Horof

شارك على مواقع التواصل

إنَّ أغرب شيءٍ في هذه الحياة يا صاحبي أنَّ الناس السيئين لا يموتون، يعيشون أكثر مما يجب لكي يفسدوا حياة الآخرين"!

عبد الرحمن منيف


في هذه الأرض النائية من صحرائنا، هناك قريةٌ لا يهم اسمها، حيث أن الاسم لن يضيف لنا شيئًا، نحن نعطي الأسماء قيمةً أكبر مما تستحق وأحيانًا إغفالها عمدًا مفيدٌ لنا ولا تسألوني لماذا يكون مفيدًا، هذا لأني وجدته مفيدًا وفقط!
استيقظ سكان القرية على فاجعةٍ جديدة من نوعها، حاولت أسرة (حمدان) دفن كبيرها الذي رحل عن العالم فجر اليوم، ولكن كفنه طفا إلى سطح الأرض في صبيحة هذا اليوم، تجمهر سكان القرية يتهامزون بتعجبٍ وبادر الكل إلى تفسير الأمر من ناحيته؛ فذلك الرجل المسن (فهد) يرى أنها علامة على أنَّ المتوفى كان من المغضوب عليهم فلفظته الأرض، استاء ابن حمدان مما تفوَّه به فهد ولكنه لم يلقي بالاً وآثر التجاهل؛ في حين يرى (سهيل) أنَّ الأرض من فرط حبها للرجل لفظته للخارج بكاءً عليه، تبسم ابن حمدان ولم يعقِّب في حين سخر البعض من قول سهيل، كثرت وجهات النظر والتي تراوحت بين ذمِّ الرجل ومدحه وبقيت المشكلة قائمة وهي أنَّ جثمان الرجل طفا على وجه الأرض، وكأنَّ الأرض وجهت له ركلةً لأعلى!
اجتمع كبار القوم يتشاورون فأشار عليهم (عباس) أن يقوموا بدفنه مرةً أخرى، واستحسن الجميع الفكرة والتي هي بالمناسبة راودت الجميع ولكن لم يمنعهم ذلك من أن يستحسنوها عندما لظفها عباس!
وشرعوا في دفنه مرةً أخرى والدعاء له وانتظروا لبضعة دقائق في فضول؛ هل ستلفظه الأرض مرة أخرى؟!
مرَّت عشر دقائق ولم يحدث شيء، فانصرف الجمع من حول القبر وبقي ابن حمدان وزمرةٌ من الرجال يترقبون الأمر؛ حتى رحل الجميع ولم يبق إلا ابن حمدان والذي اتخذ من حجرٍ أبيض مجلسًا وأرفق ذقنه إلى راحة يده حتى حلَّ عليه أذان العصر؛ فنهض متثاقلاً يتخذ طريقه للمسجد.
عندما جنَّ الليل على القرية سُمع صياح أحد الصبية وهو يندفع بين شوارع القرية الترابية يصيح بأعلى صوته:
- لقد ركلت الأرض جثة حمدان مرةً أخرى إلى سطحها!
خرج الناس إلى شوارع القرية يضربون الأكفَّ ويتهامسون وبعضهم يحوقل ويستغفر، وتناثرت الأقوال التي ترجِّح أنه لابد أنَّ خلف هذا الأمر شيء مريب، اجتمع الناس على أن يتشاوروا في الأمر في مجلس الشيخ (سلطان)......
- سيد مسعد.
رفعت عيني عن الأوراق غاضبًا وأنا أحدج الشاب بنظرةٍ حانقة، رفع يده اليمنى معتذرًا وابتسامته تفرش وجهه:
- أعتذر منك سيد مسعد ولكني طرقت الباب عدَّة مرات ولكن يبدو أن سيادتكم كنت مشغولاً في العمل.
- ما الأمر يا داود؟
- السيدة (راجحة) تريد مقابلة سيادتكم.
- السيدة راجحة!
- نعم ...
