Sottoo3

شارك على مواقع التواصل

أرض الأقدار(1)
أرض الأقدار
إسراء جمال

سطوع لخدمات النشر


جميع الحقوق محفوظة
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر



إهداء:
إلى أولئِك الذين أدركوا أنَّ الحياة تكمُنُ داخِلهم فتكبَّدوا عناء الرِّحلة للوصولِ لذاتِهم، وإلى من تحمَّلوا المشقَّة في سبيل إشعال وهجِ الحياةِ في قلوبِهم، ولكل مَن أدْركُوا أنَّ الكَلام لا يُفيد فصَار الصَّمتُ لهُم سَبيلًا، لقُلوبِكُم مِني السَّلام.



الفصل الأول

رحلت الغيمات السوداء رويدًا لتدع للجبال مجالًا تتشرب ما أصابها من بذور الحياة، وتطل برونق جديد بعدما كسيت بثوب السماء، مولية ناظريها تجاه بحر طالما جاورته في شموخ فساد الهدوء وتسربت رائحة الأرض الفريدة لكل حاضر، وصحب الموكب تغني الطيور بظهور الشمس من جديد.

واقفٌ أمام البحر يستنشق نسمات تعود لمستقرها لتعيد تكوينها من جديد أو تموت لتظهر أُخرى أشد صلابة وأقوى حضورًا، يتمنى لو يكون مثله في قوة وشجاعة ولكن سرعان ما تنهاه نفسه محذرة أن يكف عن التخيل إذ هو كزخة المطر إن عصت مضت دونما تأثير.
لطالما وَجدَ في البحر سلواه الأعظم إذ يعري نفسه أمامه دون خشية افتضاح السر، ويبثه نجواه دون خوف أن يهزأ به مثلهم، هو صديقه الوحيد بل وأحيانًا مرشده.

للحظات داعبت أشعة الشمس حمرة وجهه القانية، وأنفه الطويل وبثت الدفء في ثيابه التي ملَّها حد الألم، متوسط القامة، ذا ملامح أليفة يكسوها التمرد مع أذنين ضئيلتين، ونفس متخبطة.
لم تمر سوى دقائق حتى قطع عزلته دبيب حوافر وصوت صهيل يعرفهما جيدا؛ إنه صديق طفولته "فينان" وحده يستطيع إيجاده كلما غاب خاصة في جو كذلك، فاستدار بوجهه محييًا ومربتًا على ظهره وإذ بفينان كعادته يسحبه للرحيل، وهو يوافق مجبرًا لأنه يعلم إصراره ويودع البحر مبتسمًا على وعد باللقاء.

كان يسير بالسوق على فتات ذكريات أمسه البهيج، يعاد المشهد الواحد بذهنه آلاف المرات فلا يلبث أن يتدفق لأنفه عبق الخبز الساخن ممزوجًا ببسمة أمه الكليلة، ويداها تمتدان لكتف أخته الصغيرة تربت عليها فيملأ السلام قلبه ويتأملهما قليلًا، ثمَّ يذهب مع أبيه للعمل، تذكر للحظة رغبته الملحة في تعلم القراءة فقد كان يراها سبيلًا لمعالجة الهموم _ولو لوقت وجيز_ ووجد في نفسه حبًا غريبًا لرائحة الصفحات، وفضولًا لمعرفة ما تحويه بين دفتيها مهما كان نوعها أو كاتبها، وتلطخ وجهه بمسحة أسى قذرة جراء حزنه على عدم تحقق ذلكم المراد، كم كان سيختلف الوضع الآن لو لم يفجعه ما حدث!
ألم يكن للوقت أن يتمهل حتى يكسب ما يرفع قدره عن حشرة تدعسها الأرجل دونما رحمة!!


