Horof

شارك على مواقع التواصل

ڤونوي-سيوغ-ڤِييَنْ- Vouneuil sur Vienne/ قرية في غرب فرنسا عام 732:
وصلتُ أخيرًا، بعد تكبدي لعناء المجيء سيرًا على الأقدام لكيلا تثير حوافر فرسي ضجة تفزع الحيوانات والطيور، فتضاعف من هلعي ووجلي، فأعود أدراجي دون أن أعرف مصيري.
لم يكن توجسي نتيجة دخولي للمرة الأولى إلى الغابة المسحورة، ولكن بسبب تضارب ذكريات كابوس الأمس المرعبة داخل رأسي.
وبعد ترددٍ طويلٍ، تقدمتُ نحو العرّاف المتكئ بجانب سنجابه الضخم، ثم أخبرته بأنني أتيتُ لرؤيته، لكي يقرأ لي طالعي، علني أطمئن وأكذب مخاوفي من رؤية سيفي البتارُ يُكسر إلى نصفين في كابوس البارحة. لكن وبدل أن يهدئ من روعي، أخبرني العرّاف بأنني سأقتل في المعركة التي ستدور بعد يومين، ليتحول خوفي إلى فضولٍ وتلهفٍ لمعرفة ما سينتظرني بعد الموت. فتمالكت رباطة جأشي، ورجوته أن يفصح لي عن جميع الأسرار حتى أخوض أخر معركة لي بثباتٍ وشموخ واعتزاز. فنكس رأسه برهة، ثم رفعه ببطءٍ وطلب مني الاقتراب أكثر، فسحبت قدماي بتثاقلٍ متجاهلًا نظرات السنجاب الفضولية التي كان يلهبني بسياطها ليوحي لي بأنه على معرفةٍ بكل تفاصيل مستقبلي.
بصمتٍ تامٍ راقبتُ العرّاف ومن وراءه ظله المخيف، يحرك كفيه حول الكرة البلورية ليريني ست شخصيات عبر عصور مختلفة:
 باريس/1951: كلود ليفي ستروس يكتب أشهر جملة في كتابه العرق والتاريخ: "ليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى".
 فيننا/ 1899: سيغموند فرويد ينقح للمرة الثامنة كتابه "تفسير الأحلام" الذي سيناقش فيه "عقدة أوديب" و"عقدة اكتارا"، اثنان من أهم نظرياته في التحليل النفسي.
 لندن 1874: ليساقاري يحكي لإلينورا ماركس، ابنة كارل ماركس، شهاداته التي جمعها من بعض الناجين في المنفى في لندن وسويسرا عن تاريخ فترة حصار باريس عام 1871.
 كردفان(غرب السودان)/1822: محمد بك الدِّفْتردار بصدد إعداد حملته الانتقامية ضد المك نمر، ملك الجعليين، لحرقه في مدينة شندي، الخديوي إسماعيل كامل باشا، ثالث أبناء محمد علي باشا عزيز مصر ومؤسس الدولة العلوية.
 باريس/ 1667: جان دولا فونتين، يكتب بالفرنسية البيت العاشر من قصيدة الأرنب والسلحفاة، إحدى قصص "كليلة ودمنة" التي عربها ابن المقفع عن اللغة الفارسية قبل أربعة قرون: "لا جدوى من الركض، المهم أن تنطلق في الوقت المناسب".
 فينيسيا/1202: إنريكو داندولو، يطلق الحملة الصليبية الرابعة، الحملة العسكرية التي ستنتهي بعد عامين بالاستيلاء على القسطنطينية من قبل الصليبيين وتأسيس الإمبراطورية اللاتينية في الشرق.
- عالِم أنثروبولوجيا، طبيب نفسي، قائد عسكري، صحفي، شاعر ودوق؟ هذا جيد لكن حلمي في حياتي القادمة هو أن أكون فيلسوفًا. هل بإمكانك أن تريني فلاسفة عظماء؟، استنكرتُ بنفاذِ صبر.
كان بإمكان العراف أن يرد على نبرة سؤالي الغاضبة، بكشف الحقيقة ليقص أجنحة أحلامي الطموحة. لكنه لم يفعل، بل واصل تمسيد رأس سنجابه ذو النظرة الفضولية برهةً، ثم حرك يداه الكبيرتان على الكرة البلورية ببطء ليريني أربعة من فلاسفة القرن الثامن عشر:
 السويسري جان جاك روسو، يطرح موضوع الضرائب والممتلكات والعقد الاجتماعي في مقاله "الاقتصاد السياسي".