صمت داود مرتبكاً ثم قال: هل هناك مشكلة؟
- لا، لا، دعها تدخل على الفور.
غادر الشاب في خطواتٍ سريعة ولم تمض ثوانٍ حتى دلفت إلى المكتب سيدةٌ في بدايات العقد الثالث من عمرها، ترتدي عباءةً سوداء وغطاء رأسٍ يظهر بعضًا من خصلات شعرها الأسود المتدلي على جبهتها، وابتسامة مشرقة تصحب دخولها.
- السلام عليكم سيد مسعد.
- وعليكم السلام سيدة راجحة، مفاجأة لطيفة للغاية.
اضطربت ابتسامتها ولكنه قطع عليها إحراجًا بدأ يتجلى بوجهها يدعوها للجلوس ومن ثم قال:
- ماذا تشربين؟
- جزاك الله خيرًا، لا أريد شيئًا.



فرض ابتسامةً رسمية على وجهه وهو ينتظر منها إيضاحًا فتنحنحت قبل أن تقول:
- والله جئتك يا سيد مسعد أسألك عن ديواني الشعري الذي تقدمت به للدار لأنهم قالوا لي أن الأمر منوط بسيادتكم الفصل في أمر نشره من عدمه.
- نعم، هذا صحيح.
قال عبارته المقتضبة ولم يضف حرفًا، فرفعت حاجبيها تنتظر منه المزيد من الإيضاح فتدارك الأمر وهو يواري ارتباكه بضحكةٍ مبتورة وهو يقول:
- لا شيء، انقطعت الفترة الماضية عن تقييم الأعمال نظرًا لبعض الظروف الخاصة التي مرت بي مؤخرًا، ولكني أضع عملكِ على جدول أعمالي في التقييم إن شاء الله.
أشرأبَّت بعنقها للأمام قليلًا وهي تطالع الملف المفتوح أمامه وتقول مازحةً بلهجةٍ تحمل عتابًا خفيفًا:
- يبدو أني لست على رأس جدول أعمالك!.
نظر للملف ببلاهةٍ ثم رفع رأسه قائلاً:
- لا، ليس الأمر هكذا ولكن جاءني داود بهذا الملف صباح اليوم فأحببت أن اتصفحه سريعًا فقط ليس إلا؛ ولكني أضع عملك بالتأكيد على رأس جدول أعمالي لليوم.
- خيرًا إن شاء الله سيد مسعد؛ ولكن متى تتوقع أن ينتهي تقييمك للعمل؟.
هز كتفيه وهو يدوِّر الأمر في رأسه ويجري بعض الحسابات والتي استغرب تعقيدها على الرغم من بساطتها.
لا يعلم لماذا شرد لوهلةٍ وهو يعيد النظر إلى وجهها المتيقظ، تثير في نفسه شيئًا من الفضول والرغبة في إطالة النظر إلى وجهها، أدركت إلى أين كان استغراقه فنبهته بكحةٍ مؤدبة فتراجع في مكتبه يدور عينيه فيما حوله كأنه يبحث عن شيءٍ مجهول، ثم تجاوز ارتباكه قائلاً:
- من الممكن أن يكون خلال أسبوعين.
- أتعشم ذلك سيد مسعد، فأنا كلي شوق لأن يُطبع ديواني الجديد من خلال داركم الكريمة.
- بالتأكيد ... بالتأكيد.
ران الصمت للحظاتٍ حتى قطعته وهي تنهض قائلةً:
- أتركك لشئونك وآسفة على إهدار جزءٍ من وقتك.
- لم يتم إهدار أي وقت صدقيني.
بدأت بالتحرك صوب الباب ولكن استوقفها صوته واستدارات له وهو يقول:
- هل ستنهار منظومة الأخلاق إذا غرقت السفينة ويعود الإنسان لطبيعته الأولى الوحشية؟
عقدت بين حاجبيها وهي تقول في ارتباك:
- عفوًا!.
