Horof

شارك على مواقع التواصل

عطبرة 2017
" آه من المنفي
ومن تعب الرحيل بلا...قرار
آه من الظلم الذي قلب الفيافي إلى...قفار
فمتي يعود ربيعنا؟ ومتي نرد حقوقنا؟
لنعود في فرح الصغار إلى ....الديار "
في كل مرةٍ كان يُلقي على أسماعي هذه الأبيات، كنت أشعر بغيرةٍ شديدةٍ، لعدم امتلاكي لنصف ما يكنه لبلده الأم من وطنية، وبخوفٍ كبير من أن أفقده يومًا إذا ما قرر تحقيق وعده لنفسه بالعودة إلى أرض أجداده، أرض هجرة الصحابة الأولى في الحبشة: مدينة مُصَوَّع.
ولأن المخاوفَ تتحقق أكثر من الأحلام، جاء اليوم الذي كنت أخشاه بأسرع مما توقعت، فلم نكد نُنْهي دراستنا في جامعة جازان حتى جاء صديق عمري ليخبرني بقرارهم ترك المنفى والعودة إلى الوطن، فحزنت حزنًا عميقًا شككني في وعده بأننا سنلتقي يومًا ما في مُصَوَّع ، ومنعني من فهم كلماته الرنانة المتغزلة المتغنية برائحة وتراب وهواء وطن الجدود، وأصابني بتشتتٍ كبيرٍ وضياع، لأن الوطن الوحيد الذي كنت أعرفه هو مدينة جَدَّة حيث وُلدتُ وتربيت وتسكعت بين شوارعها وكونت أعمق صداقتي بين حاراتها وبين أفنية مدارسها بجميع مراحلها: ابتدائية وإعدادية وثانوية، ولم أكن مثل صديقي على علاقة بوطن أجدادي، فهو ينزل سنويًا في الإجازة الصيفية، ويرى جدته ويسمع حكاياتها ويعود وعلى عنقه واحدة من تمائمها التي تحمي من العين والحسد والسحر والأمراض، بينما أنا لم أزر عطبرة في حياتي إلا مرتين لا أتذكرهما لأنني كنت طفلًا، ولم يكن لدي أجداد يربطوننا بالوطن: فجداي لأبي فارقا الحياة قبل زواج والداي، وجداي لأمي توفيا أثناء زيارة لهما في المملكة إثر حادث حركة بين الرياض والدمام، في نفس اليوم الذي كانت أمي تخرجني فيه للدنيا بإحدى مستشفيات الولادة بحي الكندرة بمدينة جَدَّة.
قضيتُ ليالٍ طوالٍ أشكو للبحر فيها قسوة قلب صديقي الذي رحل وتركني بمفردي، إلى أن فقدتُ الأمل في إقناعه بالعودة، فتوقفت عن ذرف الدموع وقررت مواصلة رحلة حياتي بمفردي. لكنني لم أكد أنجح في ترويض حزني وأنغمس في البحث عن وظيفة، حتى جاء أبي وفجر في داخلي حزنًا أخر، عندما أخبرني بتلقيه خطاب إقالته من شركة تحلية مياه البحر، التي عمل فيها أكثر من 30 عاماً، وأن عليه ترك المملكة في أقرب وقت. ولما أفقت من المفاجأة كنت قد حسمت أمري، فأخبرت أبي بأنني سأتخلف عنهم وأبقى حتى أقدم وأحصل على الجنسية السعودية، فابتسم بسخرية وقال هازئًا: كان غيرك أشطر يا ولدي، فشعرت بالإحباط لكنني لم أرد عليه، وظللتُ أراقب بألمٍ نظراته الحزينة الكسيرة تجول في المكان وكأنها تتحسر مسبقًا على زخم ذكريات حياةٍ بأكملها. أخرجني من سهومي في تجاعيده بقوله واثقًا ألا خيار لديَّ سوى العودة للسودان وإيجاد عقد عمل هناك يمكنني من الرجوع للعمل في المملكة، ثم نهض.
