Horof

شارك على مواقع التواصل

مقالات تاريخية وأثرية

رحلة لجوء أميرةٍ أندلسية

د/ آية الجندي


زائدة .. "كنة (المعتمد بن عباد) حاكم إمارة إشبيلية"، هكذا تصفها المصادر العربية مع زيادة جملة "التي تنصَّرت وتزوجت من (ألفونسو السادس)، وأنجبت له ابنه الوحيد".
لم تسعفنا المصادر العربية بمزيدٍ من المعلومات عن زائدة الأندلسية، فكل ما نعرفه بشأنها هو أنها زوجة الفتح المُلقب بالمأمون بن المعتمد بن عباد والي قُرطبة من قِبل أبيه، فقد تناقلت المصادر معلوماتٍ شحيحةٍ جدًا عنها، التقطها الباحثون العرب والإسبان لينسجوا القصص والحكايات عنها، فانقسم المؤرخون القدامى والجُدد حول تفاصيل حياتها؛ بل اختلفوا على حقيقة شخصيتها، فنجد فريق المؤرخين العرب والمسلمين يصفونها بأنها "زوجة ابن المعتمد"، في حين يشير إليها فريق المؤرخين الإسباني بأنها "ابنة المعتمد" التي قدَّمها "كمحظية" لملك قشتالة ألفونسو السادس، لكن ما صدمني فعلًا هو أنَّ البعض أخبرني أنها مجرد أسطورة؛ لكنني لم أقنع بهذه الإجابة التي تمثل طريقةً بسيطة للتخلص فقط من عبء غموض الشخصية والتنقيب وراء الأحداث لمعرفتها .. فمن هي "زائدة"، وما هي قصتها؟..
في شهر صفر سنة 484ه/ مارس 1091م، دخلت جيوش المرابطين مدينة قرطبة، وقتلوا واليها "المأمون بن المعتمد بن عباد"؛ ففرت زوجته "زائدة" مع أبنائها وحاشيتها إلى حصن المدور"أحد حصون مدينة قرطبة"، ومن هناك لجأت إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس؛ بسبب الوضع السياسي المضطرب وحالة الحرب التي كانت تمرُّ بها بلاد الأندلس آنذاك، فقد عزم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين على اجتثاث جذور ملوك الطوائف من الأندلس، وجعلها ولاية تابعة للحُكم المرابطي، وبالفعل فقد نجح ابن تاشفين في إسقاط إمارة بني عباد بإشبيلية، واقتاد المعتمد أسيرًا هو وعائلته – أو مَن تبقى منهم- إلى بلاد المغرب، حيث عاش في ظروفٍ قاسية مع زوجته وبناته، في حين أنه فقد إحدى بناته في إشبيلية.
كان لجوء زائدة إلى قشتالة أرضًا خصبة لنمو العديد من الروايات من الجانب الإسباني، التي تعددت وغالت في بعض الأحيان؛ لكنها تتفق جميعها على أنها ابنة المعتمد ابن عباد وليست كنته - وهو ما يناقض الرواية العربية – في حين تختلف تلك الروايات في بعض التفاصيل، التي ربما كانت لترضي المجتمع القشتالي آنذاك، وتفتُّ في عضد المجتمع المسلم الأندلسي، وتشير إحدى الروايات إلى أن زائدة التي يطلقون عليها اسم "La Mora Zaida" ابنة المعتمد التي أهداها "كمحظية لألفونسو"، مقابل إقامة تحالفٍ بينهما لصد المرابطين عن الأندلس، مع تقديم المعتمد جزءًا من حصون مملكته كمهر لألفونسو.
في حين تشير روايةٌ أخرى إلى أن زائدة ابنة المعتمد قد وقعت في حب الملك النصراني بسبب شهرته وشجاعته في حروبه – التي كانت في الأساس ضد مسلمي الأندلس -، وأنها راسلته سرًّا وعرضت عليه الزواج مقابل أن تمنحه حصن (كونكة)، الذي كانت ستتلقاه كهديةٍ من والدها المعتمد عند زواجها، وتشير الرواية كذلك إلى أن ألفونسو وقع في حبِّها أيضًا وتقدَّم لخطبتها، كما طالبها باعتناق المسيحية.
ليس هناك شكٌّ في أنَّ الجانب القشتالي قد استغلَّ فرصة لجوء كنة المعتمد إليهم، ليمنحوا أنفسهم ورعاياهم شعور الأفضلية والانتصار وأيضًا القوة، فها هي أميرة أندلسية مسلمة تقع في حب ملكهم بسبب شجاعته في حروبه ضد أبناء جلدتها، فتترك دينها وتطلب منه الزواج، متغاضيةً عن تعاليم دينها وعن تربيتها وسط مجتمعٍ مسلم، وضاربةً بالشرع والتقاليد عرض الحائط!. هي بالفعل روايةٌ مثالية تروي غرور الجانب القشتالي!.