الحقيقة أنه ارتبك بقدر ارتباكها أو ربما أكثر؛ فالغريب أنه لم يكن يوجه لها هذا السؤال ولكنه كان يحاور نفسه ولم يدرك أنَّ هذا الحوار انتقل إلى لسانه ليترجمه إلى صوتٍ مسموع، انعقد لسانه ولم يستطع أن يجيب، اشفقت من الارتباك الذي عبث بملامح وجهه وعادت الابتسامة المشرقة لوجهها مرة أخرى وهي ترد:
- الدكتور (علي الربيعي) يحب أن يثير الجدل بين الفينة والأخرى، لم تكن هذه هي مهاترته الأولى كما تعلم.
ملامحه الظاهرة تشي بالتأييد والموافقة ودل على ذلك الإيماءة برأسه عدَّة مرات؛ ولكن الصوت الذي يخرج من الجزء المظلم بنفسه كان يصيح بوجهها عدة مرات أيضًا.

- لربما هو ممسوس.
- وهل يُمسُّ الميت؟
- لربما فعل شيئًا يستوجب ذلك العقاب الإلهي.
- وما أدراك أنه عقاب إلهي؟.
تعالت الصيحات والاتهامات المتبادلة بين المجتمعين، والشيخ (سلطان) يراقبهم في هدوء.
صوت آخر يصيح:
- يا رجال .. يا رجال.
صمتت الأصوات فجأة وكأنها كانت تنتظر هذه الصيحة التي تنهي ذلك الجدل، التفتت الأصوات كلها لصاحب الصوت الذي قال:
- تأتون على سيرة الرجل وتركنا نجله يحاول دفنه وحده مرةً أخرى، هل يعقل هذا يا قوم؟
الصيحات تتعالى مرةً أخرى وتتشابك وتتداخل ويظل الشيخ سلطان على وضعه الصامت.
- يبدو أنه كلما حاولنا دفنه ستركله الأرض للخارج مرة أخرى.
- اتقِ الله يا سعد.
- لم يخطئ سعد فيما قال.
تتشابك الأصوات في معركةٍ أخرى ولكن بدون أيدي، يقف الشيخ سلطان وهو يلملم أطراف ثوبه فتمتن الأصوات المتشاحنة لفعلٍ آخر يوقف هذا الهرج.
- هيا لندفن الرجل مرةً أخرى.
استحسن الجميع قول الشيخ سلطان رغم أنه لم يأتِ بجديد؛ ولكنه كان مخرجًا جيدًا لإنهاء حالة الهرج والمرج هذه، اتجه الجميع إلى حيث يقف ابن حمدان ومعه رجلٌ آخر يحاولان إدخال جثمان حمدان مرةً أخرى لقبره، تعاون الجميع في دفن الرجل ثم الدعاء له، ولمّا انتهى الجميع من مراسم الدفن اقترب الشيخ سلطان من ابن حمدان يقول بجدية:
- أرى يا بني أن نضع حجرًا ثقيلاً على القبر حتى لا تلفظ الأرض الجثمان مرةً أخرى.
أومأ الشاب برأسه مستحسنًا الفكرة، أغلق مسعد الملف وهو يطلق زفرةً حارة تكومت داخل صدره، كانت تكبر ككرةٍ ثلجية حتى هربت من بين شفتيه، لاحظ أنه استغرق بعض الوقت جالسًا بسيارته والعامل الهندي يقف على عتبة باب المنزل مستغربًا الأمر، ابتسم له مسعد وغادر السيارة متجهًا إلى البيت، ألقى السلام في شبه همهمةٍ واتجه إلى مكتبه يلقى عليه الملف ويلتقط الهاتف الجوال من على المكتب يتفحص تويتر.
كان ينتظر بشغف أي تغريدةٍ جديدة لعلي الربيعي وقد تحقق شغفه.
" البشر غير قادرين على تخطي وحشيةٍ عاشوا فيها لآلاف السنين، ولا استثني أحدًا، كل البشر لازالوا يتخبطون في ذيول الوحشية التي عاشوها لقرونٍ طويلة، ولا أبالغ إذا قلت إذا انهارت الحضارات دفعةً واحدةً ستعود البشرية لأسوإ نقطةٍ في بدايات الحياة الوحشية لأسلافنا قديمًا"..