بالرغم من أن كفيله كان قد أعطاه مستحقاته كاملة دون أن يبخسه حقوق نهاية خدمته كما فعل سعوديون آخرون مع أصدقاءٍ له سودانيين وغير سودانيين، إلا أن أبي أصر على أن نسافر بالباخرة بحجة توفير ثمن تذاكر الطيران المبالغة في الغلاء لكونها ذهاب بلا عودة. وما هي إلا أيام معدوداتٍ حتى تركنا جَدَّة وراءنا، وأبحرنا في اتجاه الغرب نحو سَواكِن، من نفس المكان الذي أبحر منه صديقي إلى مُصَوَّع. لحظات عصيبة عشتها على شاطئ جدة، لم تنجح محاولاتي في التنفس بعمق وملأ رئتاي بهواء البحر من إعانتي على حبس دموعي، ولم ينجح تشاغلي بمراقبة أسراب النوارس المحلقة حول الباخرة من تخفيف حدة خناجر الألم في صدري، كما لم تنجح تخيلاتي لرحلة بحثي المستقبلية عن وظيفة في الخرطوم عن تخفيف الشعور بالغثيان جراء إصابتي بدوار البحر، إلى أن اكتمل قرفي ويأسي برسو الباخرة على ميناء عثمان دِقْنة عندما فجر والدي مفاجأة أخرى في وجهي، بأننا لن نذهب إلى الخرطوم، بل سنبقى في سواكن أيام قبل أن ننتقل لمحل إقامتنا الدائمة في عطبرة. وعندما أبديت استنكاري بالتعبير أن فرص التعليم لأخواتي والعمل لي ستكون أوفر في العاصمة الخرطوم، أجاب بدون تفكير، معللًا أن المعيشة في عَطْبرة أرخص منها في الخرطوم، ثم أضاف معترفًا بمخططه لقضاء بقية حياته في مكان ذكريات طفولته وصباه ودراسته في مدرسة عطبرة الأميرية، ففتحتُ فمي لأعترض، لكنه لم يعطني الفرصة، وواصل تفاخره بمدرسته العريقة التي أضاف لعراقتها شرف أن الزعيم إسماعيل الازهري، رافع علم استقلال السودان، قد عمل بها مدرسًا للرياضيات في يومٍ من الأيام.
والتهبت كتلة الغضب داخل أحشائي، وتلولبت مشاعر الحقد في صدري حتى كادت تصرعني، وأنا أراقبه يتفاخر بدون خجل ليكشف غدره بي الآن، بينما قبل أيامٍ سخر من فكرتي البقاء في جدة، ليقنعني ألا خيار لي سوى مرافقته. وظللتُ أنظر إليه بغيظٍ يتنامى، ورغبةٍ في الصراخ بل الانتقام. ولولا ختم "خروج بلا عودة" الذي طبع على جواز سفري، لكنت هربتُ منه في التو واللحظة، ورجعت إلى جدة بنفس الباخرة التي جلبتني من هناك لأثبت له أنني لم أعد طفلًا ليغفلني بتلك الطريقة.
ومع تفاقم المرارة في حلقي واستشعاري للسلاسل التي تكبلني، لذتُ بالصمت، وبيتُ تنفيذ خطة انتقامي لاحقًا، مقررًا التخلف عنهم في الخرطوم وتركهم يواصلون طريقهم إلى عطبرة بمفردهم.
لكن المفاجأة الثانية أتت سريعًا لتتفجر في رأسي كقنبلة، عندما سمعته يوضح لأمي، التي أرادت زيارة مدينة كسلا لرؤية جبل تُوتِيل، بأننا سنسلك طريق هَيَا-عطبرة وليس طريق كسلا، تجنبًا للمرور بالخرطوم لتفادي تحمل نفقات هدايا إضافية لأهله وأصدقائه المقيمون في العاصمة.