يا ويح عقله!
لكم تمنى العديد في طفولته لكنه أدرك مبكرًا أن أمثاله من الخلق لا يحق لهم ذلك، وتصالح دومًا مع كونه نكرة بل ذرة غبار ضئيلة لا قدر لها وسط هذا الكون العظيم، وتبعًا لذلك رأى دوما أنه قُذف من رحم أمه لا لشيء سوى أن يكون كسائر الحثالة الباقية من البشر، لا قيمة لهم سوى أن تُرفع على أعناقهم أمجاد أناس لطالما تساءل عن ماهية خلقتهم، وليريح نفسه أخبرها في كل مرة أنهم خُلقوا من طين مدلل غير الذي تكون منه بقية الخلق، طين لا يصيبه الدنس لا لشيء إلا لأنه بين دقائقه، وهذه الفكرة تريحه كثيرًا فتجعل البسمة تنطلق على محياه بعدما غمره بؤس سقيم.

تأتي هي لتقتحم أفكاره مزيحة عنها كل كلل فينعم قلبه ببعض الدفء جراء ذلكم الحب الذي تغلغل بروحه فسطا على أساها قبل بِشرها، هي مذ قابلها مستراح روحه الذي تلمسها بروية فطيب أسقامها وإن بقيت آثار الذكرى، وهل ينسى المرء ما صُب عليه من لعنات!!
كثيرًا ما ساءل نفسه كيف لجميلة كتلك أن تحب من هو مثله؛ لا لقبح وإنما لانحطاط منزلة، ومفارقات نفس يراها سببًا أدعى لابتعاد الجميع عنه، هو متناقضٌ للحد الذي يسبب الجنون، ينتقل بين شهقة وزفرة من أقصى اليمين لأقصى اليسار في كل شيء عدا مشاعره التي لا يدري كيف أدركت كنهها وسطت عليها.

وأعاد على نفسه أول لقاءاتهما آلاف المرات كأنه نصر يتغنى به؛ يذكر أن البلاد كانت تعمُّها الفوضى ولم تمض بضع سنوات على ما حل بأهله الذين أفقده حزنه عليهم كل رغبة في الحياة، وحدث أن كانت ليلة من الليالي احترق فيها عدد من المنازل في أحد الأحياء، وهو بالجوار شارد كعادته إلى أن لمحها أمامه تستغيث، يذكر تمامًا كيف انتفض من مجلسه بعدما طالع زيتون عينيها الحزناوين دون أن يدري وأقبل عليها مستفهمًا:
_ ما بالكِ سيدتي؟ ولم الهلع؟!
ازداد بكاؤها وأشارت لأحد المنازل ولم تنطق سوى بكلمة واحدة:
_الحريق.
فانتبه لما حوله وأسرع يحث الخطى وسرعان ما انضم للجمع الذي يبذل الجهد لتخمد المصيبة، وبعد عناء نجحوا وصارت المنازل _التي رصت بين حجارتها جهود هذا وآخر ما يملك ذاك_ مسوخًا شبحية لا يستوي فيها عيش ولا يستقر فيها هواء، نظر فوجد أهل الحي يبكون مصابهم ويترحمون على أمنٍ لم تكسر له شوكة ولم يمسه فاسق من قبل، ولكن الأهم الآن هو: أين المعيش؟!