مرة أخرى يثير هذا الرجل الجدل بتغريداته، عشرات التعليقات المهاجمة والبعض مؤيد.
البعض يرميه بالإلحاد...
بالجنون...
السعي للشهرة....
لا يرد على أحدٍ منهم.
يتجاهل الجميع ويبقى على هدوء أعصابٍ مستفز!..
قطع حبل أفكاري ذلك الاتصال من صديقي الطبيب (أحمد سلمان)، ابتسمت لمجرد ظهور اسمه على شاشة الهاتف الجوال.
- كيف حالك يا صديقي؟
- الحمدلله بخير، كيف أحوال صديقي المثقف المهموم دائمًا؟
- بخير، أعرف أني كنت مقصرًا الفترة الماضية في التواصل معك.
ران الصمت للحظات، أدرك هذه اللحظات جيدًا فصديقي الطبيب مقبلٌ على قول شيءٍ قد لا يروقني ولم يخب ظني.
- أمازلت تتابع تغريدات ذلك المعتوه على الربيعي؟!
"المعتوه"، يبدو أننا بشكل غريبٍ جاهزون لإطلاق الاتهامات المقولبة على كل من يخالفنا، فمن الممكن أن نلقبه بالمعتوه، المختل، الملحد...ألخ
طالما خالفنا فكريًا فهو يستحق الرجم ولو بتصدير عددٍ من الأحكام والألقاب السلبية.
- حكمت على الرجل بالعَته من بضعة تغريداتٍ فقط!.
- أول القصيدة كفر يا صديقي، هذا رجل لا ينفك عن إثارة حالةٍ من الجدل، المجتمع فى غنىً عنها، المجتمع بحاجةٍ إلى مفكرين ينهضون بهذه الأمة ولا يثبطونها.
- قد تكون محقًا.
- قد أكون محقًا؟!
كان لابد للصمت أن يتخذ مساحةً كافية تنم عن عدم رضا متبادل من ذلك الحديث، صوته المستنكر كان يدعوني للتنديد والشجب مثله، ولكنه رجل ذو ذكاءٍ متقد فعمد إلى تغيير دفة الحديث:
- هل سنتقابل اليوم أم ستتحجج بأعذارٍ واهية أخرى؟
- كنت أنوي التحجج بالفعل.
تدفق عبر الهاتف صوت ضحكه الوقور فابتسمت مرةً أخرى وهو يردف:
- لا أعذار اليوم، سنتقابل في مجلسي.
- لا أرغب في أية صحبة جماعية اليوم.
- لا تقلق أيها الملول، سنكون أنا وأنت فقط.
- إذا كان الأمر كذلك فلا بأس.
- إذن فلنتلقِ في مجلسي بعد صلاة العشاء، حيث ستنتهي مناوبتي الساعة السادسة والنصف مساءً.
- لا بأس بذلك.
- إذن ألقاك حينها يا صديقي.
انهيت الاتصال ويتنازعني شعورٌ بالسعادة وآخر بالضيق، السعادة منبعها أنني سأقابل أقرب الناس إليّ اليوم وقد انقطعت بيننا السبل لمَا يزيد عن الشهر بسبب انشغال كلٍّ منَّا؛ والضيق لأنني أجد نفسي في حالة استغراقٍ وشغف كلي بهذا العمل المثير.
أحسب أن هذا هو العمل الأدبي السعودي الأول في مدرسة الواقعية السحرية الذي يستحق النظر والنشر، متلهفًا لإنهاء هذا العمل بأسرع وقتٍ ممكن لأدعو صاحبه إلى مقابلةٍ مباشرة معي.
لدى هذا المؤلف شيء قيم يريد أن يقوله، لديه مساحةٌ إبداعية تكفي لأن تبدد ظلمة الأدب الذي يُطرح على الساحة اليوم ولا قيمة تُرجى من وراءه.

