Horof

شارك على مواقع التواصل


غربا المدينة احنا


ولا المدينة غريبة يا ولداه!
هيه اللي ما بتفرحش ما بتحزنش ما بتحلمش
ما بتصحاش
ولا احنا والأيام مانعرفهاش

حط القطار الرحال من بعد طول الترحال، لا يعرفون كم استغرق من الوقت ولا أين المرسى، انطلقت الصافرة بصوتها الجهوري، تصرخ وتزعق في الفضاء الرحب المترامي الأطراف لتوقظ النيام وتعلن عن محطة الوصول، هب الركب من نومه مفزوعًا، وهرولوا بالقفز عن القاطرة مسرعين وكأن الحياة تنتظرهم على الرصيف.
نزلت فاطمة أولا وأخذت تتلقف أولادها الواحد تلو الآخر، أحمد فعزيزة الصغيرين، ثم جليلة فأمينة فنعيمة فخديجة ف....... فين محمود ياولاد؟
-فين محمود ياولاد؟ فين محمود يا جليلة؟
-ماشوفتوش يمه
-ولدي فين ولدي ...ياخرااااااا بي ...يااااااالهوي
وصارت تلطم وجهها بكلتا يديها وتصرخ وتولول وتخبط على صدرها ورأسها وتجري يمنة ويسرة تسأل الرائح والغادي عن ولدها المفقود، وجلست على الأرض ونزعت طرحتها وأخذت (تشلشل) بها وتصرخ وتبكي بكاءً مرًا، (الله يعوض عليكِ ياست) (أعتبريه مات في السكة) (أهو أستريح م الغلب).
أصبحت المحطة خاوية على عروشها، إلا من فاطمة وأبنائها الست بعد أن غاب واحداً منهم، والأولاد يحيطون بأمهم يربطون على كتفها ورأسها ويحثونها على المضي قدماً لأنهم جوعى وعطشى ويكاد يغشى عليهم من التعب، ولا يدركون أنهم فقدوا أخاهم إلى الأبد.
قامت فاطمة تجرجر نفسها من على الأرض، أرجلها بالكاد تقوى على حملها، وكل واحد من صغارها يمسك بجزء من جلبابها، كحماية وأمن وكمسند يساعد على السير.
استطاعت بعد جهد جهيد أن تنظر حولها لترى موقع أقدامها، بناء ضخم عملاق عتيق الطراز، سقف شديد الارتفاع، مثلث الهيئة، حديدي الصنع، أعمدة خرسانية مستديرة تحيط به من كل جانب، بلاط بديع المنظر يغطي الأرضية مزركش بمنمنمات فسيفسائية منقوشة بدقة ذات
ألوان بديعة لم تر عيناها مثلها من قبل، ساحة فسيحة في الواجهة، تطل على الشارع من الأمام، ومن الخلف مقسمة إلى أرصفة في خطوط منتظمة هي مقر للقطارات.
سألت أحد المارة عن المكان فقال لها محطة مصر فتصورت أن هذ اسم المدينة.
وعلى إحدى الجوانب كشك خشبي صغير يجلس عنده حارس على كرسيه.
خرجت من البوابة الرئيسية ففوجئت بالاتساع الكوني أمامها، فأصيبت بالذعر وتراجعت خطوات للوراء، ماهذا ياربي؟ أين أنا؟ وما يكون هذا المكان الذي اسمه المحطة؟ وإلى أين أذهب؟
انكمشت لحظات وجلست في ركن مع أولادها على الأرض تفكر ما العمل؟
في الأخير وبعد بكاء الأولاد قررت المسير "وزي ما تيجي".
وجدت الشوارع شديدة الاتساع، متشعبة الطرق والمسالك، والعربات تقطع الشارع بسرعة جنونية، حديقة متسعة تقع على الجهة المقابلة للمكان الذي نزلت فيه من القطار، بها أشجار كثيفة ظليلة فكرت أن تأوي اليها، ومنعتها فكرة أن تعبر الشارع، هذا الشارع الغارق في سواد لونه، وكأنه الليل المدلهم يختلف كلية عن شوارع قريتها المتربة حتى إنها فكرت أنه ربما أن اسمه هنا ليس شارعا بل شيئاً آخر؟
آثرت السلامة ومضت تخطو بخطوات مترددة بجوار المحطة، قادتها خطواتها إلى شارع أقل اتساعا من سابقه.
أخذتها أفكارها إلى ذكريات الماضي البعيد حيث قريتها والأهل والصحبة وراكيه الشاي وكيزان الذرة المشوي وشجرة الجميز التي كان يتحلق حولها الجميع ساعة العصاري بعد يوم من العمل المضن في الحقل، يتسامرون ويقصون قصص الشقاء والعمل الشاق بدون عائد، والعشور التي يدفعونها للجابي، وتسلط الخوجة وجبروته وكرباجه، تذكرت كيف كانت تجعل خلوتهم أجمل حين تشدو بصوتها الرخيم:

محلاها عيشة الفلاح
متهني قلبهومرتاح
يتقلب على أرض براح
والخيمة الزرجه ستراه
يا بياب ييياب يابا يييياب

كان هناك أهل وأحباب راحوا وراح وقتهم ورحت أنا أيضاً ولا رجوع.
لم تسلم الإسكندرية أيضًا من هجمات الحرب ودمارها، فقد دُمرت مناطق بكاملها آهلة بالسكان ككرموز وغيط العنب وراغب واللبان، الواقعة بغرب الإسكندرية وبعض المناطق في محرم بك، والغريب أن الموت لا يختار إلا الفقراء وأماكنهم السكنية، فهم دائمًا من يدفع الثمن، ثمن حروب الكبار وسرقاتهم ونهبهم للثروات.
بينما نجد الأحياء الراقية كمحطة الرمل والمنشية بمبانيها الضخمة عريقة الطراز المبنية على الطُرُز الإيطالية والإنجليزية واليونانية لم يمسها أي سوء، وظلت صامدة مقاومة مئات السنين، وكاذب من يقول إنها رمز للحضارة والتقدم الذي شهدته المدينة بل كانت حضارة الأغنياء وتجارتهم ومساكنهم، فهي لم تبن للتاريخ بل للسكنى والمتعة ولمصالحهم الخاصة، لو كان استفاد منها فقراء المدينة لكان هذا قولا آخر.
وما تكالب اليونانيين والإيطاليين والشوام والإنجليز على اللجوء للإسكندرية إلا هرباً من جحيم بلادهم أثناء الحرب العالمية الأولى ونيرانها في بلادهم، وليس مِنة وتفضل وحب لعيون مصر والمصريين.
الإسكندرية في تلك الفترة هي مقر القيادة البريطانية، بعد أن تراجعت بريطانيا عن معاهدة 1936 التي كان عليها سحب قواتها العسكرية للسويس ولكن كبلت مصر في نفس الوقت بقيود الإدارة البريطانية والدعم في حالة الحرب وترك السودان بالكامل للإنجليز.
ومع ذلك تمركزت القوات البريطانية في مرسى مطروح لمواجهة إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا من جهة الغرب.
وصارت أزمة كبري في بدايات الحرب لتشكيل حكومة ائتلافية دعا إليها الملك فاروق ورفضها مصطفى باشا النحاس زعيم حزب الوفد، فما كانمن بريطانيا إلا أن حاصرت القصر الملكي بالدبابات واجبرت الملك عن التراجع وفاز النحاس تحت قيادة المدافع البريطانية.
سارت فاطمة على غير هدى، تجرجر أولادها، وتتخبط في المسير، وكأنها بحس هندسي أصيل تدرك أن الخط المستقيم هو أقصر الطرق، فقد سارت في خط مستقيم بجوار محطة مصر، حيث الفيلات والقصور الباشوية على يمينها في منطقة محرم بك التي تجاور محطة مصر وتقع في منتصف المدينة، والسكك الحديدية على يسارها، كانت محرم بك مقرا للباشوات وعلية القوم في تلك الفترة، أتراك وطليان ويهود، بعد أن قصفت بريطانيا مدنهم في الحرب العالمية الأولى، وبعد أن قُصفت المنشية فاستوطنوا محرم بك.