وأفاق هو مما أصابه من مس على تلكم الأنات، فعاد باحثًا عنها ولحسن الحظ لم يجدها، أترى كان يعرض عليها وأهلها الإقامة في منزله الوهمي، ويطعمهم ويسقيهم من تخيلاته السقيمة؟!
بحث وتحرى وسأل الناس، ولكن أحدًا لم يعرفها، ويا ويل ذاكرته اللعينة التي علقت بها ذات تيقظ.
وقبل أن يستغرق في ذكرياته مرَّ بها حال مروره بملتقاهما المعتاد يتنسم بعضًا من حلو الحياة، التقى بها كعهدهما في إحدى الحدائق الغناء، وبسمتها الزيزفونية كفيلة بجلاء همه، باتت تلك الجميلة مسعاه يومًا وحين ظفر بعشقها أيقن أن المستحيل هو لغليظ لمحة منَّا بني البشر عما نعجز عن تحقيقه.
نظر إليها ببسمة عذبة اعتادتها، وسألها عن حالها، فوجمت وأطرقت برأسها وأجابت بصوتٍ أشبه بالهمس:
_ حالي بدونك يا صفي أحلك من ليل بحر لجي، يغشاه موج الحزن وتكسوه زمرة الألم، حنانيك بي يا صاح من هجرك، ورفقًا بخوفٍ يمسني حال غيابك، أما افتقدتنا فيما غبته من أيام؟!
فرفع أنامله ليمحو دمعة شقت الطريق لوجنتها، وابتسم قائلًا:
_ أما طلبتِ مني البعد آخر مرة، أم أن الخصومة الآن زالت!
عضت على شفتها السفلى لصدق حجته، وتابعت محاولة رفع ما أصابها من حرج:
_ إنك تستيقن أنها كانت غضبة عابرة، وإني ما قلت ذلك إلا لإثنائك عمَّا نويت، تدرك جيدًا يا عزيزي أنَّا نحن النساء ولو كنا جاهلات بالحروف إلا أن الكنايات عما نريده في تركيبتنا ركيزة؛ لذا دع عنك هذا ولا تتعلل به.
تابع النظر إليها ببسمة تفيض من ثغره ثم أردف:
_ صدقتِ حبيبتي، وإنه لعناد الأحبة فاصفحي ودعيني من عذب الطلعة منك والجوهر وإلا لن يستقيم بيدي عمل اليوم.
قبل يديها برقة ومضى، تابعته هي حتى غاب أثره عن عينيها وفي نفسها ألف تساؤل، وفي عقلها آلاف الأمور تعصف بها وما ملكت ككل حين إلا أن طرحتها جانبًا ومضت تصبر نفسها بصدق حبه، وصفاء مودته.
_هلمَّ يا صفي فأعمالنا اليوم كثيرة.
هكذا ناداه الشيخ سالم حالما أقبل على عتبة الباب، والشيخ هو رب عمل صفي الجديد، عالم متفقه وكاتب ماهر، اليوم يتم صفي يومه الثلاثين، وقد استجلبه الشيخ بادئ الأمر لتسليم رسائله وقضاء مصالحه ولكنه لما آنس منه النجابة اتفق معه على تعليمه الكتابة ليساعده في نسخ كتبه وتدوين ما يهمه من مسائل، ولشد ما أسعد صفي ذلك فها هو يقترب من أمنية الصغر التي باعد بينه وبينها القدر.

الشيخ سالم بشوشٌ متواضع، لم يرزق سوى ابنة هي أنيسه وصاحبه ولها من المنزلة ما ليس لسواها فعكف على تعليمها كل ما ملك من علم، وجلب لها من الكتب ما لم يملك هو وحرص على استجلاب كل ما يتعلق بالعلوم الغربية؛ الصالح منها والطالح فقد آمن أن عقل ابنته قادر على تصفية ما يعلق بتلك الكتب مما قد لا يتناسب مع الحق أو يتعارض مع فطرة الإنسان السليمة.

وكان أغلب الناس يرون في ذلك إجلالًا شديدًا لشأنها وهي بالنهاية فتاةٌ لن تملك من كل ذلك شيئًا بعد أن يشغلها الزوج والولد، فأبوها لن يدوم وتلك هي الدنيا؛ لكنه اعتقد أن لابنته تلك شأنًا سيخرس ألسنة الجميع.
أما عاكفة فلا تكف عن مجالسة أبيها إلا حال حضور صفي إذ تشغل نفسها بأمر الدار وإعداد الطعام، ولم تكن لها من صويحبات يسلين وحدتها فوجدت في القراءة ومجالسة أبيها كنزًا يندر أن تحوزه في عصرها فتاة، تكره وجود صفي رغم أنه لم يعنه شيء من أمرها إلا أنه يحرمها أبوها وذلك لديها يكفي، أما هو فتُنكر نفسه ما يوليه لها أبوها من أفعال، لكنه يعذر الرجل إذ هي إرثه الوحيد.
مر هذا اليوم سلسًا كأنهما لم يشعرا بثقل ما أنجزاه من عمل؛ إذ قضى صفي الأعمال الخارجية أول الأمر وعاد للشيخ ينصت له، يتعلم منه الكتابة تارة ويسأله عن حكايا الأيام أخرى، ويتداعبان حينا ثم يعودان لإكمال العمل، وبعد انتهائهما رفع الشيخ عينه عن الصحيفة في يده وابتسم في حبور قائلًا:
_ إنك لذكي يا ولد وإنَّ لك من حسن الخط ما يُبهِجُ النَّفس، اليوم يمكنُنا أن نقول نعم التلميذ أنت، من الغد تبدأ بنسخ الكتب.
وناداه فقبَّل رأسه وأقبل صفي على يديه فقبَّلهما ورحل بعد أن أذن له.