ولما طفح كيل إحباطاتي المتتالية، قررت توجيه غضبي نحو الاستفادة من إقامتي في سواكن، وترك المستقبل لحينه، خشية أن تنفلت مني كلمة اعتراض استحق بها النعت بقليل الأدب. فانسحبت من فوري لأسير بلا هدىً في الشوارع، لأكتشف بقايا العهد العثماني منذ عام 1517على المدينة التي مثلت القاعدة العسكرية للحملة العثمانية على اليمن عام 1629. وفي اليوم الثاني، واصلت انتهاج الصمت والانسحاب، وخرجت منذ الفجر لزيارة أطلال منازل جزيرة سواكن المرجانية في وسط البحر الأحمر، التي مثلت مركزًا بحريا للدولة العثمانية وضمت مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821-1885، قبل اندلاع الثورة المهدية. وعند عودتي قبل غروب الشمس، أخذت أختاي في نزهة، فأنساني فرحهما حزني، فقاسمتهما الاستمتاع وهما تطلقان صرخات الدهشة والإعجاب تارة من مجموعة أطفال أثاروا الغبار بلعبهم حفاة الأقدام بكرةٍ مصنوعة من القماش المهترئ، وتارة من مجموعة أصغر سنًا كانت تتناوب على الصعود والسقوط من ظهر حمارٍ هزيلٍ مربوطٍ بجوار منزل كئيبٍ توشك جدرانه المنخفضة المصنوعة من الطين "جالوص" على التداعي.
فكانت تلك من أجمل اللحظات التي عشتها بعد رحيلنا عن جَدَّة، رافقتني حتى أسابيع بعد وصولنا إلى عطبرة، وأنسي حقدي على أبي. لكن بعد مرور شهرٍ، وإدراكي نسيان حلمي بالعودة للملكة، بسبب انغماسي في مرافقة والدي للتعرف على أقاربه المتفرقين بين أحياء عطبرة (أمبكول، الداخلة، الحصايا، المربعات، السيالة، حي السكة حديد، الامتداد الشرقي وحي خليوة)، قررت التوجه إلى الخرطوم.
وأخذت القطار في صباح الثالث من رمضان، الموافق للتاسع العشرين من شهر مايو، تاريخ تحفظه ذاكرتي وقلبي، لاحتفالي به كل عام مع صديق حياتي بعيد ميلاده الذي صادف انتهاء حرب التحرير الإريترية من اثيوبيا عام 1992، ما جعل أمه تسميه عواتي على القائد الثوري ومؤسس الكفاح المسلح الاريتري ضد الاحتلال الأثيوبي، حامد إدريس عواتي.
اخترتُ مقعدًا بجوار النافذ أنشد هواءً يبدد إرهاقي، ليس فقط بسبب افتقادي لصديقي عواتي في هذا اليوم، ولكن أيضًا بسبب روائح ساندويتشات الطعمية بالجبن والفول بزيت السمسم والبيض المسلوق التي كان يلتهمها الأطفال بشراهة، التي ذكرتني بأنني لم أنهض للسحور الليلة الفائتة. وأخرجت هاتفي النقال وتلهيتُ عن حالتي بلعبة "كلاش أوف كلانس"، ولم يخرجني من انسجامي مع العالم الافتراضي إلا جلوس رجلٍ سبعيني بجواري، فرفعت رأسي ونظرت إليه فألقى عليّ تحية الإسلام وجلس. فرددت عليه تحيته وأعدت عيناي إلى لعبتي، دون أن يفوتني ملاحظة جلابيته البيضاء وعمامته الضخمة وكومة صحف يومية كان يمكسها بيده اليسرى، لكنه لم يتركني في عالمي، إذ شرع فور استراحته على مقعد بتعريف نفسه: النور الحلنقي، فأغلقت هاتفي، وسألته بدون تفكير إن كان يقرب للشاعر إسحاق الحلنقي.
أردتُ التباهي بثقافتي في الشعر السوداني، فكانت النتيجة شعوري بالإحراج من نظرات الركاب الذين التفتوا ناحيتنا عندما أطلق الرجل ضحكةً مجلجلةً، ربت بعدها على ركبتي عندما أحس بخجلي ثم خلع نظراته الطبية وشرح لي أن الشاعر كاتب كلمات "هجرة عصافير الخريف" التي غناها الفنان محمد وردي، ينتمي إلى قبيلة الحلنقة، إحدى قبائل البِجا المقيمة في ولاية كسلا ولا علاقة له بمدينة عطبرة، حيث ولد هو ونشأ وعمل طوال حياته بهيئة السكة حديد.
