Horof

شارك على مواقع التواصل

وأخيرًا استيقظ والدي الكريم...
اقتربتُ منه، مسحتُ على خدّه، وداعبتُهُ ببعض العبارات التي يحبّها:
- نومًا هنيئًا يا غالي.
يفرك عينيه، يتنفّس بعمق، يوحي لي بأنّه قد نام مطوّلًا، ثمّ يقول:
- كان ليلي طويلاً.
ابتسمتُ، وهو يستغرب من ابتسامتي، يقول متسائلاً:
- بالتأكيد نمتُ أكثر من عشر ساعات.
- هذا أكيد، ولكن أكثر بِكَمْ ساعة يا تُرى؟
- أكثر من ساعة.
تصبح ابتسامتي أكثر عَرْضًا، يستغرب، ثمّ يبتسم ابتسامةً أقربَ إلى الضحك:
- الحُلُم الطويل الذي رأيتُهُ، بل الأحلام، تشفع لي.
يطلب منّي الورقة والقلم، راغبًا في تدوين ملاحظات.
أقول له:
- يا أبي، اذهب إلى الحمّام أولًا، ثمّ عُدْ لنتناول طعام الفطور، ثمّ اكتب ما تريد.
- يا بُنيَّ، دماغي مُتخَمٌ بالأحلام، وأخشى أن تذوب مع أيّ حركة لي في الفراش.
- اِطمئنّ يا أبي، لن يحصل هذا.
يهمُّ بالحركة، يجد صعوبةً، فهو قد مضى عليه عشرة أيّام كاملة وهو نائم.
صرتُ أبحث عن دليل أقدّمه إليه لأقنعه بهذه المدّة الطويلة التي استغرقها في النوم، وأخيرًا وجدتُها، هي الصحيفة اليوميّة التي كان يقرؤها قبل أن ينام، بعدما أخبرتُ صاحب المكتبة القريبة من بيتنا أن يأتيني بعدد اليوم من الصحيفة ذاتها، على عجل.
عادَ أبي متثاقلًا من الحمّام، وقال وهو يدخل غرفة الجلوس:
- أشعرُ بضرورة حصولي على حمّام لكامل بدني، ولكن أجد نفسي في حالة كسل وفتور.
- لا عليكَ، ستأخذ حمّامًا مساءً إن شاء الله وترتاح.
وضعتُ بين يديه العددين من الصحيفة، رمى العدد الأوّل وقال لي:
- هذا العدد تصفّحتُهُ سابقاً.
بادرتُ بالقول:
- خُذْ هذا العدد من فضلك.
أمسكَ بالعدد الجديد، وقد أشرتُ بقلم أحمر إلى تاريخه، فقال محتجًّا:
- أإلى هذا الحدّ وصل أمرهم بالتصحيف والأغلاط؟!
- ماذا يا أبي؟
- تصوّر أنّهم قد أخطأوا بتاريخ الصحيفة.
- هم كثيرو التصحيف هذا صحيح، ولكن في هذا لم يغلطوا ولم يصحّفوا.
- كيف؟
- أنتَ فعلًا نمتَ عشرة أيّام.
- تقصد عشر...
- أيّام.
- غير معقول!
- صدقًا يا أبي.
سكتَ قليلًا، وكأنّ الأمر لم يقنعه، وهو يعرفني أنّني لا أمزح معه مثل هذا المزاح، ثمّ قال من جديد:
- نمتُ أكثر من عشر ساعات أو خمس عشرة ساعة ممكن، أمّا ما تقوله فهو غير ممكن.
بقيتُ صامتاً.
وهنا حاول أن يقنعني بأنّه لم ينمْ هذه المدّة الطويلة:
- هل تعلم أنّ الذي يبقى ثمانٍ وأربعين ساعة بدون ماء يموت؟
- نعم.
- وأسبوعًا بدون طعام، كذلك يموت؟
- نعم.