اعتبر صفي الشيخ أباه لما وجد عنده من سماحة ولطف ولأنه وجد فيه المعلم الحاني الذي يمسح على قلب صغيره، كان حين يتأمل خصلات شيبه يرى العديد من الحكايا التي تنتظره ليكتشفها وفي بسمته الرقراقة عائلته التي سلبت منه.
لم يدرك قبل اليوم كيف يمكن أن تتحول حياة الشقاء لبهجة في دقائق، واعتقد أن يوم تعلمه للكتابة سيكون يومًا فريًدا من نوعه وقد حدث، خرج من عند الشيخ ممتطيا صهوة جواده الذي يعدو بخفة فيكسب لحظاته مذاق حرية ما شعر به سوى اليوم، مر بصديقه واسط فإذ به بعتبة داره، حياه وقال بحماس:
_ هيا بنا يا واسط نتجول على ظهر فينان، نحتفل بما وصلت إليه وغدا أكتب لك رسالة خاصة لترى حسن خطي وبراعتي.
رفع واسط نظره إليه وقال بخمول يتساقط من عينيه:
_ فيما بعد يا صفي، فيما بعد.

نزل عن صهوة فينان وجلس بجوار صديقه، ربت على كتفه ونظر إليه بعينين رحيمتين، وأردف بعين بها مسحة من أسى:
_ ما بالك يا واسط، حتى أنك لم تدعُني لبيتك كالعادة، كيف حال قلبك يا صديق؟
_ حالي، كالمعتاد يا صاح بين تدبير شئون البيت وعناء العمل والبؤس الذي يأبى غير أن يحيط المرء قبل ميتته الصغرى مهمومًا، ليتفشى دونما خجل في أركان البيت والحياة ويمسك بتلابيب روحك فيشقيك.
قالها ببساطة من اعتاد، وبحنق من مل، وضيق نفس من عدم الحيلة فأجبر على معاقرة العوز، وما له غيره من سبيل.
انقلب الوضع للمواساة ومشاركة الأحزان، سعى صفي جهده ليخفف عن صديقه ولكن دون جدوى، قضيا ساعةً أو يزيد ورحل صفي بعدما أحس بكفاية صديقه من الحديث.
وتأمل قليلا حال صديقه، يدرك أن وضعه صعب وأنها فترة عصيبة عليه لكنها ستمر، إن كل ما في الحياة أمرٌ عارض فعلام قتلُ النفس بالإسراف في الحزن؟!
حضره حال صديقه هذا أيام اليسر والسعة وتعجب من إنفاقه بلا حساب لملمات الدهر وللأيام السوداء التي تمر على عيال الله فتقسم منهم الظهور.
كان يرى أن حاله في اليسر سببُ وروده العسر، وكثيرًا ما أخبره أن يتخفف من الإنفاق فيه لكن إجابته الدائمة:
_ رزق وسع الله علي به يا صفي، أفلا أُمتع نفسي وعيالي.
_ يا صديقي إن الأيام لا تستقر على حال، والدنيا حمالة أوجه كما الريح فخذ حذرك.
فيجيبه ببسمة المنتصر:
_ إنك يا صفي لا تدرك معنى المنح بعد العوز؛ فدع عنك ادعاء إدراك حال الفقر واتركنا نتنعم بعطايا القدر.
كثيرا ما حيره حال واسط، يدرك جيدا طيب نفسه لكن هل تغير بضع عملات الناس لهذا الحد، منذ أسبوع واحد يمرح ويقول:
_ يا صفي إنك لأحب خلق الله إلي.
ولكنه لا ينفك في حزنه أو مرحه أن يلقي على القلب سهامًا من قوله فتشقيه، ما ضره يومًا قول أحد أو فعله ولكن القلب يُجرحُ بكلمة الرفيق كما بسيف العدو، يعدد الأعذار دائمًا لواسط وما إن تراوده نفسه بالقطيعة حتى ينهاها بجميل ما كان منه في الماضي، ويكرر عليها أن الأمر محض اضطرابات تمليها الحياة على المرء دون أن يملك من أمرها شيئا ولكن نفسه كثيرا ما كانت تجلده بالحجة، تخبره أن الأمر على علو قدره لا يستحق كل ذلك التأثر حد التقليل من شأنه والحديث عما يستقر بسواد قلبه ويؤرقه، وأن الدنيا التي تسعنا حال الفرح وتضيق حال الحزن هي بكل الأحوال تحتوى أنفسنا وإن أوردتنا المهالك.
يعجب أن بعض البشر لهم عزائم غريبة، لا يرون سوى حاضرهم ولا يعنيهم حتى ما قد يترتب عليه أو يستتبعه، ويتعجب ممن لا يرون سوى الخراب ويغرقون أنفسهم بقطراته القذرة، لا يدرك كيف للمرء أن تأسر عقله اللحظة فيعمى لما بعدها، ويغفل بها عن الكثير!
هو يرى في مثابرة الشيخ سالم كثيرًا مما يبهج نفسه ويروي قلبه العطش، كل لحظة يشاهد فيها ملامح الرجل يدرك أن الدَفة بقيادة الروح وأن الجسد العليل على قوته ليس سوى أداة تفعل ما يُملى عليها من أوامر، والروح عنده منذ وقت طويل عالمٌ خاص يعجز عن فهمه، وخلقٌ مقدس يعجز عقله الجائع عن إدراك إبداع خالقه فيه بيد أنه أدرك دومًا أن العجز اختيار لا فرض، وأن الروح السقيمة تشقي صاحبها وإن نال النعيم.