 الفرنسي فولتير، منغمسًا في كتابة روايته الفلسفية " كانديد" التي سيثير فيها الجدال حول القدرية ووجود الشر.
 الإنجليزي فرانسيس بيكون، يؤسس لفلسفة جديدة قائمة على الملاحظة والتجريد والتي سيكشف بها فيما بعد عن غياب جدوى المنطق الأرسطي المعتمد على القياس.
 الألماني إيمانويل كانط، ينهي كتابه "نقد العقل الخالص" الذي سيؤدي إلى فتح باب الأدب المثير للجدل.
أدرت رأسي هربًا من عيون السنجاب الكبيرة التي كانت تتفحصني بفضولٍ، وبلعت ريقي بحسرةٍ ثم التفت ناحية وجه العراف الصارم لأخبره أن عصر التنوير ما يزال بعيدًا عن حياتنا اليوم في القرن الثامن، فرفع يده الضخمة ليبرم بها شاربه الأشيب دون أن يعقب على كلامي، فواصلت بنفاذ صبرٍ لأوضح له أمنيتي في تحقيق أمجادي الفلسفية في أقرب وقت يلي استشهادي في المعركة بعد غدٍ. ظل العراف يطالعني بصمتٍ طال حتى أصابني الممل، قبل أن يحرك كفيه العريضتين حول الكرةِ البلورية ليتنقل عبر قرونٍ أكثر قربًا ويعرض لي أربعة فلاسفة عاصروا حكم المسلمين في دولة الأندلس. طالعت الثلاثة الأوائل منهم بحياد:
 ابراهيم بن عزرا: يكتب "سِفْر ياشر" أحد تفسير كتب التوراة الخمسة.
 ابن رشد: ينهي كتاب " تهافت التهافت" للرد على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة".
 موسى بن ميمون: يكتب في كتابه "السراج والمشناه توراة" مبادي الإيمان الثلاثة عشر للديانة اليهودية، التي سيظهر فيها جليًا تأثره بعلم التوحيد وعلوم المتصوفة المسلمين.
لكنني توقفت طويلًا عند شخصية الفيلسوف الرابع، محي الدين بن عربي، وشعرتُ بقشعريرة تسري في كامل جسدي وأنا أقرأ أبيات قصيدته:

لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبـي إذا لم يَكُن ديني إلى دينهِ داني
وقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورَةٍ فمَرْعًى لغِزْلانٍ وديرٌ لرُهبــانِ
وبَيتٌ لأوْثانٍ وكعبةُ طائـــــــفٍ وألوَاحُ تَوْراةٍ ومُصْحَفُ قُـرآنِ
أدينُ بدينِ الحُبّ أنّـــى توَجّهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيمـــاني

ومن شدة الفرح الذي انبثقت من قلبي لم يستطع صوتي أن يخرج من حلقي، فاجتهدت واجتهدت في بلع ريقي حتى نجحت بصعوبة أن أطلب من العرّاف أن يوقف الكرة البلورية لأنني وجدت الشخصية التي أريد لروحي أن تتناسخ فيها في حياتي القادمة، فأدار العرّاف نظراته بين وجهي المترقب وبين عيون السنجاب التي جفلت وكأنه يوافق على ما سيقول سيده.
وفي تلك اللحظة خُيِّلَ إليّ أن الغابة المسحورة بأكملها بسناجبها الضخمة وخفافيشها المتوحشة وظلالها المرعبة وعناكبها وحشراتها الزاحفة وأشجارها المخيفة الشبيهة برؤوس الوحوش، قد سمعت كلمات العرّاف، وهو يخبرني بصوتٍ محشرجٍ عن المصير القاسي الذي ينتظرني في معركة بلاط الشهداء ببواتييه.
*****
غوني-سو-بوا-Rosny-sous-Bois/ مدينة شرق باريس عام 2022:
اليوم ما زلت مدانًا بسبب خطأ ارتكبته منذ ثلاثة عشر قرنًا، بعد إضاعتي فرصة الانتقال إلى الأبدية بسبب غفلةٍ أوقعتني في شراك الأنا ومن ثَم ضحية لقانون "السببية" أو قانون "كما تزرع تحصد"، أو قانون العدل الإلهي الشهير بقانون الكارما.