على أية حال فبعد وصول "زائدة" إلى قشتالة وبعد استقرارها هناك فإنها تنصَّرت هي وأبناؤها من المأمون وحاشيتها، وتسمت باسم "إيزابيل" Isabel، وتزوجها الملك ألفونسو السادس، وأنجب منها ابنه الوحيد وولي عهده الإلفانت سانشو El infant Sancho.
وضعت ولادة الإلفانت سانشو El infant Sancho حدًّا لقصة زائدة التي اكتنفها الغموض، حيث توفيت أثناء ولادته، في حين لقى هذا الابن مصرعه في الحادية عشرة من عمره، وقيل في التاسعة، أثناء معركة أُقليش ما بين نصارى إسبانيا والمرابطين في سنة 501ه/1108م، وبالنسبة لأبنائها من المأمون فلم يرد ذكرٌ لهم في أيِّ مصدر، ولم يُعرف مصيرهم، وإن كان المصير المتوقع هو اندماجهم داخل المجتمع القشتالي كنبلاء على أغلب الظن.
بعد وفاة زائدة دُفنت في مدينة ليون Léon، ثم تمَّ نقل جثمانها إلى دير ساهجون Sahagún، حيث وُضعت لها مرثية كُتِب عليها: "هنا ترقد الملكة إيزابيل امرأة الملك ألفونسو، ابنة ابن عباد ملك إشبيلية، والتي كانت تُسمى زايدة"، وبهذه المرثية إشارة إلى تاريخ وفاةٍ هو 12سبتمبر يوم الاثنين؛ لكنه يخلو من ذكر سنة، وبالرغم من ذلك فإننا يمكن أن نخمِّن سنة وفاتها، وهو ما بين عام 1097 وعام 1099م، وذلك على أساس سن ابنها سانشو عند وفاته والذي اختلف عليه المؤرخون أيضًا.
وبالرجوع إلى نظرية أنَّ "زائدة" هي ابنة المعتمد وأنه هو من زوّجها من ألفونسو السادس، فبالطبع هي نظريةٌ مشكوكٌ في صحَّتها، حيث إنَّ المعتمد لا يمكن أن يقدِم على تلك الخطوة المنافية لتعاليم الإسلام والتي كانت لتصيبه بالعار، بالرغم مما عُرف عن هذا العصر من محالفة المسلمين للنصارى، فربما تحالف ابن عباد مع النصارى ضد بني جلدته، وربما دفع إتاواتٍ لهم؛ لكن لا يمكن أن يقدِّم ابنته كمحظيةٍ أو زوجة غير شرعية لأحد النصارى، فما كان ليجازف ويقدم على تلك الخطوة التي كانت من المؤكد ستثير عليه الأندلس بأكملها والمرابطين، أيضًا ما كان لحدثٍ مثل ذلك أن يتركه مؤرخو هذا العصر والعصور اللاحقة دون الإشارة إليه، وكان ليستفيد منه أمراء المرابطين في الترويج لشرعية حربهم ضد ملوك الطوائف.
وما يؤكد ما سبق ما ذكرته المصادر العربية عن ابنةٍ للمعتمد تسمى "بثينة " وقعت في الأسر بعد حالة الهرج والمرج التي أصابت المدينة بشكلٍ عام وقصر الإمارة بشكلٍ خاص عقب هجوم المرابطين، وانتهى بها الحال أن تمَّ بيعها كجارية، واشتراها أحد تجار إشبيلية على أنها جارية ووهبها لابنه، فلما أعجبته امتنعت عنه وأعلمتهم بنسبها قائلةً: "لا أحل لك إلا بعقد نكاحٍ إن رضي أبي بذلك"، وأرسلت لوالدها تستشيره في زواجها، وكان المعتمد وزوجته آنذاك بالمغرب لا يعلمان ما حدث لها، فوردت عليهم رسالة من ابنتهم نظمتها في صورة شعرٍ تشرح لهم ما واجهته منذ نُهب قصرهم وزال مُلكهم وتستأذنه في الزواج، وقد أسعدت تلك الرسالة ابن عباد لمعرفته بأنَّ ابنته على قيد الحياة وأذن لها بالزواج، فإن كان المعتمد شخصًا متهاونًا في دينه ما كانت ابنته لتستأذنه في زواجها وهي في أسوأ الظروف.
إنَّ الصراع القائم آنذاك في شبه الجزيرة الأيبيرية، لم يكن صراعًا سياسيًا فقط؛ وإنما صراعٌ عقائديٌ أيضًا؛ ففي الوقت الذي صمت أغلب المؤرخين والفقهاء العرب عن قصة زائدة، ولم يذكرها منهم سوى اثنان فقط هما: المؤرِّخ "ابن عذاري"؛ والفقيه "الونشريسي"، بصورةٍ مقتضبةٍ جدًا، كان المؤرخون الإسبان يبنون نظريات - لا أساس لها من الصحة – قائمةً على قصة لجوء سيدة أندلسية وأبنائها هروبًا من الحرب والأسر.