- فكيف تقول لي عشرة أيّام؟
- أنتَ لم تكن في حالة عطش، ولا في حالة جوع.
- كيف؟
- كنتُ قربَ سريركَ، أنتبه إليكَ وأنتَ مستغرِقٌ في نومكَ، وبين يديَّ كأس ماء وملعقة، أغرف بهدوء وأجعل الماء يتسرّب إلى داخل فمكَ، ولا أُكْثِرُ منه كي لا يؤدّي إلى استيقاظك.
- والطعام؟
- كنتُ أذيبُ ملعقة من العسل في كأس ماء، وفعلتُ الأمر نفسه، ثمّ عندما وجدتُ أنَّكَ تفقد بتعرّقكَ أملاحًا كثيرة أضفتُ إلى الكأس كمية قليلة من ملح الطعام، وتابعتُ فعلي في انسياب ماء العسل والملح إلى جوفك.
- ولماذا لم توقظني؟
- لأنّني وجدتُكَ مستمتعًا بالنوم، ورغم تقلّبكِ كلّ ساعة أو ساعتين مرّة دونَ أن يوقظَكَ هذا التقلّب. رأيتُ من واجبي أن أُعين والدي على الراحة في نومه.
ضحكَ أبي ضحكةً مفرقعة، وصفعني على وجهي مداعبًا، وقال لي:
- كلّه بسببك...
- كيف؟
- سأحكي لكَ الحكاية من أوّلها.
ثمّ استدركَ وكأنّه قد اكتشف أمرًا يخالف كلامي، وبادرني بالسؤال:
- كيف أنام عشرة أيّام ولا أدخل الحمّام؟ هات فسّر لي هذا.
فأجبتُهُ بابتسامة هادئة تليق بمكانته في قلبي:
- لأنّكَ لم تشرب كثيرًا من الماء يا أبي، ولأنّكَ مرّ عليكَ حالات تعرّق كثيرة وشديدة... كنتُ أسقيكَ كلّ يوم كأسًا أو أكثر قليلًا من الماء، وربع كأسٍ من العسل الممزوج بقليل من الملح والماء، لا أكثر.
عاد إلى تأمّله من جديد، وكأنّه يريدُ محطّات في حديثه اليوم معي لكي يستريح ذهنه. ثمّ قال لي بهدوء واضح:
- لو قلتَ لي أنّني نمتُ سنة كاملة لصدّقتُكَ. فما رأيتُهُ من أحلام تتجاوز مدّته السنة. وأنتَ السبب في حُلُمي الطويل هذا.
- كيف؟
- بسبب مشروعك الخياليّ (الريّ بالتنقيط).
ضحكتُ هذه المرّة، ولم أتمالك نفسي من أن أعبّر عن سخطي:
- حقًّا مشروعي خياليّ! ويبدو أنّه سيبقى خيالًا وأحلامًا.
- بل سيتحقّق يا بُنيَّ... سيتحقّق.
ثمّ قفز من مقعده، وهو يضحك بشدّة:
- حتّى معي فقد نجح مشروعك! ألم تستعمل معي الريّ بالتنقيط في أثناء نومي؟! وها أنذا حيٌّ بل في أحسن صور الحياة بفضل مشروعك.
ثمّ انتبه إلى أمر، وصارت عيناه تبحثان عن ميزان:
- عليَّ أن أزنَ نفسي لأتأكّدَ من أرقامكَ.
وضع قدميه على جهاز قياس الوزن، وأصابه الرقم بالذهول، ثمّ دعاني إلى النظر:
- هل يُعقَل؟ انخفض وزني أكثر من 2400 غرام...
وأبي يحافظ على وزنه منذ أكثر من عشر سنوات، ويقف على الميزان كلّ أسبوع مرّة، وأنا لا أشكُّ بأرقامه.
ولم يكتفِ بهذا، بل شكرني كثيرًا، فقلتُ له:
- دمتَ لنا أبًا طيّبًا مفعمًا بالحيويّة.