ففي نهاية المعركة، بارزتُ جنديًا موريسكيًا شرسًا طال قتالي معه أكثر من غيره، حتى كادت عضلات ذراعي تتمزق من قوة تبادل الضربات معه، لكنني تشجعتُ وضغطتُ على أسناني بشدة وسددتُ له ضربة نجحت معها في الإطاحة بسيفه قبل أن أسقطه أرضًا. وفي اللحظةِ التي رفعت سيفي لأغرزه في بطنه بصق في وجهي، فما كان مني إلا أن مزقت جسده بالطعنات رغم أنه كان قد مات من الضربة الأولى. وقبل أن التفت لأزهو بانتصاري لكرامتي جاءتني طعنة من الخلف أردتني قتيلًا.
لامست مشاعري نبرة الحزن في صوت سيدي وهو يشرح للمشتري كيف أنني كنت عزيزًا على قلبه، وبأنه لم يكن ليفرط فيني لولا اضطراره للانتقال إلى شمال السودان لمباشرة عمله الجديد كمهندس كهربائي في "سد مروي".
كان سيدي يتحدث بحماسٍ وهو يظن أن هذا المشتري سيشاركه فرحه الغامر بالحصول على هذه الوظيفة في إفريقيا، ويبارك له اقتراب رحيله عن فرنسا بعد حصوله على وظيفة العمر بسهولة لم يكن يتخيلها.
فبعد زيارته للمغرب قبل عامين وقضائه تلك الثلاث أسابيع في أحد تكايا الدراويش على حدود مدينة أغادير، ثم إقامته القصيرة في مدينة فاس بجوار ضريح الشيخ أحمد التجاني، ظل سيدي يواصل الحلم ليل نهار بأن يعيد خوض تجربةً مثيلة فريدة من نوعها مختلفة عن أسفاره القديمة التي تنقل فيها في غابات الأمازون بالبرازيل وفي جبال التبت. ومنذ عودته من أغادير أصبح كثير الكلام عن الصحراء مهوسًا بفكرة العودة إلى إفريقيا، وشرع من فوره في البحث عن فرصة عمل في مكان ليس فقط يرى فيه الشمس كل يوم، ولكن أيضًا يحرقه لهبها ويتصبب عرقًا تحتها ويشتد ظمأه لدرجةٍ تذكره نعمة الماء، فكانت تلك الوظيفة كالغيث الذي نزل على روحه العطشى بعد أن لقي فيها كل مواصفات أحلامه. أما فرحه الأكبر فكان عند اكتشاف أن رئيسه المستقبلي في العمل ينتمي للطريقة "التِّجانية"، إحدى الطرق الصوفية التي كانت السبب في تحوله من شخصية مادية بحتة إلى شخصية روحانية تحلم بالتحليق في ملكوت السماوات.
بالتأكيد لم يقص سيدي على المشتري تفاصيل تلك التجربة الروحية التي دفعته لبيع بيته، فقد كان مركزًا في مدحي وتعداد مميزاتي، لكن المشتري لم يتفاعل كثيرًا مع الحديث المسهب عن مكانتي العزيزة في قلب سيدي لأن همه الأكبر كان سماع الكلمة الأخيرة واتمام الصفقة لصالحه.
مرر سيدي يده على شعره الأملس عدة مرات. ولما لاحظ نظرات المشتري المصوبة إليه بترقبٍ ونفاذ صبر، أدرك أن عليه الإسراع في إعطاء كلمته الأخيرة، فأطلق تنهيدة ورماني بنظرة خاطفة قبل أن يبدي موافقته على طلب المشتري بخفض السعر عشرة آلاف يورو. ولما رأى تهلل وجه محدثه، وضع شرطًا أن يأخذ المشتري البيعة بأكملها: المنزل وحيوانات المزرعة. فالتفت هذا الأخير ليطالع الدجاجتين تزاحمان الأرنب الأبيض الوحيد في أكل قشرة بطيخ، ثم عاد يتفرس في وجهي مطولاً، بينما أصابعه تبرم شاربه الكثيف الشبيه بشارب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. ولما أبدى موافقته على قبول الشرط، وصلت ابتسامة سيدي حتى أذنيه قبل أن يقول بفخرٍ:
- صدقني، لن تندم على اختيارك، ليس فقط لأنك ستستمتع بالمنظر الخلاب لحديقة المنزل المطلة على حديقة الجولف الخلابة، ولكن أيضًا لأنك ستكسب وقتك الثمين لأنك ستصل إلى محطة قلب باريس "شَاتْلِيهْ- Châtelet" في خلال عشرين دقيقة فقط بفضل خط الميترو رقم (11)، الذي أفتتح الشهر الماضي بعد وصوله إلى مدينة "غوني-سوبوا".