اعتذرت ثم عللت أن فقر معلوماتي في الثقافة السودانية يرجع لكوني عشت طوال سنوات عمري الخمس وعشرين خارج السودان، فأعاد وضع نظارته الطبية وكأنه تعمد استعادة شكله الجاد لينصحني بوجوب معرفة تاريخ وطني الذي سيرافقني كهوية تجري في دمي مهما تغربت وأينما توجهت، فعقدت يداي أمام صدري ولم أقل شيء، فكانت تلك فرصته ليعتبرني كحفيدٍ غشيمٍ ليقص عليّ تاريخ السودان ابتداءً من حقبة ما قبل التاريخ بنبذةٍ عن إنسان سِنجة ثم عن الممالك القديمة الكوشية (كوش ونبتة وكرمة ومروي) فالنوبية (المَقَرة وعَلَوة ونوباتيا) ثم الإسلامية (السلطنة الزرقاء ومملكة دارفور ومملكة المُسَبَّعات) قبل أن ينتقل لفترتي الحكم العثماني ثم الثورة المهدية، ثم الاستقلال عن المستعمر الإنجليزي، ليختم بثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985.
وبعد انتهاء حصة التاريخ انتقل لحصة الشعر السوداني ليحدثني عن مفتاح الفَيْتوري وإدريس جماع ومحجوب شريف، قبل أن يعرج إلى الفنانين ليكلمني عن سيد خليفة وعبد العزيز محمد داؤود وخِضِر بشير وأحمد المصطفى، ثم يتوقف أكثر مع العَطْبَراوي وأغنيته "أنا سوداني"، ثم، وكأنه أراد أن يرتاح عن الكلام، طلب مني أن أكلمه عن ميولي الأدبية والرياضية والفنية، فتنهدت ثم أخبرته بأن أفضل رواية قرأتها هي "العصفورية" لغازي القصيبي، وبأنني أشجع فريق الأهلي السعودي، وأعشق أغنية "تصدق ولا أحلف" للفنان طلال مداح، فحدجني بنظرة عتابٍ ثم قال:
- كلهم سعوديين؟ ما في للسودان مكان في هواياتك؟
فلذتُ بالصمت لما لم أجد ما أقول، فابتسم بحنان وطمأنني بأن الأوان لم يفت بعد، ثم نصحني بعدم تضييع فرصة قراءة "موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" و" وضو البيت بندر شاه"، روايات ستجعلني أحب ليس فقط الطيب صالح، وإنما السودان الذي حكى عنه في تلك الحقبة.
في تلك اللحظة نشب شجار بين شابين كان أحدهما يقسم بأن "الهِلالاب والحوَّاتة" هم أفضل من "المِريخاب" والثاني يحاول تهدئته، فسألته عن معنى "الحوَّاتة"، فخلع نظارته الطبية وابتسم بحنان أبوي، قبل أن يشرح لي، لأصغي له بكامل حواسي وكأن قلبي كان يدرك بأنني سأحتاج لتلك المعلومة بالذات في المستقبل لتستقيم معها حياتي، وأكف عن اللهاث وراء حلم العودة إلى المملكة.