صوت ابن حمدان كان هادرًا في الساحة الرئيسية للقرية، أطلَّ الناس على عتبات بيوتهم كفئرانٍ مزعورة يتابعون الشاب الذي وقف في الساحة يهدر بصوته الغاضب:
- هناك من ينبش قبر والدي لغرضٍ في نفسه ويخرج جثمانه منه، وأني أقسم بالله ثلاثًا إن اهتديت إليه لا أتركنه إلا وقد استحللت دماءه.
أقبل بعض الرجال عليه ما بين مواسٍ وما بين مهدئ له؛ ولكن ثائرة الشاب كانت أكبر من ردود أفعالهم.
أقبل الشيخ سلطان على الجمع مذعورًا فهدّأ قدومه من ثائرة الشاب قليلاً ولكن ظلَّ صدره يعلو ويهبط ونارٌ تكتوي بصدره وهو يسمع الشيخ يقول:
- خيرًا يا ولدي، ما الذي حدث؟
- هناك من ينبش قبر والدي ويخرج جثمانه.
قال الشيخ مبهوتًا:
- هل لفظت الأرض جثمان والدك مرةً أخرى؟
وكأن الشاب كان ينتظر هذه العبارة تحديدًا لتتجدد ثائرته مرة أخرى صائحًا:
- لم تلفظ الأرض جثمان والدي، يكفي ترديد هذه التٌرهات.
أكفهر وجه الشيخ ولكن الشاب لم يكن يبالي بل أشاح بوجهه بعيدًا عنه يخطب في الجمع الذي تحلَّق حوله:
- من كانت له عند والدي مظلمةٌ أو في نفسه شيءٌ فليأخذ بمظلمته أو ثأره مني، ولا يجوز أبدًا العبث بجثمان المتوفي، فإكرام الميت دفنه، أم أين أنتم من الدين؟
سرت الهمهمات كما النار في الهشيم بين استحسانٍ في الغالب وبين بعض الامتعاض والاستنكار.
- معك حق يا صهيب، ويجب علينا أن نعرف من يعبث بجثمان المتوفي رحمة الله عليه.
أومأ الأغلبية بروؤسهم تباعًا استجابةً لقوى خفية تحركهم وتسيِّرهم على غير إرادةٍ منهم.
تدخل الشيخ سلطان وهو يحاول أن يلملم شتات هدوءٍ تبعثر منه فخرجت كلماته من بين ضروسه منزعجةً غاضبة:
- وهل تقصد أحدًا من الناس يا ولدي؟
ظلل الصمت المكان في حين اتقدت عينا صهيب بوهجٍ لم يخفَ على الشيخ ولم يطمئن له؛ ومن ثم قال بكلماتٍ ضغط على مخارج حروفها:
- نعم، لدي من أقصده.
- من؟
تكررت كلمة (من) كصدى صوتٍ بين عدة أفواه فرفع الشاب رأسه واستقام على جسده يقول بحزم:
- (سليم).
ردد الشيخ مبهوتًا:
- سليم ابن محمد؟.
- وهل هناك غيره يا شيخ سلطان؟
" أين سليم؟"
"لماذا ليس بين الواقفين؟"
بدت تسري الهمهات والأسئلة التي تسعى للإثارة ورفع وتيرة العصبية والتوتر، رفع الشيخ سلطان يديه المعروقتين يهدئ الجمع وهو يعيد عينيه إلى صهيب يقول بتحفظ:
- ولماذا ترمي سليم بجرمٍ كهذا؟
لم يخب ظن الشيخ، فصهيب ليس لديه سببٌ واضح، فارتباك ملامحه وهزة كتفيه الطفولية تشي بأنَّ هناك خلفيةً أخرى لرميه سليم بهذا الجرم البشع.
- لأنه ليس بين الحاضرين!
