Horof

شارك على مواقع التواصل

هى مجرد لحظات التي تفصله عن حدوث الشيء، لا يأمل فى توقعات مبالغ فيها، سيكتفي بالحد الأدني من التوقعات.
سيحاول أن يتعايش معها، يغمض عينيه في محاولة للتركيز، يفتحهما مرة أخرى وهو يتطلع إلى السماء التي ترعد كل خمس دقائق، ويراقب وميض البرق.
كل شيء من حوله يتلون باللون الأبيض والأسود حتى هو، يتمنى أن يرى الألوان الأخرى التي يسمع عنها ولم يرها أبداً شأنه كشأن كل سكان تلك المدينة، الأموات فقط هم من يرون كل الألوان، الأحياء لا يرون إلا اللون الأبيض والأسود، ما نفع الألوان للأموات، الأمر يبدو ظالماً ككل شيء في هذه المدينة الكئيبة جداً.
يجلس على حافة الرصيف، يستخرج المفكرة من جيبه، يقلب صفحاتها، يقف عند سطر معين، يقرأه بعناية، ثم يعود ليتطلع مرة أخرى إلى البرق الذي ومض بقوة يتبعه صوت الرعد.
حبات المطر الخفيفة تتشكل أمامه على أسفلت الطريق، يرفع غطاء الرأس فوق رأسه ليقي نفسه حبات المطر.
ينظر إلى البناية المقابلة، متطلعاً إلى النافذة بالطابق الثالث، لازالت الغرفة مظلمة وستائرها البيضاء مسدلة.
لا بأس سينتظر، لديه القابلية لأن ينتظر كثيراً، ولكن للأسف ليس هذه المرة، الآن ليس لديه كل الوقت، الوقت بالنسبة له لعنة تطارده وتضيق عليه الخناق، تضيق عليه المسافات وتحرمه من فعل الكثير من الأمور التي يراها في تلك اللحظة تحديداً هامة جداً، الوقت هو من يستطيع أن يجعل كل الأشياء غير الهامة في الأوقات العادية هامة جداً عندما يضيق الوقت الخناق.
يستطيع بقفزة واحدة أن يصل إلى نافذتها، هو موهوب بين أقرانه في قدرته الفائقة على القفز، فكل شخص في هذه المدينة لديه موهبة فريدة، هو يقفز لمسافات طويلة ولارتفاعات لم يسبقه إليها غيره.
الكثير من الأفكار والصور مرت برأسه، لم يقف عند أياً منها، ولم يشغل باله بتحليل أي صورة أو فكرة مرت بخاطره ولكنه تركهم جميعاً يمرون بسلام.
وضع المفكرة في جيبه، رفع عيناه مرة أخرى إلى النافذة عندما أضيئت الغرفة، أعاد عينيه إلى أسفلت الشارع مرة أخرى يتأمل حبات المطر التي أصبحت أكثر غزارة، يتجه إلى مدخل البناية، لا يوجد أحد بالمدخل وباب البناية غير موصد.
صعد الدرجات في سرعة، في ظل هذا السكون المطبق، انتظر أمام باب الشقة لدقيقتين، فتحت له الأبواب، ظل يتأملها للحظات، كأنه يتعرف عليها للمرة الأولى، كما لو أنه لا يعرفها، ملامحها المتوترة لم تغير في سكونه وجموده شيئاً.
هل كانت ستبدو أجمل لو كانت ملونة أم هي فاتنة كهذا في اللونيين الأبيض والأسود وشفتيها تتوهجان بلون أبيض ساطع، يبدو أنها وضعت هذا "الروج" مخصوصاً لاستقباله.
جذبته من يده إلى الداخل في ضيق، أغلقت الباب وراءه، خلع غطاء الرأس وهو يتجه إلى الأريكة في صالة البيت المريحة جداً، يجلس عليها، ينظر لكل ما حوله ببلاهة، أو تأمل لا معنى له.
تراوده الكثير من التخيلات الآن، تقترب منه، يدير عينيه إليها متسائلاً، تجلس أمامه لا تقول شيئاً، لاحظ حركة فخذها الأيمن المتوترة، أعتاد أن يراها على هذا النحو، حاولت أن تفتح شفتيها عدة مرات لتقول شيئاً ولكنها في كل مرة تتراجع عن ذلك.