***
الخرطوم 2019
هذه هي المرة الثانية التي آتي فيها إلى الخرطوم برفقة موكبٍ على قطار عطبرة، الشهير بـ"قطار الشوق"، نسبة للأغنية التي غنتها له فرقة البلابل في السبعينات. لكن رحلتي هذه المرة لم تكن صدفة، كما حدث في أبريل، فقد رتبتُ لها منذ أسابيع لها وتلهفت لخوض تجربتها بحثًا عن الانتماء، لذلك لم أشعر بمشقتها، واستمتعت بكل لحظة فيها بينما القطار يشق بنا الصحاري الملتهبة بأشعة الشمس الحارقة، إلا أن لاح في الأفق شفق الأصيل مع اقترابنا من الخرطوم، فاكتمل فخري بنفسي، وتفتحت مسام دواخلي لتستقبل ذلك الشيء الجميل الذي همس به شعوري منذ شروق شمس هذا اليوم، ملحًا بأن حدثًا مميزًا سيحدث لي في هذا اليوم. واختال القطار وهو يمشى الهوينى قبل دخوله إلى ميدان "شَرْوَني" بوسط الخرطوم. وكما تلقاه الثوار في شهر أبريل، بالهتافات وهو يشق الجموع ليصل إلى القيادة، استقبلته جموع اليوم بهتافات الفرح:
"فوق فوق...سودانا فوق"
" البلد دي حقتنا....مدنية حكومتنا"
ظل رأسي يدور كالمروحة يطالع الجموع في الخارج تارة، وتارة يعود ليتفرس في حماس الركاب بجواري وهم يغنون أغنية حسن خليفة العطبرواي "أنا سوداني أنا" التي لم يلقنني لها حاج النور الحلنقي، كما لقنني قصة "الحَواتة"، فاكتفيتُ بتوزيع البسمات والتصفيق وإطلاق الصفافير. وفجأة لمحتها بين الجموع تحرك شفتيها المكتنزتين بالهتافات فتتحرك معهما صور العلمين المرسومين على خديها، فقفز قلبي داخل صدري قفزة أوقفت يداي عن التصفيق، وأعادت إليّ شعور الصباح الملح بأن شيئًا جميلًا سيحدث لي هذا اليوم، فقفزت من فوري وزاحمت الركاب لأترجل عن القطار خشية أن أضيعها وسط زحام البشر، الذين توافدوا من مختلف أحياء مدن العاصمة المثلثة للاحتفال بهذا اليوم التاريخي.
ومع كل خطوة كنت أتقدمها نحوها كنت أحس بتزايد خفقان قلبي، دون أن أعرف إن كان السبب كتلة الوطنية التي كانت تفوح منها أم لسحرها الذي كان يشدني إليها كمغناطيس. كانت جميلةً كملكةٍ فرعونيةٍ بسمرتها اللامعة وضفائرها المرفوعة على رأسها كتاج نفرتيتي، تشترك مع البنات من حولها في لبس الثوب الأبيض، رمز الأمل والحرية. لكن رغم ذلك لم يكن جمالها فقط ما لفت انتباهي إليها، وإنما طريقة انحناءة رأسها وتمايلها كفرع شجرة بانٍ لينة وهي تتأبط ذراع صديقتها الأبنوسية ممشوقة القوام.
حتى صديقتها كانت لافتة للأنظار لكونها الوحيدة التي كانت ترتدي زي " اللاوا" ، وكأنها باختيارها له أزرق اللون تعمدت التذكير بمبادرة أزرق من أجل السودان، التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي أيام قطع الإنترنت عن السودان شهرًا كاملًا بعد مجزرة القيادة العامة.
بقلبٍ خافقٍ وروحٍ تنبض بالأمل ولسانٍ يهتف مع الهاتفين " فوق، فوق...سودانا فوق "، تجاسرت وتقدمت أكثر، لكن عندما أصبحت على بضع خطواتٍ منها تملكني إحساسٌ بالخوف هزمته بصعوبة لأقترب أكثر، لأبادرها بقول "مبروك للسودان"، فردت بسرعة: "الله يبارك فيك" ثم ابتسمت لتغرس سهمًا آخر من سهامها في قلبي، فأسكرتني ابتسامتها ومسحت عني آثار جميع خيباتي وأحزاني الماضية التي تلت انتزاعي من محيط ذكرياتي في جدةَّ.
ولم أفق من سُكري إلا عندما هتفتْ "مدنيااااو". فهتفت معها وقلدتُ حركة النصر التي رسمتها بأصابعها ليغرس طلاء أظافرها الزهري سهمًا جديدًا في قلبي.
لكن عندما أشاحت بوجهها عني ناحية صديقتها، انتابني شعور بالحزن والإحباط لإدراكي لفشلي في لفت انتباهها لما أحدثته في داخلي بوجهها الصبوح النابض بالثورة، وبابتسامتها الآسرة المليئة بالأمل، وبطلاء أظافرها المبهج. فقررت فتح حوارٍ أخرٍ بدأته بافتعال كحة هزمت بها ترددي لأسألها عن سبب رسمها لخريطة السودان القديمة وعليها علم السودان فوق خدها الأيمن، فأجابت عنها صديقتها: "عشان نحن شعب واحد، وعمرنا ما انفصلنا"، فتجاهلتها ونظرت في عيني فاتنتي وطلبت منها توضيح دلالة الألوان الأفقية الثلاثة المرسومة على خدها الأيسر، فإذا بصديقتها تنحني ناحيتها لتستنكر:
- شكله شهادة عربية، معقول ما بيعرف علم السودان القديم؟
ولم أدرِ أهي جملتي: "علم إيش هذا؟" هي ما أعلمتها بأنني لم أدرس في السودان، أم هو فشلي في التعرف على العلم الذي رفعه الزعيم إسماعيل الازهري بعد الاستقلال عن المحتل الإنجليزي.