كانت الشوارع مملوءة بأشجار الموز الوارفة والكثير من الأشجار الظليلة الأخرى التي تضفي على الشارع جمالا فريدا وتبعث الظل والنسمات الرقيقة في الصيف.
وكان النوبيين يقومون بالحراسة والعمل في تلك الفيلات والقصور، وقد عطفوا على فاطمة وأنجالها عندما شاهدوها تسير مندهشة مرهقة مشدوهة مما حولها، تجرجر أولادها، يبكون جوعاً وألمًا ونعاساً وإرهاقًا من طول المسير ورغبة في قضاء حاجتهم الطبيعية.
ومحرم بك هو صهر محمد علي باشا وكان محافظًا للإسكندرية وقائدا للقوات البحرية، لذلك سُميت المنطقة الواقعة شمال الإسكندرية باسمه.
وهناك ربوة عالية ترابية فيما وراء السكة الحديد، وصلت إلى منحدر يمر من خلاله العربات ومن فوقه تمر القطارات، فتملكها الجزع وانتفضت وبصقت في عبها وبسملت وحوقلت من هذا الفعل الشيطاني. كان هذا الكوبري يسمونه الكوبري (أبو عين واحدة) وأمامه مباشرة يقع مبنى أثري فخم كان ملك اليهودي(منشا) باشا وافتتحه كمتحف للفنون الجميلة، حيث كانت
ملتقى للفنانين من كل الأرض، وأشهر الفنانين المولودين بها توفيق الحكيم والأخوان وانلى وهند رستم وليلى مراد.
وجدت نفسها أمام منحدر ترابي آخر يقطعه شارع عريض نسبيًا وعلى الجهة المقابلة مرتفع ترابي آخر، ومبنى ضخم أصفر اللون ذو سور مبني بالطوب ويقبع بداخله مبنى مكون من عدة طوابق ذات نوافذ مستطيلة ضيقة عليها قضبان حديدية، وعلى جانبي الطريق من جهتها كانت بعض الفلل المتناثرة التي خشت حتى الاقتراب منها لوجود الحرس والكلاب على البوابات، وعلى الجهة المقابلة كان جبل عالي يرتفع ولمحت جامع بالمقربة فقررت العبور إليه مهما كان الثمن.
نزلت المنحدر ووقفت تنتظر خلو الشارع من العربات، وانتظرت حتى طلبت من أحد المارة مساعدتها في عبور الطريق.
كانت السحب تتكاثف في الجو منذرة بمطر قادم وبرودة الجو تشتد والرياح تعصف بالثياب التي لا تستر قدر ما تكشف، صلت فاطمة وتعالت دعواتها لله أن تستطيع فقط الوصول إلى هذا الجامع القابع على بعد أمتار منها.
دخلت فاطمة وأولادها إلى صحن الجامع وكان الوقت بعد صلاة العشاء وقد انصرف المصلون، ولم يبق غير شيخ الجامع يتأهب للمغادرة،
-السلام عليكم يا شيخنا أنا جاية من سفر طويل وعاوزه أستريح وأبيت هنا لحد مالاجي مكان.
-لاحول ولا قوة إلا بالله تعالى يا بنتي، تعالوا ياولاد، أكلتم؟
-الحمد لله حراس الناحية التانية وكلونا عاوزين بس نستريح لحد ما نلاجي مكان.
-ناموا والصباح رباح.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.