لم يُعِر المشتري كلام سيدي اهتمامًا كبيرًا بل ظل يتفرس في وجهي بفضول وكأنه أحس بالمجهود الجبار الذي أبذله لكي أمنع دموعي من الانسياب عندما مسح سيدي على أذناي الطويلان بحنانٍ قبل أن يقول:
- أقسم لك بأنني ما كنت لأترك حماري الوفي الذكي لولا علمي بأنه لن يتحمل العيش تحت شمس السودان الحارقة التي تتجاوز الأربعين معظم أيام السنة.
ظل المشتري يتفرس في وجهي وكأنه يبحث عن شيءٍ ضائعٍ فيه، بينما سيدي يواصل:
- هل تعلم أن هذا الحمار حفيد حميرٍ أخرى عاصرت أجدادي منذ قرون؟
هز المشتري كتفيه بدون اكتراث، فواصل سيدي بحماسٍ:
- لذلك أردت أن أتركه يواصل العيش في المكان الذي وُلِد وعاش فيه طوال حياته.....
- انتظر قليلًا من فضلك...
قاطع المشتري سيدي الذي جحظت عيناه خوفًا من فشل البيعة، لقد اتفقنا على أن اشتري البيت بما فيه، ولكنني لا أعدك بأن أترك هذا الحمار يواصل العيش هنا، لأنني قد أنقله ليعيش مع بقية حيوانات الحظيرة التي أرعاها في قريتي " ڤونوي-سيوغ-ڤِييَنْ".
انتصبت أذناي الكبيرتان عند سماع اسم القرية التي فقدت فيها مظهري الإنساني قبل ثلاثة عشر قرنًا، وشعرت بفيض من مشاعر متناقضة ينساب في جسمي ويتحرك في أحشائي بحركات لولبية، دغدغتني بشدة وأنستني أحزاني القديمة، بل وحتى الجديدة التي رافقتني طوال أسابيع بعد تلقي سيدي خبر انتقاله للعمل في شمال السودان.
وأحسست بها جميعًا تتحول إلى افراح مع اشتداد ومضة الأمل الذي طال انتظاره وأنا أحلم بالعودة إلى قريتي لرؤية أحفاد أحفادي من بني البشر. شعرتُ وكأن فراشات تدغدغ معدتي وأنا أتخيل كيف سيتعرفون عليّ إذا ما رأوا حنان عيني والشوق العميق الذي احتفظت به لهم بداخلهما طوال ثلاثة عشر قرنًا.
لكن فجأة تذكرت عجزي وإعاقتي، فعاد الحزن يتملكني. آه لو كنت أسطيع الكلام، ليس فقط لكي أنجح في التخاطب مع أحفاد أحفادي إن جلبتهم الأقدار إلى حظيرة المشتري "ڤونوي-سيوغ-ڤِييَنْ" أو إن قاطعتهم في أحد الطرق الزراعية في القرية. كنت أتمنى لو أسطيع الكلام في هذه اللحظة بالذات، ربما الأخيرة التي أرى فيها سيدي، حتى أخبره بأنني لست مجرد حمار مسكين، وإنما جندي شجاع حارب ببسالة في موقعة بلاط الشهداء بالقرب من بواتييه، الموقعة التي أوقفت تقدم " المور" ومنعت تقدم الفتح السلامي في بلاد الغال.
كنت أتمنى إخبار سيدي أني لم أعد حزينًا على اتخاذه قرار الهجرة للعمل في أفريقيا، وبأنني في قمة الفرح بهذه العودة إلى مسقط رأسي، علني أتخلص فيها من قسوة قانون الكارما الذي لحق بي عندما قتلت نفسًا ليس من أجل الدفاع عن الوطن، وإنما من أجل الانتقام لكرامتي، وعزة نفسي. ووهمِ الأنا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.