ولكي أدرأ عني الشعور بالإحراج، اعترفت بسرعة بأنني شهادة عربية، ثم أضفت بتحدٍ موجهًا حديثي لصديقتها، بأنني أحب السودان أكثر منها، فنظرت في عيني وسألتني، وكأنها كانت تعرف أن من يولدون ويعيشون طفولتهم بالخارج، كما يحرمون تمريغ أقدامهم الصغيرة بتراب الوطن، يحرمون فرصة حفظ النشيد الوطني، إن كنت أحفظ "نشيد العَلَم". فأحسست بهزيمة رفعت مستوى الأدرينالين في دمي، لكنني تملكت رباطة جأشي ونقبتُ في ذاكرتي إلى أن نجحت في استحضار الكلمات، ثم هتفت بسرعة خشية أن تتبخر عني:
نحن جند الله جند الوطن
إن دعا الداعي الفداء لن نخن
نتحدى الموت عند المحن
ثم توقفتُ متلعثمًا، فإذا بالجموع تنقذني وتكمل النشيد حتى النهاية، شاركتهم فقط، لعدم حفظي لبقية النشيد، بتصفيقٍ متحمسٍ عند ختمهم له بـ:
يا بني السودان هذا رمزكم
يحمل العبءَ ويحمي أرضكم.
بلعتُ ريقي بصعوبة والتفت بانكسار ناحية فاتنتي فوجدتها تطالعني بنظرات دعمٍ أزاحت عني الشعور بالنقص وملأتني بثقةٍ تضاعفت بمواساتها لي:
- ما مشكلة شهادة عربية أو سودانية كلنا سودانيين وثورجيين. ولا إنت ما ثورجي؟
تفرستُ في وجهها المليح بوجلٍ ألجم لساني، وأطال صمتي، فاقتربت مني خطوة أثملتني عندما شممتُ عبير عطرها القرنفلي، ولم أفِق من سكرتي إلا عندما أعادت سؤالها، فترددتُ ولم أُجِب، خشية أن تتمادى وتسألني عن دوري في الثورة.
وكأنها أحست بما يدور بخلدي، تناست سؤالها وعرجت لموضوع ألوان علم السودان القديم (الأزرق والاصفر والأخضر)، وأشارت إلى خدها وهي تشرح بأنها دلالة على اتحاد النيل والصحراء والغابة، فتنفست الصعداء وشكرتها بامتنان، فابتسمت بدلال، فتشجعت وقدمت نفسي: "مُصعب"، فجفلت برموشها الغزيرة وقالت: "تشرفنا"، ثم التفتتْ وبدأت بتقديم صديقتها الجنوبية: " أَشُول دينق"، قبل أن تعرف نفسها: "شروق الموصلي"، فرقص قلبي فرحًا وأنا أنطق: "تشرفنا"، وتنملت أطرافي لهفة لمواصلة الحوار وأنا أسألها إن كانت جاءت من بعيد للاحتفال بيوم فرح السودان، فرفعت يدها اليسرى ومسحت جبينها وهي تجيب:
- من بعيد جدًا، من حي الحِتَّانة شمال أم درمان.
فاجتهدت لنزع بصري من طلاء أظافرها لأنظر في عينيها وأخبرها بفخرٍ بأنني أتيتُ من أبعد من ذلك، من عطبرة: مدينة الحديد والنار.