نهضت من مكانها متجهة إلى المطبخ، أغمض عينيه مرة أخرى، شعور كلي بالإرهاق الشديد يجتاح كل كيانه، يشعر بانقباض شديد في كل عضلات جسده، عظامه بشكل غريب بدأت تئن ألماً.
أراح رأسه على ظهر الأريكة من خلفه وقد بدى أنه غط في نومٍ عميق، ولكن رأسه الذي يشتعل الآن بآلاف الأصوات، يسبب له ضجيج مزعج للغاية، يحاول أن يصم أذني عقله عن سماع تلك الأصوات الطنانة.
لا يفلح في ذلك، يعود لينتصب في جلسته مرة أخرى ويستخرج مفكرته الصغيرة من جيبه الأيمن، يقلبها مرة أخرى، يقف عند نفس السطر مرة أخرى، كأنه يريد أن يستنطقه ولكن لاشيء كالمرة السابقة.
عادت إليه بكوبي شاي ناولته أحداهما، التمس من الكوب الدفء، وهو يضمه بكلتا يديه، مسقطاً من يديه المفكرة الصغيرة، لفت نظرها المفكرة التي سقطت أرضاً.
مالت تلتقطها، حاول أن يمنعها ولكن رفضه لم يتجاوز حدود عقله، وجسده ظل في حالة رفض للامتثال لاعتراضه الداخلي، آثر الصمت وهي تجلس على الأريكة المقابلة له، تفتح المفكرة تتصفح ما فيها بحاجبين معقودين.
وضعت المفكرة على المائدة التي تتوسط المسافة بينهما وتتناول كوب الشاي الخاص بها في هدوء تشربه، تنظر إليه بتمعن، وهو يشرب من كوبه في حالة شرود تام.
لا تعرف ماذا تقول؟، لقد فات الأوان على أن تقول له أي شيء، لقد فعلها، ستعود وحيدة مرة أخرى، هل يجب أن تشعر بالسعادة أم يجب أن يداهمها شعور غامر بالحزن والكآبة؟، لا تعرف، ولكن ما تعرفه جيداً أنها أعتادت لعامين سابقين أن تجلس في هذا المكان وحيدة، على أريكتها هذه، تسجل كل حين في ذاكرتها الخاوية، مزيد من التشققات تصيب حوائط ذلك المنزل التعيس.
سمعا أبواق سيارة الشرطة تقترب حتى تتوقف أسفل بناياتهما، دموعها تناسب في صمت وهي ترشف من كوب الشاي، وضع كوبه على المائدة ونهض في تثاقل يتجه نحوها يميل عليها، لتشم منه رائحة الحزن.
يقبل جبهتها في حنو بالغ، ثم يتجه إلى باب الشقة يفتحه، لا يلقي نظرة أخرى عليها وهو يغلق الباب وراءه، لن تبكي كما بكت من قبل، لن تنهار كما أنهارت من قبل، ستظل في مكانها تشرب كوب الشاي وتترك لدموعها الحرية في أن تسيل في صمت تام، كما هو حال كل شيء في هذا البيت الصامت جداً.
تسمع صوت دربكة وخطوات تصعد وأخرى تهبط وبعض من الصيحات الرجولية ثم وقع أقدام تتجه كلها نحو النزول، أبواق سيارة الشرطة ترتفع مرة أخرى وهي تغادر المكان.
كان من الواجب أن تتجه إلى الشرفة تشيعه بالنظرات الأخيرة وهم يقتادونه إلى السيارة ولكنها لم تفعل، ظلت في مكانها وهو لم يرفع عينيه لأعلى ليشيعها بنظرة أخيرة لأنه كان يعلم جيداً أنها لن تكون هناك تقف باكية العينين تستند بيدين مرتجفتين على حافة الشرفة وشفتاها ترتعشان.
شعر بالأسف حيالها وحيال الشرفة! ولا يعرف لماذا شعر بالأسف حيال هذه الشرفة؟!، ربما لأنهما أمضيا بها أوقات جميلة كثيرة، كانت تمثل له النقاط المضيئة في ظل هذا الظلام الذي يغلف نفسه منذ فترة طويلة.
نظرت بكراهية إلى مفكرته الصغيرة، تلك المفكرة التي حرمتها منه، أسوأ عدو استطاع أن يحتال عليه ويسرقه منها، ويدفعه إلى فترات ظلامية كانت تحسبها عابرة ولكن يقيناً هذه المرة لن تكون عابرة كالمرة السابقة ولكن هذه المرة دائمة.
2017/5/4
القاهرة

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.