الحسيمة.
زبيدة إمرأة أمازيغية متشبثة بلغتها و هويتها، فيضطرك إلقاء التحية عليها إلى التفكير في معنى كلمة "تيفاوين" و نطقها سليمة بمخارج حروفها.
المسافة من "سيدي سليمان" حيث مكان إقامة يوسف رفقة أمه و بيت الجدة... حوالي الست ساعات بالسيارة... و بعد الوصول إلى الريف يجب عليهم
الذهاب إلى القرية حيث يوجد بيت الحاجة حليمة ؛ بيت يوجد في نهاية طريق طويل موحل .. تستغرق السيارة لقطعة خمس دقائق على الأقل.
الحياة مكان منكوب لا أحد يستطيع حل لغزه، رغم علمك بوجهة سفرك.. إلا أنك في الحقيقة لا تلعم إلى أين أنت ذاهب.. أنت فقط تسافر لأبعد نقطة يمكنك الوصول إليها قصد الاختباء من ماضيك و لحظات حزنك و وحدتك.
عندما يرحل السند، يصبح الجسد هش أمام قوة الرياح.. عكس العقل الذي يصبح في عز لحظات انتعاشه.. يأبى أن ينسى و يصر على تذكيرك بكل التفاصيل ...
في الطريق الرابط بين مدنتي سوق الأربعاء و القصر الكبير.. تتوقف "زبيدة" عند سيدة كانت تبيع نبتة النعناع و الشيبة.. ما إن أنزلت زجاج السيارة، حتى رفعت تلك السيدة رأسها و هي تمسح دموعها.. تأملت وجهها ثانية ثم طاطأت رأسها و عادت للبكاء..
-مابك يا سيدتي؟
- في مثل هذا اليوم من العام الماضي، خلع الموت باب بيتنا و علق مكانه غياب مفتوح لزوجي والد أبنائي ...
كان وقع الرد صادما على زبيدة فعجزت عن الرد كما يعجز الصخر عن الكلام.
- زوجي غرق في البحر و تركني وحيدة مع ثلاثة أبناء.
نزلت الدموع.. و صار صوت البكاء أنين مر.. في لحظة ثقيلة شعرت فيها زبيدة أن التاريخ يكرر نفسه.
فبعد أن فقدت زوجها في حادث غرق بشاطئ "مهدية" هاهي تلتقي بسيدة مات زوجها بنفس الطريقة.
قضت و إياها لحظات ثقيلة من تبادل للمواساة ، إشترت منها في النهاية خمسة دراهم نعناع و سامحت لها في خمس دراهم من الباقي.
بعد رحلة الست ساعات الشاقة ... بحلوها و مرها، وصلوا أخيرا..
بيت الجدة كبير.. حيث توجد أربع غرف في الأسفل و حمام مطبخ و صالة و مثلها في الأعلى.. مرآب و حديقة في الخارج.
كان الاستقبال حافلا... بهجة و سرور في البيت على إيقاعات الأغنية الريفية الشهيرة ""كعكع يا زبيدة"، و هي أغنية مشهورة جدا في الريف المغربي، أصل كلمة"كعكع" عبري، إذ أن" كعكع" في اللغة العبرية تعني اشتاق و أحب بحرارة، و بالتالي فإن" كعكع يا زبيدة"
تعني اشتقت لك يا زبيدة... الجميع مستمتع، أغاني" ارالابويا"، المأكولات من كل الأنواع و كذلك المشروبات...
استغل يوسف لحظات انشغال الجميع مع بعضهم البعض، الأم و الجدة و خاله... و تسلل صاعدا للأعلى حيث غرفة الخال كمال ..
كمال ثماني وعشرين عامًا لازال يعرج في مشيته بسبب حادث وقع له قبل بضعة أسابيع) .. مُدرس لمادة التاريخ، و كاتب مبتدئ لقصص الرعب... غرفته عبارة عن أكوام كتب مكدسة لأعلام أدب الرعب ؛ "حسن الجندي"، الأديب الكبير الذي ختم عالم الرعب في الأدب العربي برواياته الشهيرة جدا "لقاء مع كاتب رعب" "ليلة في جهنم"... و مجموعة ما وراء الطبيعة الجبارة للدكتور "أحمد خالد توفيق" الذي أتى بعلم جديد داخل عالم الروايات العربية و غيرها من الكتب الكثير لأدباء وكتاب عالميين...