فإذا بصديقتها تلوي شفتيها قبل أن تستنكر أن أكون "عطبراوِيًا" وأجهل دلالة ألوان علم السودان القديم، فشعرت بهزيمة حقيقية دفعتني لتنكيس رأسي، فهرعت فاتنتي لتنقذني من شراسة صديقتها، بتكرار سؤالها، بعد أن غمزت لي، عما إذا ما كنت ثوريًا، فدفعتني شلالات الأمل التي تدفقت في عروقي مع تلك الغمزة، لأن أنطق بـ" نعمٍ" واثقة، وأضيف، وأنا أسدد نظرات التحدي لصديقتها، بأنني ثوريٌ حتى قبل أن أولد منذ أكتوبر 1964 وأبريل 1985، لكن عندما قلبت صديقتها شفتيها مبديةً استعجابًا، تملكني خوفٌ من أن تتمادى وتسألني عن دوري في ثورة ديسمبر.
فعندما انطلقت الثورة من مدينة عطبرة كنت مشغولًا بمشروع البحث عن عقد عملٍ يعيدني إلى المملكة، ثم رويدًا رويدًا تناقص اهتمامي بذلك المشروع منذ اليوم الذي جئت فيه صدفةً في موكب أبريل، الذي فجر في نفسي حلم أن أصبح وطنيًا مثل أولئك الشباب، فأعود أنتمي بصدقٍ لهذا الوطن، فأنسى حلمي الوهمي بالانتماء إلى المملكة. فقد تعرضت ذلك النهار من شهر أبريل، لأول صدمة عند رؤيتي لاتحاد حماس الجموع من حولي، ابتداءً من انطلاق القطار من عطبرة، مرورًا بتوفقه في مدينة شندي بعد أن قطع عليه السكان المحليين الطريق لكي يمدوا الثوار بالطعام والماء، وصولًا إلى ضواحي الخرطوم بحري الشمالية (الكدرو، والدروشاب، والإيزيرقاب، والحلفايا، وشمبات)، عندما تلقته جموعٌ أخرى تباركه بالدعوات الصالحات وتشيعه بالهتافات المتحمسة، وانتهاءً بوصوله إلى محطته الأخيرة، وهو يخترق الحشود الواقفة على جسر النيل الأزرق، المتناوبة في الهتافات:
" شرقت شرقت....عطبرة مرقت"
" حرية سلام وعدالة....الثورة خيار الشعب"
الدم قصاد الدم ...ما بنقبل الدِّية"
في ذلك اليوم شعرتُ بانتماءٍ حقيقيٍ لهؤلئك الشباب بأفراحهم وهتافاتهم وأحزانهم ودموعهم التي كانوا يذرفونها، وهم يتعانقون ليبكوا بحرقةٍ على أرواح شهداءٍ سبقوهم إلى جنات الخلد بعد أن مهدوا لهم طريق الحرية.
خرجتُ من سهومي على صوت فاتنتي يهتف "مدنياااو"، فتنفستُ الصعداء وابتسمت، ثم تشجعت عندما بادلتني بابتسامة سخية، وسألتها إن كانت تقبل دعوتي لها لتناول العشاء سويًا، فتدخلت صديقتها المتربصة ووضعت شرط أن أجيب على سؤالٍ أخير حتى تقبلا دعوتي، فشعرت بالإحباط مع إدراك استحالة الانفراد في وجود تلك الصديقة الأبنوسية، الشبيهة بالملكات المحاربات في مملكة كوش القديمة.
أدخلت يدي في شعري بتوترٍ، وأطلقتُ زفرة ضجرٍ، ثم تشجعتُ، عندما لاحظت أن فاتنتي تكتم ضحكة وكأنها أحست بأن كيلي قد طفح، ووافقت على شرطها بشرط ألا يكون السؤال صعبًا.
لكنه كان سيكون كذلك لولا قدومي إلى العاصمة بقطار الثالث من رمضان قبل عامين، فما أن سألتني أشول دينق الأبنوسية، إن كنت أعرف من هو الحوت، حتى عادت إلى ذاكرتي تفاصيل ذلك الشجار الذي جعل حاج النور يشرح لي معنى كلمة "الحَوَّاتة": محبي الحوت. فأحسست بروحي ترقص وأنا أمتن للقدر، واستشعر انتصاري أخيرًا على شراسة صديقة فاتنتي، لكنني تعمدت إطالة صمتي حتى أوهمها بتفوقها عليّ، فإذا بها تتعجل الالتفات لتهمس لفاتنتي:
- مش قلت ليك الولد داحنكوش ؟ صدقيني انتي كنداكة ولازمك ثورجي أصيل زي ترهاقا مش واحد شهادة عربية.