إن المراجع العربية والإسبانية التي تناولت قصة زائدة لم تضع في عين الاعتبار أنها دخلت قشتالة لاجئةً هاربة بأبنائها أحفاد المعتمد من حرب قُتل فيها زوجها، وأُسر فيها والد زوجها وأسرته جميعًا، ليتم نقلهم إلى المغرب ليعيشوا في ظروفٍ قاسية، وإنما اتخذ كلٌّ منهم موقفًا تحليليًا ونقديًا للرواية، وانحصرت تحاليلهم ما بين تقصِّي حقيقة هويتها هل كانت ابنة المعتمد أم كنته؟ ومتى لجأت إلى ألفونسو السادس؟ وتاريخ وفاتها، ومحاولة فرز الأجزاء الأسطورية في الرواية واستخلاص الحقيقة، لقد أسهمت كل هذه الدراسات في تكوين صورة أقرب للحقيقة دون مبالغاتٍ وعلى رأسهم المستشرق (ليفي بروفنسال) والأستاذ (عبد الله عنان).
وعلى هذا فإننا إن فكرنا في وضع زائدة كلاجئة في قشتالة، ووضعنا في الاعتبار كل الهواجس التي من الممكن أن تنتابها، لوجدنا أنه من الممكن أن تكون قد أُجبرت على التنصُّر هي وأبناؤها وحاشيتها؛ فالوضع السياسي الذي كانت تمرُّ به بلاد الأندلس خصوصًا إشبيلية وقرطبة من سيطرة المرابطين وقتلهم للمأمون وأسرهم للمعتمد وعائلته ونفيهم إلى المغرب، كل هذا من الطبيعي أن يصيب أحد أفراد تلك العائلة بالخوف، فربما خافت على مصير أبنائها إن عادت إلى إشبيلية، والذي لن يختلف عن مصير والدهم أو جدهم، أو ربما أُجبرت على البقاء في قشتالة والتنصُّر، ولربما أُجبرت على أن تصبح محظيةً لألفونسو وهو المعروف بكثرة زيجاته؛ خصوصًا وأنها كانت على قدرٍ كبير من الجمال، وما يجعل الأمر يزداد غموضًا هو عدم معرفتنا لأصل زائدة، هل كانت عربيةً؟ أم إحدى الجواري أمهات الأولاد؟ .. فإن كانت جارية أم ولد، فإن جميع الفرضيات السابقة يمكن أن تنهار أمام هذه الفرضية، لسببٍ بسيط هو أنَّ الجواري في أغلب الأحيان كنَّ على الديانة النصرانية، وكنَّ يعتنقن الإسلام عقب أسرهنَّ، وهناك مَن تعود لديانتها مرةً أخرى إذا سنحت لها الفرصة لذلك، كما حدث مع زوجة مجاهد العامري - أمير إمارة دانية - وأمه بعد وقوعهم في الأسر على يد أهل بيزا، حيث عُدن إلى المسيحية، وقد وقع في الأسر معهنَّ ابنه (علي) والذي كان يبلغ آنذاك سبع سنين، والذي تم تنصيره، واستمر مجاهد العامري طيلة سبعة عشر عامًا يحاول استعادة ابنه من الأسر إلى أن نجح في ذلك، ويقال أنه عند عودته كان شابًا يرتدي ملابس الروم ويتحدث لغتهم ويدين بدينهم، وعرض عليه والده الإسلام فأسلم وتم تجهيزه ليستعيد مكانته كوليٍّ للعهد، وإن كان علي قد عاد إلى والده وارتدَّ عن المسيحية؛ فإنَّ والدته وجدته ظللن على المسيحية ولم يعدن معه، وهو ما يوضح أنَّ البعض كنَّ يتحيَّنَ الفرص للعودة إلى ديانتهن مرةً أخرى.
على أية حال فبالرغم من تضارب الآراء حول زائدة، فما حدث لها يلخص صراعًا سياسيًّا وعقائديًّا كان دائرًا في شبه الجزيرة الأيبيرية آنذاك، قوةٌ في طريقها للانهيار، وقوة ٌأخرى تزداد سطوتها يومٍا بعد يوم، إذن فالفكرة ليست في إسلامها أم تنصُّرها؛ وإنما في استغلال المؤرخين الإسبان لقصتها لإثارة حماسة رعايا بلادهم، وتغاضيهم عن فكرة لجوئها سياسيًا إلى قشتالة، والتركيز على فكرتهم بأنَّها "ابنة المعتمد التي تنصَّرت وقدمها كمحظيةٍ لألفونسو السادس"... وهو ما ليس له أساسٌ من الصحة.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.