أعاد مدَّ يَدِهِ إلى العددين من الصحيفة، وأطال التفكير هذه المرّة، وتركتُهُ لأحضّر كأسين من الشاي الخفيف الذي يحبّه في الصباح، بعد أن تخلّى عن القهوة، لأنّه ترك التدخين منذ أكثر من خمس سنوات.
اليوم جلستنا تمثّل حالة خاصّة في هذا الصباح، فأبي معروف عنه صرامته وشدّة انتباهه لنفسه حتّى معنا في البيت، منذ أن كنّا أطفالًا، فقد كان يمازحنا لربع ساعة أو نصف ساعة متواصلة على الأكثر، ثمّ ينهي مدّة المزاح هذه، بنبرة جادّة حاسمة حازمة، فنسكتُ جميعًا، حتّى أمّي رحمها الله تعالى.
ومنذ رحيل الوالدة، منذ خمس سنوات، وأنا وأبي نعيش معًا، عاشت أختي سعاد معنا هي وزوجها وأولادها أقلّ من سنة، وبقيتُ أنا العَزَبَ الوحيد في البيت، مع أبي الغالي.
ومن طريف ما هو بيننا أنّني دومًا أذكر له موضوع الزواج، فيقول لي: العَزَبُ أولى بالزواج من الأرمل، فأجادله وأقلب المعادلة، ولا أسكتُ حتّى أرى عبراته تُخَضِّبُ وجهه ويديه معًا، وهو يقول:
- بعد أمّ عادل ليس لي قرين.
فأسكتُ، وأندم على حديثي الطويل، فيفهمني، ويقول لي بعد أن تهدأ عيناه من البكاء:
- لا عليك يا بُنيَّ، فالبكاء يغسل الأوجاع، ويُخرِجُ الآلام التي في الصدور.
كنتُ أصغر أولاده، فعادل، ثمّ سعاد، ثمّ محسن، ثمّ أنا المدلّل الصغير مراد، وكان أبي كثيرًا ما يسمّيني (مُريد)، لأنّني كنتُ مريدَهُ منذ طفولتي المبكّرة.
فمَنْ ينظرْ إلى أبي الآن، وقد قارب السبعين من عمره، يَرَ فيه من الشباب والعزيمة ما يرشّحه لتقدير لا يزيد على الستّين، وربّما أقلّ.
فهو منضبط في أكله وطعامه وشرابه، معتدل في كلّ شيء، مقتصد في كلامه، له عدد محدود من الأصدقاء، زياراته إلى الأقرباء والأصدقاء ذات ظلّ خفيف لا تتجاوز الساعة في معظم الأحيان، وأحيانًا تقتصر على ربع ساعة فقط، ولكن حضوره واضح وجميل أينما حلّ، دائم الابتسامة والتفاؤل، مواظبٌ على رياضته الصباحيّة لمدّة لا تزيد على ربع ساعة، وفي أيّام الربيع والصيف والخريف له حصّة من الرياضة البدنيّة في الهرولة في الحديقة التي قربنا.
كنّا نراه جميعًا ينسى ما يفعله الآخرون به من أفعال غير مقبولة، وهو لا يردُّ عليهم سوى بعبارة: (يسامحكم ربّي).
كان متقيّدًا بأسرته، فهو الأب والمعلّم والمربّي والمدرّب الرياضي، ثمّ الصديق الحميم لكلّ أولاده.
وكانت أمّي تتضايق أحيانًا من سكوته الطويل، ثمّ ما تلبث أن تحضّر فنجانًا من القهوة، أو كأسَ عصير، فيأخذه من يديها بِنَـهَمِ عجيب، ثمّ يدعوها للجلوس وهو يقول لها دائماً: (اجلسي يا أميرتي)... وهذه العبارة (يا أميرتي) كنّا نسمعها منه مرارًا في اليوم الواحد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.