فرحة يوسف بما وجده في الغرفة... كانت نفسها فرحة شخص عثر للتو على كنزه الذي بحث عنه طويلا وأخيرا وجد ضالته ، أغلق على نفسه وغاب يقرأ ويقرأ
و يقرأ عدة ساعات كأنه في عالم آخر، إلى أن قاطعه صوت أمه...
- يوسف.. يا يوسف... أين أنت يا ولد؟
- نعم يا أمي.. أنا في الأعلى هنا....
- تعال معنا… سنذهب إلى المدينة للتسوق رفقة خالك و جدتك... لنرفه عن أنفسنا قليلا بُني. و لنستمتع بالطبيعة والمناظر الخلابة في القرية و الريف أثناء الذهاب و العودة... ما رأيك؟
-في الحقيقة أنا متعب جدا يا أمي... لو تسمحي لي أن ابقى.. لن أفعل أي شيء غير متابعة التلفاز.. و ربما انام.
- حسنا يا بني كما تريد... ولكن كن حذر... لا تقدم على شيء مجنون.. تمام؟
-تمام.. لا تقلقي يا أمي.
خرجت الأم و الجدة و الخال إلى المدينة... و سارت الأمور مثل ما خطط لها يوسف بالضبط... استمر في قراءة كل ما هو محروم منه في بيته بسبب مراقبة أمه بنهم شديد.. و لم يشعر بالوقت إلا عندما وصله اتصال على هاتفه...
-ألو.. يوسف!
- نعم أمي ..
- نحن في مشكل .. لقد انفجر إطار السيارة في بداية مدخل ذاك الطريق الموحل المؤدي للبيت... خالك سيخبرك عن إطار احتياطي في المرآب.. تأتي به إلينا هذا هو الحل الوحيد الآن .. نحن في انتظارك يا بطل..
-تمام أمي..
- ابني البطل .. اعلم أننا نستطيع الاعتماد عليك... لا تدعنا ننتظر كثيرا يا بطلي. كانت تتحدث معه بحماس كبير، قبل أن تعطي الهاتف للخال كمال الذي الذي وصف له مكان وجود الإطار الاحتياطي بدقة داخل المرآب ...
حمل يوسف الإطار... تذكر بأن الطريق إلى المكان يستغرق خمس دقائق بالسيارة... مما يعني عشرين دقيقة مشي على الأقدام و مع الإطار و الوحل يعني حوالي ال35 دقيقة ...
كانت الساعة حوالي الثامنة و الربع اي بُعيْد الغروب بقليل (يتأخر الغروب في المغرب بسبب الساعة التي تضيفها الحكومة على التوقيت الأصلي غرينتش لتصبح gmt+1) والليل بدأ يرسل أولى خيوطه المظلمة ذات اللون الليلكي كجيوش جرارة تغلف القرية بالظلمة والسكون ..كان يوسف يستعد للخروج و رغم التخوف إلى أنه كان يريد أن يثبت أنه أصبح رجل يُعتمد عليه.
كلما تقدم في طريق الوحل كلما اشتد الظلام... تمكن الرعب من يوسف و بدأ يشعر و كأن أحدا ما يراقبه... كان يحاول إقناع نفسه أنها محض تهيؤات... لكن دون فائدة.. دون فائدة تماما !!