رؤوس تومئ بشكلٍ لا إرادي توافق وأخرى تغمغم بلا موقفٍ واضح، فقط مجرد غمغمةٍ فارغة، بدت العيون كأنها ترغب في رؤية حدثٍ استثنائي يغير رتابة أيام هذه القرية الطويلة التي لا تتشابه فقط ولكنها تتطابق ولا يكاد يومٌ يختلف عما قبله.
" الغداء جاهز سيدي"
رفع مسعد عينيه عن الأوراق مستنكرًا هذا الصوت الذي اقتحم ذلك العالم الذي استغرق فيه حتى النخاع، وعجز عن الرد سريعًا وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا ببطءٍ ثم حسم أمره قائلًا:
- نعم لا بأس.
- المائدة جاهزة سيدي.
- فلتحضر لي الطعام هنا، فليس لدي وقت.
أومأ الخادم برأسه وانصرف في صمتٍ فهو يعلم تقلُّب مزاج سيده، فعندما يستغرقه أمرٌ ما فيكتفي بردودٍ مقتضبة، حاول مسعد أن يستعيد أجواء العمل مرةً أخرى ولكنه عجز عن ذلك فأطاح بالملف بعيدًا فاستقر على حافة المكتب الأيسر، نظر له لوهلةٍ ثم مدَّ يده يقربه منه مرةً أخرى كأنه يعتذر، ولكن قطع عليه طريق العودة للاستغراق فيه مرةً أخرى صوتُ رسالةٍ وصلته على الواتس اب، فالتقط هاتفه الجوال يتطلع لصاحب الرسالة ليجدها من الشاعرة راجحة.
التقى حاجباه في استغرابٍ ولكن فضوله دفعه لفتح الرسالة وقراءتها: " آسفة على رسالتي هذه، ولكني كنت أرغب في أن أخبرك بأنني سأسافر إلى مصر الأسبوع القادم، وأنا أعلم أنك ستكون في نفس الموعد في مصر لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب، فمن الجيد أن يكون هناك بعض الوقت لأن...."
يبدو أنها ضغطت على زر الإرسال قبل أن تكمل جملتها، ولكنه فهم ضمنيًا، ربما منعها خجلها من إكمال الجملة.
لا أعرف إذا كان من المفترض أن أجيب بـ"نعم" أم أتصنع البلاهة أم أتجاهل الرسالة.
- أين أضع الطعام سيدي؟
نظر نحوه مسعد مرتبكًا ثم قال بلامبالاةٍ:
- أي مكان.
وضع الخادم الطعام عند حافة المكتب في رفق ثم غادر المكان سريعًا.
كيف أصيغ ردًّا لائقًا؟
على سنواتي هذه كلها ومازالت عاجزًا عن إيجاد ردٍّ مناسب إذا كان موجهًا للجنس الآخر، أبدو في هذه الوهلة كصبيٍّ مراهق يرتبك بسرعةٍ ويتعرق ولا يعرف بمَ يجيب.. صبيٌّ أبله على نحو أدق!.
اندهشت من جريان أصابعي على لوحة المفاتيح لتأخذ المبادرة بدلاً مني، وكأنَّ أصابعي على نحوٍ ما استشعرت عجزي فقرَّرت أن تنوب عني في ذلك.
" يبدو الأمر جيدًا فأنا أيضًا أرغب في تنسيق موعدٍ لنتقابل فيه على هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب"
ضغط على زر الإرسال وقد داخله توتر بالغ، يدرك أنَّ هذا التوتر مبالغٌ فيه ولكنه غزا كل خلايا جسده بدون مقدمات أو إرادةٍ منه، الآن تأكد أن بداخله روحَ صبيٍ مراهق خجول!
ظل يطالع الشاشة بعصبيةٍ ينتظر الرد ولكن طال الأمد ولم يأتِه الرد، فوضع الهاتف الجوال جانبًا وهو يغلق عينيه يحاول بقدر الإمكان أن يستعيد هدوءٍ هرب منه في تلك اللحظة؛ ثم فتح عينيه يقرب منه الطعام ويتناول منه لقيماتٍ ليخمد جوعًا بدأ ينمو في معدته.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.