لم يدر ما يفعل بعدما غادر واسط فعاد لبيته وتناول ريشته، راودته نفسه مرارًا أن يكتب ما يلح عليه من شعور، ولما لم يجد بدا في ليلته تلك تناول ريشته بزهو الطفل بزيه الجديد وشرع يكتب:
_ ما بالها الحياة حتى في حنوها تأبى إلا أن تُذيقَ المرء الأسى حتى يتمرر حلقه وتنطبع نفسه بحزن مستقر مهما طال ارتحال الفرح معها، وكيف يكون الحزن ملاذًا لأرواح متعبة؟!
حاول مرارًا وتكرارًا أن يكمل، ذرع المكان جيئةً وذهابًا، استلقى اضطجع جلس وهب واقفا، تناول بعض الماء واعتصر كل خلية برأسه باحثًا عما يرادف شعوره فلم يجد وآثر الصمت، فسعادته بخبر الشيخ سالم أعظم من أن يمحوها شيء، أو يضعفها حدث يُدرك جيدًا أنه عابر فنحى عن فكره كل شيء خاصة حزنه لحال واسط، وظل يستعيد ما نطق به الشيخ ويفكر فيما سينتج عنه لتغمر البسمة وجهه حتى يتهلل بالبشر ونام على حاله تلك، ولله در المستمسكين بجمر الأمل مهما اشتدت رعونة الحياة!

كان الأمر عجيبًا، عصيًا على الفهم، ثقيلًا على النُّفوس حد العجب إذ كيف يبتلع القوم مرارة الفزع دون تمييز بين الحلم والحقيقة، فكأنما امتزجت متضادات الكون فأنتجت وضعًا بلا انتماء، قومٌ أجبرتهم الصرخات على الفرار من النوم ليفتحوا العيون على كابوسٍ كاد يذهب بالأبصار، لا أحد يدري كيف تخطوا حراس المدينة، ولا كيف طاوعتهم أنفسهم أن يهجمُوا على القوم بجوف ليل حالك، لم يستطع أحدٌ حينها أن تتبادر لذهنه أية فكرة سوى الجمود، جمودٌ قاتل لشعب ظنَّ القوة فسُلط عليه العذاب، أو ليست الحرب حلال كل أمر؟!


يتبع...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.