حتى وصل لمفترق الطرق... حيث يا عفو الله الجبار على أكثر مكان مرعب، على اليمين يوجد طريق موحل به أشجار طريقة اصطفافها أشد نظاما من طريقة وقوف ضباط الحرس الملكي، في اليسار مقبرة قديمة يُقال في نهاية كل رواية أسطورية عنها؛ أن الداخل إليها مفقود و الخارج منها مولود... الظلمة حالكة، الرياح تزمجر، ليلة غاب فيها ضوء القمر، و حضر الخوف الذي سيطر بكل ثقله على قلب يوسف.. الأدرينالين يتصاعد مع كل خطوة... لوهلة بدأت تظهر أضواء سيارة الخال من بعيد مثل بارقة الأمل وسط غار حالك الظلمة... فرح يوسف لأنه اقترب من إكمال المهمة...لكنه كلما اقترب كلما تمكن منه الخوف أكثر و أكثر... كان يشعر أن هناك شخص ما يراقبه و يتعقبه... فقرر أن يقطع الشك باليقين... نظر إلى اليمين حيث الأشجار ، تلك الأشجار التي بدأت بدورها تتمثل له أُناس واقفون وأعين تدور في الفراغ .. حفيف الأشجار كاد يفجر قلبه من الرعب ويسقط صريعا لخوفه ... يوسف كان يدرك أن كل ذلك
فقط في عقله و أنه لا يوجد أي شيء يستدعي القلق... بدأ يقرأ القرآن و استمر في التقدم و التقدم، لكن الطريق مع الخوف يتمدد أكثر و أكثر كأنه يسير في دائرة مفرغة ، وعلى حين بغتة لمح شيء غريب على يساره... استجمع يوسف كل شجاعته... إذ قاده الفضول ليتوجه نحو ذاك الشيء بأقدام مرتعشة تكاد تهوي في أي لحظة ، بدأ يقترب و يقترب... لكن ذاك الشيء مازال غير واضح... اقترب أكثر و أكثر ... حتى أصبح على بعد أمتار قليلة جدا منه... وتبدت له الرؤية واضحة تماما ، كان رجل عجوز بوجه أبيض ، شعره يكسوه الشيب و عيناه بيضاء باردة مرعبة و طاعنة في القبح... كان ذو فم كبير مفتوح كاشف عن أسنان تظهر من بعيد على أنها حادة, حادة مثل أنثى ضبع تترصد بفريسة...
هلع يوسف.. دقات قلبه بدأت في التسارع مثل ظبي امبالا على مشارف مواجهة قطيع ضباع ضاري.. دقات قلبه استمرت في التسارع أكثر و أكثر و كأنها ستخفق لأخر مرة... لكن طبيعته الطيبة قادته للتفكير أنه من الممكن أن يكون هذا الشخص فقط مسكين ضل طريقه وفي حاجة لمساعدة.. و أنه لا داعي لكل هذا الخوف...
فهدأ واستجمع كل شجاعته من جديد، ثم نطق لأول مرة منذ مغادرته بيت الجدة :
- يا عم.. هل أنت بخير
-...
نظرات فارغة من المشاعر... شهيق و زفرة ثم تزايد وتيرة الشهيق و الزفرة كلما مر الوقت.... شهيقه حار كاد يلفح وجه يوسف كأنه ألسنة لهب خارجة من فم آخر ديناصور بقى على وجه هذه الأرض .

أرتعد يوسف وارتج جسده بالكامل ، خفض بصره للأسفل... في البداية كان يعتقد أن العجوز جالس... لكنه في الحقيقة كان مسخ قصير جدا، و على جبهته مكتوبة كلمة موت بلون أسود قاتم .
بدأ العجوز ذو الوجه الأبيض و الملامح المشوهة يتقدم نحو يوسف خطوة خطوة... و يوسف يقرأ القرآن المعوذتين و آية الكرسي.. يقرأ يقرأ يقرأ... و يتراجع خطوة خطوة...
العجوز الشبح المسخ يتقدم خطوة خطوة... و يوسف يتراجع خطوة خطوة...
إلى أن أصبح العجوز الشبح أكثر جدية و سرعة في التقدم لأجل الوصول ليوسف... رمى يوسف إطار العجلة ليركض بأقصى سرعة في الاتجاه المعاكس... في طريقه و مع سرعة ركضه المجنونة اصطدم بشجرة
وسقط على وجهه و هو يصرخ : لا تؤذني.. أرجوك لا تؤذني..
-يوسف.. يوسف....يفرك عينيه و يفتحهما بصعوبة بالغة على صوت خاله و أمه..
أردفت أمه : يوسف.. يابني مابك.. لا تخف.. لا يوجد أي شيء أنت بأمان..
عشرات الأسئلة كانت تتراقص داخل ذهن يوسف في آن واحد.. لم يستطع النطق بأي كلمة لأنه بنفسه لم يفهم ما حدث له بالضبط... فقط وقف بصعوبة بالغة بعد مساعدة من كمال... جروح السقطة و الاصطدام بالشجرة ما زالت تنزف !! و أعين الجميع كانت كلها دهشة و استغراب.. ماذا حدث و كيف ولماذا! ؟
لغز القضية مازال محير للآن.. و كلما فتح الموضوع... يظل السؤال المعلق بلا إجابة شافية : حقيقة كانت أم مجرد وهم؟!

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.