فدفعتني شدة نشوة الانتصار للدوران دورتين رفعت معها يداي بحماس قبل أن أدندن بثقة:
"دي مدينة جوبا، أجمل مدينة
طيارة قومي، للجمال وَدِّينا"
وإذا بهن الاثنتان تضعان أيديهما على أفواههما دهشةً من أن أكون على دراية ليس فقط بأن "الحوت" هو الفنان محمود عبد العزيز، ولكن أيضًا أن أكون حافظًا لكلمات الأغنية التي تغنى فيها الفنان بجمال مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان منذ الانفصال عام 2011. وإذا بالجموع تتضامن معي للمرة الثاني وتكمل غناء أغنية "جوبا" قبل أن تتبعها بكلمات هذه الأغنية:
من حلفا لي نمولي....من نمولي لي حلفا
مليون فرح مكتوب ....على حضنه ندفا
وعاد الصمت يكبلني، فلم أكن قد سمعتُ من قبل لا بهذه الكلمات ولا بذلك اللحن الذي كان الكل يردده بانسجامٍ وحماسٍ ونبراتٍ مملوءة بحنينٍ جعلني أتوق بصدقٍ لأن أكون سودانيًا حقيقيًا. صدح صوت فاتنتي مع الجموع عند اختتام الأغنية بـ:
" بالصرخة أو بالهمس....الحق دا ما بِخْفَى".
فوجدتني أقلدها برسم علامة النصر وأهتف بأعلى صوتي "مدنياااو" لتتجاوزني قشعريرة أكدت لي أن هناك تحولٌ آخر يحدث بداخلي ليعلمني أن حمى حب السودان متفشية في روحي كتفشيها في الكل من حوليي شماليون وجنوبيون ما يزالون يعتبرون أنفسهم شعبًا واحدًا رغم انفصال البلدين منذ أكثر من ثمانية أعوام، وليتضاعف انبهاري عندما تحولت الهتافات إلى مطالبة بعودة جنوب السودان إلى شماله ليعودا بلدًا واحدًا كما في السابق بعد سقوط جدار برلين، كناية على سقوط حكم "الكيزان". وسيرافقني ذلك الانبهار طوال تلك الليلة حتى بعد ذهابنا إلى مطعم " التُّكُل " في سوق "نِمْرة اتنين" لتناول العشاء مع فاتنتي.
ولم أفِق من تلك المفاجآت، إلا بصدمة جديدة، عندما أخبرني فاتنتي أنها بصدد إنهاء أطروحتها في ماجستير التاريخ التي تتناول فيها دراسة المستعمرات الإيطالية في شرق أفريقيا، قبل أن تسألني إن كنت أوافق على مرافقتها في رحلتها العلمية التي تبدأ بمدينة كسلا في شرق السودان، حيث دارت معركة "كرن" أحدى معارك حملة شرق أفريقيا في الحرب العالمية الثانية، قبل أن تمر من مدينة أسمرة عاصمة ارتيرية الاستعمارية، لتنتهي بمدينة مُصَوَّع، الميناء الهام على البحر الأحمر.
في تلك اللحظة صدق الحدس الذي رافقني منذ الصباح، وانتابني ذهول من ترتيب الأقدار، لم أدرِ معه أ أضحك أم أبكي فرحًا وامتنانًا للقدر لأنه لم يوفقني لإيجاد عقد عملٍ يعيدني للمملكة، لكي يجعلني ألتقي بكل هذه الصدف في لقاءٍ واحدٍ؟
وشعرت بالدموع تهزم مقاومتي وتتفلت من مقلتيّ مع استعادتي لكلمات عواتي ذلك المساء أثناء جلوسنا أمام البحر على شاطئ مدينة جازان:
- أمامنا مباشرة توجد مدينة مُصَوَّع التي سأذهب لها قريبًا وأستقر عليها لتمسح عني أتربة سنوات الغربة. لكنني متأكدٌ وكلي ثقة بأننا سنلتقي يومًا ما في مُصَوَّع ومعك عروس سمراء فاتنة.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.